إِهْدَاءُ الرِّحْلَةِ:
إنَّ للعَادَةِ حُكْمًا لا يُمكنُ الخُروجُ عنه، وقد سَنَّ الأدَبَاءُ قديمًا سُنَّةً احتذى مثالها ونَسَجَ على مِنْوَالِهَا مَنْ جاء بعدهم من أهل حِرْفَتَهُمْ، ومِنْ تلك العادات وهاتيكَ السُّنَنِ أنْ يُؤَلِّفَ العَالِمُ والكَاتِبُ في فُنُونٍ شَتَّى مُؤلّفَاتٍ بِرَسْمِ بعض الأكابر والأعيان وليس لهم حَظٌّ ما في الفوائد المَادِّيَّة، اللهُمَّ إلَّا إذا سَعَتْ إليهم بنفسها وإنَّمَا جُلُّ قَصْدِهِمْ من تأليف الكُتُبِ برسم الأعيان زيادة الاعتناء بها لدى الكَافَّةِ وإنْ كانت في الدَّرَجَةِ القُصْوَى مِنْ البَلاغَةِ، وجلالة المَوْضُوعِ، والذي قوَّى عندهم العزيمة على التأليف إقبالُ الأكابر على مُطالعَةِ المُؤَلّفَاتِ المُفِيدَةِ في الأوضاع الجميلة.

فهذا كتابُ قلائد العقيان للفتح بن خاقان، ألَّفَهُ برسم الخليفة المتوكل وكتابُ العِقْدِ الفريد للملك السَّعيد.

وكتاب الهدية السعيدية في الحكمة الطبيعية ألَّفَهُ الإمام محمد فضل الحق الخير أبادي، وأهداه إلى مَلِيكِ بلاده محمد سعيد خان بهادر، ولو أرَدْتُ إحصاء المؤلفات المُهداة إلى الأمراء وأهل الفضل والأدب لغلطتُ في العَدِّ، وضَاعَ الحساب.

هذا وإني وضعتُ هذا السِّفْر في رحلتي إلى بلاد اليابان، وأودعته من أخبار تلك الأمَّة الرَّاقية ما تُغني مطالعته عن النّديم والسَّمير، ومن أشياء شاهدتها في ذهابي وإيابي في البلاد الأخرى رأيتُ من إتمام الفائدة ذكرُها في هذه الرِّحلة.

وحسبي شرفًا أنها رحلة أوَّلُ مصريٍّ وَطِئَتْ قدماه تلك الأرض من قديم الزمان إلى الآن، وقد اتَّبَعْتُ سُنَّة أولئك المُؤلفين ولكن رأيت أنْ أهدي رحلتي إلى كُلِّ عالمٍ وأديبٍ في مصر، خُصُوصًا الناشئة الحديثة التي هي موضع آمال الأمَّة.

وهنا مَقْصدٌ آخر أرى من الضروري الإلماعُ إليه، وهو أننا أصبحنا في عصر تتسابق فيه الأمم إلى إحراز قصَب السَّبْق في ميدان الحضارة، فأجدرُ بالشبيبةِ المصرية أن تُطالِع مثل هذه الرحلة؛ ليروا أن في الشرق أمَّة في الثلاثين ربيعًا من سني حياتها الجديدة تنظر إليها الأمَمُ الأخرى نظر الإجلال والاعتبار، حتى إذا قرءوا ما لم يصل إلى علمهم عنها دَبَّتْ في نفوسهم الحَمِيَّة فنزعوا رداء الكسل.

وقالوا: حي على خير العمل.

فإذا عُرِف هذا علم أنني لم أتحمَّل الأخطار، ووعثاء الأسفار، ولم أعتمد في الإنفاق إلَّا على الخلَّاق لأجل نفع بلادي وخدمة ديني وجامعتي، وهذا هو أول مُبَرِّرٍ لوضع هذه الرِّحلة.
علي أحمد الجرجاوي
https://www.hindawi.org/books/81869031/