التربة والنبات
كتبه: لسترجون زمرمان
أخصائي التربة وفسيولوجيا النبات
حاصل على دكتوراه من جامعة بوردو - أخصائي المحافظة على التربة بالولايات المتحدة - استاذ الزراعة والرياضيات بكلية غوشن - عضو الجمعية العلمية لدراسة التربة بأمريكا.

المُشَارَكَة:
إننا جميعاً نتحوَّل إلى فلاسفة في بعض الأحيان.

فقد نسير بجوار حقل من القمح ونشاهد الحدائق وسيارات النقل تفيض بما تحمله من الخُضَرِ المتنوعة، ونرى الفاكهة الناضجة والأعناب اليانعة ونعجب بجمال الخريف في الغابات وألوانه التي تشبه ألسنة اللهب، ثم لا نلبث أن نسأل أنفسنا: (من أين جاء كل هذا؟).

لقد كان عيسى (عليه السلام) خبيراً وحكيماً فيما رمى اليه، فلقد ذكر في لغة سهلة واضحة إحدى حقائق الطبيعة وعجائبها، وهي أن حبَّة القمح لابد أن تتعرَّض للموت قبل أن تبزغ منها الحياة.

ولكن لابد أن يكون هنالك ماء حتى تقوم الحياة، ولابد أن يكون هنالك مصدر للمواد الغذائية التي يحتاج إليها النبات.

والعناصر والمركبات الكيماوية هي المواد الخام الميتة التي تمتصها النبات فتحولها داخل أجسامها إلى مواد غذائية.

وكذلك لابد أن يكون هنالك ضوء أو طاقة لكي تمد النبات بالقوة اللازمة للنمو.

فالحياة تحتاج إلى الماء لكي تعيش.

وكما قال بارسون: أن الماء هو دَمُ الحياة أو إكسيرها الذي يجري في الأرض.

فمعظم العمليات الكيماوية اللازمة للحياة والنمو تحتاج إلى الماء أو تؤدي إلى تكوين الماء.

والماء يُذِيبُ كثيراً من المواد فيهيئ بذلك السبيل لحدوث التفاعلات الكيماوية الضرورية داخل النبات، وهو متوافر في معظم الأماكن، ودورته التي تمتد به الأرض وما عليها من الكائنات دورة مستمرة أبد الدهر لا تنتهي ولا تنقطع.

وتتكوَّن جميع المواد من عناصر كيماوية.

ومصدر العناصر الأساسية لنمو النبات هو التربة والهواء.

فمن أين جاءت التربة؟

وكيف تحتفظ بما تحتاج إليه النباتات من المواد الغذائية؟

إن التربة الخصيبة تتكوَّن من مواد معدنية، ولكن بها فوق ذلك بعض المواد العضوية التي ترجع في أصلها إلى أجسام الحيوانات والنباتات الأخرى وتتعرَّض هذه المادة العضوية لعمليات التحلّل، ومع ذلك ففي أثناء هذه العمليات تنبثق حياة كثير من النباتات والحيوانات.

وبفضل هذه العناصر مجتمعة مع الهواء والماء تستمر العمليات الحيوية داخل أجسام الكائنات الحيَّة.

وتعتبر التربة التي لا تحتوي إلا على المواد الصخرية والمعدنية المتحللة تربة مجدبة لا يمكن أن تكون مهداً لنمو النباتات.

أمَّا التربة المُنتجة الخصيبة فهي تربة حيَّة يعيش بها عدد لا يُحصى من الكائنات الدقيقة من حيوان ونبات.

وقد تصل نسبة الكائنات الحيَّة التي تعيش بهذه التربة الخصيبة إلى ما يقرب من 20 % من المادة العضوية التي بها.

وقد يصل عدد هذه الكائنات الحيَّة إلى بضعة بلايين في الغرام الواحد من التربة.

وعلى ذلك فإن التربة تتكوَّن من تأثير العوامل الجوية على الجزيء الصلب من سطح الأرض بالإضافة إلى ما يعيش فيها من الكائنات الحيَّة ومنتجاتها على طول الزمان.

ولكن كيف ومتى بدأت هذه العمليات؟

فلا يكفي أن يكون هنالك ضوء ومواد كيماوية وماء وهواء لكي ينمو النبات.

إن هنالك قوة داخل البذرة تنبثق في الظروف المناسبة فتؤدي إلى قيام كثير من التفاعلات المتشابكة المعقدة والتي تعمل معاً في توافق عجيب.

والبذرة التي بدأت من اتحاد خليتين مجهريتين تتألف كل منهما من عدد كبير من العناصر والعمليات، تكون فرداً جديداً يشق طريقه في الحياة ويكون مشابهاً للنبات الذي انتجه، بحيث لا تنتح حبَّة القمح إلا قمحاً، ولا بذرة البلوط إلا شجرة البلوط.

ورغم ما بين أنواع النبات من تشابه تجد لكل صفاته وخواصه المميزة، والحق أنه النظام الرائع، والجمال الذي ليس له مثيل ولا حدود، والتوافق الغريب، كل هذا هو مجمل ما يراه الإنسان أينما اتجه في عالم النبات العجيب.

وهنالك أيضاً الفرصة السانحة للتغيير والتبديل، فحبَّة الذرة المنغلة التي نحصل عليها اليوم قد نتجت عن أسلاف لها سابقة تختلف عنها في كثير من صفاتها اختلافاً كبيراً.

وقد صار من الممكن اختيار البذور وتربية النباتات بطرق معينة لكي نحصل منها على نباتات قصيرة أو طويلة تختلف في أشكالها وألوانها وما تدره من محصول، بل أمكن التحكم في الفترة التي يقضيها النبات في التربة لكي يكون أكثر تمشياً مع طول الفصل الذي يلائمه، كما توصل الإنسان إلى إنتاج أنواع جديدة تقاوم الأمراض وتمتاز بوفرة محصولها وسائر صفاتها الأخرى حتى تفي بحاجاتنا وأغراضنا المختلفة.

وبينما تختلف النباتات الرَّاقية اختلافات فردية بعضها عن بعض، نجد لها بعض الصفات العامة التي تشترك فيها جميعاً، فكلها مثلاً تقوم بعملية التمثيل الضوئي الذي ينتج فيه النبات المواد الغذائية من ثاني أوكسيد الكربون والماء في وجود الضوء، وهنالك التشابه في تركيب البذور والسيقان والأوراق والأزهار وما يؤديه كل من منها من الوظائف المتماثلة في النباتات المختلفة.

وهنالك الاستجابة الموحَّدة للمؤثرات الخارجية، فكلها تتجه نحو الضوء وتموت عندما تُحرم من الضوء أو الأوكسجين، إلى غير ذلك من الصفات العديدة التي تشترك فيها جميع النباتات.

فمَنِ الذي قَدَّرَ وأوجد تلك القوانين العديدة التي تتحكم في وراثة الصفات وفي نمو النبات؟

وسوف يقودنا هذا السؤال إلى سؤال آخر وأشد تعقيداً واكبر عمقا، وهو من أين جاءت النباتات الأولى؟

أو بعبارة أخرى كيف خُلِقَ النبات الأول؟

ونحن لا نستطيع أن نصل بعقلنا الطبيعي ومنطقنا السليم إلى أن هذه الأشياء قد أنشأت نفسها بنفسها أو نشأت هكذا بمحض المُصادفة العمياء، ولابد لنا من البحث عن خالق مُبْدِعٍ، ويعتبر التسليم بوجود الخالق أمراً بديهياً تفرضه عقولنا علينا.

والآن لِنَعُدْ إلى سؤالنا الاصلي: مَنِ الذي خلق النباتات الأولى؟

وللإجابة عن هذه السؤال دعني أسجل هنا ما جاء في كِتَابٍ كُتِبَ منذ ما يزيد عن ثلاثة آلاف من السِّنين وتناول حوادث وقعت منذ أربعة آلاف سنة على الأقل.

ذلك هو سفر أيوب، حيث جاء في الفصل الثامن والثلاثين منه ما يأتي:
(اين كنت حين أسَّسْتُ الأرض.. ترنَّمت كواكب الصُّبح معاً وهتف جميع بني ألله.. ومَنْ حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم.. اذ جعلت السحاب لباسه والضباب قماطه، وجزمت عليه حدي وأقمت له مغاليق ومصاريع، وقلت إلى هنا تأتي ولا تتعدى وهنا تتخم كبرياء لججك.. في أي طريق يتوزع النور وتتفرق الشرقية على الأرض: من فرع للهطل وطريقاً للصواعق ليمطر على أرض حيث لا إنسان.. على قفر لا أحد فيه.. ليروي البلقع والخلاء وينبت مخرج العشب.. هل تربط أنت عقد الثريا أو تفك ربط الجبار.. أتخرج المنازل في أوقاتها وتهدي النعش مع بناته.. هل عرفت سُنَنَ السموات أو جعلت تسلطها على الأرض؟.. مَنْ يُهَيِّئُ للغراب صيده اذ تنعب فراخه إلى الله) (1).
-----------------------------------------
(1) - ويقول القرآنُ في معنى مُشابه: (أمَّنْ يبدأ الخلق ثم يُعِيدُهُ ومَنْ يرزقكُمْ مِنَ السَّماء والأرض أَإِلَهٌ مع الله قلْ هاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) سورة النمل، آية: 64.
-----------------------------------------

إن الاجابة التي يقدمها ذلك السِّفْرُ عن كل هذه الأسئلة التي تدور حول نشأة الكون وصيانته، وهي نفس الاجابة التي أقدمها أنا أيضاً.

لقد نشأ كل شيء بقدرته سبحانه وتعالى.

وهو الذي قَدَّرَ لكل شيء طريقه ثم هدى.

وكلما ازددت دراسة وتعمُّقاً في دراسة طبيعة التربة والنباتات، ازداد إيماني بالله وسجدتُ له إعجاباً وتقديساً.