(35) طوكيو:
ركبنا قطار السِّكَّةِ الحديديَّة، وقصدنا مدينة طوكيو عاصمة اليابان، وهي تبعُدُ عن يوكوهاما بمقدار تسعة وعشرين كيلومترات؛ أي بنصف ساعة تقريبًا بسير الوابور، وهذه المدينة كائنة في جزيرة “تببن” وهي حديثة العهد بجعلها عاصمة للمملكة اليابانية، وقد حدثت بها حوادثُ كثيرة مِمَّا لا يكادُ يُحصيها المؤرخ فكيف بِمَنْ يضعُ سِفْرًا كهذه الرحلة!

فلذلك اقْتُصِرَ على ذِكْرِ القليل الأهم منها مِمَّا لا يخلو من فائدة على القارئ الكريم ففي سنة 1456 جاء بعض القوَّاد القائمين الذي يُدعَى “قطه دوكسم” وبنى بطوكيو قلعة حصينة، وكانت طوكيو ليست عاصمة للمملكة بأجمعها، بل كانت مدينة “كيوتو” مقرًّا للمُلك وطوكيو عاصمة لعائلة الشجن الذين كانوا ينازعون الإمبراطور في المُلك، وهذه العائلة كانت تحكم باسم الميكادو وبذلك كان لليابان عاصمتان، إحداهُما شرقية وهي كيوتو عاصمة الميكادو، والثانية غربية وهي طوكيو عاصمة الشجن، وهذا الاسم حديث لها، فإنها كانت في ذلك العهد تُدعَى “ييدو” فلَمَّا صارت للمملكة بأجمعها سُمِّيَتْ طوكيو ومعنى هذا الاسم “عاصمة الشرق”.

وقد حدثت بها عِدَّةَ حرائق وجُدِّدَ بناؤها عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وكانت الزلازل متتابعة فيها، وحصل بها زلزال دَمَّرَ فيها نحو مائة ألف منزل وأمَاتَ كثيرًا من النفوس، أمَّا الآثار فيها فكثيرة جدًّا وبِنَاءُ هذه الآثار فاخرٌ يَدُلُّ على مهارة قدماء اليابانيين في البناء كما كان المصريون القدماء كذلك؛ حيث في وسط المدينة قِنْطَرَةٌ عُمِلَتْ من الأبنوس وتُسَمَّى بالشمس المُشرقة، أمَّا قصر المُلك فبالغُ النهاية في أُبَّهَةِ المُلك وعظمة السُّلطان، وبالقرب منه توجد قصور الديديوس وهم عائلة من العائلات التي كانت مشهورة بالشجاعة، والآن قد حُوِّلَتْ هذه القصور إلى دواوين للحكومة، وغير هذه القصور توجد آثارٌ للمعابد والهياكل القديمة، ومن هذه المعابد معبد يُدعَى “فتتنزون”، ومعبد “وكارفهاش”، ومعبد “إدراجوندور”، ومعبد “سنتنوييست شوكونشا”، ومعبد “شيبه”، وهذا المعبد فيه مقابر عائلة الشجن المُتقدِّم ذِكْرُهُمْ، وهذه العائلة أهلها من عائلة “توكوجاوا”، ويوجد هناك قصر بديع يُدعَى “زيكوان” وكان هذا القصر قديمًا مصيفًا لبعض أكابر الشجن، ويوجد بها كثير من الآثار القديمة.

ومنازلُ طوكيو أغلبها يُسقَف بالخيزران ولها ضواحٍ ومنتزهات يقطنها الكبراء كالمطرية والقبة قد أخذت قِسْطها في المدينة والحضارة مثل “بمتشي” وهي في الشمال الجنوبي الغربي لطوكيو، ثُمَّ بلدة “سيروا” وبهذه البلدة جملة من الآثار القديمة، ولو نظرنا إلى التَّرَقِي نجد أنه كان اللائقُ بأمَّة كهذه الأمَّة أن تكون لها كُتُبْخَانَة عامرة بالكتب شأن كُلِّ بلد مُتَمَدِّنَةٍ وأمَّة راقيةٍ، ولكن لا توجد إلَّا مكتبة واحدة بها نحو مائتي ألف مُجَلَّدٍ فقط.
•••
ولَمَّا وصلنا إلى طوكيو كان في صُحبتنا السيد سليمان الصيني، والحاج مخلص محمود الرُّوسي الذي أفادنا كثيرًا؛ حيث كان له إلمَامٌ تامٌّ بعوائد القوم، ومعرفة أخلاقهم مِمَّا لم نكن نعرف منه شيئًا.

وقد نزلنا في فندق في شارعٍ يُقَالُ له “باليستيو”، ولم نكد نستقر في هذا الفندق حتى أحَسَّ كُلُّ واحدٍ مِنَّا بضعف في عضلات الجسم، وذلك كُلُّه ناتج عن المَشَاقِّ والمتاعب التي عانيناها في السَّفر خُصُوصًا دَوْخ البحر الذي كان له التأثير الأعظم.

ومكثنا ليلة كُلٌ مِنَّا لا يُفَارِقُ مِخْدَعَهُ من الإعياءِ، وفي اليوم الثالث خرجنا للتجوُّل في أنحاء المدينة.

وماذا عَسَايَ أقول أو أشرح ما رأيته في عاصمة بلاد الشمس المُشرقة زيادة عن المُتقدِّم؟ بل ماذا يمكنني أصف المدنية وحركة التجارة وكثرة البضائع وانتظام الشوارع؟ وغاية ما يقوله الوَاصِفُ إن هذه العاصمة المدنية فيها في ريعان شبابها ولولا شِدَّةُ البَرْدِ فيها لكانت تُعَدُّ جَنَّةَ الشَّرق منظرًا وبَهَاءً، أمَّا سكان هذه المدينة فيبلغون مليونًا وثلاثة أرباع المليون نسمة تقريبًا، وقد شاهدتُ السَّائحين فيها من الأوروبيين والأمريكان والهنود والصينيين وغيرهم وهم في ازديادٍ كُلَّ سَنَةٍ.

وقد كان عددهم في سَنَةِ 1702 “7709”، وفي سَنَةِ 1903 “7765”، وفي سَنَةِ 1904 “9256”، وفي سَنَةِ 1905 “16530”، وفي السَّنَةِ الماضية بلغ عددهم “24723”، ولسوف يَفِدُ كثيرٌ من الأوروبيين إلى هذه البلاد كما وفدت إليها مدنيتهم، ولكنهم لا يجدون فيها من مصادر الرِّزْقِ والثروة ما يجدونه في مصر وغيرها؛ لأن اليابانيين أخذوا الصالح من مدنية الغرب وعملوا به فعرفوا كيف يكونون أمَّة حَيَّة لا تَدَعُ غيرها يَسْتَأْثِرُ بمنافع بلادها.