أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52651 العمر : 72
| موضوع: مفهوم العدوى والأمراض المُعدية عند الأطباء العرب والمسلمين السبت 13 مارس - 23:37 | |
| مفهوم العدوى والأمراض المُعدية عند الأطباء العرب والمسلمين د. محمود الحاج قاسم محمد غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
الخلاصة: استعرض البحث مفهوم العدوى والإشارات الدالة على ذلك في كتابات الأطباء العرب والمسلمين، وقد أحصينا 13 إشارة.
كما احتوى البحث تفصيلًا للأمراض المعدية والسارية التي ذكرها الأطباء العرب المسلمون، مع التركيز على اكتشافاتهم وإضافاتهم في هذا الباب.
المقدمة: لا نجد لمفهوم العدوى والأمراض المُعدية في كتابات مؤرخي الطب العربي الإسلامي سوى إشارات متفرقة مما يجعل جمعها وتصنيفها بشكل علمي أمرًا في غاية الأهمية من نواحي عديدة:
أولاها: إبراز معرفة الأطباء العرب المسلمين بأهم الأمراض المعدية وكيفية الوقاية منها.
والثانية: تسليط الضوء على اكتشافاتهم للبعض من تلك الأمراض.
والثالثة: أن الأطباء العرب المسلمين لم يكونوا مجرد نقلة لطب الأمم السابقة بل قاموا بإضافة الكثير مما جادت به عبقريتهم في حقول الطب المختلفة منها هذا الحقل المهم.
وقبل الدخول في تفصيلات الموضوع لابد من الإشارة إلى أن نظرة الإنسان للمرض ومسبباته تطورت مع تطور المجتمعات حيث كان الاعتقاد قديمًا بأن سبب المرض هو دخول الجسم أرواح شريرة، أو أن الأمراض تحدث نتيجة غضب الآلهة التي كانت تطلب القرابين للشفاء.
وتبيَّن من الرقم الطينية المكتشفة بأن الطبيب الآشوري كان يظن أن سبب الأمراض أجسام غير منظورة تدخل الجسم مع الهواء عن طريق التنفس أو الأكل أو الشرب.
وكان لليونانيين معرفة بعدوى بعض الأمراض فقد «وصف توسيدس الطاعون الذي اجتاح أثينا عام 543 ق.م، أشار إلى العدوى والمناعة منه التي يكتسبها الإنسان إذا شُفي من الإصابة» [1].
وعرف العرب العدوى قبل الإسلام، حيث يُذكر أن الحارث بن حلّزة اليشكري كان مصابًا بالجذام وحين قرأ معلقته أمام ملك الحيرة عمرو بن هند، رُفِعت بينهما ستارة تحوطًا من أن يصل هذا المرض إلى غيره من المستمعين [2].
وجاءت الأحاديث النبوية مؤيدة انتشار المرض بالإعداء: يقول -صلى الله عليه وسلم-: «لا يورد ممرض على مصح» أخرجه البخاري ومسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «فرّ من المجذوم فرارك من الأسد»، وقد وضع -صلى الله عليه وسلم- أساس الحجر الصحي في قوله: «إذا سَمِعتم بالطاعونِ بأرضٍ فلا تدخلوها، وإذا وقَع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها» أخرجه البخاري ومسلم.
وبرز مفهوم العدوى من الأمراض في كتابات الأطباء العرب المسلمين كما سنرى، إلاّ أن عدم معرفتهم بعلم الجراثيم حدد معلوماتهم من ناحية الأمراض المعدية، وعلى الرغم من ذلك فإن كتاباتهم عن بعض الأوبئة وإثبات العدوى وما ذكروه من بعض المعلومات حول الأمراض المعدية تدل على عبقرية فذَّةٍ في الملاحظة والتجربة والفهم الصحيح.
ونقل الأوربيون إلى لغاتهم كل ما ذكره الأطباء العرب حول العدوى والأمراض المعدية وبقيت أفكارهم سائدة حتى اكتشاف المجهر (الميكروسكوب) سنة 1675م من قبل (لونهوك) ومن ثم إيجاد نظرية المكروب في الأمراض حوالي سنة 1880 حيث في العشرين سنة التي تلتها شهدت الساحة الطبية اكتشاف أكثر الأمراض البكتيرية المهمة وإيضاح طرق العدوى، ابْتدَأها باستور 1862م بزرع وإنماء المكروبات، وفي سنة 1882م اكتشف كوخ ميكروبَ الكوليرا والسَلَّ، واستمرت الاكتشافات في عالم المكروبات والأمراض المعدية فيما بعد وبشكل سريع لا يتسع المجال لذكر تفاصيلها.
كما تجدر الإشارة إلى أن العلماء والأطباء الأوربيون لم يكتفوا باكتشاف الأمراض بل عملوا جاهدين على اكتشاف اللقاحات ضدها وكان جنر سنة 1796م السباق في اكتشاف أول لقاح وكان ضد مرض الجدري ثم أعقبه آخرون في اكتشاف لقاحات أخرى لا يتسع المجال لذكرهم جميعًا.
نتائج الدراسة: الإشارات الدالة على معرفة الأطباء العرب والمسلمين للعدوى في انتقال الأمراض: 1- يقول الرازي عن الأمراض المُعدية: «ومما يعدي: الجذام، والجرب، والحمى الوبائية (التيفوئيد)، والسل... إذا جُلس مع أصحابها في البيوت الضيقة وعلى الريح، والرمد ربما أعدى بالنظر إليه، والقروح الكثيرة الرديئة ربما أعدت، وبالجملة كل علة لها نتن وريح فليتباعد عن صاحبها» [3].
2- التعقيم والتطهير: من المعلوم أنه قبل إجراء العمليات الجراحية لابد من التعقيم والتطهير، وفي هذا المجال كان المسلمون أول من اكتشف الكحول واستعملوه لتطهير الجروح والعمليات، وكانوا أول من ابتكر تحمية الآلات الجراحية على النار قبل استعمالها ضمانًا لنظافتها وكفاءتها وبهذا اقتربوا كثيرًا من اكتشاف الميكروبات [4].
3- الفقر والجدب سبب لانتشار العدوى: كان العرب والمسلمون على علم بأن الفقر والجدب من العوامل المساعدة لانتشار الأوبئة وكثرة الخصب مزيل لها، على سبيل المثال ذكر ابن عذارى عن الوباء الذي انتشر في القيروان: «لما كثر الخصب في سنة 396هـ = 1005 م ارتفع الوباء» [5].
4- أقوال ابن الخطيب وابن خاتمة في مرض الطاعون: يقول ماكس مايرهوف: فوصف المؤرخ والطبيب ابن الخطيب الغرناطي (1313 - 1374م) عدوى الطاعون في غرناطة سنة 749 هـ في رسالته الشهيرة "مُقنعة السائلِ في المرض الهائل" نذكر منها هذه الفقرة: «وقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة وهذه مواد البرهان... و... وقوع المرض في الدار أو المحلة، فالثوب، أو الآنية حتى القرط أتلف من علق بأذنه، وأباد البيت بأسره، ووقوعه في المدينة في الدار الواحدة ثم اشتعاله منها في أفراد المباشرين، ثم جيرانهم وأقاربهم وزوارهم خاصة حتى يتسع الخرق» [6].
وكتب أبو جعفر أحمد بن خاتمة المتوفى (771هـ / 1369م) في كتابه "تحصيل غرض المقاصد في تفصيل المرض الوافد" كلامًا يشبه كلام ابن الخطيب وثبت فيه بداية انتشار الطاعون في السواحل الأندلسية سنة 749 هـ / 1347م.
وذكر أصناف ثلاثة من الطاعون: «الصنف الأول: الطواعين، وهي خراجات ناتئة تظهر في مغابن الجسد.
الصنف الثاني: تصاب به الرئة بتهتك... ويقول عنه إنه لا علاج له.
الصنف الثالث: يكون بظهور القروح السود» [7].
والطب الحديث يقرر أن الإصابة بالطاعون تظهر بصور ثلاثة، أخطرها الطاعون الرئوي.
5- وكان ابن التلميذ أول مّنْ نَبَّهَ طلابه على الأمراض الوافدة فقد أوصاهم بقوله: «لا تقدروا أن تحيطوا خبرة بكثرة الأمراض فإن منها ما يأتيكم عن طريق السماوة» ومما يؤثر عن هذا الطبيب ذكر ضرر الذباب على الجرح قبل اكتشاف المتأخرين له..
حيث قال: لا تحقِرنَّ عدوًا لَانَ جانِبُه ولو يكون قليلَ البطشِ والجلَدِ فللذُبابةِ في الجرحِ الممدِّ يدٌ تنالُ ما قصرَتْ عنه يدُ الأسدِ [8]
6- مـرض داء الكلب: جاء ذكر مرض داء الكلب لدى أغلب الأطباء العرب والمسلمين من أمثال المجوسي، وابن سينا، وابن النفيس، والدميري وغيرهم ووصفوه قبل باستور الذي أعلن أنه أول من اكتشف ووصف اللقاح للتحصين منه، يصف ابن سينا أعراض هذا الداء في الكلب بشكل دقيق لا يتسع المجال لسردها الآن.
أمَّا عن أعراض المرض في الإنسان فيقول: «إذا عض الكلِب إنسانًا لم ير إلا جراحه ذات وجع كسائر الجراحات، ثم يظهر عليه بعد أيام شيئًا من باب الفكر الفاسد... واختلاط العقل... وتراه يشنج أصابعه وأطرافه يقبضها إليه ويهرب من الضوء... وعطش ويبس فم وهرب من الزحمة... وربما أبغض الضوء وتحمر أعضاؤه وخصوصًا وجهه ثم يتقرح وجهه ويكثر وجعه ويبح صوته ويبكي.
ثم في آخره يأخذ في الخوف من الماء... وكلما قربت منه تخيل الكلب فخاف منه وربما لم يفزع بل استقذره... ويؤدي إلى تشنج وكزاز وتأدى إلى عرق بارد وغشي وموت وربما مات قبل هذه الأحوال عطشًا... وربما نبح كالكلاب وكان أبح، وربما انقطع صوته... ومن عجائب أحواله أنه يحرص على عض الإنسان فإن عض إنسانًا بعد هيجانه عرض لذلك الإنسان ما يعرض له» [9].
نجد في أقوال ابن سينا السابقة إشارة واضحة إلى أن كون داء الكلب من الأمراض المُعدية، وهذا الوصف القيم لمرض فيروسي هام من قبل ابن سينا يدلُّ على دقة ملاحظة واستنتاج الأطباء العرب والمسلمين، خاصة وأن هذا المرض لم يُعرف إلاّ بعد أن اخترع المجهر المُعقد وأكتشفت الفيروسات من قبل علماء توفّرت لهم المُختبرات والوسائل الحديثة.
ويروى أن الإمام ابن سحنون قاضي القيروان (المتوفى سنة 240هـ / 854م) أمر الشرطة بقتل الكلاب التي تجول بطرقات المدينة بالحرابة [10].
7- ويعزي المجوّسي حدوث الأمراض وانتشار الأوبئة إلى تبدلات الجو وفساد الهواء بالعفونات يقول: «فأمَّا خروج الهواء عن الاعتدال في جملة جوهره، فهو أن يستحيل في جوهره وفي كيفياته إلى الفساد والعفن، فيحدث في الناس أمراضًا وأعراضًا رديئة... وتسمى هذه الأمراض، بالوافدة وإنما سميت أمراض وافدة لأنها تعم كثيرًا من الناس في زمان واحد، وذلك لأن السبب المحدث لها عامل مشترك وهو الهواء المحيط بنا».
«وأمَّا تغير جوهر الهواء من قبل الموضع فيكون ذلك أما من بخارات تحدث من كثرة الثمار والبقول إذا أعفنت فيرتفع منها بخارات رديئة تخالط الهواء أو من بخارات ترتفع من الخنادق أو من البحيرات من الآجام أو من أقذار المدن، وأما من حيث القتلى والموتى تكون في البلد أو بالقرب منه أما حرب يقتل فيه كثير من الناس أو موت البهائم، ثم إذا حدث فيهم الوباء فيرتفع من تلك الجيف بخارات رديئة تخالط الهواء فيستحيل الهواء إلى جوهر البخار وكيفيته فيستنشقه الناس فتكثر فيهم الأمراض الرديئة المهلكة كالموت الذي عرض لأهل أثينا» [11].
يقصد الطاعون الذي اجتاح أثينا سنة 543 ق.م.
ويُقال: إن ابن التميمي استعمل التدخين لتطهير الهواء من الأوبئة وشرح استعماله في كتابه "مادة البقاء في إصلاح الهواء والتحرز من أضرار الوباء" [12].
8- لقد اعتقد ابن سينا أن حصول الأمراض يكون نتيجة شيءٍ ما سماه "السبب" لعدم معرفته (المكروبات)، وتوصل بفطنته إلى أن حصول الأمراض تستوجب توفر نوع من الاستعداد البنيوي، كما أنه خمن ما يحصل من صراع بين قوة المكروبات (السبب كما سماه) وبين وسائل الجسم الدفاعية وهي العملية التي تسمى اليوم بـ (Antigen - Antibody Reaction) كما أنه توصل إلى أن (السبب) قد يتغير تبعًا لظروف مختلفة، وهذا ما ينطبق فعلًا على بعض المكروبات ومنها:
«الرواشح، الفيروسات» يقول ابن سينا في القانون ما نصه: «ليس كل سبب يصل إلى البدن يفعل فيه، بل قد يحتاج مع ذلك إلى أمور ثلاثة: 1 - إلى قوة من قوته الفاعلة. 2 - وقوة من قوة البدن الاستعدادية. 3 - وتمكن من ملاقاة أحدهما للآخر بزمان في مثله يصدر ذلك الفعل منه. وقد تختلف أحوال الأسباب عند موجباتها، ربما كان السبب واحدًا واقتضى في أبدان شتى أمراض شتى، أو في أوقات شتى أمراض شتى، وقد يختلف فعله في الضعيف والقوي، في شديد الحس وضعيفه» [13].
وهذا ما نؤيده نحن أطباء القرن العشرين من أن دخول المكروب لا يعني بالضرورة حدوث المرض في الإنسان، وإنما وبمشيئة الله إن كان لدى المريض قوة ومنعة ضده فلا يؤثر فيه، بينما يسبب المرض في من ليس لديه قوة دفاعية كافية في جسمه.
9 - لقد سبق ابن خلدون وابن رضوان أطباء وعلماء البيئة بعدة قرون في مسألة تلوث البيئة: فهذا ابن خلدون على الرغم من عدم كونه طبيبًا إلَّا أنه أكد بأن الزحام والهرج هما سببين رئيسيين من أسباب سرعة انتقال الأمراض المعدية خصوصًا أمراض الرئة ويستعرض بإيجاز أسباب تلوث الهواء في المدن المزدحمة وأخطار ذلك على صحة الأفراد ويؤكد على ضرورة ترك الفراغات بين الأبنية للتهوية كطريقة للحيلولة دون تلوث الهواء أو للإقلال من التلوث [14].
أما ابن رضوان فإنه أكد بأن مياه النيل تتلوث نتيجة وقوفه عن الحركة لاحتقان الماء فيه وعند الفيضان حيث يجلب العفونات والأوساخ من المستنقعات والمدن التي يمر منها لذلك يؤكد على ضرورة غليه وتصفيته قبل شربه.
كما أكد أيضًا أن ماء آبار القاهرة لا تصلح للشرب لأنها تختلط بما يترشح فيها من عفونة المراحيض، جاءت آراؤه هذه في كتابه "دفع مضار الأبدان بأرض مصر" [15]؛ الذي يعتبر محاولة رائدة فيما نسميه الآن بالطب الجغرافي أو الجغرافية الطبية.
كما يمكن أيضًا اعتبارها بحثًا مبكرًا في طب الأمراض المتوطنة.
10- قول الإمام الغزالي عن حقيقة حامل المكروب وفترة الحضانة حيث يقول: «أن الهواء في البلدة المصابة بالوباء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر في الباطن ولا يظهر على الظاهر إلّا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد يقع به الوباء لا يخلص غالبًا مما استحكم به» [16].
11- قول الزهراوي في الحُمَّى الوبائية، يقول: «من أسبابها إفراط الكيفيات على الهواء من بخارات المياه الراكدة المتعفنة وما يغلب على الهواء من روائح الجيف والقتلى... وما شاكل ذلك، فإذا تغير الهواء وفسد بأحد هذه الأسباب -ولا سيما نتن الجيف والموتى- فهو أعظم ضررًا فيعرض عند ذلك لأكثر الناس أمراض رديئة من جنس الطواعين... وتحدث هذه الحميات... باستنشاق الهواء» [17].
12- ويميز ابن المطران بين الأوبئة التي يسميها (الأمراض الوافدة) وبين الأمراض المتوطنة التي يطلق عليها (الأمراض البلدية) فيقول: «الفرق بين الأمراض الوافدة والأمراض البلدية أن الأمراض الوافدة: هي التي تحدث على أهل مدينة بأسرها أو أكثرهم في وقت واحد.
والأمراض البلدية: هي التي تحدث في مدينة بحسبها في كل وقت على سبيل العادة» [18].
13- وخاتمة هذه النصوص قول إبراهيم عبد الرحمن الأزرق في كتابه "تسهيل المنافع" الصريح في ذكر وتحديد الأمراض المعدية بواسطة الهواء حيث يقول: «وينبغي للإنسان اجتناب الأمراض المعدية بواسطة الهواء إلى مجالسة أصحابها كالجذام والجرب والرمد والسل فليحذر القرب من أصحابها وليتباعد عنهم إلى فوق الرمح إلى ما بعد» [19].
إن تحديد المسافة بين الصحيح والمريض إلى أكثر من الرمح خشية العدوى هي نفس المسافة التي نشترطها اليوم بين أسرّة المرضى في المستشفيات.
الأمراض المُعـديـة والسَّـارية التي جاء ذكرها في الكتب الطبية العربية: أولًا - الأمراض المعدية التي تتسبب عن الأحياء الدقيقة (المكروبات) أو (الرواشح = الفيروسات) وشملت ما يلي: 1- الجدري والحصبة والحميقاء: إن أهم ما يسجله التاريخ بفخر للرازي في هذا الباب هو كونه لأول مرة في تاريخ الطب في كتابه "رسالة في الجدري والحصبة" فرّق بين هذين المرضين ووصف كلًا منهما على حدة بصورة تفصيلية خلافًا لمن سبقه من الأطباء العرب واليونان إذ أنهم كانوا يعتبرون المرضين واحدًا، وقد جاء ذلك في ثلاثة مواضع من رسالته هذه [20].
وكان البلدي أول من قدم وصفًا دقيقًا لمرض الحميقاء ومن استعراض وصفه لهذا المرض يظهر أنه يقصد ما نسميه اليوم بجدري الماء أو الجدري الكاذب (Chickenpox) يقول في ذلك:
«فأما الحميقاء فإنها لا تكاد أن يعرض معها في الحمى وجع الظهر ولا التفزع... وتخص هذه الحمى قشعريرة... وظهور البثر في هذا يكون مع الرابع إلى السابع وإذا ظهر لم يشبه الجدري ولا الحصبة في حال البتة...» [21].
وبذلك يعتبر مكتشفًا لهذا المرض.
2- شـلـل الأطفال: يقول الرازي في ذلك: «يحدث الشلل في الأطفال إما في طرف واحد أو في الجسم كله ويمنع الطفل من المشي أو أي نوع من الحركة ويحدث من سبب رطوبة لطيفة تشل العصب... علاج ذلك إذا لم تكن ولادية... أن يوضع في حمام وأن تدهن مفاصل الطفل بالدهان واستعمل يوميًا المعاجين التالية...» [22].
وفي قسم آخر من الكتاب نفسه يتكلم عن العلاج الطبيعي كالتدليك والتمارين العلاجية والحمامات المائية كلامًا صائبًا حيث أن ذلك معمول به الآن في علاج شلل الأطفال كما هو معلوم.
3- الــكزاز: يقول الطبري عن هذا المرض: «يحدث في أفمام الصبيان علة تعرف بالاصطكاك... وهو أن تصطك أسنانه ويبرز عيناه في سائر بدنه، شبيه بالاختلاج ولم أر طفلًا حديث به هذه العلة نجا منها... ذلك هو الكزاز ولا يكاد يحدث هذا بالطفل إلَّا إذا كانت به جراحة خفيفة أو ظاهرة» [23].
ومن بين الأعراض التي ذكرها ابن سينا لهذا المرض قوله: «أما علامات الكزاز... فأن يكون الشخص كالمخنوق مختنق الوجه والعين وربما قيل إنه يضحك مع امتلاء العنق لا يستطيع الالتفات وربما لم يقدر أن يبول.... وربما بال بلا إرادة...» [24].
إن هذا الوصف الصحيح لأسباب وأعراض وإنذار هذا المرض لم يضف الطب الحديث إليه شيئًا يذكر سوى مسألة الوقاية.
ويذكر الرازي في "الحاوي" بأنه: «كان صبي أصابه نخس في الجانب الأيسر من عضده في العضل فوضع عليه الطبيب دواء قد امتحنه في جراحات أخرى فتشنج الغلام ومات لأن جراحته لم تكن واسعة لكن كانت نخسة».
نستنتج من ذلك بأن الرازي يعزي سبب إصابة الطفل بالكزاز إلى ضيق فم الجرح والتقيح الحادث في عمقه ويؤكد ضرورة توسيع فم الجرح وهذا ما ينصح به الأطباء اليوم في حالة مماثلة حتى اليوم [25].
4- مرض الجــذام: جاءت الإشارة لعدوى الجذام في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي سبق ذكرها.
أمَّا أول من أشار إلى انتقال العدوى فيه إلى الطفل كان علي بن ربن الطبري، وأول من وصف مرض الجذام وصفًا شاملًا فقد كان ابن ماسويه [26] وتبعه الكثير من الأطباء العرب بتفصيل طبيعة المرض المعدية وأعراضه وعلاجه ولا يكاد يخلو كتاب من كتبهم من ذكره.
5- السَّـل: مرض السل عندهم عبارة عن حدوث قرحة في الرئة يصعب برؤها ويفرقون بين الخراج وبين القروح ويصف ابن سينا هيئة المستعدين للسل وصفًا جيدًا حيث يقول: «هؤلاء هم المجنحون، الضيقو الصدر، العريو الأكتاف من اللحم، الطويلو الأعناق، المائلوها إلى قُدَّام.
والسِّنُّ الذي يكثر فيه السل ما بين ثماني عشرة سنة إلى حدود الثلاثين، وهي في البلاد الباردة أكثر... وقد يعرض للمسلول أن يمتد به السل ممهلًا إياه برهة من الزمان، وأصحاب قروح الرئة يتضررون بالخريف».
ثم يميز بين السل وغيره ويذكر علامات السل بقوله: «السعال الذي كثيرًا ما يشتد بهم ويؤدي إلى نفث الدم أو السدة، وحمى رقيقة لازمة تشتد عند الليل... ويفيض العرق منهم كل وقت، ويأخذ البدن في الذبول، والأطراف في الانحناء، والشعر في الانتشار، وتبطل الشهوة للطعام».
ومن ملاحظاته هنا أيضًا قوله: «وأقبل الأسنان لعلاج السل هم الصبيان» [27].
كما يُقال بأنه اكتشف طبيعة السل المُعدية لأول مرة وكان الرازي أول مَنْ لاحظ تقوس الأظافر (Clubing) في حالة الإصابة بالسل؛ حيث يقول: «فإذا وقع في السل كمدت الوجنتان وذبل اللحم وتعقفت الأظافر» [28].
6- الطاعون: لقد سبق ذكره في أقوال ابن الخطيب وابن خاتمة ولا حاجة لتكراره.
7- داء الكلب: سبق الكلام عنه.
8- الرمـد: لقد كان عبد الله بن قاسم الحريري من أوائل الأطباء العرب الذين أكدوا طبيعة هذا المرض المعدية بشكل جلي، حيث قال: «ومن أمراض العين ما يعدي ويتوارث، ومنها ما يعدي ولا يتوارث... الأول: كالسبل، والثاني: كالرمد ولا سيما إلى عين من ينظر إليه...» [29].
وسبق وأن ذكرنا قول ابن الأزرق في التأكيد على ذلك.
9 - الأمراض التناسلية: أ- مرض الزهري (المرض الفرنجي = السفلس): من المعروف بأن كتب المتقدمين من الأطباء العرب والمسلمين لا نجد فيها ما يشير إلى معرفتهم لهذا المرض مما يدلل على أنه لم يكن منتشرًا بينهم.
ويذكر بعضهم [30] أن الزهراوي قد أشار إلى هذا المرض حينما تكلم عن مرض الشرى في الباب الثاني (الفصل السادس والخمسين) من المقالة الثلاثين بعنوان: «في الشرى الذي يعرض في القلفة والكمرة».
وقال عنه أنه بثر يعرض في الإحليل... ويكون منه خبيث وغير خبيث».
إلَّا أننا قد وجدنا بأن أول إشارة صريحة لهذا المرض هو ما ذكره الأنطاكي عندما تحدث عن فوائد علاج الزئبق فقال بأنه يجفف الحب الإفرنجي [31].
والمعروف بأن الزئبق بقي العلاج المفضل لهذا المرض في أوربا لحين اكتشاف البنسلين (سنة 1942).
وقد أجمع المؤرخون أن الزهري دخل أوربا في أواخر القرن الخامس عشر أدخله البحارة الذين رافقوا كريستوفر كولومبوس عند رجوعهم من أمريكا الجنوبية وكان أول ظهور هذا المرض بشكل وبائي عام 1494م أثناء الحرب الإيطالية الفرنسية.
«وكتب بلحسن الوزاني (ليون الأفريقي) في الرحلة التي قام بها في شمال أفريقيا سنة 1516، أن جمعًا غفيرًا من اليهود الذين طردهم فرديناند ملك إسبانيا حلّوا في أفريقيا وحلّ معهم المرض الإفرنجي وانتشر باختلاط بعض الأهالي بنسائهم» [32].
ولما وصل الاستعمار الغربي إلى البلاد العربية ظهر ذلك الداء معهم فسماه العرب الداء الفرنجي... ولا يزال هذا الاسم مستعملًا حتى اليوم.
ب- السَّيلان: ذكره ابن الجزار ضمن أمراض القضيب دون تحديد الاسم.
10 - الجمرة الخبيثة: كان ابن سينا أول من أشار إلى هذا المرض ووصفه في القانون بقوله: «فصل في الجمرة والنار الفارسية، هذان اسمان ربما أطلقا على كل بثرة أكال منفط مخرق محدث خشكريشة... وربما أطلق اسم النار الفارسية من ذلك على ما كان هناك من جنس النملة أكال محرق منفط فيه سعي ورطوبة... قليل السواد قليل التقعير... وأطلق اسم الجمرة على ما يسود المكان ويفحم العضو ومن غير رطوبة ويكون الكثير السوداوية غائصًا...» [33].
ثانيًا - الأمراض المُعدية التي تتسبَّب عن الطفيليات: 1- مرض النوم: إن أحمد بن محمد القلقشندي (756 - 821 هـ = 1355 - 1418 م) كان أول من أشار إلى مرض النوم عندما تحدث عن أحد ملوك مالي وهو (قنتبا بن سليمان) حيث قال: «وكان آخر أمره أن أصابته علة النوم، وهو مرض كثيرًا ما يصيب أهل تلك البلاد، لاسيما الملوك منهم، يأخذ أحدهم النوم حتى لا يكاد يفيق، فأقام به سنتين حتى مات» [34].
2- الجرب: إن أول من أشار لطفيلي الجرب من الأطباء العرب هو أبو مروان عبد الملك بن زهر... وهو ثاني طبيب يشير إلى ذلك بعد الطبيب اليوناني الإسكندر الترالي [35] حيث وصفه تحت اسم السؤاب.
يقول ابن زهر: «ويحدث في الأبدان في ظاهرها شيئًا يعرفه الناس بالصؤاب، وهو حكة تكون في الجلد ويخرج إذا قشر الجلد من مواضع منه حيوان صغير جدًا يكاد يفوت الحس» [36].
وهو قول مطابق تمامًا لما هو معروف اليوم من أن الآفة حكة في الجلد وأنه لا يمكن رؤية الحيوان المختبئ إلَّا بإزالة القشور عن المواضع الحاكة، وأن الحيوان متناه في الصغر لا تكاد العين تحس به أو تراه.
|
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52651 العمر : 72
| موضوع: رد: مفهوم العدوى والأمراض المُعدية عند الأطباء العرب والمسلمين السبت 13 مارس - 23:37 | |
| 3- حبة بغـداد = قرحة الشرق وتسمى أيضًا (حبة بلخ = البلخية): إن أقدم من وصف هذا المرض وأعطى أعراضه بصورة دقيقة وواضحة كان (أبو منصور بن نوح القمري البخاري) من قصبة بلخ في خراسان، أحد أساتذة ابن سينا (توفي سنة 991م).
وممن أشار إلى حبة بغداد ابن سينا، وقد ذكرها باسم قرحة أو حبة بلخ؛ يقول: «والبلخية من جنس السعفة الرديئة، وربما كان سببها لسعًا مثل البعوض الخبيث» [37].
حيث يطلق السكان في قصبة بلخ اسم البعوض (باشا عازيداجي Pashi - Gazidagi) على الحبة.
إنه من المناسب هنا أن ننبه إلى أن الناس في بلخ ربطوا بين المرض وبين عضة البعوض فأطلقوا اسم عضة البعوض (باشا غازيداجي) على الحبة.
علمًا بأن ناقل المرض حشرة تشبه البعوض ويطلق عليها ذبابة الرمل (phlebotomus Caucasus) وليس البعوض، وقد يكون ذلك من أقدم الإشارات إلى حدوث أو انتقال مرض مستديم ومتوطن بعد عضة البعوض أو بكلمة أخرى حشرة ما [38].
وظلت قرحة الشرق متوطنة في تلك المناطق حتى القرن الخامس عشر الميلادي، حين كتب عنها منصور بن محمد بن أحمد بن يوسف الفقيه إلياس مسميًا إيَّاها "البلخية".
ثم جاء أول ذكر للمرض في الشرق الأوسط بعد ذلك بقليل؛ إذ ذكر بهاء الدولة بن قوام الدين قاسم الرازي، في كتابه المؤلف نحو عام 1500م والمسمى "خلاصة التجارب" أن المرض كان منتشرًا في بغداد من ثم عرفه بعض الناس باسم حبة بغداد [39].
4- حمى البرداء (الملاريا = حمى المستنقعات): تنبه العرب والمسلمون إلى علاقة المستنقعات بانتشار الحمى، فمما يروى بأن كثيرًا من المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة أصيبوا بالحمى وكان في المدينة مستنقع يسمى (بطحان) فلما ردمه المسلمون اختفت هذه الحمى.
وجاء وصف هذا المرض وأعراضه لدى بعض الشعراء العرب مثل المتنبي الذي كان في مصر عـام 348 هـ = 959م حين أصابته الحمى فقال في ذلك قصيدة طويلة نقتطف منها:
وَزائِرتِي كــــــــأنَّ بها حَياءٌ = فليسْ تزورُ إلَّا فِي الظَّلامِ بَذلتُ لها المَطارِفَ والحَشايَا = فعَافَتْها وبَاتتْ في عِظامِي
وجاءت إشارات عديدة لدى الأطباء العرب والمسلمين حول العلاقة بين المستنقعات وانتشار الأوبئة.
وقول ابن زهر: «وأما المياه فإنها إن كانت مياهًا راكدة حتى تنتن وتكون عكرة مما تحتها من حمأة وأقذار، فإنها قد يكون عنها ما ذكرته من الوباء بالحميات الدقية» [40].
والوباء الذي أشار إليه صاحب "الحلل السندسية" (ج 2/ ص 347) الذي يحف بجبهة قابس (في تونس) وسببه شجرة الدفلة والمياه الجارية حولها وعفونتها وخاصة ماؤها، فإنه من نوع حمى المستنقعات أيضًا ما جاء في (صحيفة 438) من الكتاب نفسه أن قرية أجاص (من الجنوب التونسي) ذات مياه كثيرة وبها عين خرارة عذبة غير أنها مستوبأة [41].
وعلى الرغم من عدم معرفتهم أن البعوض هو ناقل لمرض الملاريا إلَّا أننا نجد وصفًا عند النويري في الإشارة إلى تركيب وعمل خرطوم البعوض حيث يقول: «وخرطوم البعوض أجوف نافذ الخرق، فإذا طعن به جلد الإنسان استقى به الدم وقذف به إلى جوفه» [42].
ثالثًا - الديدان: إن عرض الأطباء العرب والمسلمين لموضوع الديدان اعتمد أساسًا على شكل الديدان البالغة كما تبدو للعين المجردة، وما كان لهم أن يذهبوا إلى أبعد من ذلك حيث إنهم لم تكن لديهم المجاهر التي تكشف عن دقائق تركيب هذه الديدان وأطوار نموها كالبويضات واليرقات.
وللسبب نفسه لم يوفـقوا في فهم مصدر هذه الديدان وقالوا إنها تتولد في الأمعاء من البلغم إذا كثر العفن مستندين بذلك على نظرية الأخلاط الأربعة [43].
ولكن عدم معرفتهم بطبيعة الديدان ودورات حياتها لم يمنعهم عن وصف أعراضها وصفًا دقيقًا فقالوا إنها كثيرًا ما تتولد في الأطفال والصبيان وهي تهيج عند النساء ووقت النوم أكثر ومن أعراضها الجوع والخفقان الشديد والغثيان والمغص والإسهال وانتفاخ البطن، وإذا اشتدت العلة والجوع سقطوا أو تشنجوا والتووا كأنهم مصروعون دون فقد عقولهم وربما تأذت الرئة والقلب بمجاورتها فحدث سعال يابس وخفقان في البطن، ويعرض لبعضهم يرقان... ومن علاماتها سيلان اللعاب، أما الصغار فيدل عليها حكة المقعدة ولزوم الدغدغة عندها ويعرض صراخ وتململ.
والمبدأ العام في علاج الديدان أن يمنعوا من المادة المولدة لها من المأكولات الرطبة اللزجة مثل الفواكه والبقول والألبان واللحم الخام.
وأن تنقى البلاغم التي في الأمعاء التي منها تتولد، وأن تقتل بأدوية هي سموم بالقياس إليها.. ثم تسهل بعد القتل إن لم تدفعها الطبيعة بنفسها ولا يجب أن يطول مقامها في البطن بعد الموت، ثم يصفون عشرات الأدوية (كالشيح والترمس وبزر الكرفس والثوم وقشر الرمان وورق الخوخ).
وأمَّا حب القرع فإنها تحتاج إلى أقوى من الأفسنتين كالسرخس أما المحمولات فهي أولى بأن تخرج من أن تقتل، إلَّا ما كان في المستقيم من صغار الديدان فهذه قد يقتلها احتمال الملح والاحتقان به وأقوى من ذلك احتمال النفط الأبيض أو القطران.
والتعب والرياضة الشديدة قد تسهل خروج الديدان.
أمَّا أهم الديدان التي جاء ذكرها في كتبهم فيمكن تقسيمها إلى نوعين: أ- الديدان المعوية وهـي: 1. الديدان الطوال العظام (الحيات): وهي تشمل الديدان من صنف الإسكارس.
2. الديدان الصغار (دود الخل): وهي تشمل الأوكزيورس.
3. العراض (حب القرع) = الديدان الشريطية: يقول البلدي عنها بأنها إن خرجت كلها تخلص المريض منها وإن انقطعت تولدت ثانية، وهذا قول صحيح لا شك [44].
4. الديدان المستديرة: ذكرها ابن سينا ويقال بأنها دودة الإنكلستوما، وقد أكد ذلك الدكتور محمد عبد الخالق عام 1921م وقد أقرت مؤسسة روكفلر الأمريكية ذلك فسجلت أن ابن سينا عرف مصدر هذا المرض قبل أن يعرفه الطبيب الإيطالي (دوبيني) الذي ينسب إليه اكتشاف هذا المرض [45].
إن قائمة العلاجات التي استخدمها الأطباء العرب والمسلمون في معالجة الديدان طويلة نذكر منها (الآس، أفتيمون، افسنتين، انيسون، بابونج، ترمس، ثوم، حب النيل، حبق، حنظل، خوخ، رمان، سرخس، صبر، صعتر، عصفر، كمون، هندباء، نعنع... الخ).
ب - نفاخات الماء =الأكياس العدرية = الأكياس المائية: Hydatid Cyst على الرغم من عدم معرفة الأطباء العرب والمسلمين لطبيعة هذه الديدان إلا أننا نجد إشارات لها في كتبهم.
حيث ينقل الرازي عن جالينوس فيقول: «ج: إنه قد يحدث به نفاخات الماء في ظاهر الكبد أكثر من حدوثه في سائر الأعضاء وإنما تتولد هذه النفاخات في الغشاء المحيط بالكبد فقد ترى في كثير مما تذبح من الحيوان نفاخات في أعالي كبده مملوءة من ذلك الماء فإن اتفق بعض الأوقات أن تنفجر هذه النفاخات فإن ذلك الماء ينصب فيصير في الفضاء الذي في جوف الغشاء الممتد على البطن في الموضع الذي يجتمع فيه في المستسقين الماء».
ج- داء الخيطيات (داء الفيلاريا Filariasis): مما ذكروه من أنواعها: 1- داء الفيل Filaria Bancrofts: يقول ابن سينا عن هذا الداء: «هو زيادة في القدم وسائر الرجل على نحو ما يعرض في عروض الدوالي فيغلظ القدم».
وعن علاجه يقول: «أما داء الفيل فخبيث قلما يبرأ ويجب أن يترك بحاله إن لم يؤذ فإن أدى إلى تقرح وخيفت الأكلة لم يكن إلَّا القطع من الأصل» [46].
2- العرق المدني (دودة المدينة Drancoculus) = Median worm Medinensis: لا يكاد كتاب من الكتب الطبية يخلو من العرق المدني إلَّا أننا لا نظن أحدًا وصف هذه العلة حتى عصرنا هذا بأكثر مما قاله الرازي عنها وقوله فيها صواب كله.
والمعروف أنها سميت كذلك نسبة إلى المدينة المنورة (يثرب) أو على الأقل نسبة إلى الجزيرة العربية [47].
يقول الرازي: «العرق المدني قد يكون في البلاد الحارة وبشرب المياه الرديئة» [48].
ويقول: «ويحدث في البلاد اللطيفة الهواء الحارة وفي الأبدان الرطبة المترفة إذا انتقلت إليها» [49].
«ويتولد في الهند ومصر ويعرض في الأعضاء العظمية مثل المعصمين والساقين والفخذين، وأما في الصبيان فقد يعرض في الجنبين، وكونها تحت الجلد ويخرج منه طرف العرق فإن مد عرضت عنه أوجاع شديدة وخاصة إن انقطع» [50].
وعن كيفية التخلص من هذه الدودة تكلم الزهراوي في باب سل العرق المدني كلامًا يستوجب الإعجاب يقولُ في سَلِّ العرق المدني: «هذا العرق يتولد في الساقين في البلاد الحارة كالحجاز وبلدان العرب وفي الأبدان الحارة القصيفة القليلة الخصب، وربما تولد في مواضع أخرى من البدن غير الساقين... وعلامته ابتداء حدوث هذا العرق أن يحدث في الساق تلهب ثم تنفط الموضع ثم يبتدئ العرق يخرج من موضع ذلك التنفط كأنه أصل نبات أو حيوان» وبعد ذلك يقول: «فإذا ظهر منه طرفه فينبغي أن يلف على قطعة صغيرة من الرصاص تكون زنتها من درهم إلى درهمين وتعقده وتترك الرصاص معلقًا في الساق، فكلما خرج منه شيء إلى خارج لففته في الرصاص وعقدته فإن طال كثيرًا فاقطع بعضه ولف الباقي ولا تقطعه من أصله قبل أن يخرج كله لأنك إن قطعته ودخل في اللحم أحدث ورمًا وعفنًا في الموضع وقرحة رديئة فلذلك ينبغي أن يدارى ويجر قليلًا قليلًا حتى يخرج من آخره ولا يبقى منه شيء في البدن، وقد يخرج من هذا العرق في بعض الناس ما يكون طوله خمسة أشبار وعشرة... فإن انقطع لك في حين علاجك له فادخل مرودًا في الثقب وبطه طويلًا مع البدن حتى يفرغ كل ما فيه من مادة وحاول تعفين الموضع بالأدوية أيامًا ثم عالجه بعلاج الأورام، وقد يكون هذا العرق ذا شعب كثيرة ولا سيما إذا ظهر في مفصل الرجل أو الرجل نفسه فيحدث له أفواه كثيرة ويخرج من كل فم شعبة فعالجه كما ذكرنا في التقسيم وبما تقدم» [51].
إن طريقة العلاج هذه هي الطريقة المستعملة للتخلص من الدودة حتى اليوم.
3- الدود المتولد تحت الجلد (Loiasis) [52] خصص الزهراوي لهذه الدودة فصلًا خاصًا تحت اسم "الشق على الدود المتولد تحت الجلد ويسمى علة البقر"، فقال: «هذا المرض يسمى في بعض البلدان عندنا علة البقر من أجل أنها كثيرًا ما يعرض للبقر دودة صغيرة تتولد بين الجلد واللحم وتدب في الجسم كله صاعدة وهابطة تتبين للمس عند دبيبها من عضو إلى عضو حتى تخرق حيث ما خرقت في الجلد موضعًا وتخرج وتكونها من عفونة بعض الأخلاط ...» إلى أن يقول: «وإنما يتوقع من أذيتها أنها إذا دبت في الجسم وارتفعت إلى الرأس وبلغت العين فربما فتحت فيها وخرجت فأبطلت العين ويعرض ذلك كثيرًا فإذا أردت علاجها وإخراجها فإنما يكون ذلك عند دبيبها وظهورها للمس فينبغي أن تشد ما فوقها وتحتها برباط شدًا جيدًا ثم تشق عليها وأخرجها، فإن غاصت في اللحم ولم تجدها فاحمل على الموضع الكي بالنار حتى تحرقها» [53].
المصدر: «مجلة المجمع العلمي العراقي».
الهوامش: [1] ألمان، مانفرد: "الطب الإسلامي" - ترجمة د. يوسف الكيلاني، وزارة الصحة العامة، الكويت 1981، ص 147. [2] السامرائي، د. كمال: "مختصر تاريخ الطب العربي" - منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية 1985، ج 2، ص 287. [3] الرازي، أبو بكر محمد بن زكريا: "المنصوري في الطب" - تحقيق د. حازم البكري الصديقي، معهد المخطوطات العربية، الكويت 1987، ص 225. [4] أ. ك. هوفمان: "إدارة السجل الطبي" الطبعة السادسة، شركة سجل الأطباء، إلينوي، الولايات المتحدة الأمريكية 1972 ص 12. [5] ابن ميلاد، الحكيم: "الطب العربي التونسي"، تونس 1980، ص 156 نقلًا عن ابن عذارى ج 1، ص 300. [6] أرنولد، توماس: "تراث الإسلام" - ترجمة جرجيس فتح الله، دار الطليعة، بيروت ط 2، 1972، ص 487 - 488. [7] الخطابي: محمد العربي – "الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية" ج 3 ص 157. [8] ابن أبي أصيبعة: "عيون الأنباء" ج 3 ص 283. [9] ابن سينا، أبو علي الحسين بن علي: "القانون في الطب" - مكتبة المثنى، بغداد (طبعة بالأوفست) بدون تاريخ ج 3 ص 348 - 349. [10] ابن ميلاد، الحكيم أحمد: "الطب العربي التونسي" (مصدر سابق) ص 153. [11] المجوّسي، علي بن العباس: "كامل الصناعة الطبية"، المطبعة الكبرى بالديار المصرية 1294 هـ ج 1 ص 168 - 169. [12] خير الله، الدكتور أمين أسعد: "الطب العربي" ص 188. [13] ابن سينا: "القانون" (مصدر سابق) ج 1، ص 80. [14] ابن خلدون، عبد الرحمن: "المقدمة" - دار الفكر بدون تاريخ، ص 293. [15] ابن رضوان، علي: "رسالة في الحيلة في دفع مضار الأبدان بأرض مصر" تحقيق الدكتورة رمزية الأطرقجي، جامعة بغداد 1988 ص 24، 42، 74 ويراجع أيضًا رشدي، محمد: "مدنية العرب في الجاهلية والإسلام" ص27 - 28. [16] البار، د. محمد علي: "العدوى بين الطب وحديث المصطفى" - دار الشروق، جدة 1977 ص 76. [17] الزهراوي – "التصريف": المقالة الثانية - نقلًا عن العربي الخطابي - الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية ج 1 ص 209. [18] ابن المطران، أبو نصر أسعد: "بستان الأطباء وروضة الألباء"، تحقيق د. عبد الكريم أبو شويرب، طرابلس - ليبيا 1993 ص 154. [19] الأزرق، إبراهيم عبد الرحمن: "تسهيل المنافع في الطب والحكمة" - نشر عبد الحميد أحمد لطفي، مصر بدون تاريخ ص 180. [20] للزيادة من التفصيل يراجع محمد، الدكتور محمود الحاج قاسم: "تاريخ طب الأطفال عند العرب" - مركز إحياء التراث العلمي العربي، جامعة بغداد ط 3، ص 1989، ص 184. [21] البلدي، أحمد بن محمد بن يحيى: "تدبير الحبالى والأطفال والصبيان" - تحقيق الدكتور محمود الحاج قاسم محمد دار الشؤون الثقافية، بغداد ط 2 1978، ص 324. [22] الرازي: "رسالة في أمراض الأطفال والعناية بهم" (أو تدبير الصبيان)، ترجمة الدكتور محمود الحاج قاسم محمد عن الإنكليزية (طبع رونيو 1979)، ص 18. [23] الطبري، أحمد بن محمد: "المعالجات البقراطية"، مخطوطة دار الكتب المصرية ص 13. [24] ابن سينا: القانون، ج 2 ص 103. [25] حسين، الدكتور محمد كامل: "طب الرازي دراسة تحليلية" - المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 1977 ص 41. [26] هونكة، سيغريد: "شمس العرب تسطع على الغرب" - ترجمة فاروق بيضون / كمال دسوقي، المكتب التجاري، بيروت 1964، ص 273. [27] ابن سينا: القانون (مصدر سابق) ج 1، ص 249. [28] الرازي، أبو بكر محمد بن زكريا: "الحاوي" - مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد، الهند ط 2، 1974، ج 4، ص 96. [29] الحريري الإشبيلي البغدادي، عبد الله بن قاسم: "نهاية الأفكار ونزهة الأبصار" - تحقيق د. حاز البكري / د. مصطفى شريف العاني، دار الرشيد للنشر، بغداد 1979، القسم الأول ص 95 - 96. [30] الخطابي: "الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية" ج 1 ص 145. نقلًا عن بحث Dr: Renaud المؤتمر الطبي في تونس - مارس 1934. [31] الأنطاكي، داود: "التذكرة" - مكتبة محمد علي صبيح، ج 1 ص 169. [32] ابن ميلاد، الحكيم أحمد: "تاريخ الطب العربي التونسي"، ص 166. [33] ابن سينا: "القانون" (مصدر سابق) ج3 ص 118. [34] القلقشندي: "صبح الأعشى"، وزارة الثقافة والإرشاد، مصر ( بدون تاريخ ) ج 5 ص 297. [35] Carison - Introd. Hist. Med. P.132 [36] ابن زهر، أبو مروان عبد الملك: "التيسير في المداواة والتدبير" - تحقيق ميشيل الخوري - المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 1983، ص 364. [37] ابن سينا: "القانون" (مصدر سابق) ج 3 ص 288. [38] أبو الحب، الدكتور جليل كريم: "حبة بغداد" - مقال مجلة المورد العدد 4 المجلد 7 السنة 1979. [39] تاريخ مرض الليشمانيا الجلدي ودور العلماء المسلمين فيه: د. عبد الحافظ حلمي محمد - د. منى التقي: مؤتمر الطب الإسلامي الأول - الكويت 1401 هـ. [40] ابن زهر: أبو مروان عبد الملك – "التيسير في المداواة والتدبير" (مصدر سابق) ج 1 ص 422. [41] ابن ميلاد، الحكيم أحمد: "تاريخ الطب العربي التونسي" (مصدر سابق) ص 156 [42] النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب: "نهاية الأرب" - وزارة الثقافة والإرشاد، مصر (بدون تاريخ) ج 10، ص 301. [43] حسين، الدكتور محمد كامل: "الموجز في الطب والصيدلة عند العرب"، طبع على نفقة الحكومة الليبية ص 71 - 72. [44] البلدي: "تدبير الحبالى والصبيان" - مقدمة المحقق الدكتور محمود الحاج قاسم محمد. [45] طوقان، قدري حافظ: "العلوم عند العرب" - مكتبة مصر بالفجالة 1956، ص 18. [46] ابن سينا، "القانون" (مصدر سابق) ج2 ص 116. [47] حسين، الدكتور محمد كامل / العـقـبي، د. عبد الحليم: "طب الرازي" - المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 1977، ص 397 - 398. [48] الرازي: "الحاوي" (مصدر سابق)، ج11 ص 293. [49] المصدر نفسه (ص 294). [50] المصدر نفسه ج10 ص 191. [51] الزهراوي، أبو القاسم خلف: "التصريف لمن عجز عن التأليف" مع الترجمة الإنكليزية - نشر معهد ويلكم، لندن 1973، ص 294. [52] اعتقد أنهم يعنون بهذا المرض الذي يتسبب عن دودة (Loa - Loa). [53] الزهراوي: التصريف (مصدر سابق) ص 605.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/spotlight/0/140549/#ixzz6oYpqoMr5
|
|