(63) منزلة مولانا السلطان في اليابان:
إن المركز الذي أصبح فيه جلالة الخليفة الأعظم إزاء المشاكل السياسية التي تولِّدها أوروبا من حين لآخر لهو المركز الذي لا يقف فيه إلَّا من وُهِب من الحكمة ومن السياسة ما يُعَد من خوارق العادات، ومن اطَّلع على مجريات السياسة الحميدية في الظروف الحاضرة، وفيما مضى من عهد توليته الخلافة لا يُعَد هذا القول منا مبالغة وغلوًّا عن كنْه الحقيقة، ولسنا الآن بصدد شرح الحوادث التاريخية السياسية التي ظهرت فيها آثار سياسته الفاضلة، فإن هذا شيء مُلِئتْ به بُطُونَ الدفاتر وأسفار المُؤَرِّخِينَ.

وإنَّمَا الغرضُ الوحيدُ هو أن نذكرَ شهادات أساطين السياسة الذين حكموا الأمم، وأُسْنِدت إليهم مراكز سامية من الحكومات الدستورية وغيرها ليقف الجاهل بالتاريخ على الحقيقة التي حجبتها عنه سحب الأضاليل والأراجيف التي يُبْدِيهَا كُلَّ يوم أعداء الدولة والمِلَّة ويزدادُ العارفَ بها يقينًا على يقين، ولسنا أيضًا بهذا الاعتبار نسردُ كُلَّ الجُمَلِ المَأثورة التي فاهَ بها أولئك الأساطين ونقلتها الصحف والرُّواة إلى سائر أنحاء المعمورة كقول بسمرك داهية الألمان عند احتضاره: “ودَدْتُ لو مُدَّ لِي مِنْ حياتي لِأَقِفَ على نهاية ما ترمي إليه سياسَةُ سلطان آل عثُمَّان.” بل نذكر هنا شهادة إمبراطور اليابان وهي في شِرْعَةِ الإنصاف تُوَازي ألفَ شهادةٍ كشهادةِ بسمرك وغيره من أكابر رجال السياسة الغربيين.

وتقديرنا شهادة الميكادو هذا التقدير مُسَبَبٌ عن اعتباراتٍ ثلاثة:
•    أولًا: كَوْنُهَا شهادة سُلطان لم تحتكَّ مصالح دولته بمصالح الدولة العليَّة، حتى إنه للآن لم توجد سفارة في طوكيو للدولة العليَّة؛ لأنه إذا كان الميكادو بمجرد اطلاعه على مقدار حكمة جلالة السلطان بواسطة الأخبار التي تُنقَل والعلم المجرد عن احتكاك المصلحتين، فما بالك إذا كانت هناك علاقات بين عرش الخلافة الإسلامية وعرش دولة اليابان.

•    ثانيًا: إن الميكادو مَلِكٍ شرقيٌّ وهو ولا شك أكثرُ اعتناءً بمعرفة أحوال الممالك الشرقية منه بالممالك الغربية، فإذا حكم على مَلِكٍ من ملوك الشرق بصفةٍ من الصِّفات، فلابُدَّ وأن يكون حكمه نتيجة قضية صحيحة المقدمات.

•    ثالثًا: ومع هذا الاعتناء فإن اعتناءه باستطلاع أحوال الدولة العلية حائز صفة الامتياز بالزيادة؛ لأن جلالة الخليفة الأعظم هو أكبر سلطان شرقي؛ لأنه ممثل للأمَّة الإسلامية بأجمعها ولأنه الرابع والثلاثون من ملوك العائلة العثُمَّانية الذين كانوا ولم يزالوا سياج الإسلام المنيع وحصنه الرفيع.

هذا ولَمَّا دارت رُحَى الحرب الرُّوسيَّة اليابانية بعث جلالة مولانا السلطان سعادة برتو باشا أحد قُوَّادِ الجيش العثُمَّاني مندوبًا حربيًّا، كما تفعل باقي الدول الكبرى في مثل هذه الحرب، فلَمَّا وفد برتو باشا إلى اليابان صدر أمر جلالة الميكادو بأن يُحتفَل به احتفالًا عسكريًّا جامعًا لكُلِّ ضروب الحفاوة والإجلال، ثُمَّ دعاه إلى مَأدُبَةٍ خصوصية به، وأظهر له مزيد العناية وهو على مائدته ولاطفه ملاطفة فائقة، ورَحَّبَ به ترحيبًا بالغًا نهاية الشرف، وحادثه في شئونٍ عديدة بعبارة تَدُلُّ على جليل احترامه لجلالة الخليفة.

ومِمَّا قاله في حديثه ما معناه:
إنني أحتفل بك الآن بصفتك ممثِلًا للخليفة الإسلامي الذي أنا أُجِلُّهُ كُلَّ الإجلال، وأشهدُ له بِسِمُوِّ المَدَاركِ، وبُعْدِ مراميه السياسية، الأمر الذي يجعل الشرق يَفْخَرُ بهذا السُّلطان، فإذا وضع السياسي المُحَنَّك هذه الحادثة أمامه عرف منها مقدار ما تؤثِّره العلائق الوُدِّيَّة بين أمراء الشرق ومُلُوكِهِ بصرف النَّظر عن الأديان والعقائد والعوائد؛ لأنه كفة الميزان الأخرى عن هذا هو الوجود الحي.

وليس الخطر الأصفر الذي تتوقعه أوروبا من حين لآخر إلَّا نتيجة مثل هذه المُجَامَلَاتِ الوُدِّيَّة بين مُلُوكِ الشرق.

ونعرفُ أيضًا أنَّ أوَّلَ خُطوةً يخطوها الشرق في هذا السبيل هو اتصال أسباب المَوَدَّةُ بين دولة اليابان والدولة العليَّة؛ لأنهما الدولتان اللتان من شأنهما أن تكونا قابضتين على الشرق، هذه في الشرق الأدنى، وتلك في الشرق الأقصى، لا سيما إذا اعتنق الميكادو دِينَ الإسلامَ الذي استحسنه في جلسات المؤتمر كَمَا قدَّمنا، فإن الحالة تكون كما كانت في عصر صلاح الدِّين الأيوبي حذوك النَّعل بالنَّعل.

وهذه الفكرة لم تَغِبْ عن الفاتيكان البابوي، أو بعبارة أخرى عن قبلة المذهب الكاثوليكي، فإنَّ البابا بيوس الثالث عشر لاحظ هذه المُلاحظة وتوقَّع اليومَ الذي فيه يعتنق الميكادو دِينَ الإسلام، فيقف أمام النصرانية موقف المُناظر، فلمَّا احتفل الميكادو بالمندوب العثُمَّاني ذلك الاحتفال الشائق، وشافهه بتلك العبارات الرقيقة بعث هو أيضًا بمندوب من قِبَلِهِ يُدعَى المسيو “أوكونال”، وَزَوَّدَهُ بما يقوله للميكادو، فلمَّا حضر وقابله مقابلة رسمية قال له المندوب ما معناه: إنَّ قداسة البابا يشعر نحوكم ونحو أمَّتِكُمْ بشعور الانعطاف، وهو يُعجَبُ كثيرًا بهمَّة اليابانيين وشهامتهم وحُبُّهْم لوطنهم، ويروقهُ كثيرًا ما وصلت إليه من المدنية، ويخصُّ جلالتكم بمزيد الانعطاف وأنه يرغبُ كثيرًا في أن يُؤَكِّدَ العَلائق الوُدِّيَّة بين الفاتيكان وبين عرش دولة اليابان بتقديم خدمة دينية، وغير هذا الكلام مما يناسبه مقام مَنْ يخطب الوُدَّ من آخر، وكأنَّ جلالة الميكادو تذكَّر المثل الياباني عندهم وهو: “أكرم الغريب ولا تجهل نواياه”.

فشكر للمندوب انعطاف البابا وجاملهُ بما يليقُ بأن يُجَامَلُ به من يُظهِرُ الوُدَّ بغير إخلاصٍ، ولم يطلب أدنى شيءٍ مِمَّا قَدِّمَ البابا نفسه لأدائه.

ومِثْل الميكادو لا يخفى عليه نوايا أوروبا في الشرق، ولا يُصَدِّقُ المُجاملات التي تُظهرُها مُلوكُ أوروبا في الشرق، وهو وإنْ كان حالف دولة إنكلترا، فإنَّ مرجع هذا إلى السياسة فقط؛ إذ هي في كثير من الأوضاع تقضي بأن يُحَالِفَ مَلِكٌ شرقيٌ آخَرُ غربيًّا.

وهذا معنًى سياسي دقيق لا يخفى على البصير، وهو أنَّ مركز البابا في أوروبا سياسي كما أنه ديني؛ لأنَّ تقرُّب رئيس ديني من رئيس سياسي يُعلَم منه أن الرئيس الدِّيني له حظٌّ في السياسة، وإلَّا لما وجدت المناسبة الرَّابطة لتحالف اثنين يختلفان في الأمر الذي يدعو في الغالب إلى التحالف وهو اتحاد جهة العلاقة.

والخُلَاصَةُ من هذا كله أنَّ جلالة الخليفة الأعظم له منزلة كُبرى في نفس الميكادو ورجالُ دولته لا تغيرها زخارف السياسة الأوروبية في أيِّ يوم من الأيام.