أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: طالبُ العلم في زمن “الكورونا”! السبت 27 فبراير 2021, 8:54 am | |
| قال رحمه الله: (أنا أرى كلمتَه هذه نقطةَ الانتقال في حياتي العلميَّة، وذلك أنني بقيت في بعض زوايا المدرسة أفكر في شأني، وأنني غريب بـ “دِهْلِي” عن الأبوين والوطن، وقد أضعتُ ثلاثةَ أعوامٍ من دون أن أعرف الكلمة التي علَّمنيها الشيوخ، قد وثقت تمام الثقة أن لن يحصلَ لي من هؤلاء الشيوخ كبيرُ فائدةٍ، وأنِّي لن أستفيَد في المستقبل شيئًا إلَّا إذا ما جعلتُ شيخي نفسي، ولا أراجع أحدًا منهم، وأجعل حجي رايةً وأخطو إلى الأمام، ولن يتأتَّى ذلك إلا إذا ما فرغتُ عمَّا أنا في صدده من جميع النواحي، فأذكر أنني انتخبت “فصول كبرى” -كتابٌ في الصرف كالشافية– وجمعتُ نحوَ ثلاثة شروح، كنتُ آخذُ فصلًا أو بابًا من الفصول، وكنتُ أفكر في معناه وتفسيره غاية التفكير، ثم أراجع هذه الشروح الفارسية، فإذا ما قضيتُ حاجتي منها أراجع هذا الباب بعضه في “شافية” ابن الحاجب بالعربية، وربما أزيد في ذلك بمراجعة بعض شروح “الشافية” أيضًا، بحيث أنني كنت أرى نفسي عارفةً بهذا الباب خاصَّةً، فكنت بهذه الصورة أفرغ كلَّ يوم من باب من الأبواب، ولعل كتابنا “فصول كبرى” لا تزيد أبوابه ثلاثين، فكأني بهذه الصورة فرغتُ من جميع كتب الصرف في ثلاثين يومًا، ولا وقصَ ولا شطَطَ) (6).
فهذه (30) يومًا عدَّها الميمنيُّ نقطةَ الانتقال في حياته العلمية، وقدح بها شرارةَ الحذق في العربية، حتى كان بعدَ حينٍ من أعلامها.
ومن لطيف الأخبار المتصلة بذلك ما حدث لمحمود الطناحي (1419هـ)، وذلك أنه لَمَّا تحدَّث عن بواكير اشتغاله بالتحقيق ذكر أنه كان يعمل مع نفرٍ من المستشرقين، ومن أولئك د. هانس رويمر، أحدُ المستشرقين الألمان، فقد عمل معه في تحقيقه لكتاب: “الدر الفاخر في سيرة الملك الناصر” لابن أيبك الدواداري من مؤرِّخي القرن الثامن..
قال الطناحي: في أثناء قراءتي معه للنص جاء هذا البيت: مَلِكٌ مُنشِدُ القريضِ لديه *** يضعُ الثَّوبَ في يَدَيْ بَزَّازِ فسألني ذلك المستشرق: من أي بحرٍ هذا البيت؟ فأطرقتُ إطراقةً بلهاء، تَبِعَتها ضحكةٌ أشدُّ منها بلاهةً. فقال لي المستشرق مُنكِرًا مُتَعَجِّبًا: طالبٌ بدار العلوم، متخرجٌ من الأزهر، لا يعرف العَرُوض؟
فكأنَّما ألقمني الرجل أحجارَ “إِمْبَابَةَ” كلِّها، وعُدتُّ إلى بيتي خاسئًا حسيرًا، أجرُّ رجلي جرًّا من الزَّمَالِك، حيث يقع المعهد الألماني للآثار، إلى داري بالدَّرْبِ الأحمر خلفَ دار الكتب المصرية آنذاك، وما إن وصلتُ إلى بيتي مهدودًا مُثقَلًا بعناء الخيبة والمشي الطويل حتى هرعْتُ إلى صندوق الكتب الدراسية القديمة، واستخرجتُ منه كتاب: “المذكرات الوافية في عِلمَي العروض والقافية” لمؤلفه الشيخ عبدالفتاح شراقي رحمه الله، وهو ما كان مُقرَّرًا علينا في الأزهر، وانكببتُ عليه لا أكادُ أديرُ وجهي عنه صباحَ مساءَ، وما هي إلَّا أسابيعُ قليلةٌ حتَّى لانت لي البحور، واستقرَّت أنغامُها في أذني، وامتلأ بها سمعي، ثم كان ما كان من رحلتي الطويلة مع تحقيق النصوص، ومن أدواته معرفةُ علم العَرُوض.. وهكذا مَنْ انقطع إلى شيءٍ أتقنه) (7).
أسابيعُ قليلةٌ ألانَتْ عِلمًا كاملًا للطناحي، وسِرُّ ذلك تلك الحقيقةُ الجليلةُ التي ختم بها الطناحي خبرَه.. “مَنْ انقطع إلى شيءٍ أتقنه”!
(6) ومن الأفكار: (مصاحبةُ موضوعٍ).. بأن ينتقي المرء في موضوعٍ ما عدةَ كتب تكون من مهماته، فإذا عايش في هذه الأيام ذلك الموضوعَ وقرأ فيه عدةَ كتبٍ تفتحت له آفاقه واتضحت له خارطته وامتلك أبرز مفاتيحه.
وأذكر أني أَثَرتُ على أحد أصحابي بعضَ السؤالات المتعلقة بالمعاملات المالية المعاصرة والبحوث المكتوبة فيها، فكان يتكلم عن شاذِّها وفاذِّها باسترسال مذهل!
وفي أثناء محاورتي له بيَّن لي ما كشف الغطاء عن سبب تلك المعرفة السيَّالة، وذلك بقوله: (تقدَّمتُ إلى دائرة عملي بطلب إجازة مدةَ أسبوعين، ثم صرتُ أذهب كل يوم إلى مكتبة الملك عبد العزيز من أول الصباح حتى العاشرة مساءً، فجردت كلَّ ما فيها من كتب المعاملات المالية المعاصرة، وكتبت عن كل كتابٍ تقريرًا).
ومن الأفكار: (مصاحبةُ مهارة).. ومن شواهد ذلك أن عبد الوهاب المسيري انتقل بعد تخرُّجِه من مدرسة “دمنهور” الثانوية إلى “الإسكندرية”، ولَمَّا ذهب إلى قسم اللُّغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب في “جامعة الإسكندرية” صُدِم بأن الجميع كان يتحدث باللُّغة الإنجليزية، وحتى المصريون الخُلَّص كانوا أجانب، إذ كانوا لا يعرفون العربية على حَدِّ قوله، ولكنه لم يقف مكتوف اليدين، بل قرَّر أن يدخل تحدِّيًا معرفيًّا يتجاوز فيه عقبة جهله باللُّغة الإنجليزية ليتمكن من المسير في هذا القسم بلا تعثُّر.
قال متحدِّثًا عن نفسه: (قررتُ التحرُّكَ بسرعةٍ لأكتشفَ الآليَّات الجديدة المطلوبة لتحقيق البقاء، وأهمها إجادة اللُّغة الإنجليزية، فحبستُ نفسي في غرفة لمدَّة شهرٍ كاملٍ، لا أسمع إلا الإذاعات المتحدثة بالإنجليزية، ولا أقرأ سوى الجرائد والمجلات الإنجليزية، وعُدتُّ بعد الفصل الدراسي الأول وقد تملكتُ ناصية اللُّغة بشكل أدهش أساتذتي!) (8).
فهذه (30) يومًا تمكَّن فيها المسيري من إجادة اللغة الإنجليزية.. ولكلٍّ منا تطلعاتٌ لحصد الكثير من المهارات، من تعلم للغةٍ، أو تحذُّقٍ على كتابةٍ، أو غير ذلك، والوسائل الحديثة ساقتْ إلينا الكثير من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية التي تعيننا على ذلك.
(7) هذه بعضُ أفكارٍ لمشاريع، أملاها الخاطر العابر، ومن سعادة طالب العلم أن مجالات المعرفة رَحْبَةٌ واسعة، والأفكار المتصلة بها لا حصر لها.
ومن لطيف الأفكار ما يتصل بكشف مظانِّ المعرفة والخبرة بمصادرها، والحاجة إلى ذلك مما يستوي فيه طلاب المعارف بمختلف تخصصاتهم، فإن الخبرة بمظان المعرفة ومصادرها أمرٌ لا بد أن يكون محلَّ اعتناء جميع المشتغلين بالعلم، فالعلمُ وإن لم تمكن الإحاطة بحقائقه وأطرافه، إلَّا أنَّ الوقوف على مظانِّه ممكنٌ وإن كان عسيرًا، وليس القصدُ من مظانِّه أن يدركَ طالبُ العلم الكتبَ الرئيسةَ في كلِّ علمٍ فحسب، فهذا مما يُنالُ بالورقة والورقتين، بل الشأن أن يَعلَمَ أينَ تُبحَثُ مشكلاتُ العلم ودقائقُه، ويَعلَمَ موقع كل كتاب من سلسلة مصادر العلم ومدى تأثره وتأثيره، وكيف يتعامل معها ويفيد منها، ويميِّز بين كتب الفن وأعلامه ومدارسه، فإن لذلك أثرًا في وزن مسائل العلم، وقد أوفى الطناحي (1419هـ) على الغاية يوم أن قال: (معرفةُ مظنَّة العلم نصفُ العلم) (9).
والمقصود هنا أن يسعى طالب المعرفة لأن يتعرَّف إلى مصادر المعرفة، ويتتبعها، ويعرف موضوعاتِها، ومخابئَ مظانِّها، وذلك يتحصَّلُ له بقراءة مقدمات الكتب وفهارسها ومقدمات محققيها، وينظر فيما كُتِبَ من مقالاتٍ تستعرض الكتب وتقدم مراجعاتٍ لها.
ومن الموسوعات المعينة على ذلك: “تراث الإنسانية”، ففيها ما يبهج طالب المعرفة ويثري خبرته بمظان العلم ومصادره.
(8) كان أبو عبد الله البصري يُصنِّف والشدائدُ تنهَشُ حالَه، حيث لا طعامَ عنده ولا شراب، وقد دخل عليه أبو الحسن الأزرق يومًا وهو يصنف، فأراد ماءً عنده فلم يجده، وبحث عن طعام فلم يحصِّله، فقال لأبي عبد الله: (أتصنِّفُ ولا طعامَ ولا شرابَ عندك وأنتَ جائع!). فوضع أبو عبد الله قلمه والجزء الذي بين يديه وقال: (إذا تركت التعليق هل يحصل الطعام والشراب؟). قال: (لا). فقال أبو عبد الله: (فَلَأَنْ أعلق ولا يضيع وقتي أولى!).
وكتب عبد الرحمن بن محمد الزبيري في أيام عطلته كثيرًا من كتب العلم، كـ “الروضة” و “المهمات”، وكان لضيق حاله عن شراء الورق يكتب في أوراق التقاليد والمراسيم وما أشبهها.
كما كتب نصر الدين الطوسي كتابه: “رسالة أخلاق ناصري” لما كان محبوسًا عند القرامطة في قلعة “ألموت”، وصنف السرخسي الحنفي موسوعته الجليلية “المبسوط”، والمطبوعة في (30) مجلدًا وهو محبوسٌ في بئر، وكان يقيد ذلك في خواتيم بعض الأبواب، كقوله بعد فراغه من أبواب العبادات: (هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، إملاء المحبوس عن الجُمَع والجماعات) (10).
والأخبار في هذه الباب كثيرة، فلم تقعد بهؤلاء الأكابر عن تحصيل الفضائل فاقةٌ ولا شدَّة، بل ربما كانت تلك الأحوالُ منطَلَقًا لكثيرٍ من أعمالهم ومشاريعهم.. وإذا نظرت في الموسوعات التراثية التي صنفها أعلامنا، ثم قلَّبتَ طرفك في واقع حياتهم وما عليه مجتمعاتُهم وجدت أن كثيرًا من تلك الموسوعات صُنِّفَت تحت ظلال الشدائد.
ولا تزال تطوف بخاطري تلك الجملة التي وَصف بها الشيخ عبد الله البسَّام (1423هـ) الشيخَ عبد الله بن حسن آل الشيخ (1378هـ) في أثناء ترجمته له.. أعني قولَه عنه: (وفي الوقت الذي انشغل الناس فيه بالفتن والمحن شَغَلَ نفسه بتحصيل العلوم وإدراك الفضائل ومعالي الأمور) (11).
ما أعظمَها!
رغم بلائي بذاكرتي المثقوبة، إلا أنها لم تزل تحتفظ من ترجمة الشيخ بهذه الفضيلة العزيزة النادرة، هذه القدرة الفائقة على التحكُّم بالنفس وضبط اشتغالاتها.
العلمُ -يا صاحبي- عزيز، ومن عزِّته نفرتُه من الهموم المشاركِة، ولا سيَّما هموم الدنيا وسطوة الأحداث المحيطة، وكلَّما كان الطالبُ أملَكَ لهمِّه كان أحظى بالنبوغ في علمه، فلا بُدَّ له من حيازةِ همه وجَمْعِ خاطره، وفلاحُ طالب العلم مرهونٌ بمدى استطاعته على تقليصِ هموم دنياه والحدِّ من نفوذ محيطه عليه.
وحين يطالع القارئُ السيرَ والتراجمَ بحثًا عن أحوال العلماء للاقتداء بنهجهم فلا يقفْ بصرُه عند حدود الأوصاف المثبتَة بالحروف، بل لِيتعَدَّ إلى ما وراءَ ذلك، إلى انصرافِهم عن الهموم المتشاكسة، والنَّأْيِ بأنفسهم عن الاستغراق في الأحداث المحيطة، فقد كانت بين أئمة العلم والهموم الدنيوية والأحداث المحيطة بهم مسافةٌ فاصلةٌ، تُطوى حينًا وتُمَدُّ أحيانًا، وما حصَّلوا تلك المسافة إلا لأنهم يملكون ذواتهم، وبذلك نالوا من العلم ما نالوا.
صاحبي.. لا تُهدِر وقتك بفُتات الأخبار فإنها لا تنقضي، ولا تُهْلِك زمنك بما عليه غالب الناس من سفاسف الاهتمامات، ويرحمُ الله التاجَّ السبكيَّ (771هـ) الَّذي أدرك ما ينبغي أن يُملَأَ به وقتُ طالب العلم، ويُجمَعَ عليه همُّه، فكتبَ بمدادٍ مِلْؤُهُ الضَّنُّ بهَمِّ طالب العلم أن يُصرَفَ عمَّا خُلِق له بعد أن أورد طرفًا من أخبار التتار وجنايتهم على أهل الإسلام:
(ومن النَّاس من أفرد التصانيف لأخبارهم، وَيَكْفِي الفَقِيهَ مَا أوردناه، فأوقاتُ طالبِ العلمِ أشرفُ أن تضيعَ في أخبارهم إلَّا للاعتبار بها) (12).
وأنتَ.. فخُذْ من خبر “الكورونا” ما تحفظ به نفسَك، واستثمرْ ما أُحِيط به هذا الوباء من عزلٍ وحجرٍ بما تنمِّي به عقلك وتُعلِي معرفتك، ودعْك مما ضيَّع به الناس أنفسَهم في أوقاتِ المحن، من الانشغال بما لا يعنيهم عما يعنيهم، ففاتهم بذلك خير الدنيا والآخرة.
المراجع: (1) سير أعلام النبلاء (7: 431). (2) فيض الخاطر (3: 85). (3) حبر على ورق (172). (4) الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه (5). (5) نظر هذا النقل وما تقدَّمه في “ذيل تذكرة الحفاظ” للحسيني (201-202). (6) بحوث وتحقيقات للميمني (1: 19-20). (7) في اللغة والأدب (1: 181-182). (8) رحلتي الفكرية (130). (9) في اللغة والأدب.. دراساتٌ وأبحاث (1: 288). (10) انظر هذه الأخبار بإحالاتها في: “الحكمة العربية – دليل التراث العربي إلى العالمية” لـ د. محمد الشيخ (423 – 424). (11) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1: 231). (12) طبقات الشافعية الكبرى (1: 342).
المصدر: https://dorar.net/article/2031/ |
|