(76) يَقَظَةُ الحُكُومَة اليابانيَّة حِيَالَ أفعَالٍ مُبَشِّرِي المَسِيحِيَّةِ:
مَنَ المعروف لدى كُلِّ سياسيٍ خبير بدخائل السِّياسَة الأوروبية أن الغربيين يتخذون الدِّين وسيلة توصلهم إلى مقاصدهم السِّياسيَّة، وقد كانت حوادثُ الصين وثورة البوكسر أعظم درس لليابانيين في هذا الخصوص؛ لأنَّ ثورة البوكسر أصلها ناشئٌ عن الإرساليات الدِّينية المسيحية التي تجاوزت حَدَّ الاعتدال في التَّبشير بالدِّينِ المسيحي حتى أحرجت صدور الصينيين فكان ما كان.

وقد حَصَلَتْ أوروبا على أغراضها بهذه الوسيلة فصار لها نفوذ في الصين، بل امتلكت فيها بقاعًا لم تكن تملكها بأية وسيلة غير الوسيلة الدِّينية.
•••
ولَمَّا جعلت دولة اليابان الدِّيانَاتِ حُرَّةً في بلادها ووفد إليها المُبَشِّرُونَ استعملوا نفس الطرق التي كانوا يستعملونها في الصين ولا حاجة إلى ذكرها هنا، بل غاية ما يُقالُ هو أنهم لم يتَّبِعُوا طرق الاعتدال في دعوة اليابانيين إلى اعتناق الدِّين المسيحي، وأيضًا فإنهم أخذوا ينتشرون في الجُزُرِ اليابانية ويفتحون المدارس لأجل نشر العلوم في الظاهر، وفي الحقيقة ونفس الأمْرِ أنهم جعلوها متجرًا لكثرة المصاريف التي يتكبدونها وهم في هذه البقاع.

فلَمَّا رأت الحكومة اليابانية منهم أنهم لم يتبعوا الخطة التي من شأنهم أن يتبعوها أنذرتهم إنذارًا رسميًّا ونقلت الصحف أخبار ذلك على اختلافها، كما نُقِل إلى سائر أنحاء المعمورة ومما جاء في هذه الإنذارات ما معناه: أنكم أيها المبشرون لَمَّا قدمتم إلى بلاد اليابان لأجل نشر تعاليم الديانة المسيحية، وفتح المدارس لتعليم الناشئة العلوم العصرية حمدنا قصدكم، وشكرنا لكم غيرتكم على النوع الإنساني، وقابلناكم بالترحيب وسهَّلنا لكم كُلَّ الوسائل التي بها تتمكنون من الإقامة بيننا إقامة الرَّاحَةِ والأمان على الأرواح، والأموال، والأعراض، شأننا مع كُلِّ غريب يَفِدُ إلى بلادنا لأجل نفع ابن جنسه، ولكننا لم نلبث إلَّا قليلًا حتى رأيناكم خالفتم سُنَّةَ الاعتدال في هذه الأحوال، ورسمنا لكم الخطة التي تسيرون عليها وأبلغناكم إيَّاها رسميًّا عساكم تكونون جاهلين بأخلاق وعوائد البلاد، وحتى لا يكون لكم عُذْرٌ فيما بعد إذا عاملناكم بخلاف معاملتنا الأولى، فلم تلتفتوا إلى هذه الخطة ولم تعملوا بها ونبذتم ما رسمناه لكم وراء ظهوركم.

أمَّا الآن وقد فعلتم هذا فإنَّ الحُكُومَة تُنذركم إنذارها الأخير وتُحذركم عواقب الخُرُوج عن حَدِّ الاعتدال، فإنْ عملتم بما رسمناه لكم أولًا فبها ونِعْمَتْ، وإلَّا حَلَّ بكم ما حَلَّ بأمثالكم في بلاد الصين.
•••
والذي يَطّلِعُ على هذه الإنذارات ويُدَقِّقُ النَّظر في لهجتها يَعْلَمُ مقدار ما وصل إليه المُبشرون من الضيق في بلاد اليابان؛ لأنَّ مِنْ شأن المُبشرين في غير هذه البلاد أنهم يفعلون ما يشاءون مع الأمم التي يوجدون بين ظهرانيها وهي عريقة في الهمجية لا تدري الضَّارَّ مِنَ النَّافع؛ ولذلك نجد كُلَّ بلاد احتلتها أوروبا في البلاد العريقة في الهمجية قد وطئها أقدام المبشرين قبل جنود الدولة المُحتلّة، فهم حَسِبُوا أنَّ كُلَّ أمَّةٍ لم تكن متدينة بالدِّين المسيحي يجوز عليها ما جاز على غيرها ولو كانت على نصيب من العلم والمدنية، وهذا من الخَرَق في السياسة بمكان.