(42) الإسْلَامُ دِينُ الفِطْرِةِ:
خَلَقَ اللهُ الإنسانَ ومَيَّزَهُ عن سائر الحيوان بالعقل الذي يميِّز به الأشياء ويعرف الضار من النافع، ويهتدي به إلى ما عساه يُشْكِل عليه أمْرَهُ من حقائق هذه الموجودات، فإذن العقل هو لدى الإنسان بمنزلة الميزان، أو بعبارة أخرى بمنزلة حَجَرُ الصَّائغ الذي يميِّز به المعادن فيُعْرَفُ الذهب من النحاس والفضة من الرصاص.

فإذا عرفنا هذا يمكننا أن نقول إنه لا يوجد إنسان في الوجود يُنْكِرُ أنَّ لهذا العالم خالقًا خَلَقَهُ وصَوَّرَهُ من هذه الصورة، فبهذه الصِّفة يكون كُلُّ النَّاسِ متفقين على وجُوبِ وجُود الخَالق؛ إذ لا يُعْقَلُ أنَّ هذه الكائنات أوجَدَتْ نفسها بنفسها لِمَا يَتَرَتَّبُ على ذلك من فَسَادِ الفضيلة؛ لأنَّ التغيُّراتِ في الأشياء والموجودات لابُدَّ لها من مُؤَثِّرٍ، وعلى هذا رُتِّبَتْ القضية المنطقية التي استُدِلَّ بها على وجُوب وجُودِ الخالق وهي: العالم مُتغيِّر، وكُلُّ متغيِّرٍ حَادِثٍ، فالنتيجة أنَّ العالمَ حَادِثٌ، وإذا كان كُلُّ حَادِثٍ لابُدَّ له من مُحْدِثٍ، فالعالمُ لابُدَّ له مِنْ مُحْدِثٍ، فهذه القضيَّة هي التي سَلَّمَ بها كُلُّ ذِي عَقْلٍ كما تقدَّم.

ولَمَّا كانت ذاتِ اللهِ تعالى مُنَزَهَةٌ عن الزمان والمكان بعيدة عن مرامي الإدراكات والتصورات وقفت كُلُّ العُقُول حِيَالَ معرفتها موقف المُندهش الحائر، وهي مع هذه الحيرة متفاوتة في الدَّرجات من جهة الكمال، فمِنَ الناس مَنْ يقول إنَّ الخالق لهذا الكون هو ذلك الكوكب الليلي، ونعني به القمر لِمَا رآه من عِظَم جُرْمِهِ، وعَجِيبُ سَيْرِهِ، وتنقله من حالة إلى أخرى ونوره الذي يملأ ما بين الخافِقَيْنِ، ومنهم مَنْ يقول إنَّ الخالق هو ذلك الكوكب النهاري، ويعني به الشمس لِمَا رآه فيها من كِبَرِ جُرمها على سائر الكواكب وعن القمر في شعاعها الساطع ومن منافعها في الأجسام النامية الحية وغير النامية الحية، ومنهم مَنْ يقول إنَّ الخالق هو النار لِمَا رآهُ فيها من الخاصية التي تُؤَثِّرُ في كُلِّ شيءٍ وهي الإحراق، ولِمَا رآه فيها من المنافع الشاملة لضروريات الحياة، ومنهم مَنْ يقول إنَّ الخالق هو ذلك الصَّنم الذي يُصطنَعُ من الحجر مثلًا، وهذا الفريق ومَنْ على شاكلته مِمَّنْ يعبدون ما تصنعه أيديهم، حُكْمُهُمْ حُكْمُ الحيوانات العجم، وهكذا كُلُّ فريق عَيَّنَ خالقًا مخصوصًا، والذي دعا الناس إلى هذا الاختلاف في تعيين الخالق هو حُبُّ النفس وميلها الطبيعي إلى الوقوف على حقيقة الأشياء المعروفة لديها من الذهن الغائبة عن العيان خصوصًا إذا كانت هذه الأشياء من المُستغربات، ولا شكَّ أنَّ قدرة المُوجِد لِكُلِّ هذه العوالم والمُخرِج لها من العَدَمِ إلى الوجود غريبٌ لدى العقول فتندفع بميلها الطبيعي المذكور إلى الوقوف على حقيقته، ولَمَّا كان الوقوف على حقيقته مُحَالًا بلغ العجز والإعياء بهذه العقول مبلغًا عظيمًا طلبت الرَّاحة بتعيُّنه بأي كيفية كانت فهذا هو سبب الاختلاف.
•••
قُلْنَا إنَّ العقول بهذا الاعتبار، وهو الاختلاف في تعيين الخالق تنقلات في الكمال، فالذي يعبد القمر أرقى في التصور والإدراك من الذي يعبد الصنم؛ لأن الأول رأى شيئًا غريبًا من الخلقة فقال: هذا ربي، أما الآخر فهو داخل في حكم الحيوانات العجم كما قدَّمنا؛ لأنه عَبَدَ ما صنعت يداه، وهذه وقاحة وحُمق، وأرقى هذه العقول في التصور هو العقل الذي يهتدي إلى معرفة الحقيقة بمقتضى القضايا التي يستنتج منها النتائج الصحيحة بفضل ما أوتي من العقل الصحيح.
•••
وقضية سيدنا إبراهيم -عليه السلام- شَاهِدَةٌ على ذلك؛ فإنه لَمَّا وجد هذين الكوكبين غير حائزين لكمال الإله الحقيقي، وعدم الكمال هو الأفول الذي يقضي بالتغيير والانتقال والحُدوث، لم يؤمن بهما، ولَمَّا كان اعتقاده بوجوب وجود الإله كان آخر ما وصل إليه عقله لأن الإله الحقيقي لا تراه العيون فآمن به واعتقد وجوده.

فعلى كُلِّ ما تَقَدَّمَ، يمكننا أن نقول لو سألنا كُلَّ مَنْ يَدِينُ بغير دِينِ الإسلام عن الأسباب التي أجبرته ودَعَتْهُ إلى هذا الاعتقاد لذهب بِكَ كُلَّ مُذهبٍ في إقامة الدَّليل والحُجَّةِ حتى يبرمك، ويضجرك، وأخيرًا لا تجد نتيجة يحسن بها الإقناع، وهذا الدِّين المسيحي مثال على ما نقوله، فإنك إذا أردت أن تعرف حقيقة هذه الديانة، وعن الدليل الذي استدل به المسيحيون على ألوهية المسيح، وسألت أعلمهم بدينهم وكان أفصح الناس لسانًا لوقفت معه موقف الحيرة من التناقض وتضارب القضايا حتى تبلغ الروح التراقي.

أمَّا إذا سألتَ المُسْلِم عن حقيقة دِينِهِ وأصل مُعتقده فيكفي في ذلك أنه يشير بسبابته، وفي هذه الإشارة معنى التوحيد الذي هو أصْلُ الإيمان.

والخُلَاصَةُ أنَّ الإنسان إذا خُلِقَ ونشأ في أرض بعيدة عن بني نوعه مع وجود العقل الكامل فيه، فهو ولا شك يعتقد بفطرته أنه لابُدَّ من وجود خالق لهذه العوالم وهذه الكائنات مُغاير لها كُلَّ المُغايرة، وهذا هو منبع الإسلام وأصْلُ دينه.

وَوُجِدَ مِنَ الناس مَنْ هداهُ عقله إلى هذا الاعتقاد في غابر الزمان وهم الفلاسفة المشهورين كأفلاطون، وسقراط وغيرهما والذين أسلموا من الإفرنج، وهم أرقى الأمم من حيث العلوم الآن وبحثهم فيها، ولو لم يجدوا هذه المِزْيَةِ في الإسلام ما كانوا اعتنقوه.

وهُنَا دليلٌ آخَرُ، وهو أنَّ المُسْلِم العَامِّيَ في إمكانه أن يُعَبِّرَ عن حقيقة دِينِهِ بتلك الإشارة أو ما يقوم مقامها من العبارة، أمَّا غير المُسْلِم فإنه يًوقِفُكَ مَوْقِفَ الحيرة ولو كان فصيحًا كما قدَّمنا.