(86) تَرْجَمَةُ حَيَاة الشَّيْخُ أحْمَدْ مُوسَى:
هو ذلك العالم العامل، والأستاذ الفاضل، بحر العلم الذي ليس له ساحل، وطود العرفان، الموفى على جبلي نعمان، رضع أفاويق العلوم صبيًّا، وجنى ثُمَّار الآداب فتيًّا، حتى أصبح قدوة فضلًا وأدبًا، واتخذ سبيله في بحر المكارم عجبًا، دينٌ أبعده عن الشبهات، وطهارة نفس جمَّلته بأجمل الصفات، وورع حال بينه وبين الشهوات، وعلم طبَّقه على العمل بإخلاص نية، وصدق طوية، غيور على حرمة الدِّين، حريص على مصلحة المُسْلِمين، إذا تكُلَّم يزيِّن كلامه التبيان، وإذا صمت كان صمته من البيان، يطرب سميره كأنه يسمع الألحان، أو ثُمَّل ببنت ألحان، هو النواسي إلَّا أنه طاهر الذيل، عفيف الميل، والأصمعي في النوادر المستظرفة، والنكت المستطرفة:
وخطيب لو قام بين وحوش
علَّم الضاريات بر النفاد


هو الدُّرَّةُ التي لا تُعرَف قيمتها إلَّا بعد ظهورها من المحار وخروجها من قاع البحار، كريمٌ يرى النيل عند المواهب لا يكفي لشارب، ووطنيٌ يَعُدُّ ابن وطنه أقرَبُ الأقارب.
عفوف النفس إلَّا في المعالي
فذو طمع عظيم أشعبي
يظن الظن تلفيه يقينا
أما جربت ظن الألمعي


هو في الهند كالسَّيْفِ انتُضِي من الغِمْدِ على أنه يَحِنُّ إلى وطنه حنين الفنيق إلى عطنه، ترمقه الأبصار، أينما حَلَّ وسار، بالتجلّة والاعتبار، ولا غرو إذا كان كذلك فهو كالغيث أينما وقع نفع، ومُجْمَلُ القول أنَّهُ طَوْدٌ عليٌّ، ونَجْمٌ هَدِيٌ، وعلمٌ تقيٌّ، وبَحْرُ عِلْمٍ زاخر، وبَدْرُ فضلٍ زاهٍ زاهر.

أو كما قال الشاعر:
كريم متى أمدَحْه أمدَحْه والورى
معي وإذا ما لمته لمته وحدي


وإنِّي مهما بَالَغْتُ في الثناء والإطراء، واسْتَعَرْتُ ألْسِنَةِ البُلَغَاءِ فلا أبرحُ عن موقفِ العجز عن إيفاء هذا الفاضل ما هو خليقٌ به من شُكْرِهِ على حُسْنِ عنايته بي، واحتفائه الفائق بصديق لم تتصل بينه وبينه أسباب المَوَدَّةِ، إلَّا من طريق المُخاطبة بالمُكاتبة لا بالاختبار والمُعاملة، ولا شية في هذه فإنَّ القُلُوبَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، ومَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ من قبل أن تُخلَق لها الأجسام.

وإنِّي وإنْ كُنْتُ عاينتُ مصاعب في رحلتي إلى اليابان، فلم يكن شيءٌ أشَدَّ صعوبة لَدَيَّ من عدم مُرَافَقَتِي هذا الفاضل؛ لأنَّهُ عَقِبَ أنْ خاطبني في هذا الأمر ألَمَّ بِهَ مَرَضٌ عَاقَهُ عن السَّفَرِ كما أخبر بهذا واعتذر.

ولَكِنَّ اللهَ سبحانه وجلَّ شأنه لا يَحْرِمُ العبدَ مِنَ الثوابِ إذا عَزَمَ على فِعْلِ الخير ولم تساعده المقادير على الشَّرُوع فيه فهو مَشكُورٌ مَأجُورٌ.

وهَذَا هُوَ تَارِيخُ حَيَاتِهِ:
هو أحمد بن موسى بن مصطفى بن إسماعيل، من عائلة النحولة المشهورة بمديرية المنوفية، وُلِد سنة 1280هـ في بلدة طليا التابعة لمركز أشمون أحَدُ مراكز مديرية المنوفية، ولم يكد يخرج من سنِّ المراهقة حتى أخذ والده يعتني بتربيته، فأدخله مكتب أحَدِ فقهاء البلدة فحفظ القرآن الشريف حفظًا جيدًا، وتلقَّى مبادئ القراءة والكتابة، ولَمَّا بلغ الخامسة عشرة من سِنِّهِ وهو السِّنِّ الذي يؤهله إلى احتمال آلام الفُرقة أرسله إلى الأزهر المعمور سنة 1295هـ، فانكبَّ على تلقي العلوم بأنواعها على أفضل المشائخ وأجَلِّ العُلماء، وأظهر براعة فائقة، وذكاءً نادرًا، حتى أُعْجِبَ بهِ كُلُّ مَنْ لازمَهُ في حلقات الدُّروس من الطلبة والمدرسين.

وبعد زمن فاجأته نوائبُ الدَّهر وحوادث الأيام بِمَوْتِ والده، فمَكَثَ بعد ذلك زمنًا قليلًا ثُمَّ دعته ظروف الأحوال إلى الاشتغال بالتِّجارة فاشتغل بها نحو سنة وبضعة أشهر، وبما أنَّهُ أحرز شُهرةً في أثناء تلقِّي العِلْمِ بالذكاء وسِعَةِ الاطلاع، كانت الطلبة تَفِدُ إليه للاستفادة فكان يُلقي عِدَّةَ دُرُوسٍ في علوم المعقول والمنقول، ثُمَّ رأى أنَّ التجارة قد شغلته عن العِلْمِ فتركها إذ لم يكن اشتغاله بها لضيق أبواب المعاش.
•••
ثُمَّ بدا له أنْ يَتَجَوَّلَ في بلاد القطر للوقوف على أحوال المُسْلِمينَ من جهة أمُور الدِّين وغير ذلك، شأن السَّائحين في كُلِّ أمَّةٍ وزمان، خُصُوصًا مَنْ حِرْفَتُهُمْ إفادة العلوم من أئِمَّةِ المُسْلِمين، فتوجَّه إلى الصَّعيد سنة 1305هـ ووِجْهَته مدينة أسوان، ونَزَلَ ضيفًا كريمًا على قاضي مديرية قنا في ذلك الوقت؛ إذ كانت بينهما صداقة وكيدة ورابطة أزهرية متينة، وبينما هو مار مع القاضي في بعض الشوارع إذ رآهُ بعضُ طلبة العلم وكان أوان عطلة الأزهر فتعلَّقوا به ورَجَوْهُ في إقراء بعض الكتب فلبَّى طلبهم ودَرَّسَ العقائد النسفية في علم التوحيد، وقد طُلِبَ منه أنْ يقرأ بعض كتب أخرى فاعتذر بالسَّفر، ولَمَّا حان وقت رحيله من قنا وُدِّعَ وداعًا شائقًا لائقًا بعالمٍ فاضل مثله، خصوصًا من الطلبة الذين اغترفوا من بحر علمه واستناروا بضوء فهمه، فغادر قنا والقلوب تُشَيِّعُهُ وهي آسفة على فراقه داعية له بالسلامة في الحِلِّ والترحال.

وقد مَرَّ في طريقه على بلدان كان فيها موضوع الإجلال والاحتفال مِمَّنْ عرفوه أيام طلب العلم بالأزهر، وقد انتهى به السَّيْرُ إلى حلفا، وكانت ثورة الدراويش في إبَّانها، وتوقد نيرانها، وصادف أنَّ أحَدَ كبار الضباط في الجيش المصري الذي كانت بينه وبينه سابقة صُحْبَةٍ، كان في حلفا فاحتفل به وأكرم نُزُولَهُ، وطلب منه أن يُلقي بعض الدُّروس المُفيدة على أئِمَّةِ الجُنْدِ، ففعل ذلك وكان ما ألقاه في تفسير الذكر الحكيم، وكان بودِّه أنْ يتجوَّل في بلاد السودان، فلم يوافقه ذلك الضابط لأسباب لا حاجة إلى ذكرها هنا فعَدَلَ عن عزمه، وبعد قليل توجَّهتْ رغبتُهُ إلى السَّفر إلى بلاد الحجاز لأداء فريضة الحج وزيارة مدينة ومسجد خير الأنام عليه الصلاة والسلام، وكاشف صديقه الضابط برغبته فأعَدَّ له ذهبية، وكُلُّ ما يلزم من مُعِدَّاتِ السَّفر، وكان عزم فضيلته أنْ يُسافر من طريق القُصير، ثُمَّ وُدِّعَ باحتفال مِنْ أهل حلفا لا يقوم به وصْفُ البليغ، خصوصًا من صديقه ذلك الضابط الكبير وكل ضباط الجيش، لا سيما الأئِمَّةُ الذين أفادهم بعلمه وفهمه، وفيما هو سَائِرٌ في النيل في الذهبيَّة، عَلِمَ بِهِ بعضُ طلبة العلم في بلدة يُقالُ لها حجازة من أعمال مديرية قنا التي رست عليها الذهبية، فطلبوا منه أن يقرأ لهم بعض كُتُبٍ في النحو والفقه، فاعتذر بعزمه على الحج، فألحُّوا عليه وتوسَّلُوا ببعض أكابر البلدة؛ حيث تعهَّد له أحدهم بالسَّفر معه إلى الحجاز لتأدية الفريضة فأجاب الطلب، وعادت الذهبية إلى حلفا ودَرَّسَ بعض كُتُبٍ في النحو والفقه على مذهب الإمام مالك -رضي الله عنه- وزادهم دروسًا أخرى في القرآن والحديث، وأقام في هذه البلدة مُحْتَرَمًا مُبَجَّلًا من الصغير والكبير، ولَمَّا جاء أوانُ سفر الحَجِّ غادرها قاصدًا القُصَيْر وذلك سنة 1307هـ.

ولَمَّا وصل إلى جُدَّة أقامَ بها أربعة أيام ثُمَّ توجَّه إلى البلد الأمين، وأدَّى المناسك وقصد المدينة المنورة، وزار مسجد المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، وهناك حصل بينه وبين فضيلة الأستاذ التقي النقي الشيخ سيد محمد علي السنوسي الشهير شيخ الطريقة السنوسية تَعَارُفٌ ومَوَدَّةٌ، فأقام تسعة أشهر وهو يُزَاوِلُ مُطالعة العُلوم مع صديقه السيد محمد المذكور ويُفِيدُ المُسْلِمينَ في كُلِّ أمُورِ الدِّين، وقد أجَازَهُ الشيخ السنوسي بقراءة كُلِّ العلوم في كُلِّ فن، لِمَا رآه فيه من الكفاءة والأهلية، ثُمَّ بعد ذلك عاد إلى مَكَّة، لانحراف صِحَّتِهِ وكان قد سبق له بها تَعَارُفٌ مع الأستاذ العلامة الشيخ محمد صالح صهر الشيخ إبراهيم الرشيدي المشهور فنزل عنده ضيفًا كريمًا، وفي أثناء إقامته بِمَكَّةَ عرف حضرة العلامة الدَّرَّاكَةَ الشيخ إسماعيل الغراب فلازمه سَنَةً، وهما يُطالعان كُتُبَ الحكمة والفلسفة، ثُمَّ غادر مَكَّةَ قاصدًا بلدة المروعة ببلاد اليمن؛ حيث اتصل به أنها بلدة حافلة بالعلماء الأجلاء، فوصلها في المُحَرَّمِ من سنة 1309هـ وهناك عرف كثيرًا من أفاضل العلماء وفي مُقدِّمتهم حضرة العلامة السيد حسن عبد الباري شيخ المُدَرِّسِينَ، وحضرة العلامة السيد محمد الطاهر مُفتي البلدة.

ثُمَّ أراد الذهاب إلى بلاد الهند فرحل مع بعض الأعراب في قافلة عانى معهم بعض وعثاء السفر، ولكنه بعد أن وصل إلى الهند اختار أن يذهب إلى الصين، وأخذ يَجُوبُ في هاتيك الأصقاع وكلما سمع بعالم في بلدة رَحَلَ إليه، فإن وجده على علم أقام معه ما شاء الله له أنْ يُقيم، وقد مَرَّ ببلاد كثيرة من مستعمرات إنكلترة وهولاندة، وعرف كثيرًا من العلماء الفضلاء، وقد لاقى احتفاءً زائدًا في بلاد الصين؛ حيث دَرَّسَ عِدَّةَ كُتُبٍ في المذهب الحنفي؛ لأن أهل الصين كلهم متمذهِبون بهذا المذهب وفضيلته مذهبه مالكي فَدَرَّسَ لهم كتب غير مذهبه فأفاد وأجاد، وفي أواخر سنة 1318هـ قفل إلى كلكته عاصمة الهند، ولم يكن يستقر بها قدمه، حتى ظهر فضله وشاع ذِكْرُهُ والتَفَّ حوله كثير من أهل الفضل واحتفوا به احتفاءً باهرًا، وألحُّوا عليه بأن لا يُغادرهم، بل يٌقيم معهم في عاصمة بلادهم، وكان أكثر القوم إلحاحًا عليه هو ذلك العالم الفاضل الحاج محمد نور زكريا، وجماعة من العلماء والأعيان وقد كان الواسطة الكبرى في إجابة ملتمسهم حضرة الوجيه السيد يوسف بن السيد أحمد الزواوي صاحب مسقط التاج العربي المشهور، وكان من أعز أصحابه فلم تسعه المُخالفة خصوصًا وأن حضرات المتقدم ذكرهم من أفاضل علماء كلكته عرضوا عليه إمامة المسجد الكبير، ولَمَّا أجاب الطلب ونالوا منه الأرَبَ، عُيِّنَ إمَامًا للمسجد الجامع من أول المُحَرَّمِ سنة 1319هـ، بل عُهِد إليه جميع شئون المسجد فأقام إلى الآن إمامًا مُحْتَرَمًا مُبَجَّلًا يُجِلُّهُ الأمراءُ ويحترمه العلماءُ.
•••
على أن ذلك لم يُنْسِهِ وطنه المحبوب فهو يَحِنُّ إليه كلما لمع بارقٌ وذرَّ شارقٌ، وكأنه يقول:
إذا كان أصلي من تراب فكلها
بلادي وكل العالمين أقاربي