ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
تفسير الأية: خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ)
(تَتْرَا..) (المؤمنون: 44) يعني: متوالين يتبع بعضهم بعضاً؛ لذلك ظنَّها البعض فعلاً وهي ليست بفعل، بدليل أنها جاءت في قراءة أخرى (تتراً) بالتنوين والفعل لا يُنوَّن، إذن: هي اسم، والألف فيها للتأنيث مثل حُبْلى.
أضِفْ إلى ذلك أن التاء الأولى تأتي في اللغة بدلاً من الواو، كما جاء في الحديث الشريف من نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجدْه تجاهك - أو وجاهك".
يعني: مواجهك.
فإذا أُبدِلَتْ التاء الأولى في (تتراً) واواً تقول (وتراً) يعني: متتابعين فَرْداً فَرْداً، والوتر هو الفَرْد.
ثم يقول سبحانه: (كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ..) (المؤمنون: 44) فهذه طبيعة ولازمة من لوازم المرسل إليهم، وما من رسول أُرسل إلى قوم إلا كذّبوه، ثم يلجأ إلى ربه: (قَالَ رَبِّ ٱنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ) (المؤمنون: 39).
ولو لم يُكذَّب الرسول ما كان هناك ضرورة لإرساله إليهم، وما جاء الرسول إلا بعد أن استشرى الباطل، وعَمَّ الطغيان، فطبيعي أنْ يُكذَّب من هؤلاء المنتفعين بالشر المستفيدين من الباطل والذين يدافعون عنه بكل قواهم، وكأن تكذيبهم للرسل دليل على صواب مجيء الرسل، وإلا لما كان هناك ضرورة لرسالات جديدة.
وقوله تعالى: (فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً..) (المؤمنون: 44) يعني: يمضي واحد ويأتي غيره من الرسل، أو نهلك المكذِّبين ثم يأتي بعدهم آخرون، فيكذبون فنهلكهم أيضاً.
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ..) (المؤمنون: 44) أحاديث: إما جَمْعاً لحديث كما نقول: أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جمع: أحدوثة.
وهي المقولة التي يتشدَّق بها الجميع، وتلوكُها كل الألسنة، ومن ذلك قول الإنسان إذا كثُر كلام الناس حوله: (جعلوني حدوتة) يعني على سبيل التوبيخ والتقريع لهم.
فقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ..) (المؤمنون: 44) كأنه لم يبْقَ منهم أثر إلا أنْ نتكلم عنهم، ونذكرهم كتاريخ يُحْكَى، وفي موضع آخر قال تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ..) (سبأ: 19).
ثم يقول تعالى عنهم كما قال عن سابقيهم: (فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: 44) يعني: بُعْداً لهم عن رحمة الله، وبُعْداً لهم عن نعيم الله الذي كان ينتظرهم، ولو أنهم آمنوا لنالوه.
ثم يقول الحق سبحانه: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا...).