نقاش علمي مع الشيخ ابن منيع في مسألة الأهلة
الشيخ الدكتور هيثم بن جواد الحداد
haitham1234@hotmail.com
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، فقد كنت شرعت في جمع مادة علمية في الرد على الشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله في المسألة المشهورة التي يثيرها حفظه الله في كل عام والمتعلقة بخطأ رؤية أهلة شهر رمضان، وشوال، وذي الحجة، في عدد من المرات خلال السنوات الأخيرة المنصرمة في المملكة العربية السعودية، ومن ثمّ تحديده لبدايات هذه الشهور بناءً على الحسابات الفلكية، وكنت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى في تحرير تلك المادة العلمية لتنشر رداً على الشيخ حفظه الله، فأؤخرها من جهة بسبب هيبة الرَّدِّ على مثل شيخ جليل وعالم كالشيخ عبد الله بن منيع حفظه الله ورعاه.
ثم من جهة أخرى بسبب كثرة الانشغال، وأقدمها لما أرى أنّ كلام فضيلته أصبح متكئاً لكثير من الناس في داخل المملكة وخارجها القائلين باعتماد الحساب الفلكي في إثبات بدايات هذه الأشهر، أمَّا في داخل المملكة فإن هؤلاء الذين يطلق عليهم بالليبراليين كثيرًا ما يتكئون على كلامه في هذه المسألة، بل ويشيدون بانفتاح الشيخ، وتمشيه مع مقتضيات العصر، خلافاً لغيره من المشايخ الرافضين لقبول الآخر، والانفتاح عليه،،،
وأمَّا في خارج المملكة وتحديدًا في بلاد الغرب فإن فتوى الشيخ أصبحت مستندًا لمن ينصرون العمل بالحساب، وهم في تلك البلاد كُثُر بسبب تأثير الحياة الغربية عليهم، وأصبح كلام الشيخ تبعًا لذلك وثيقة مهمة للطعن في العمل بالرؤية، إذ إنها صادرة من بلاد تعمل بالرؤية، وفي بعض الأحوال -وإن كانت ضيقة- أصبح مرجعًا يَستشهد به مَنْ أراد الطعن في الشريعة "التقليدية" ومهاجمتها أو المطالبة بالتحديث فيها.
هذا وليعلم أن الشيخ ابن منيع حفظه الله لم ينفرد بهذا القول، بل وافقه عدد من المعاصرين على رأسهم -من متقدمي العصر- الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله، ومن متأخريه المعاصرين الدكتور يوسف القرضاوي، أما من المتقدمين فسيأتي معنا بأن الإجماع قد انعقد على خلافه، ولذا لا تكاد نسبته تصح لأحد غير تقي الدين السبكي، ومع ذلك فإن كلامه رحمه الله موهم، إذ إنه بعد نقله الإجماع على طرح العمل بالحساب مطلقًا استطرد بكلام يفهم منه مخالفة ذلك والقول باعتماد الحساب في النفي دون الإثبات، وسنثبت بعد قليل كلامه كله في هذا المقام، وبكل حال فإن مقصود هذه الورقات مناقشة الشيخ ابن منيع حفظه الله أصالة، ومناقشة غيره ممن يوافقه في القول تبعًا.
لقد كتب الشيخ - ابن منيع- حفظه الله بعد ذلك وفي هذا العام بالتحديد (1428هـ) ردًا تناقلته بعض وسائل الإعلام المكتوبة 1، لا يخلو من صلابة في الخطاب على فضيلة الشيخ صالح اللحيدان الذي كتب تصريحًا يرد فيه على "دعاوى المُرجفين"، مستعملاً فيه -على عادة أكثر مشايخنا في المملكة العربية السعودية- لغة خطاب عامة، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى عدم فهم حجتهم، بل ربما النظر إليها كحجة ضعيفة مهلهلة لا تصمد أمام الحجج القوية والواقعية التي يأتي بها المخالفون، ثم تعقب الشيخ صالح الفوزان حفظ الله الجميع، الشيخ ابن منيع في رده على الشيخ اللحيدان، ومؤيداً للشيخ اللحيدان، ولما جرى عليه العلم في السعودية، بكتابة مختصرة شبيهة بكتابة الشيخ اللحيدان، الأمر الذي كرَّس لدى البعض القول بضعف حجة القائلين بالرؤية دون الحساب، أو بقوة كلام الشيخ ابن منيع في اعتماد الحساب في النفي دون الإثبات إذ لم يتمكن أحد من الإجابة على شبهه، ولا زال الرَّادُّون عليه يُكررون نفس الكلام الذي يعرفه الشيخ ابن منيع نفسه.. كانت هذه المُدأولًات دافعًا لتقديم الإقدام على الإحجام وتحرير ما اجتمع لدي في هذه المسألة على وجه الاختصار في صورة مقالة لعل الفائدة تعم بمشيئة الله تبارك وتعالى.
هذا، وقد جمعت هذه المقالة طرفًا من التعقبات على مآخذ الشيخ ومَنْ وافقه في النظر لهذه المسألة، مما لم أجده في كلام المعاصرين الذين تعقبوا القائلين بالرؤية وعدم الالتفات للحساب، وأوردت إيرادات خارجة عمَّا تداوله الطرفان، مِمَّا لا أظن أن الشيخ ابن منيع ولا مَنْ وافقه قد اطلع عليها، ولا أجابوا عنها، الأمر الذي يؤمّلني في أن ينظر إليها الشيخ ابن منيع ومَنْ يوافقه نظرة مُنصفة ومُتأمِّلة.
ثم بعد ذلك أحِبُّ أن أقول بأن هذا التعقيب على الشيخ ابن منيع، لا يردُّ على مسألة اجتهادية، إذ إن المسائل الاجتهادية تتسع لها الصدور، ولا ينبغي إشغال العامَّة بها، لكنه يأتي في مسألة لا يرد عليها بحث أصلاً لانعقاد سابق إجماع أو شبهه مما له حكمه عليها، وقد قال ذلك من قبل فقيه مفسر أصولي كبير، فقد قال الجصاص الحنفي: (فالقائل باعتبار منازل القمر وحساب المنجمين خارج عن حكم الشريعة، وليس هذا القول مما يسوغ الاجتهاد فيه لدلالة الكتاب ونصِّ السنة وإجماع الفقهاء على خلافه) (2)، ومثله قال ابن تيمية- وكلامه هذا معروف متداول - (فإننا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز والنصوص المستفيضة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا، وهذا القول وإن كان مقيدا بالإغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم) (3).اهـ
وقد نقل الإجماع على طرح العمل بالحساب بإطلاق -وهذا يشمل النفي والإثبات- جمع من العلماء، منهم:
الجصاص (4) -وقد تقدم كلامه-، والباجي (5)، وابن رشد القرطبي (6)، والحطاب (7) وشيــــخ الإسلام ابن تيمية -وقد تقــــدم كلامـــه كذلك-، وابن عابدين (8) وغيرهم، بل إن أشهر وأعلم من قال الأخذ بالحساب مطلقا من المعاصرين أثبت ذلك، فقد قال العلامة أحمد شاكر: (واتفقت كلمتهم أو كادت على أن العبرة في ثبوت الشهر بالرؤية وحدها، وأنه لا يُعتبر حساب منازل القمر ولا حساب المنجم..) (9)..
فخلاف الشيخ ابن منيع ومن قبله ومن معه فيها خلاف طارئ، بل إنه خلاف غير محرر من جهة، وخلاف يفتح أبوابًا من الأسئلة والإيرادات التي تصعب الإجابة عليها وربما تتعذر.
مآخذ الشيخ ابن منيع ومن وافقه وحججهم في هذه المسألة:
إذا تأملنا كلام الشيخ ابن منيع ومن وافقه في هذا المسألة، نجده يدور حول مقدمات يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولها:
الرجوع إلى علم الفلك في النفي دون الإثبات، وكثيرًا ما يردد الشيخ في فتاويه" أما في حال النفي فيجب العمل بالحساب الفلكي، فإذا قال الحساب الفلكي بأن الهلال لا يولد إلا بعد غروب الشمس، ثم جاء من يقول إنه رأى الهلال قبل غروب الشمس، فهذا في الواقع باطل؛ لأن هذه الشهادة لم تنفك عما يكذبها، فوجب ردُّها مهما كان قائلها، ومهما تعدَّد الشاهدون بها) (10).
وأما الثانية:
فهي وقوع أخطاء في الرؤية السعودية أعوامًا عديدة، وذلك لنفي الفلك لإمكانيتها.
الثالثة:
إنّ حسابات علم الفلك مقدمات لنتيجة قطعية الثبوت، إذ إنها حقيقة علمية، فيقول مثلا في تعقيبه على الشيخ اللحيدان (ولاشك بوجود الفرق بين من يتقدم بشهادة رؤية الهلال وبين من يذكر بحقيقة علمية معروفة لدى علماء ذلك العلم. فالأول يأتي بخبر يختص هو بمصدره - وهي الرؤية - والثاني يأتي بخبر علمي يشترك في معرفته جميع علماء ذلك العلم، فالأول في حاجة إلى تعديل وإنصاف بالثقة والأمانة والتقوى والصلاح لكون مصدر علمه بذلك الخبر - وهو الشهادة بالرؤية - ذاتياً في نفسه والثاني لا يلزم اشتراط تقواه وصلاحه لكون خبره معلوماً لجميع علماء ذلك الخبر).
الرابعة:
أن الشهادة متى ما خالفت الحس وما هو قطعي الثبوت فإنها ترد ولا تعتمد.
وفي ظني أن الشيخ مع جلالة قدره وفهمه، فقد أخطأ في هذه المسألة خطأً لا يحتمله الاجتهاد، وأن هذه المقدمات منها ما هو خطأ أصلاً وما كان منها صواباً فلا تأثير له في مسألتنا هذه وعليه فلا يوجد مسوغ مقبول شرعًا لما يقوله الشيخ، ولذا فإن رأيه لا يعتبر أصلا اجتهادًا مقبولا تتسع له صدور المخالف، ويقبل القول أو العمل به، وهذا وإن كان استباقًا للنتائج في المقدمة، وهو خلاف العرف العلمي، إلا أنه مقتضى عرف الشريعة في الأمور المستقرة المعلومة والمشتهرة، فوجب اتباعه، وإن بدا مخالفاً للطريقة الغربية التي لا تعترف بما "لا ريب فيه".
وهذا بيان ذلك:
أولًا: إنه من المشهور أن المستقر عند المسلمين أن ثبوت شهر رمضان المبارك يحصل بأمرين لا ثالث لهما:
الأمر الأول: رؤية الهلال.
الأمر الثاني: إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً.
هذا هو المشهور بناء على الأحاديث التي يحفظها كل أحد، لكن المتأمل لكلام الفقهاء يعلم أن ثمة أمر آخر يعتبر حاكمًا على هذين الأمرين وإليه المرجع في ثبوت الشهر، ألا وهو قبول المسلمين لأحد الأمرين -بل وحتى للحساب الفلكي- وهذه بعض الأدلة النقلية والعقلية التي تؤيد هذا؛ أعني أن قبول المسلمين لأحد الأمرين هو المعول عليه في بدء الشهر، وليعلم أن هذا ليس اجتهادًا أو ترجيحًا من كاتب هذه الأسطر، ولكنه -عند التأمل- عين ما قاله جماهير العلماء، بل إنه كذلك مما لا يسع أحدًا القول بخلافه، وأظن أن الشيخ ابن منيع في رده على الشيخ اللحيدان قد أقر به وأحسن، وقال: "ونحن نقول لفضيلته سمعنا وأطعنا لقراركم المؤيد من قبل ولي أمرنا فالفطر يوم يفطر الناس" لكننا نخالفه، ولا نرى أنه أحسن في قوله "ونحن في ذمة مجلس القضاء" فنحن في ذمة الله يوم أن عملنا بمقتضى تلك النصوص، لا نملك غير ذلك، وإنما تقال هذه العبارة لو أننا عملنا بالحساب، دون مشاهدة الشهر..
وهذه هي الحُجج:
أولًا: لو رأى أحد من المسلمين الهلال، وشهد عند ولي الأمر فرد شهادته لسبب ما، فإن ابتداء الشهر يكون في اليوم الذي قرره ولي الأمر وقبله المسلمون، وعند غياب قرار ولي الأمر يقوم جمهور المسلمين مقامه كما هو مقرر.
وأما هذا الذي رأى الهلال وحده، فله حالتان:
أ) أن يرى هلال رمضان، وهذا قد اختلف العلماء في حكمه، هل يصوم وحده، وهل يصوم سرًا أم لا، هذا في الصيام، هذا ما ذكره الفقهاء فيمن رأى هلال رمضان وحده.
ب) من رأي هلال شوال وحده - ويلحق به من استكمل ثلاثين يوما بناء على رؤيته- وبه يتضح الأمر أكثر، فيمكن أن يخرّج على القول السابق أنه يفطر سرًا، لكن كيف يفعل في صلاة العيد، هل يصلي العيد وحده كما ذكره بعض العلماء تخريجًا فيمن فاتتة صلاة العيد، أنه يصلي وحده في بيته!؟، هل يسافر إلى بلاد تصلي العيد؟، لم أر من ذكر هذا، ولا أظن أن الفقهاء تصوروا هذه الحالة، إذًا ليس له مناص من أن يصلي العيد مع المسلمين الذين يعيش معهم يوم دخول العيد عليهم.
يثور هنا سؤال آخر، وهو هل يقضي اليوم الذي تقرر عنده بناء على رؤيته، أنه من رمضان، أم لا؟ بحث نريد تجاوزه الآن.