الزهر وطيور بالتيمور
كتبه: سيسل هامان
عالم بيولوجي
حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة بوردو- أستاذ في جامعة كنتاكي وجامعة سانت لويز سابقاً - أستاذ في كلية آسبوري - أخصائي في تقسيم الطفيليات الحيوانية..

المُشَارَكَة:
أينما اتجهتُ ببصري في دُنيا العُلوم، رأيتُ الأدلّة على التّصميم والإبداع، على القانون والنظام، على وجود الخالق الأعلى.

سِرْ في طريقٍ مُشْمِسٍ وتأمَّل بدائع تركيب الأزهار، واستمع إلى تغريد الطيور، وانظر إلى عجائب الأعشاش، فهل كان ذلك كله مُجَرَّد مُصادفة عمياء أن تُنْتِجَ الأزهارُ ذلك الرَّحيق الحُلو الذي يجتذب الحشرات فتلقح الأزهار وتؤدِّي إلى زيادة المحصول في العام التالي؟

وهل هو محض مُصادفة عمياء أن تهبط حُبُوبَ اللقاح الرَّقيقة على مَبْسَمِ الزَّهرة فتنبُت وتسير في القلم حتى تصل إلى المِبْيَضِ فيتم التلقيح وتتكوَّن البُذور؟

فليس من المنطق ألا نعتقد بأن يَدُ اللهِ التي لا نراها هي التي رتَّبَتْ ونظّمت هذه الأشياء تبعاً لقوانين ما زلنا في بداية الطريق نحو معرفتها والكشف عنها؟

وهل من الممكن أن يُغَرِّدَ الطير، لا لأن له أليفاً فحسب، بل لأن اللهَ يُحِبُّ تغريده ويعلم أننا نطرَبُ بتغريده.

وكما أن هنالك ما لا يُحصى من أغاريد الثناء التي تشدوها الطيور كل يوم، والتي لا تصل إلى آذاننا القاصرة الفانية، فإن هنالك ما لا يُحصى من نِعَمِ الله وأفضاله يسبغها على عباده، وهي تنتظر من الإنسان أن يفتح عينيه لكي يراها.

وماذا عن عُشِّ طائر بالتيمور؟

مَنْ الذي علّم هذا الطير ذلك الفن الرَّفيع؟

ولماذا تتشابه جميع الأعشاش التي تبنيها الطيور من هذا النوع؟

إذا قلت الغريزة، فإن ذلك قد يُعَدُّ مخرجاً من السؤال ولكنه إجابة قاصرة.

فما هي الغرائز؟

يقول البعض: إنها السُّلوكُ الذي لا يتعلّمه الحيوان.

 أليس من المنطق أن نرى قدرة الله تتجلّى في هذه الكائنات التي خلقها فسوَّاها تبعاً لقوانين خاصَّة لا نكاد ندري عن كُنْهِهَا شيئاً؟

نعم إنني أعتقد بوجود الله، وأعتقد أنه هو القدير الذي خلق الكَوْنَ وحفظه، وليس ذلك فحسب، بل هو الذي يرعى دُرَّةَ خلقهِ وهو الإنسان.

ولا يرجع هذا الاعتقاد الرَّاسخ الذي يمتلئ به قلبي إلى تأثير الثقافة الأمريكية الدينية عليّ فحسب، ولكنه يرجع أيضاً إلى مشاهداتي العلمية لعجائب الكون، كما يرجع إلى شعوري به وإحساسي بوجوده داخل نفسي.

وحيثُما قَلَّبَ الإنسانُ وجههُ وجد أسئلة لا يجد لها جواباً، وهو عند محاولته العثور على الجواب يفترض فروضاً عديدةً، ثم لا يلبث أن يهجر معظمها أو يُعَدِّلَهُ تعديلاً شاملاً قبل أن يصل إلى الإجابة عن سؤاله.

وما أكثر ما وصل إليه الإنسان من إجابات عن أسئلة، وما أكثر ما سوف يصل إليه من هذه الإجابات كلما انقضت سنة من السِّنين، ولكن زيادة المعرفة لم تصل بالإنسان -بكل أسف- إلى زيادة معرفته بالله، بل على نقيض ذلك يظهر أنه كلما أحَسَّ الإنسان أنه أحاط بسر من أسرار هذا الكون أضعف ذلك من شعوره بالحاجة إلى فكرة وجُود الله، وكان الأجدرُ بالبشر أن يُدركوا أن هذه المُستكشفات ليست إلا أدلّة ناطقة على وجود إلَهٍ مُدَبِّرٍ أعلى وراء هذا الكون.

عندما نذهب إلى المعمل ونفحص قطرة من ماء المُستنقع تحت المِجهر لكي نشاهد سُكَّانَهَا، فإننا نرى إحدى عجائب هذا الكَوْنِ: فتلك الأميبا تتحرَّك في بطئٍ وتتَّجهُ نحو كائن صغير فتحوطه بجسمها، فإذا به داخلها، واذا به يتمُّ هضمُهُ وتمثيلهُ داخل جسمها الرَّقيق، بل إننا نستطيع أن نرى فضلاته تخرُجُ من جسم الأميبا قبل أن نرفع أعيُنَنَا من المِجْهَر، فإذا ما لاحظنا هذا الحيوان فترة أطول، فإننا نُشاهد كيف ينشطر جسمه شِطرَيْنِ، ثم ينمو كل من هذين الشطرين ليكونا حيواناً جديداً كاملاً.

تلك خليَّة واحدة تقوم بجميع وظائف الحياة التي تحتاج الكائنات الكبيرة الأخرى في أدائها إلى آلاف الخلايا أو ملايينها.

لاشك أن صناعة هذا الحيوان العجيب الذي بلغ من الصِّغَرِ حَدَّ النهاية تحتاج إلى أكثر من المُصادفة العمياء.

ولقد كشفت قوانين الكيمياء الحيوية من أسرار الحياة وظواهرها ما لم تكشفه القوانين في أي ميدان آخر من ميادين الدراسات العلمية.

لقد كان الناس ينظرون إلى خفايا عمليات الهضم والامتصاص، ويستدلون بها على وجود التدبير المقدس.

 أمَّا في الوقت الحاضر فقد أمكن شرح هذه العمليات ومعرفة التفاعلات الكيماوية التي تنطوي عليها والخميرة التي تقوم بكل تفاعل.

ولكن هل يدل ذلك على أنه لم يعد لله مكان في كونه؟

فمَنْ إذن الذي دَبَّرَ لهذه التفاعلات أن تسير؟

وأن تسيطر عليها الأنزيمات تلك السيطرة الدقيقة المُحْكَمَة؟

إن نظرة واحدة إلى إحدى الخرائط التي تُبَيِّنُ التفاعلات الدائرية العديدة وما يدور بين كل منها والآخر من تفاعلات أخرى، كفيلة بأن تُقنع الإنسان بأن مثل هذه العلاقات لا يمكن أن تتمَّ بمحض المُصادفة العمياء، ولعل هذا الميدان يُهيِّئُ للإنسان من العلم ما لا يُهَيِّئَهُ أي ميدانٍ آخر بأن الله يُسَيِّرُ هذا الكًوْنِ تبعاً لسُنَنٍ رسمها ودَبَّرَهَا عندما خلق الحياة.

فإذا رفعنا أعيُننا نحو السماء، فلابد أن يستولي علينا العجب من كثرة ما نشاهده فيها من النجوم والكواكب السَّابحة فيها، والتي تتبع نظاماً دقيقاً لا تَحِيدُ عنه قَيْدَ أنْمُلَةٍ مهما مرَّتْ بها الليالي وتعاقبت عليها الفُصُول والأعوام والقرُون.

إنها تدور في أفلاكها بنظام يمكننا من التنبؤ بما يحدث من الكسوف والخسوف قبل وقوعه بقرون عديدة.

فهل يظن أحَدٌ بعد ذلك أن هذه الكواكب والنجوم قد لا تكون أكثر من تجمُّعات عشوائية من المادة تتخبَّط على غير هدىً في الفضاء؟

واذا لم يكن لها نظام ثابت ولم تكن تتبع قوانين مُعَيَّنَةٍ فهل كان من الممكن أن يثق الإنسان بها ويهتدي بهديها في خِضَمِ البحار السَّبعة، وفي متاهات الطرق الجوية التي تتبعها الطائرات؟

قد لا يسلم بعض الناس بوجود الله سبحانه وبقدرته، ومع ذلك فإنهم يسلمون بأن هذه الأجرام السماوية تخضع لقوانين خاصة وتتبع نظاماً مُعَيَّنَاً، وأنها ليست حُرَّةً تتخبَّط في السماء كيف تشاء.

الحق أنه من قطرة الماء التي رأينا تحت المجهر إلى تلك النجوم التي شاهدناها خلال المنظار المُكَبِّر، لا يسع الإنسان إلا أن يُمَجِّدَ ذلك النظام الرَّائع وتلك الدِّقة البالغة والقوانين التي تُعَبِّرُ عن تماثل السُّلوك وتجانسه.

ولولا ثقة الإنسان في أن هنالك قوانين يمكن كشفها وتحديدها، لما أضاع الناس أعمارهم بحثاً عنها.

 فبدون هذا الاعتقاد وتلك الثقة في نظام الكون يصير البحث عبثاً ليس وراءه من طائل.

ولو أنه كلما أجريت تجربة أعطيت نتيجة مخالفة لسابقتها بسبب توقفها على المُصادفة العمياء أو عدم وجود قوانين مسيطرة، فاي تقدم كان من الممكن أن يحققه الإنسان؟

لابد أن يكون وراء كل ذلك النظام خالقٌ أعلى، فليس مما يقبله العقل أن يكون هنالك نظام أو قوانين دون أن يكون وراءها عقل أعلى ومُنظّمٌ مُبدع.

وكلما وصل الإنسان إلى قانون جديد فإن هذا القانون ينادي قائلاً: (إن الله هو الخالق وليس الإنسان إلا مستكشفاً).

إن وجود الله في حياتي اليومية حقيقة لا مراء فيها، حقيقة أقوى من الحقائق العلمية التي لا يتسرَّبُ إليها الشَّكُّ، ومع ذلك فإننا بينما نستطيع أن نصف النجوم ونخطط مداراتها في السماء، أو نثبت الأميبا على شريحة من الزجاج ثم نصورها، نجد أننا لا نستطيع أن نحصل على مثل هذا الدليل المادي حول وجود الله.

فالإنسان لا يستطيع أن يدركه أو يعرفه حتى يتجه إليه اتجاهاً شخصياً، وتكون له خبرة به.

فإذا رفض شخص أن ينظر خلال المجهر أو يتطلع إلى صورة الأميبا فإنه يستطيع أن يجادل حول عدم وجودها فيُطيل الجدال، ولكنه ما إن يراها أو يرى صورتها حتى تنهار حُجَّتَهُ، وكذلك الحال بالنسبة لوجود الله: قد يستطيع الإنسان أن يُجادل طويلاً في الله، وما أن يلمحه الجاحد حتى تنهار حُجَّتَهُ، ويُسَلّمَ بوجوده تسليماً.

ولكن لابد أن تكون الخبرة شخصية، فإذا رفض الإنسان أن يرفع رأسه ويبحث عنه فإن جدالهُ قد يطول دون طائل، فالله لا يُشْرِقُ إلا في قلوب الباحثين عنه.

نعم، إنني أؤمن بالله رب هذا الكون وربي، كما أنني أراه في نفسي وفي كل ما هو حولي.