(39) كيفيَّة التَّبشير بالدِّين الإسلامي:
لَمَّا تمَّ الاتفاقُ بيني وبين حضرات مَنْ ذُكِرُوا على عَقْدِ الجمعية لم نقبل أنْ ننتقلَ في البلاد كما يفعل غيرُنا من المُبشرين بل عزمنا أنْ لا نُغادر العاصمة والتبشير يكون في المَنْزِلِ المُتَقَدِّم، وأنْ يكون الدُّخُولُ مُبَاحًا لكُلِّ إنسانٍ من أيِّ جنسٍ كان ومن أيِّ مَذْهَبٍ كان، وانعقاد الجمعية كان لَيْلًا، وأوَّلُ انعقادٍ لها كان قاصرًا على إلقاءِ خُطبَةٍ بَيَّنَّا الغرضَ الذي لأجله قَدِمْنَا إلى اليابان، فرتَّبنا الخُطبَة باتفاقنا وترجمها حضرة السيد حسين عبد المنعم باللغة الإنكليزية، وأُعطِيتُ إلى المسيو “جازنيف” لأجل ترجمتها باللغة اليابانية وإلقائها نائبًا عنَّا، وكُنَّا قد عَرَّفنَاهُ اليوم الذي نعقدُ فيه أولَ جلسةٍ من الجمعيَّة، فما جاء الميعادُ حتى أقبل النَّاسُ زُمَرًا يتلو بعضهم بعضًا حتى غَصَّ بهمُ المكانُ وبعد أنْ أخَذَ كُلٌّ مكانَهُ وقف حضرة المسيو “جازنيف” وألقى الخُطبة وهذا نَصُّهَا:

بِسْمِ الَلهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدُ، فإنَّ حُضُورَنَا إلى بلاد اليابان وتَحَمُّلِنَا المَشَاقِّ العديدة المُتنوعة في طريقنا، لم يكن لأجل دُنْيَا نُصِيبُها، أو فائدة مادية أو أدبية سِوَى هدايتكم يا أهل اليابان إلى الدِّين الصَّحيح، ونزع الاعتقادات الفاسدة من قلوبكم لِيَحِلَّ مَحِلَّهَا الإيمانُ باللهِ وحده لا شريك له في مُلكه.

وإنَّكُمْ لو عرفتم حقيقة الدِّين الإسلامي، لَعَدَدْتُمْ مَجيئنا هذا مِنَّةً كُبْرَى مِنَ اللهِ بها عليكم ليُخْرِجَكُمْ مِنَ الظلمَاتِ إلَى النَّورِ، ولَعُدَدْتُمُوهُا لنا حَسَنَةً من الحسنات التي لا تقاوم بشُكْرَانٍ.

إنَّ الدِّينَ الإسلاميَ سَنُبَيِّنَهُ لَكُمْ، فهو الدِّينُ الوحيدُ الذي لم يزل ينتشرُ في الأرض ولم يحدث فيه تغييرٌ ولا تبديلٌ من يوم ظهوره إلى الآن؛ يعني ثلاثة عشر قرنًا ورُبْعًا، مع أنه لم يوجد بين المُسْلِمين مَنْ قام بالتبشير بهذا الدِّين لا في هذه السِّنين، ولا في السِّنين الغابرة، والسِّرُّ في ذلك هو أنه دِينُ العقل، والعقلُ متى ما وضَحَ لديه البُرهان، قبِل النتيجة المستفادة من القضية الصحيحة المقدمات، وحسبُنا شاهدًا على ذلك أن أغلب المُتدينين بالدِّين المسيحي يُقِرُّون ويعترفون بأن دِينَ الإسلام لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلَّا أحصاها من أمُورِ الدُّنْيَا، فهو إذن دِينُ المدنية والعدل والمُساواة بحيث لو وضعنا أمامنا كُلَّ القوانين الوضعية وتأمَّلنا إلى ما تَضَمَّنَهُ من المواد في جميع الأمور المُتعلّقة بنظام الشعوب من جهة الحقوق المدنية والجنائية، ثُمَّ نظرنا إلى أحكام دِينِ الإسلام؛ لألفيناهُ القانونَ الوحيدَ الذي حَوَى كُلَّ أنواع العدالة، به تباينت المشارب والعادات بخلاف القوانين الأخرى، فإنها في الغالب تكون على مُقتضى الأخلاق والعوائد المخصوصة، ولذلك يجري عليه أهل الدِّين المسيحي في تقسيم المواريث.

ولَوْ تأمَّلنا في الحِكْمَةِ المُودَعَة في كُلِّ رُكْنٍ من أركانه مثل الشهادة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصَّوم، والحجِّ، لرأينا أن السعادة الدنيوية والأخروية متوقِّفة على العمل بهذه الأركان كما سَنُبَيِّنَهُ لكم في الجلسات القادمة.

وإننا نُورِدُ هنا نُبذةً لأحد الفرنسويين قالها في هذا الدِّين؛ لتعلموا أنه دِينُ المدنية وهذا الفرنسوي يُسَمَّى المسيو “هوذا” قال ما معناه: “لا يوجد الآن إحصاء قَطْعي يُعيِّنُ مقدار عدد المُسْلِمين المنتشرين في الكرَّة الأرضيَّة، ومع ذلك فإنهم قدَّروا أن عدد المُسْلِمين يُنَاهِزُ الثلاثُمَّائة مليون من النفوس على وجه التقريب من جِهَةِ القِلَّةِ لا مِنْ جِهَةِ الكَثْرَةِ، مع أنَّ الإسلام ظهر في آسيا وانتشر منها في أنحاء المعمورة بسرعةٍ فائقةٍ فدخل أفريقية وضرب أطنابَهُ فيها، ثُمَّ دَخَلَ آسيا الكُبْرَى وما زال كذلك حتى دَخَلَ بلادًا كثيرة في مُدَّةٍ وجيزة، وإنَّنَا إذا تصفَّحنا التاريخ لوجدنا أنَّ هذا الدِّين هو الكفيلُ الوحيدُ لترقِّي الأمَمِ وسعادتهم، وعليه فيَحِقُ لنا -نحن الغربيين- أن نعترف عن غير رِيَاءٍ ولا مِرَاءٍ بأن أهل هذا الدِّين هم أرقى الأمَمِ وأحسنهم حالًا من جهة الاعتقادات الدِّينيَّة"، هذا كلام المسيو “هوذا” وإنْ شاءَ اللهُ سَنُبَيِّنُ لكم أعظمَ من ذلك في الجلسات الآتية.