تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-:
•    كان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- سيد المتواضعين، يتخلق ويمتثل بقوله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83). فكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في ذروة الذُّرا من هذا الخلق العظيم في كل صوره وأشكاله.
 
•    أمَّا تواضعه في ذاته الشريفة -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ فكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يكره المدح، وينهى عن إطرائه، ويقول: "لا تطروني كما أطرت النَّصارى ابن مريم، فإنَّما أنا عبده؛ فقولوا: عبد الله ورسوله" (54).

•    وعن أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أنَّ رجلًا قال للنَّبيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: يا سيِّدنا وابن سيِّدنا، ويا خيرنا وابن خيرنا. فقال النَّبيُّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "يا أيَّها النُّاس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينَّكم الشيطان، أنا محمَّد بن عبد الله؛ عبد الله ورسوله، والله ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي الَّتي أنزلني الله عزَّ وجلَّ" (55).

فليت شعري!! كيف يدعي محبته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أقوامٌ؛ ثم هم يتجاهلون أمره وتحذيره الشديد من الغلوِّ فيه؟!

•    وعن أنس بن مالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، فقال: يا خير البريَّة. فقال رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "ذاك إبراهيم عليه السَّلام" (56).

•    وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: جلس جبريل إلى النَّبيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فنظر إلى السَّماء فإذا ملكٌ ينزل، فقال جبريل: "إنَّ هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل السَّاعة"، فلمَّا نزل قال: "يا محمَّد، أرسلني إليك ربُّك، قال: أفملكًا نبيًّا يجعلك، أو عبدًا رسولًا؟" قال جبريل: "تواضع لربِّك يا محمَّد" قال: "بل عبدًا رسولًا" (57).

•    وكان يقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد" (58).

•    وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يجلس على الأرض، وعلى الحصير، وعلى البساط.

فعن عبد الله بن بسرٍ قال:كان للنَّبي قصعةٌ يقال لها:الغرَّاء؛ يحملها أربعة رجالٍ؛ فلمَّا أضحوا وسجدوا الضُّحى أوتي بتلك القصعة –يعني وقد ثرد فيها- فالتفَّوا عليها، فلمَّا كثروا جثا رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فقال أعرابيٌّ: ماهذه الجلسة؟! قال النَّبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: " إنَّ اللهَّ جعلني عبدًا كريمًا، ولم يجعلني جبَّارًا عنيدًا" (59).

•    وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشَّاة... (60).

•    ولما رآه رجل ارتجف من هيبته فقال -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "هوِّن عليك فإنِّي لست بملكٍ، إنمَّا أنا ابن امرأةٍ من قريشٍ كانت تأكل القديد" (61).

•    وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يدعو، ويقول: "اللَّهمَّ أحييني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة" (62).

•    وأما تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لربِّه عزَّ وجلَّ؛ فكان من أجل مظاهر تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في نفسه؛ فكان دائم الافتقار والتذلل والتمسك بين يديه سبحانه.

•    يقول أبو سعيدٍ الخدريُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: رأيت رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يسجد في الماء والطِّين حتَّى رأيت أثر الطِّين في جبهته (63).

•    ويقول ابن عباس رضي الله عنهما، في بيان صفة خروجه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لصلاة الاستسقاء: خرج رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- متواضعًا متخشِّعًا متبذِّلاً متضرِّعًا مترسِّلاً (64).

•    ولما فتح الله عليه مكة؛ دخلها خاشعًا لله، متواضعًا له (65)، شاكرًا لأنعمه، وهو يقرأ سورة الفتح يُرَجِّعُ (66)؛ يردد القراءة.

•    وأما تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مع أصحابه؛ فعجيبة من عجائب أخلاقه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ ومواقفه في ذلك كثيرة وعديدة؛ حيث كان سجيَّة من سجاياه، وخلقًا ملازمًا له -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.

•    فكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يجيب دعوة الحرِّ والعبد، والغني والفقير، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر.

•    وكان هذا هَدْيُهُ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في السَّفر والحضر؛ يقول عثمان بن عفَّان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إنَّا والله، قد صحبنا رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في السَّفر والحضر؛ وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير (67).

•    وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة (68).

•    وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم (69).

•    وعن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أنَّ امرأةً كان في عقلها شيءٌ، فقالت: يا رسول الله، إنَّ لي إليك حاجةً، فقال رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "انظري أيَّ السِّكك شئت؛ حتَّى أقضي لك حاجتك" فخلا معها في بعض الطُّرق، حتَّى فزعت من حاجتها (70).

•    ومن تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أنه كان يجيب الدعوة ولو إلى خبز الشعير، ويقبل الهدية.

ويقول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "لو دُعِيتُ إلى كراعٍ لأجبتُ، ولو أهْدِيَ إليَّ كراعٌ لقبلتُ" (71).

•    وعن أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: كان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يُدعى إلى خبز الشَّعير والإهالة السَّنخة فيجيب (72).

•    وكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يجيب دعوة المملوك على خبز الشَّعير (73).

•    وعن أنس بن مالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أنَّ جدتَّه مُليكة، دَعَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لطعامٍ صنعته له، فأكل منه، ثمَّ قال: "قوموا فلأصلِّ لكم". قال أنسٌ: فقمتُ إلى حصيرٍ لنا، قد اسْوَدَّ من طول ما لبس؛ فنضحتُه بماءٍ، فقام رَسُولُ اللهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، وصففتُ واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلَّى لنا رَسُولُ اللهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ركعتين، ثمَّ انصرف (74).

فياله من خلق ما أعظمه!! فمن من الناس يرضى أن يُدعى على خبزٍ فقط؟! ومن منَّا يجيب دعوة خادمٍ أو عامل عنده؟!!

•    وكان من تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أنه إذا ركب دابته لا يأنف من أن يردف أحدًا معه عليها إن أمكن، وإلا تناوب معهم في الركوب عليها.

فركب -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حمارًا عليه إكافٌ تحته قطيفةٌ فدكيَّةٌ، وأردف وراءه أسامه بن زيدٍ، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخارج (75).

•    وعن عبد الله بن مسعودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: كنَّا يوم بدر ٍكل ثلاثةٍ على بعيرٍ؛ كان أبو لبابة وعليَّ بن أبي طالبٍ زميلي رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قال: وكانت عقبة رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، قال: فقالا: نحن نمشي عنك. فقال: "ما أنتما بأقوى منَّي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما" (76).

•    فلا يكاد يخلو -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- من شريك له في دابته؛ يتعاقب معه، أو يردفه عليها، وهذا من كمال تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ فأي عظيم في الدنيا يقبل أن يزاحمه أحدٌ في راحلته، أيًّا كانت قرابته أو محبته، غير النبيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؟!!

•    هكذا كان النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في تواضعه للمؤمنين؛ يقف مع العجوز، ويزور المريض، ويعطف على المسكين، ويصل البائس، ويواسي المستضعفين، ويداعب الأطفال، ويمازح الأهل، ويكلم الأَمَة، ويوآكل الناس، ويجلس على التراب، وينام على الثرى، ويفترش الرمل، ويتوسَّد الحصير.

•    وأما تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في بيته؛ فإن المرء ليعجب من هديه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في ذلك، مع جنابه العظيم، ومقامه الكريم!!

•    فقد سُئلت عائشة -رضي الله عنها-: ما كان النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله؛ تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصَّلاة خرج إلى الصَّلاة" (77).

النبيُّ الكريم -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وسيِّد ولد آدم أجمعين، يكون في خدمة أهله، ويأنف كثيرٌ ممن يدَّعون محبته -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- من القيام بمساعدة أهليهم!!

•    وعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم" (78).

•    وسُئلت عائشة -رضي الله عنها-: ما كان رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يعمل في بيته؟ قالت: "كان بشرًا من البشر؛ يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه" (79).

•    وأما تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في ملبسه؛ فآية أخرى على التواضع العظيم الكامن في قلبه الشريف -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- -مع قدرته أن يلبس أفخر الثياب وأحسنها لو أراد- كيف لا وهو -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- القائل- بأبي هو وأمي، وفداه نفسي وولدي-: "من ترك اللِّباس تواضعًا لله، وهو يقدر عليه؛ دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق؛ حتى يُخَيِّره من أيِّ حلل الإيمان شاء يلبسها" (80).

•    وهو -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- القائل: "البذاذة من الإيمان" (81)، والبذاذة: هي التواضع في اللباس والرضا بالدون من الثياب (82).

•    فكان -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يلبس ما وجده؛ فيلبس في الغالب: الشَّملة، والكساء الخشن، والبرد الغليظ.

•    فعن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة كساء ملبَّدًا وإزارًا غليظًا؛ فقالت: "قُبِضَ روح محمد رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في هذين" (83).

•    وكان أحب الثياب إليه القميص؛ فعن أمِّ سلمة -رضي الله عنها-، قالت: "كان أحبَّ الثَّياب إلى النَّبيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- القميص" (84).

•    وكان إذا لبس القميص أطلق أزراره.

•    فعن قرَّة بن إياسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قال: أتيتُ رسولَ الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في رهطٍ من مزينة فبايعناه، وإنَّ قميصه لمطلق الأزرار... (85).

•    وهذا يدل على تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وعدم تأنقه في ملبسه وإصلاحه على جسده الشريف -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-؛ إذ المباهاة في الملابس والتزين بها ليست من خصال الشرف والجلالة، وهي من سمات النساء والمحمود منها نقاوة الثوب، والتوسط في جنسه، كما كان هذا هديه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.

•    ومع ما كان يلبس -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- من الثياب المتواضعة؛ إلا أنه كان أحرص الناس على نقائها ونظافتها وحسن رائحتها وجمال منظرها.

•    فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "صنعت لرسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بُردةً سوداء فلبسها، فلمَّا عرق فيها وجد ريح الصُّوف؛ فقذفها. قالت: وكان تعجبه الرِّيح الطَّيِّبة" (86).

•    ومع تواضعه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في ملبسه؛ إلا أنه كان يلبس ثيابًا حسنةً للجمعة والعيدين وتلقِّي الوفود (87)؛ لأن ذلك هو اللائق فذ هذه المحافل والمقامات، وهذا من كمال هديه -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-.

وصدق الله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
***