| سورة المؤمنون الآيات من 071-075 | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: سورة المؤمنون الآيات من 071-075 الثلاثاء 14 يوليو 2020, 6:53 am | |
| وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
إذن: فالمسائل لا تسير على هَوَى المخلوق، إنما على مرادات الخالق؛ لأن الخالق سبحانه هو صانع هذا الكون، وكلُّ صانع يغَارُ على صَنْعته، وهذا مُشَاهد حتى في صنعة البشر، ولك أنْ تتصوّر ماذا يحدث لو أفسدتَ على صانعٍ ما صنعَه.
وعدالة الأشياء أن تسير على وَفْق مرادات الصانع، لا هوى المصنوع؛ لأن الأهواء تملكها الأغيار، فالإنسان لو سار في حركة حياته على وَفْق هواه لأخذ مَا ليس له، ولَقبل الرشوة، ومال إلى الفِسْق والانحراف؛ لأنه في الظاهر يرى أنه منتفع بهذا ولا ينظر إلى العاقبة والمحصلة النهائية، لقد نظر إلى متعة زائلة موقوته، ونسي تبعة ثقيلة لن يقدر عليها فيما بعد.
لذلك يقول الحق سبحانه: (وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ..) (المؤمنون: 71) ولك أن تقول: نعم، اتباع الأهواء يُفسِد الأرض، ويُفسِد حركة الحياة فيها، لكن كيف يُفسِد السماء؟
وهل لأحد قدرة عليها؟
ونقول: ألم يكُنْ من أمنيات هؤلاء: (وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً..) (الإسراء: 90-92).
إذن: من أهوائهم أنْ تتهدّم السماء، ولو حتى على رؤوسهم، وأيّ فساد بعد هذا، وهكذا لو اتبعتَ أهواءهم لفسدَتْ السماوات والأرض، ليس هذا وفقط بل (وَمَن فِيهِنَّ..) (المؤمنون: 71) حيث سيتعدّى فسادهم ليشمل كل ما في الوجود.
لذلك يقيد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأهواء في قوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".
لأنه صلى الله عليه وسلم: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ) (النجم: 3-4).
وقد توقف بعض المستشرقين مُعترِضاً على هذه الآية(وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ) (النجم: 3) يقولون: يعني كلامه كله صحيح، فلماذا يُعدِّل له ربه بعض الأحكام؟
ومعنى ذلك أن الحكم المعدّل حين نطق به كان ينطق عن هوى.
ولو فهم هؤلاء معنى الهوى ما كان منهم هذا الاعتراض، فالهوَى أن تعرف الحق، لكن هواك يصرفك عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ يعرف في هذه المسائل حُكْماً وانصرف عنه، إنما نطق وحكم على مقتضى ما فهم في أمر لم ينزل فيه من الله شيء، ثم نزل الحكم من الله ليُعدِّل اجتهاد رسوله.
إذن: لم يكُنْ لرسول الله هَوَىً ينطق بمقتضاه، وفي تعديل الحق سبحانه لرسوله، وتبليغ الرسول لأمته بهذا التعديل أكبر دليل على صِدْقه صلى الله عليه وسلم وأمانته في البلاغ عن ربه، وإلاَّ فلم يكُنْ أحد ليعلم هذا التعديل، لو أخفاه رسول الله تعصّباً لنفسه، أو لدفْع الخطأ عنه.
ومن ذلك قوله تعالى: (يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ..) (التحريم: 1) ويقول سبحانه: (عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ..) (التوبة: 43).
وكان بوسع رسول الله أن يكتم هذه الآيات التي تعاتبه وتُعَدُّ مأخذاً عليه، لكنه صلى الله عليه وسلم كان أميناً يقول ما له وما عليه، لذلك يقول عنه ربه: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ) (الحاقة: 44-46).
ثم يقول تعالى: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ) (المؤمنون: 71) و (بل) تفيد الإضراب عن الكلام السابق، وإثبات كلام جديد بعدها، والذكْر هنا يعني: الشرف والصِّيت والمكانة العالية، كما جاء في قوله تعالى عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ..) (الزخرف: 44).
وقوله تعالى: (لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (الأنبياء: 10) فكان يجب عليهم أن يحتضنوا هذا القرآن، ويرفعوه فوق رؤوسهم، ففيه مجدهم وشرفهم وعِزَّتهم، والعرب بدون القرآن لا ذِكْرَ لهم، فقد كانوا أمة أمية تعيش على الترحال والتنقل، ولا تستقر إلا على منابع الماء ومواضع الكلأ، كانوا بَدْواً تنتشر فيما بينهم الحروب والغارات وقَطْع الطريق، كان الواحد منهم يسرق ليُكرم ضيفه بما سرق.
وهذه من الأمور العجيبة في عادات العرب في الجاهلية، فلم يكن لديهم منهج يحكم حياتهم، عجيب أنْ ترى حب الغارة والاعتداء مع الشهامة والكرم في طبيعة واحدة، فهو يفعل ما يعِنُّ له، وما يخطر بباله، فالمسألة ليست محكومة عندهم بقانون.
حتى قال فيهم الشاعر: لا تمدحَنَّ ابْنَ عبَّادٍ وإنْ هطلَتْ كَفَّاهُ بالجُود حتَّى أشبَه الدِّيَمَا فَإنَّها خطرَاتٌ من وَسَاوِسِهِ يُعْطي ويمنَع لاَ بُخْلاً ولاَ كرَمَا
ومن أشهر قصائد الشعر العربي في الكرم هذه القصيدة التي تأصَّل فيها هذا الخُلق حتى عند الأطفال، وحتى أن الأب يهِمُّ بذبح ولده للضيف، لأنه لم يجد ما يذبحه لِقرَاه.
ويقول فيها الشاعر: وَطَاوٍ ثَلاثاً عَاصِبِ البطن مُرْملٍ ببيداءَ لم يَعْرف بها ساكنٌ رَسْما أَخِي جَفْوةٍ فيه من الأُنْسِ وَحْشةٌ يرى البُؤْس فِيَها مِنْ شراسته نُعْمى رَأَى شبحاً وَسْط الظّلام فَرَاعَه فَلما رأَى ضَيْفاً تشمَّر واهْتما وقَالَ هَيَّا ربّاه ضَيْف ولا قِرَى!!بحقِّك لاَ تحرمْه تالليلةَ اللّحْمَا وأفرد في شِعْب عَجُوزاً إزَاءَهَا ثَلاثَة أَشْباحٍ تَخَالهموا بُهْمَا حُفاةً عُراةً مَا اغتذَوْا خُبْز مَلَّة ولاَ عَرفُوا للبُرِّ مُذْ خُلِقوا طعْما فَقالَ ابنُه لَمَّا رآهُ بحيْرةٍ أيَا أبْتِ اذْبحْني ويسِّر لَهُم طُعْما ولاَ تَعتذِرْ بالعُدم على الذِي طَرَا يظنُّ لَنَا مَالاً فيُوسِعُنا ذمّا فروَّى قليلاً ثُمَّ أحجمَ بُرْهةً وَإنْ هُوَ لم يذبح فَتَاهُ فَقَد همَّا فبَيْنَا هُمَا عَنَّتْ على البُعْد عَانَةٌ قَد انتظمتْ من خَلْف مِسْحلها نَظْما عطَاشاً تريد الماءَ فانْسَابَ نحوهَا علَى أنَّه مِنْها إلىَ دَمِها أَظْما فَأَمهلَها حتَّى تروَّتْ عِطاشُها وأرسَل فيها من كِنَانتِه سَهمْا فَخَرَّت نَحُوصٌ ذَات جحش قَدْ اكتنزَتْ لَحْماً وقد طُبِّقَتْ شحْما فَيَا بشْرَهُ إذْ جرَّها نَحْو قومهِ ويَا بشْرهُم لما رأوا كَلْمها يَدْمَى وباتَ أبُوهم من بَشَاشتِه أباًلَضَيْفِ هموا والأم مِنْ بِشْرها أُمَّا
لقد تأصلتْ خَصْلة الكرم في العربي، حتى في الأطفال الصغار، فهو وإنْ كان فقيراً لكن لا يحب أن يُعرف عنه الفقر،
يحب أن يظهر في صورة الغني الكريم المعطاء، وإنْ ناقض ذلك صفات أخرى ذميمة فيه.
والشاهد أنهم جماعة تناقضتْ خصالهم، وقد عاشوا في أمية تامة فلم يعالجوا حضارة، وهذه حُسِبت لهم بعد ظهور الإسلام وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم، فكيف لمثل هؤلاء أنْ يأتوا بهذه المعاني والأساليب العالية التي تحكم العالم كله؟
ولو كانوا أهلَ علم وحضارة لقالوا عنهم وعن الإسلام: إنه قفزة حضارية.
ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارئاً لقالوا: قرأ لفلان وفلان، كما حكى عنهم الحق -سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ..) (النحل: 103).
إذن: فذِكْر العرب وشرفهم ومجدهم وكرامتهم في القرآن، ومع ذلك لم يعملوا حتى لمصلحتهم، ولم يهتموا بهذا القرآن، إنما أعرضوا عنه (فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ) (المؤمنون: 71).
أي: عن القرآن، وهذا دليل أنهم كانوا مغفلين، لا يعرفون حتى مصلحتهم.
ثم يقول الحق سبحانه: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ...). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة المؤمنون الآيات من 071-075 الثلاثاء 14 يوليو 2020, 6:54 am | |
| أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
(الخَرْج) : ما يخرج منك طواعية، أما الخراج فهو ما يخرج منك رغماً عنك، والزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، فالخراج أبلغ من الخَرْج.
والمُراد بقوله تعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ..) (المؤمنون: 72) إنْ كنتَ تريد خَرْجاً فلا تأخذه من أيديهم، إنما خُذْه من ربك، فما عندهم ليس خَرْجاً بل خراج (فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ..) (المؤمنون: 72).
فلا تأخذ الرزق إلا من يد الخير والبركة؛ لأن الحق سبحانه لا يمنُّ على خَلْقه برزق يرزقهم به، فهو سبحانه قد استدعاهم إلى الحياة؛ لذلك تكفّل سبحانه بأرزاقهم، كما لو دعوتَ صديقاً إلى طعام فإنك تُعِدُّ له ما يكفي عشرة، فما بالك حينما يُعِدُّ لك ربك عز وجل؟
ثم يُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله تعالى (وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ) (المؤمنون: 72) وهذه أحدثتْ إشكالاً عند البعض؛ لأن الحق سبحانه جعل لخَلْقه شراكة في صفة الرزق، فغيره سبحانه يرزق أيضاً، لكن هو خير الرازقين؛ لأنه يرزق الخَلْق بأصول الأشياء التي يرزقون منها غيرهم، فإنْ كنتَ ترزق غيرك مثلاً طعاماً فهو سبحانه أصل هذا الطعام ومصدره.
هو سبحانه خالق التربة، وخالق الماء، وخالق الهواء، وخالق البذرة، وما عليك إلا أنْ أعملتَ عقلك، واستخدمتَ الطاقات التي منحك الله إياها، فأخرجتَ هذا الطعام، فلو أنك جِئْتَ لأهلك بحاجيات المطبخ ولوازم المعيشة طوال الشهر من دقيق وسمن وأرز وسكر.. الخ، وقامت زوجتُك وقامت زوجتُك بإعداد الطعام أتقول: إن الزوجة هي التي جاءت بالطعام؟
لذلك يقول العلماء وأهل المعرفة: نَزِّهوا ألسنتكم عن قول: فلان رازق، ودَعُوها لقول الله تعالى؛ لأنه سبحانه هو خالق الرزق، وواجد أصوله، وما أنت إلا مُنَاول للغير.
وتلحظ أنه تعالى أضاف الخَراج إلى الربوبية التي تفيد الرعاية والعناية والتربية، فما دام الخراجُ خراجَ ربك يا محمد، فهو خراج كثير وعطاء لا ينفد. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة المؤمنون الآيات من 071-075 الثلاثاء 14 يوليو 2020, 6:55 am | |
| وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
الصراط المستقيم: الطريق المعتدل الذي لا عوجَ فيه ولا أمتاً، فكيف إذن يتأبون عليك ويقفون في طريقك وأنت تدعوهم إلى الصراط المستقيم؟
وإن انتفع بالصراط المعوج واحد فسوف ينتفع بالصراط المستقيم الملايين.
ومن ذلك ما سبق أن أوضحناه من أنه يجب عليك أن تنظر إلى ما أعطاه لك التشريع قبل أنْ تنظر إلى ما أخذه منك، فالشرع حين يأخذ منك وأنت غني يعطيك وأنت فقير، ويأمرك برعاية اليتيم ليرعى أولادك من بعدك إنْ تركتَهم وهم صغار.
فالشرع -إذن- يُؤمِّن حياتك ويجعلك تستقبل مقادير الله بالرضا؛ لأنك في مجتمع إيماني لن يتخلى عنك إن افتقرت، ولن يترك أولادك إنْ تيتَّموا، فالمجتمع الإيماني إنْ مات فيه الأب كان الجميع لليتيم آباء.
أمَّا إنْ ضاع اليتيم في مجتمع الإيمان فإن ذلك يفتح الباب للسخط على قدر الله، ويُغري ضعاف الإيمان أنْ يقولوا: ما الحكمة في أن يأخذ أباهم ويتركهم عالة لا يتكفل بهم أحد؟
|
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة المؤمنون الآيات من 071-075 الثلاثاء 14 يوليو 2020, 6:56 am | |
| وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
(ٱلصِّرَاطِ..) (المؤمنون: 74) هو الطريق المستقيم الذي يُؤدِّي إلى الغاية بأقلّ مجهود، وفي أقل وقت ويوصلك إلى أفضل غاية.
والطريق يأخذ حظه من العناية والاهتمام بقدر الغاية الموصِّل إليها، فالطريق من القاهرة إلى الإسكندرية غير الطريق بين القرى والنُّجوع.
ومعنى: (لَنَاكِبُونَ) (المؤمنون: 74) يعني: منحرفون عن الطريق، ولهم حَظٌّ في الاعوجاج وعدم الاستقامة؛ لذلك يقول لك مَنْ يريد الصدق (تعال دوغري) يعني: من الطريق المستقيم الذي لا اعوجاجَ فيه ولا مراوغةَ.
لكن، ما الذي جعلهم يتنكّبون الطريق المستقيم الذي يُنظِّم لهم حركة الحياة، ويجعلها تتساند لا تتعاند، ويعود مجهود الفرد على الباقين؟
لماذا يحرِمون أنفسهم من مزايا هذا الطريق؟
قالوا: لأنهم مكذبون بالآخرة، ولو لم يكونوا مكذبين بالآخرة لآمنوا واتبعوا منهج الله؛ لأنهم سيئولون إلى الله أيلولةً، تعطي المحسن جزاءه وتعطي المسيء جزاءه.
فالذي أفسد هؤلاء أنهم اتبعوا أهواءهم، وظنوا أن الدنيا هي الغاية وهي نهاية المطاف، وغفلوا عن الآخرة، وأنها دار النعيم الحقيقي الذي لا يفوتُك ولا تفوته.
كما قال عنها الحق -سبحانه وتعالى-: (وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) (العنكبوت: 64) يعني: الحياة الحقيقية.
ثم يقول الحق سبحانه: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ...). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة المؤمنون الآيات من 071-075 الثلاثاء 14 يوليو 2020, 6:57 am | |
| وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
يعني: لو حدث هذا لعادوا إلى ما كانوا عليه، كما قال سبحانه في موضع آخر: (وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ..) (يونس: 12).
وليْتَه اكتفى عند هذا الحدِّ، إنما يتعدّى هذا، كما جاء في قوله تعالى: (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً..) (الزمر: يقول كما قال قارون: (إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي..) (القصص: 78) يعني: هذا بمجهودي وتعبي، وقد كلمت فلاناً، وفعلت كذا وكذا.
لذلك كان طبيعياً أن يقول له ربه: ما دُمْتَ قد أوتيتَهُ على علم عندك، فاحفظه بعلم عندك قال تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ..) (القصص: 81).
فأين الآن عِلْمك؟
وأيُّ علم هذا الذي لا يستطيع أن يحتفظ بما أتى به؟
ومعلوم أن استنباط الشيء أصعب من حفْظه وصيانته.
ومعنى (لَّلَجُّواْ..) (المؤمنون: 75) تمادوا (فِي طُغْيَانِهِمْ..) (المؤمنون: 75) والطغيان: مجاوزة الحدِّ؛ لأن الله تعالى جعل لكل شيء في الوجود حَدَّاً مرسوماً لا ينقص ولا يزيد، فإنِ اتبعتَ هذا الحدّ الذي رسمه الله لك استقمتَ واستقامتْ حركة حياتك بلا منازع، ولو طغى الشيء أفسد حركة الحياة، حتى لو كان الماء الذي جعل الله منه كل شيء حيٍّ، لو طغى يُغرق ويُدمّر بعد أنْ كان سر الحياة حال اعتداله.
ومنه قوله سبحانه: (إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ) (الحاقة: 11).
ويُقال لمن جاوز الحدَّ: طاغية بتاء التأنيث الدالة على المبالغة، فإنْ تجاوز هذه أيضاً نقول: طاغوت.
ثم تأتي نتيجة التمادي في الطغيان (يَعْمَهُونَ) (المؤمنون: 75) يعني: يتحيرون ويَعْمَوْن عن الرُّشْد والصواب، فلا يُميّزون بين خير وشر.
ثم يقول الحق سبحانه: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ...). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة المؤمنون الآيات من 071-075 الثلاثاء 14 يوليو 2020, 6:58 am | |
| وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
استكان فلان لا تُقال إلا لمَنْ كان مُتحركاً حركةً شريرة، ثم هدأ وسكن، نقول: فلان (انكَنّ) أو استكان وأصلها (كوْن) فالمعنى: طلب وجوداً جديداً غير الوجود الذي كان عليه، أو حالاً غير الحال الذي كان عليه أولاً، فقبل أنْ يستكين ويخضع كان لابد مُتمرِّداً على ربه.
والوجود نوعان: وجود أولي مطلق، ووجود ثَانٍ بعد الوجود الأولي، كما نقول مثلاً: وُلِد زيد يعني وُجِد زيد وجوداً أولياً، إنما على أيِّ هيئة وُجد؟
جميلاً، قبيحاً..
هذه تحتاج إلى وجود آخر، تقول: كان زيدٌّ هكذا فعل وفاعل لا يحتاج إلى إخبار آخر لأنها للوجود الأول، لكن حين نقول: كان زيد مجتهداً، فهذا هو الوجود الثاني وهو الاجتهاد، وهو وجود ناتج عن الوجود الأول.
فكان الأولى هي كان التامة التي وردتْ في قوله تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ..) (البقرة: 280) أي: وُجِد ذو عُسْرة، ولا تحتاج في هذه الحالة إلى خبر.
ونقول: تمنّى فلان على الله أنْ يُوجَد له ولد، فكان محمد، يعني: وُجِد.
أما كان الناقصة فتحتاج إلى خبر؛ لأن (كان) فِعْل يدل على زمان الماضي، والفعل لابد أنْ يدل على زمن وحدث؛ لذلك لابد لها من الخبر الذي يعطي الحدث تقول: كان زيد مجتهداً، فجاء الخبر ليكمل الفعل الناقص، فكأنك قلتَ: زيد مجتهد.
ومعنى (فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ..) (المؤمنون: 76) أن خضوعهم واستكانتهم لم تكُنْ لأنفسهم ولا للناس، إنما استكانة لله بأخْذ أوامره بمنتهى الخضوع وبمنتهى الطاعة، لكنهم ما فعلوا وما استكانوا، لا في حال الرحمة وكَشْف الضر، ولا في حال الأَخْذ والعذاب، وكان عليهم أن يعلموا أن الله غيَّر حاله معهم، ومقتضى ذلك أن يُغيِّروا هم أيضاً حالهم مع الله، فيستكينوا لربهم ويخضعوا لأوامره.
(وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون: 76) الضراعة: هي الدعاء والذلّة والخضوع لمن أخذ بيدك في شيء، كما جاء في قوله تعالى: (فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ..) (الأنعام: 43) يعني: لجئوا إلى الله وتوجَهوا إليه بالدعاء والاستغاثة. |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة المؤمنون الآيات من 071-075 الثلاثاء 14 يوليو 2020, 6:59 am | |
| حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
لقد فشلتْ معهم كل المحاولات، فما أجدَتْ معهم الرحمة واستمروا على غَلْوائهم، وما أجدى معهم العذاب وما استكانوا بعد أن أخذهم الله به، إذن: لم يَبْقَ لهم حجة ولا أملٌ في النجاة، ففتح الله عليهم (بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ..) (المؤمنون: 77) يعني: أصابتهم محنة كأنهم من وراء باب مُغْلق تفاجئهم (إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (المؤمنون: 77) آيسون من النجاة مُتحسِّرون على ما فاتهم.
ثم يقول الحق سبحانه: (وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنْشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ...). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة المؤمنون الآيات من 071-075 الثلاثاء 14 يوليو 2020, 7:00 am | |
| وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٧٨) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
الحق -سبحانه وتعالى- يقول: خلقتُ عبادي من عدم، وأمددتهم بأقوات الحياة ومقوماتها من عدم، ثم جعلتُ لهم منهجاً ينظم حركة حياتهم ويصُون بنيتهم، لأن صاحب الصنعة أعلم بصنعته، وأعلم بما يصلحها، ويعرف غايتها التي خلقها من أجلها، فالذي صنع الثلاجة مثلاً هل صنعها أولاً ثم قال لنا: انظروا في أيِّ شيء تفيدكم هذه الآلة؟
لا، إنما قبل أن يصنعها حدّد مهمتها، والغاية منها، وكذلك خلق الله، -ولله المثل الأعلى-.
والذي خلق وحَدَّد الغاية أعلم بقانون الصيانة الذي يحمي صنعته من الفساد، ويجعلها تؤدي مهمتها على أكمل وجه، فإنْ خالفت قانون الصيانة الذي وضعه لك ربك تفسد حياتك وتتعطّل عن أداء مهمتك التي خلقت لها، وهي عبادة الله وحده لا شريك له: (وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).
لذلك أمركم إن اختلفتم في شيء أنْ تردوه إلى الله وإلى الرسول، كما ترد الآلة إلى صانعها العالم بطبيعتها وبمواطن الخلل فيها، ونستنبط من هذه المسألة: إذا رأيتَ خللاً في الكون أو فساداً في ناحية من نواحيه، وإذا رأيت عورة من العورات قد ظهرتْ فاعلم أن حُكْماً لله قد عُطِّل.
فمثلاً إنْ رأيتَ فقيراً جائعاً عارياً فإما أنه قادر على العمل لكنه قعد عن السعي وخالف قوله تعالى: (فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ) (الملك: 15) أو: أن القادرين العاملين حرموه حقّه الذي جعله الله له في أموالهم، وخالفوا قوله تعالى: (وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ) (الذاريات: 19).
لذلك، فالحق -سبحانه وتعالى- يُجري على عباده من المقادير ما يحفظ لهم توازن الحياة ويسُدُّ حاجة المحتاجين، كما نرى مثلاً أحد الأثرياء يترك بلده، وينتقل إلى بلد آخر يضع فيها أمواله وثرواته، وليس هناك سبب لهذه النقلة إلا أنها خاطر سلَّطه الله عليه ليحفظ به توزيع المال في المجتمع، ولو حسبتها لوجدتَ أن هذا المكان زادت فيه حصيلة الزكاة عن حاجة المحتاجين، فانتقل إلى بلد آخر قلَّت فيه الأموال عن حاجة الفقراء والمحتاجين.
وبعد ذلك لم يتركك ربك، بل عرض لك الآيات التي تلفتك إليه، وتُحنِّنك إلى التعرُّف عليه، وهي إما آيات كونية عجيبة تدل على قدرة الله تعالى، أو معجزات تثبت صِدْق الأنبياء في البلاغ عن الله؛ لأن الله تعالى لا يخاطب عباده كل واحد بمفرده، إنما يرسل رسولاً ليُبلِّغهم ثم يُؤيِّده بالمعجزة الدالة على صِدْقه في البلاغ.
فحين تنظر في آيات الكون وتستدل بها على وجود خالق قادر لكنك لا تعرف مَنْ هو هذا الخالق يأتي الرسول ليقول لك: إنه الله، وقد ضربنا لذلك مثلاً -ولله المثل الأعلى-: هَبْ أن أحداً دَقَّ الباب ونحن جلوس بالداخل فما الذي يحدث؟
نتفق نحن جميعاً على أن طارقاً بالباب.
لكن مَنْ هو؟
لا أحد يعلم.
فالاتفاق هنا في التعقُّل، وأن هناك قوةً خلف الباب تدقّه، لكن مَنْ هو؟
وماذا يريد؟
لابد لمعرفة هذه المسائل من بلاغ عن هذه القوة، وإياك أنْ تقول بالظن: هذا فلان وأنا أقول هذا فلان، إنما علينا أن ننتظر البلاغ منه لنعرف مَنْ هو، وما عليك إلا أنْ تقول: مَنْ بالباب وسوف يخبرك هو عن نفسه، وعن سبب مجيئه، وماذا يريد.
ثم بعد ذلك تأتي الآيات التي تحمل منهج الله، وتخبرك أنه يريد منك كذا وكذا.
الشاهد: أن هذه الآيات كلها تحتاج إلى وسائل لإدراكها، تحتاج إلى سمع وبصر لنراها ونسمعها، ثم تحتاج إلى عقل لنفكر فيها ونتأملها؛ لذلك يقول سبحانه: (وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنْشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ..) (المؤمنون: 78).
السمع والبصر من الحواس التي سماها العلماء احتياطاً الحواس الخمس الظاهرة أي: أن هناك حواسَّ أخرى لم يكتشفوها، وفعلاً اكتشفها العلم بعد ذلك كحاسة العضل التي تميز بها الثقل، وحاسة البين التي تميز بها الغليظ من الرقيق في الثياب مثلاً، فهذه الأشياء لا تستطيع التعرّف عليها بالحواسِّ الخمس المعروفة.
وعُمْدة الحواس: السمع والبصر؛ لأنه إذا جاءني رسول يُبلِّغني عن الله لابد أن أسمع منه، فإنْ كنتَ مؤمناً بإله فقد اكتفيتَ بحاسة السمع، وإنْ كنتَ غير مؤمن تحتاج إلى بصر لتبصر به آياته الدالة على وجوده وقدرته، وتستدل بالصَّنْعة على الصانع، وبالخِلْقة على الخالق، وتقف على ما في كوْن الله من الدقة والإحكام والهندسة والإبداع.
وهذه مهمة العقل بعد أن تحولت المسموعات والمرئيات إلى قضايا ومبادئ عقلية تحكم حياتك، كما لو رأيتَ النار بعينك ثم لمستها بيدك فأحرقتك فتكوَّنت لديك قضية عقلية مُؤدّاها أن النار لها خاصية الإحراق فلا تلمسها بعد ذلك، وهذه تراها حتى في الطفل الصغير حينما يعجبه قرن الشطة مثلاً فيقضمه فيشعر بحرارته وألمه.
فإن رآه بعد ذلك يقول (أوف) ، فهذه اللفظة بالنسبة للطفل قضية عقلية تكوَّنَتْ لديه نتيجة تجربة استقرتْ في فؤاده، وأخذها مبدأً يسير عليه في كل حياته، وهكذا من المحسّات ومن تجارب الحياة تتكوَّن لديك قضايا عقلية تستفيد بها فيما بعد.
إذن: من وسائل الإدراك تتكوَّن المبادئ والقضايا التي يأخذها العقل، ويفاضل بينها حتى ينتهي إلى قضية ومبدأ يستقر في القلب ونُسمِّيها عقيدة يعني: شيء معقود عليه لا ينحلّ.
وحين تتأمل حديث القرآن عن الحواس تجده يُرتِّبها دائماً هذا الترتيب: السمع والبصر والفؤاد لأنها عُمْدة الحواس، فالشمُّ مثلاً والتذوق واللمس لا نحتاج إليه إلا قليلاً، أما السمع والبصر فعليهما تقوم مسألة الدعوة: السمع لسماع البلاغ، والبصر لنرى آيات الله الدالة على قدرته تعالى وقد أثبت العلم الحديث هذا الترتيب للسمع والبصر والفؤاد مما يدلُّ على أنه ترتيب من خالق عن حكمة وعلم وقدرة، بحيث لا يأتي واحد منها قبل الآخر، كما أثبت علماء وظائف الأعضاء صِدْق هذا الترتيب، فأوّل أداة تؤدي مهمتها في الإنسان هي الأذن ثم العين، وتعمل من ثلاثة إلى عشرة أيام من الولادة، ثم من السمع والبصر توجد القضايا التي يعمل فيها العقل.
إذن: فهذا ترتيب خَلْقي وتكويني.
كما أن السمع وهو أول حاسّة تؤدي مهمتها في الإنسان هو أيضاً الإدراك الوحيد الذي يصاحب الإنسان في كل أطواره، فالأذن تسمع مثلاً حتى في حالة النوم على خلاف العين؛ ذلك لأن بالسمع يتم الاستدعاء، لذلك تظل تؤدي مهمتها حتى في حال النوم.
كما أن العين لا ترى في الظلام ولها غطاء طبيعي ومغاليق تحجب الرؤية، وليست الأذن كذلك، فالصوت إذا خرج تسمعه جميع الآذان، أما المرئيّ فقد يوجد معك في نفس المكان ولا تراه وقد يراه غيرك، إذن: فالمسموع واحد والمرائي متعددة، لذلك قال سبحانه: (ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ..) (المؤمنون: 78).
فليس لك خيار في السمع، لكن لك خيار في الرؤية، فالمبصرات تتعدد بتعدُّد الأبصار، لكن السمع لا يتعدد بتعدُّد الأسماع.
لذلك من إعجازات البيان القرآني في قصة أهل الكهف أن الله تعالى ضرب على آذانهم في الكهف ليناموا ولا تزعجهم الأصوات في هذه الصحراء الدويّة، ولو بقي لهم السمع كشأن الخَلْق جميعاً لما استقر لهم قَرَار طوال هذه الفترة الطويلة، ولأفزعتهم الأصوات.
يقول الحق -سبحانه وتعالى-: (فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (الكهف: 11).
كذلك من آيات الإعجاز في القرآن الكريم أن جميع الآيات التي ذكرتْ السمع والبصر ذكرتْه بهذا الترتيب: السمع والأبصار، إلا في آية واحدة في موقف القيامة قالوا: (رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا..) (السجدة: 12).
فقدَّم البصر على السمع؛ لأن في القيامة تفجؤهم المرائي أولاً قبل أنْ تفجأهم الأصوات، وهذه من مظاهر الدقة في الأداء القرآني المعجز.
وكأن الحق سبحانه يقول: لا عُذْر لك عندي فقد أعطيتُك سمعاً لتسمع البلاغ عني من الرسول، وأعطيتُك عَيْناً لتلتفت إلى آيات الكون، وأعطيتُك فؤاداً تفكر به، وتنتهي إلى حصيلة إيمانية تدلُّك على وجود الخالق عز وجل.
إذن: ما أخذتُك على غِرَّة، ولا خدعتُك في شيء، إنما خلقتُك من عدم، وأمددتُك من عُدم، ورتبتُ لك منافذ الإدراك ترتيباً منطقياً تكوينياً، فأيُّ عذر لك بعد ذلك..
وإياكم بعد هذا كله أنْ تشغلكم الأهواء، وتصْرفكم عن البلاغ الذي جاءكم على لسان رسولنا.
والمتأمل في تركيب كل من الأذن والعين يجد فيهما آيات ومعجزات للخالق -عز وجل- ما يزال العلماء لم يصلوا رغم تقدُّم العلوم إلى أسرارها وكُنْهها.
ثم يقول سبحانه في ختام الآية: (قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ) (المؤمنون: 78) لأن هذه نِعَم وآلاء وآيات لله، كان ينبغي أن تشكر حَقَّ الشكر.
البعض يقول في معنى (قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ) (المؤمنون: 78) أنه تعالى عبَّر عن عدم الشُّكْر بالقلة، وهذا الفهم لا يستقيم هنا؛ لأن الله تعالى أثبت لعباده شكراً لكنه قليل، وربك -عز وجل- يريد شكراً دائماً يصاحب كل نعمة ينعم بها عليك، فساعة ترى الأعمى الذي حُرِم نعمة البصر يتخبَّط في الطريق تقول الحمد لله، تقولها هكذا بالفطرة؛ لأنك تعيش وتتقلب في نعَم الله، لكن لا تتذكرها إلا حين ترى مَنْ حُرِم منها.
لذلك، إنْ أردتَ أنْ تدوم لك النعمة فاعقلها بِذكْر الله المنعم قُلْ عند النعمة، أو عند رؤية ما يعجبك في أهل أو مال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أَلاَ ترى أن الله تعالى جعل الحسد لينبهنا: إنْ أردتَ صيانة النعمة فلا تنسَ المنعِمَ؛ لأنه وحده القادر على حِفْظها وصيانتها، كما نشتري الآن آلة، ونتفق مع صانعها على صيانتها صيانةً دورية مقابل أجر معين.
كذلك إنْ قُلْتَ عند النعمة: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فلن ترى فيها سوءً أبداً، لأنك أيقظتَ بـ "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" قانون صيانتها، وجعلتَ حفظها إلى مَنْ صنعها.
ولا يُصاب الإنسان في النعمة إلا إذا غفل عن المنعِم وترك الشُّكْر عليها.
وأذكر أنه كان في قريتنا رجل من أهل الفهم عن الله، وكان يملك ثلث فدان يزرعه المزروعات التقليدية، وفي أحد الأعوام زرعه قطناً، فجاءت عليه الدودة وكادت تهلكه، فكلَّمه والدي في مسألة الدودة هذه فقال له: يا عم متولي لا تقلق فأنا أؤدي صيانتها يعني: أُخرِج منها الزكاة.
ثم يقول الحق سبحانه: (وَهُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ...). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة المؤمنون الآيات من 071-075 الثلاثاء 14 يوليو 2020, 7:01 am | |
| وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
(ذَرَأَكُمْ..) (المؤمنون: 79) بثكم ونشركم في أنحاء الأرض لتعمر كلها، وتعجب حين ترى أناساً متشبثين بالجبال والصحراء القفر الجرداء، ولا يرضون بها بديلاً، ويتحملون في سبيل البقاء بها العَنَت والمشقة، حتى إنك لتقول: لماذا لا يتركون هذا المكان إلى مكان خصب.
وقد رأينا مثل هؤلاء الذين صبروا على أقدار الله في بلادهم، رأيناهم في اليمن بعد أن أغرقها سيل العرم، وكانت تُسمَّى "اليمن السعيد" ورأيناهم في السعودية وفي الكويت، وحكى لنا أهل هذه البلاد ما كانوا فيه من الضيق وقسوة الحياة، ثم جاءتهم عاقبة صبرهم، وجعل الله -سبحانه وتعالى- هذه الجبال وهذه الصحراوات أغنى بلاد الدنيا؛ لأنهم رَضُوا في الأولى بقضاء الله، فأبدلهم بصبرهم على لأواء الصحراء نعيماً، لو حُرِم منه المنعّمون في الدنيا لماتوا من البرد.
ذلك لأن الخالق -عز وجل- نثر خيراته في كل أنحاء الأرض بالتساوي، فكل قطعة طولية من الأرض فيها من الخيرات مثل ما في القطعة الأخرى، وفي يوم من الأيام كان أصحاب الزرع هم أصحاب المال وأصحاب السيادة، ثم تغيرت هذه الصورة بظهور خَيْرات أخرى غير الزراعة، فالخيرات -إذن- مطمورة في أنحاء الأرض لكن لها أوان تظهر فيه.
إذن: فبَثُّ الخليقة ونشْرُها في أنحاء الأرض له حكمة أرادها الخالق عز وجل.
ثم يقول الحق سبحانه: (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (المؤمنون: 79) يعني: لا تفهموا أنكم بنشركم في الأرض وتفريقكم فيها أنكم تفلتون منا، أو أننا لا نقدر على جمعكم مرة أخرى، فكما نشرناكم لحكمة نجمعكم لحكمة لا يخرج من أيدينا أحد.
ثم يقول الحق سبحانه: (وَهُوَ ٱلَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ ٱخْتِلاَفُ...). |
|
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: سورة المؤمنون الآيات من 071-075 الثلاثاء 14 يوليو 2020, 7:03 am | |
| وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٨٠) تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
(يُحْيِي وَيُمِيتُ..) (المؤمنون: 80) فِعْلان لابد أن ينشآ بعد وجود الحياة ووجود الموت، فالخالق -عز وجل- يُوجِد الحياة أولاً، ويوجد الموت، ثم يجري حدثاً منهما على ما يريده.
والحياة سبقتْ الموت في كل الآيات، إلا في آية واحدة في سورة تبارك: (ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ..) (الملك: 2) وعِلَّة ذلك أن الله تعالى يعطي للإنسان بالحياة إرادةً تُنشِىء الحركة في كل أجهزته، ولك أن تتأمَّل: ما الذي تفعله إنْ أردتَ أن تقوم من مكانك؟
ماذا تفعل إنْ أردتَ تحريك يدك أو قدمك؟
إنها مجرد إرادة وتتحرك أعضاؤك دون أن تدري أو تُجهد نفسك للقيام بهذه الحركات، ودون أن تباشر أي شيء.
إذن: بمجرد إرادتك تنفعل لك الجوارح وأنت مخلوق لربك، فإذا كان المخلوق يفعل ما يريد بلا معالجة، فكيف نستبعد هذا في حقِّه -سبحانه وتعالى- ونكذب أنه يقول للشيء: كُنْ فيكون، مع أننا نفعل ما نريد بجوارحنا بمجرد الإرادة، ودون أن نأمرها بشيء أو نقول شيئاً، والله -سبحانه وتعالى- يقول للشيء: كُنْ فيكون، وأنت تفعل دون أن تقول.
وقد قدَّم الحق سبحانه الموتَ في هذه الآية: (ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ..) (الملك: 2) ؛ لأن الحياة ستُورث الإنسانَ غروراً في سيطرة إرادته على جوارحه فيطغى، فأراد ربه -عز وجل- أن يُنبهه: تذكّر أنني أميتُ؛ ليستقبل الحياة ومعها نقيضها، فيستقيم في حركة الحياة.
وصفة الخَلْق والإماتة صفات لله قديمة قبل أنْ يخلق شيئاً أو يميت شيئاً؛ لأنها صفات ثابتة لله قبل أنْ يباشر متعلقات هذه الصفات كما قلنا، -ولله المثل الأعلى-: الشاعر حين يقول قصيدة قالها لأنه شاعر ولا نقول: إنه شاعر لأنه قال هذه القصيدة، فلولا صفة الشعر فيه ما قال.
وكما أن الحياة مخلوقة، فالموت كذلك مخلوق، وقد يقول قائل: إذا أطلقتَ رصاصة على شخص أردَتْهُ قتيلاً فقد خلقتَ الموت.
نقول: الحمد لله أنك لم تدَّع الإحياء واكتفيتَ بالموت، لكن فَرْق بين الموت والقتل، القتل نَقْض للبِنْية يتبعه إزهاق للروح، أما الموت فتخرج الروح أولاً دون نَقْض للبنية.
لذلك يقول سبحانه: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ..) (آل عمران: 144).
والنمرود الذي حَاجَّ إبراهيم -عليه السلام- في ربه أمر بقتل واحد وتَرْك الآخر، وادَّعى أنه أحيا هذا، وأمات هذا، وكانت منه هذه الأعمال سفسطة لا معنى لها، ولو كان على حَقٍّ لأمرَ بإحياء هذا الذي قتله؛ لذلك قطع عليه إبراهيم -عليه السلام- هذا الطريق ونقله إلى مجال آخر لا يستطيع المراوغة فيه.
إذن: هَدْم البِنْية يتبعه خروج الروح؛ لأن للروح مواصفات خاصة، بحيث لا تحل إلا في بنية سليمة، وقد أوضحنا هذه المسألة -ولله المثل الأعلى- بلمبة الكهرباء، فقوة الكهرباء كامنة في الأسلاك لا نرى نورها إلا إذا وضعنا اللمبة مكانها، ويكون لها مواصفات بحيث لا تضيء إلا إذا توفرتْ لها هذه الصفات، فإنْ كُسِرَت ينطفىء نورها.
ثم يقول تعالى: (وَلَهُ ٱخْتِلاَفُ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ..) (المؤمنون: 80) الليل يحل بغياب الشمس وحلول الظُّلْمة التي تمنع رؤية الأشياء، وقديماً كانوا يظنون أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من العين على المرئي، ثم جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم، فأثبت خطأ هذه النظرية، وقرر أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من المرئيّ على العين فتراه، بدليل أنك لا ترى الشيء إنْ كان في الظلام.
وظُلْمة الليل تنبهنا إلى أهمية الضوء الذي لابد منه لنهتدي إلى حركة الحياة، والإنسان يواجه خطورة إنْ سار في الظلام؛ لأنه إمَّا أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه، أو بأقوى منه فيؤلمه ويؤذيه.
إذن: لابد من وجود النور لتتم به حركة الحياة والسَّعْي في مناكب الأرض، وكذلك لابد من الظُّلْمة التي تمنع الإشعاع عن الجسم، فيستريح من عناء العمل، وقد أثبت العلم الحديث خطر الإشعاعات على صحة الإنسان.
لذلك يقول تعالى: (وَلَهُ ٱخْتِلاَفُ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ..) (المؤمنون: 80) فجعلهما يختلفان ويتعاقبان ليؤدي كل منهما وظيفته في الكون، يقول تعالى: (وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ) (الليل: 1-2) وطالما أن لكل منهما مهمته، فإياك أن تقلب الليل إلى نهار، أو النهار إلى ليل؛ لأنك بذلك تخالف الطبيعة التي خلقك الله عليها، وانظر إلى هؤلاء الذين يسلكون هذا المسلك فيسهرون الليل حتى الفجر، وينامون النهار حتى المغرب، وكم أحدثوا من فساد في حركة الحياة، فالتلميذ ينام في الدرس، والعامل ينام ويُقصِّر في أداء عمله.
والنبي صلى الله عليه وسلم يُنبِّهنا إلى هذه المسألة في قوله: "... أطفئوا المصابيح إذا رقدتم".
لأن الجسم لا يأخذ راحته، ولا يهدأ إلا في الظلمة، فيصبح الإنسان قوياً مستريحاً نشيطاً، واقرأ قول الله تعالى: (وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً) (النبأ: 10-11).
ومن دِقَّة الأداء القرآني أن يراعي هؤلاء الذين يعملون ليلاً، وتقتضي طبيعة أعمالهم السَّهَر، مثل رجال الشرطة وعمال المخابز وغيرهم، فيقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ..) (الروم: 23) فالليل هو الأصل، والنهار لمثل هؤلاء الذين يخدمون المجتمع ليلاً؛ لذلك عليهم أن يجعلوا من النهار ليلاً صناعياً، فيغلقوا النوافذ ويناموا في مكان هادئ؛ ليأخذ الجسم حظه من الراحة والهدوء.
إذن: الليل والنهار ليسا ضِدّيْن، إنما هما خَلْقان متكاملان لا متعاندان، وهما كالذكَر والأنثى، يُكمل كل منها الآخر، لا كما يدَّعي البعض أنهما ضدان متقابلان؛ لذلك بعد أن أقسم الحق سبحانه بالليل إذا يغشى، وبالنهار إذا تجلَّى، قال: (وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ) (الليل: 3-4) فالليل والنهار كالذكر والأنثى لكل منهما مهمة في حركة الحياة.
واختلاف الليل والنهار من حيث الضوء والظُّلْمة والطول والقِصَر وفي اختلاف الأماكن، فالليل لا ينتظم الكون كله، وكذلك النهار، فحين يكون عندك لَيْل فهو عند غيرك نهار، يقول تعالى: (يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ..) (فاطر: 13).
وينتج عن هذا تعدُّد المشارق والمغارب بتعدُّد الأماكن بحيث كل مشرق يقابله مغرب، وكل مغرب يقابله مَشْرق، لدرجة أنهم قالوا: ينشأ ليل ونهار في كل واحد على مليون من الثانية.
وينشأ عن هذا كما قلنا استدامة ذِكْر الله على مدى الوقت كله، بحيث لا ينتهي الأذان، ولا تنتهي الصلاة في الكون لحظة واحدة، فأنت تصلي المغرب، وغيرك يصلي العشاء.. وهكذا.
إذن: فالحق سبحانه يريد أن يكون مذكوراً في كل الكون بجميع أوقات الصلاة في كل وقت.
حتى إن أحد الصوفية وأهل المعرفة يقول مخاطباً الزمن: يا زمن وفيك كل الزمن.
يعني: يا ظهر وفيك عصر ومغرب وعشاء وفجر، لكن عند غيري.
ومن اختلاف الليل والنهار ينشأ أيضاً الصيف الحار والشتاء البارد، والحق -سبحانه وتعالى- كلف العبيد كلهم تكليفاً واحداً كالحج مثلاً، وربط العبادات كلها بالزمن الهجري، فالصيف والشتاء يدوران في الزمن، ويتضح هذا إذا قارنت بين التوقيت الهجري والميلادي، وبذلك مَنْ لم يناسبه الحج في الصيف حَجَّ في الشتاء؛ لأن اختلاف التوقيت القمري يُلون السنة كلها بكل الأجواء.
لذلك قالوا: إن ليلة القدر تدور في العام كله؛ لأن السابع والعشرين من رمضان يوافق مرة أول يناير، ومرة يوافق الثاني، ومرة يوافق الثالث، وهكذا.
ومن اختلاف الليل والنهار أنهما خِلْفة، كما قال تعالى: (وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) (الفرقان: 62).
فنحن نرى الليل يخلُف النهار، والنهار يخلُف الليل، لكن احكم القضية في كل أطوار زمنها، فما دام الحق -سبحانه وتعالى- جعل الليل والنهار خِلْفة، فلابد أن يكون ذلك من بداية خلقهما، فلو وُجِد الليل أولاً ثم وُجِد النهار، فلا يكون الليل خِلْفة؛ لأنه لم يسبقه شيء، فهذا يعني أنهما خُلقا معاً، فلما دار الزمن خلف بعضهما الآخر، وهذا لا ينشأ إلا إذا كانت الأرض مُكوَّرة، بحيث يجتمع فيها الليل والنهار في وقت واحد، فالذي واجه الشمس كان نهاراً، والذي واجه الظلمة كان ليلاً.
ثم يقول سبحانه: (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (المؤمنون: 80) لأن هذه المسائل كان يجب أن تعقلوها خاصة، وقد كانت اختلافات الأوقات مَبْنية على التعقل، أما الآن فهي مَبْنية على النقل، حيث تقاربت المسافات، وصِرْنا نعرف فارق التوقيت بيننا وبين جميع أنحاء العالم بالتحديد.
كذلك كان الناس في الماضي ينكرون نظرية كروية الأرض، حتى بعد أن التقطوا لها صوراً أظهرت كرويتها وجدنا من مفكرينا من ينكر ذلك.
ونقول: لماذا نقف هذا الموقف من نظريات ثابتة قد سبق قرآنُنَا إلى هذا القول؟
ولماذا نعطي الآخرين فكرة أن ديننا يغفل هذه المسائل، مع أنه قد سبق كل هذه الاكتشافات؟
ولو تأملتَ قوله تعالى: (وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ..) (الرعد: 3) لوجدت فيه الدليل القاطع على صِدْق هذه النظرية؛ لأن الأرض الممدودة هي التي لا تنتهي إلى حافة، وهذا لا يتأتّى إلا إذا كانت الأرض كروية بحيث تسير فيها، لا تجد لها نهاية حتى تصل إلى الموضع الذي منه بدأت، ولو كانت الأرض على أي شكل آخر غير الكروي مثل المربع أو المستطيل لكان لها نهاية.
لكن لم تتوفر لنا في الماضي الآلات التي تُوضِّح هذه الحقيقة وتُظهرها.
إذن: الحق سبحانه في قوله: (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (المؤمنون: 80) ينبهنا إلى ضرورة إعمال العقول في المسائل الكونية؛ لأنها ستوفر علينا الكثير في الطريق إلى الله عز وجل، ولماذا يُعمِل الإنسان عقله ويتفنّن مثلاً في ارتكاب الجرائم فَيُرتب لها ويُخطط؟
لكن الله تعالى يكون له بالمرصاد فيُوقِعه في مَزْلَق، فيترك وراءه منفذاً لإثبات جريمته، وثغرة تُوصِّل إليه؛ لذلك يقول رجال القضاء: ليست هناك جريمة كاملة، وهذه مهمة القاضي أو المحقق الذي يحاور المجرم ليصل إلى هذه الثغرة.
وكأن الحق -سبحانه وتعالى- يقول: لقد استخدمتَ عقلك فيما لا ينبغي، وسخَّرْته لشهوات نفسك، فلابد أن أوقعك في مزلق ينكشف فيه أمرك، فإنْ سترتها عليك مرة فإياك أنْ تتمادى، أو تظنّ أنك أفلتَّ بعقلك وترتيبك وإلاَّ أخذتُك ولو بجريمة لم تفعلها؛ لأنك لا تستطيع أن تُرتِّب بعقلك على الله، وعدالته سبحانه فوق كل ترتيب.
كما لو فُضِح إنسان بأمر هو منه بريء، ولحقه الأذى والضرر بسبب هذه الإدانة الكاذبة، فتأتي عدالة السماء فيستر الله عليه فضيحة فعلها جزاءً لما قد أصابه في الأولى، وهذه مسألة لا يفعلها إلا رب.
والحق -سبحانه وتعالى- حينما يُنبِّه العقل ويثيره: تفكّر، تدبّر، تعقّل، ليدرك الأشياء الكونية من حوله، فهذا دليل على أنه سبحانه واثق من صَنْعته وإبداعه لكونه؛ لذلك يثير العقول للبحث وللتأمل في هذه الصنعة.
وهذه المسألة نلاحظها فيمَنْ يعرض صَنْعته من البشر، فالذي يتقن صَنْعته يعرضها ويدعوك إلى اختبارها والتأكد من جودتها على خلاف الصنعة الرديئة التي يلفّها لك صانعها، ويصرفك عن تأملها حتى لا تكشف عيبها.
فحين ينبهك ربك إلى التأمل في صَنْعته فعليك أنْ تدرك المغزى من هذه الإثارة لتصل إلى مراده تعالى لك.
ثم يقول الحق سبحانه: (بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ...).
|
|
| |
| سورة المؤمنون الآيات من 071-075 | |
|