(9) فذلكة عن تاريخ تونس:
نُرِيدُ الآنَ أنْ نَذْكُرَ مُلَخَّصِ ما قالهُ أفاضلَ المُؤرِّخِينَ وعُظمَاؤهُم عن هذه المملكة العتيقة كي يكون القارئ الكريم على عِلْمٍ تَامٍّ من تَقَلّبَاتِ الزَّمَنِ وطوارقِ الحَدَثان.
•••
يؤخذ من التاريخ أنَّ أصْلَ سُكَّانِ أفريقية التي يُطلَق عليها الآن اسم المغرب الأقصى في العُرْفِ العَامِّيِّ من البربر، وقد اخْتُلِفَ في أصْلِ البربر، فقيل إنَّهُمْ من “الكنعانيين” الذين قَدِمُوا إلى تلك الأصقاع من جنوب الشَّام وقيل غير هذا.

ولَمَّا فتح المُسْلِمون أفريقية وصارت للعرب دولة في الأندلس واختلطوا بأهل المغرب، زعم هؤلاء أنهم من الحميريين الذين كانت لهم سلطة ودولة امتد سلطانها إلى أفريقيا وهي دولة التبابعة، ولكن لم تنتظم لهم دولة؛ لأنهم كانوا قبائل متفرقة بينها تنافس دائم متواصل ولذلك حلَّ بهم الضعف فكانوا طعمةً لغيرهم من الدول وساعد على ضعفهم كون بلادهم ومواطنهم على سواحل البحر الأبيض المتوسط، ومِمَّا عُرِفَ من أسماء قبائل البربر وذُكِرَ في التواريخ الرومانية قبيلة “موري” وبلاد أهل هذه القبيلة كانت تُسمَّى “موريطانيا” ومن هذا أطلق عأمَّة الأوروبيين لفظ “مورو” على كُلِّ مسلم من سكان شمال أفريقية كما كانوا يُسمَّون برابرة المغرب الأوسط؛ أي ولايتي الجزائر وقسطنطينية “نوميدي” ويُسَمُّونَ بلادهم “توميديا”، وبعض برابرة الصحراء كانوا يُسمَّون في عهد الرومان “ليفاتا”.

ولَمَّا حَكَمَ مُلُوكُ الرُّعَاةِ مِصْرَ امتدَّ نُفوذهم إلى أفريقية وذلك قبل المسيح بألفٍ وسبعمائةِ عام ولكن لم يُؤَسِّسُوا بها دولة؛ ولذلك لم يكن لهم في أفريقية ذِكْرٌ يَحْفُلُ بتدوينه المؤرخون.

ومُلوكُ الرُّعاة هم من العرب الذين حاربوا الفراعنة وتغلّبُوا عليهم وأحدثوا دولة دامت بِمِصْرَ أربعمائة عام، وفي عهد آخر مَلِكٍ منهم حصلت قِصَّةُ سيدنا يُوسُفُ -عليه السلام-.
•••
ثُمَّ أعقبهم في أفريقية الفينيقيون الذين لهم ذكر مشهور في التاريخ وامتد نفوذهم على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وبعض الجُزُرِ ككريد وغيرها، وعلى شمال أفريقية كانت لهم مستعمرات كثيرة.

ومن المُدُنِ التي كانت لهم فيها متاجر واسعة، مدينة سوسة، وتونس، وبنزرت، وأوتيكة إلى أن أسَّسُوا مدينة قرطاجنة.

وقد زعم بعض المؤرخين أن المؤسِّسَ لها أميرة فينيقية اسمها “عليسار” وقيل “ديدون” جاءت إلى الشام بعد أن حصل بينها وبين أخيها نزاع أدَّى إلى مُهاجرتها إلى أفريقية، فاشترت أرضًا واسعة من البربر، وانضمَّ إليها قوم من الفينيقيين فأسَّسَتْ لها مملكة هناك، ولها حديث طويل لا حاجة بنا إلى ذِكْرِهِ هنا.

ولَمَّا دخل الرومانيون أفريقية سَمُّوا مدينة قرطاجنة “كارتافو” وفي بعض التواريخ أن تأسيس قرطاجنة كان سنة 880 قبل المسيح؛ أي قبل الهجرة بنحو ألف وخمسمائة عام.

ولِعِظَمِ موقع قرطاجنة التجاري تناول حكم الرومان بقية المراكز الأخرى التي في أيدي الفينيقيين، ويُؤخَذ من هذا أن للتجارة دخلًا في الاستعمار.

والدَّلِيلُ على هذا أن الإنكليز لم يستولوا على الهند إلَّا بعد أن وطَّدُوا مصالح تجارية عظمى في هذه المملكة الواسعة.

وكانت حكومة قرطاجنة في عهد الفينيقيين جمهورية يرأسها أميران يجدد انتخابهما مستويًا.

أحدهما من آل “عنون” والثاني من آل “برقة” ولكلٍّ منهما أحزاب متنافسة، وهذا التنافس كان أحد عوامل الإفساد وأسباب ضعف سلطة الفينيقيين.

وهناك داعٍ آخر على هذا الضعف، وهو أن حكومة قرطاجنة في عهدهم كان همُّها منحصرًا في التقدُّم المادي مع إهمال أمرين خطيرين كانا سببًا في سقوط هذه الحكومة وحلول حكومة الرومان محلَّها؛ أحدهما: عدم اتخاذ جندٍ من الوطنيين البربر، وثانيهما: كثرة المظالم والاستبداد الذي كانت تعاملهم به حتى إنهم (أي البربر)  كانوا عونًا للرومانيين في الاستيلاء على قرطاجنة.

وكان القرطاجنيون يعبدون أوثانًا تمثِّل أشهر آلهة الفينيقيين، ومن هذه الأوثان “بعل، وعامون، وملك الأرض”، وكانوا يبالغون في تقديم النذور لهذه الأوثان، حتى إنهم كانوا يذبحون أولادهم قربانًا لها.

وكان القرطاجنيون على جانب عظيم من الترف وأسباب المدينة ولكن لم يعثر أحد على شيء من الآثار مما يدل على مقدار ما وصلوا إليه من المدنية سوى كتابٍ في فن الزراعة عثر عليه الرومان بعد خرابها الأول، ومؤلفه يُدعَى “ماغون” وقد تُرجِم إلى اللغة اللاتينية.

ولَمَّا استولى الرومانيون على قرطاجنة قبل الميلاد أحرقوها ثُمَّ أعادوا بناءها فلبثت إلى أن جاء الفتح الإسلامي فأمر حسَّان بن النعمان بإحراقها، ولم يحفل العرب بما تحت الردم من الآثار فبقيت هذه مدفونة إلى أن احتلت فرنسا تونس فألفت شركة فرنسوية اشترت أراضي من الفلاحين بالثُمَّن الزهيد وأخرجت من الآثار شيئًا ثُمَّينًا من حلي وأوانٍ واكتشفت محال كثيرة كمراسح، وكنائس، وهياكل، وغير هذه “ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”.

وفي القرن السَّادس قبل الميلاد كان اليونانيون مُزاحمين للفينيقيين في التجارة والاستعمار، ولَمَّا ارتبك اليونانيون في حروبهم مع الفرس اغتنم القرطاجنيون الفرصة واستولوا على الجهة الغربية من جزيرة صقلية، فحاربهم أحد القواد اليونانيين وردَّهم على أعقابهم وذلك سنة 480 قبل المسيح، ودامت الحروب بين اليونان والقرطاجنيين أربعين سنة انتهت بصلحٍ دام إلى أواخر القرن الرابع قبل المسيح.

ثُمَّ توالت السِّنين والحِقَبِ ودخلت قرطاجنة في أدوارٍ شتَّى، حتَّى إذا جاء القرن الثاني بعد المسيح اندمج أهل أفريقية الأصليون، ونعني بهم البربر مع الرومانيين فتعلموا لغتهم واختلطوا بهم اختلاطًا حتى آل الأمر إلى تولية أحد كبار البربر إمبراطورًا على قرطاجنة وهو الإمبراطور “سواريوس” الذي اختاره الجند إمبراطورًا عليهم وذلك في أواخر القرن الثاني بعد المسيح.

وما زال مَجْدُ الرُّومَانِ ينمو ويسمو حتى أدخلوا ضِمْنَ أملاكهم مِصْرَ، والشَّامَ، وبلادَ الأناضُول، والأفلاق، والبغدان التي تُسَمَّى رومانيا الآن؛ لأن أهل هاتين الولايتين زعموا أنهم من العنصر الرُّومَانِي، وأنهم نَسْلُ أولئك الأبطال الفاتحين.

ومن قُوَّادِ الرُّومان المشهورين “قارون” الذي له بحيرة باسمه في مديرية الفيوم تبع القطر المصري، ولَمَّا أدرك الهرم دولة الرومان وأخذت تتدهور في مهاوي السقوط أتاح اللهُ لها قبيلة جرمانية اسمها “الوندال” سلبت من يدها السلطة شيئًا فشيئًا حتى أصبحت هي صاحبة البلاد.

وذلك أن قبائل الجرمان تقاطرت من مواطنها ودخلت في مملكة الرومان وذلك في أوائل القرن الثالث بعد المسيح واختلطوا بالرومان، كما اختلط الأعاجم والترك بالعرب في أواخر دولة العباسيين فاتخذ الرومانيون منهم الجُنْدَ وقلَّدوهم الوظائف السياسية فأخذت سلطتهم تزيد ونفوذهم يكبر، حتى صاروا أصحاب النَّهي والأمر، وأمَّا السُّلطة الرومانية فكانت في ضعفٍ متوالٍ متتابع ومن هذه القبائل قبيلة “الوندال” المذكورة التي حلَّت بجنوب فرنسا وإسبانيا، وفتحت بلادًا كثيرة ثُمَّ أسَّسَتْ لها مملكة بإسبانيا نسبت إليها من ذلك العهد فصارت تُعرَف “بأندلوسيا” (الأندلس) ؛ أي بلاد الوندال.

وكان بعض أمراء الدولة الرومانية قد شقَّ عصا الطاعة واستدعى الوندال ليعضدوه على الرومانيين، وذلك في عهد أحد ملوك “الوندال” المُسمَّى “جنصريق” فوقعت عدة حروب بينه وبين الرومانيين تخللها صلح، ثُمَّ عادت الحروب مرة ثانية فزحف جنصريق على قرطاجنة بجيوشه فدخلها عنوة وذلك سنة 439 بعد المسيح، وبذلك سقطت دولة الرومان في قرطاجنة وحَلّتْ محلها دولة “الوندال” فسُبحانَ مقلِّب الأحوال يتصرَّف في مُلْكِهِ كيف يشاء.

يُعلَمُ مِمَّا مَرَّ أنَّ أفريقية كانت أولًا للبربر وكانوا قبائل وشعوبًا، ثُمَّ لدولة قرطاجنة الفينيقية، ثُمَّ دخلت ضمن مستعمرات الرومان ثُمَّ دخلت في مُلك “الوندال” وصارت مملكة وراثية.

أمَّا حُكم “الوندال” فإنه دام من سنة 429 بعد المسيح إلى سنة 532، وفي غضون هذه المدة زحف الونداليون بجيوشهم حتى دخلوا روما واستباحوها أربعة عشر يومًا، وذلك من عبر التاريخ؛ لأن الرومانيين خرَّبوا قرطاجنة سنة 164 قبل المسيح، فجاءت جنود “الوندال” بعد ستمائة عام وأخذت بالثأر.

وبما أنه كانت للرومان مملكة أخرى شرقية لم يكن لهذه الدولة شأن في كُلِّ ما وقع للدولة الرومانية الغربية بشأن أفريقية إلَّا في عهد الإمبراطور “يوستنيانوس” إذ في عهد هذا الإمبراطور أخذت دولة الوندال في الضعف فطمحت نفس الإمبراطور إلى الاستيلاء على قرطاجنة، وإعادة حكم الرومانيين، فتمَّ له ذلك بعد حروب كثيرة وكان آخر عهد حكم دولة “الوندال” الأفريقية سنة 533 بعد المسيح.

وكان العرب يسمون الرومانيين أهل المملكة الشرقية بالروم، فلما جاء الفتح الإسلامي أخذ العرب كُلَّ ما في أيدي الروم من بلاد الشام ومصر إلَّا القسطنطينية فلم تُؤخَذ إلَّا في عهد السلطان محمد الفاتح سنة 1452 بعد المسيح.

ولَمَّا توالت السِّنين كان العنصرُ العربي في أفريقية هو الحالُّ محلَّ الفينيقيين، والرومان، والوندال، ولم يزل إلى الآن إلَّا إسبانيا فإنها بعد أن مكثت نحو الأربع قرون في يد العرب عادت إلى حكم الإفرنج ولم تزل إلى الآن.

وكأنَّ التاريخ أعادَ الكَرَّةَ على قرطاجنة التي لا أثر لها اليوم إلَّا مدينة تونس التي قامت على أنقاضها، فدخلت دولة فرنسا في هذه البلاد ووضعت حمايتها على مملكة تونس ولله في خلقه شئون.

وقد عقدنا فصلًا خاصًّا في هذه الرحلة بسياسة فرنسا في تونس سيأتي في محله.