صِحَّةُ الدِّينْ
كتبه: مالكولم دنكان وينسر، الابن
طبيب باطني
حاصل على درجة البكالوريوس في علم الحيوإن من كلية هويتن - ودكتوراه في الطب من جامعة نورث وسترن.

المُشَارَكَة:
من الممكن أن تُصاغ المشكلة التي تدور حول صِحَّةِ الدِّينِ وسلامته صياغة عملية في السؤال الآتي: هل هنالك إله؟ وهل يهتم بالإنسان اهتماماً شخصياً؟

 إنني أعتبر هذا السؤال على درجة كبيرة من الأهمية.

وبرغم أن هنالك كثيراً من المَسُوغات الفلسفية لوجود إلهٍ لهذا الكون واتصافه بصفاتٍ خاصةٍ، فإن هنالك طريقتين أساسيتين من الوجهة العلمية لإثبات وجُودِ إله.

 أمَّا إحداهما فتقوم على استخدام العلوم الطبيعية، وأمَّا الأخرى فتعتمد على المراجع التاريخية.

أمَّا عن الطريقة الأولى، فإن الأرض والسَّماوات بسائر تعقيداتهما، والحياة في شتى صُوَرِهَا، وأخيراً الإنسان بكل قدراته العُليَا، كل هذا أشَدُّ تعقيداً من أن يتصوَّر الإنسانُ أنه حدث هكذا وحده أو بمحض المُصادفة العمياء.

فلابد إذن من عقل مُسَيْطِرٍ، من إلهٍ خالق وراء كل ذلك، ولَمَّا كان الإنسان أسْمَى مما يُحيط به من الكائنات المختلفة فلابد أن يكون قد حظي باهتمام خالقه، ولابد إذن أن يكون لهذا الخالق وجُودٌ ذَاتِيٌ.

أمَّا بالنسبة للطريقة الثانية، فليس أمامنا إلا أن نلجأ للكُتُبِ المُقدَّسَةِ التي هي في الواقع مجموعات من الكُتُبِ والوثائق ظهرت في عصور مختلفة، يطلق على بعضها اسم (المخطوطات) دون أن يقترن هذا الاسم بصفة من الصِّفات، لكي يدل ذلك على أنها تقف وحدها فوق مستوى سائر المخطوطات الأخرى، ويبلغ عدد المخطوطات بالذّات ستاً وستين.

وقد كتبها عدد كبير من الكُتَّابِ في مدى أربعة عشر قرناً، ومع ذلك فهي جميعاً تؤلّفُ كتاباً واحداً يدور حول مِحْوَرٍ واحدٍ.

وبرغم أن كتابة هذا الكتاب قد استغرقت 1400 سنة، واشترك فيه إنتاجها كُتَّابٌ عاشوا في بُلدانٍ مُتَفَرِّقَةٍ، ولم تُتَحْ الظروف لأيٍّ منهم أن يتعرَّف بالآخرين، فإننا نجد بينهم تجانُساً في التفكير ووحدةً واتفاقاً في الغاية.

ولقد حقق التاريخ ما جاءت به هذه الكُتُب إلى درجة عجيبة، مما يدل على صدقها، وها نحن أولاًء نراها جميعاً تؤكد من أول كلمة فيها إلى آخر سطر من سطورها، أن لخالق هذا الكون وجوداً ذاتياً.

فإذا نظرنا إلى العقائد التي يأخذ بها الإنسان، وإلى الأسباب التي تجعله يعتقد في صحتها، فإننا نجد أن كل ذلك يتحدَّد إلى درجة كبيرة بعاملين هما: ذكاء الإنسان والبيئة التي تُحيط به وتؤثر عليه، ويمكننا أن نقسم هذه المعتقدات إلى قسمين: واقعية ونظرية.

وللتأكد من صحة المعتقدات الواقعية لابد أن يكون الإنسان قد وصل إليها باستخدام الأسلوب العلمي في التفكير.

ومن الواضح أن تحقيق هذه الشروط بالنسبة لجميع المعتقدات الواقعية التي يأخذ بها الإنسان في حياته يُعَدُّ أمراً مستحيلاً، ويرجع ذلك إلى كثرة هذه المعتقدات وتعقدها، ومع ذلك فإن الإنسان يتقبَّلها ويسلم بصحتها لسببين: أولهما: أن المجتمع الذي يعيش فيه والكتب التي يقرؤها تقر هذه الافكار وتقبلها، وثانيهما: أنه يجدها صحيحة عند استخدامها أو تطبيقها في حياته اليومية.

أمَّا عن المُعتقدات النظرية، فكثيراً ما تتجلّى فائدتها للإنسان وتثبت صحتها وسلامتها عند ممارستها، ومع ذلك فإنه لأسباب متعددة لا يمكن أن يسلم جميع الناس بصحتها، كما أنه لا يمكن استخدام الطريقة العلمية لإثبات صحتها بسبب عدم القدرة على جمع الحقائق اللازمة لاستخدام هذه الطريقة في حالة هذه المعتقدات.

وهكذا نرى أن الاعتقاد في وجود الله وجوداً ذاتياً، يُعَدُّ إلى حَدٍّ بعيدٍ من المعتقدات النظرية التي لا يمكن اختبارها على محك الأسلوب العلمي، ولذلك فإن الناس ينقسمون فيما يتصل بهذا الأمر إلى شِيَع، فنجد منهم المُؤمن، ونجد منهم المُنكر، كما نجد منهم المُلحد.

وميدان الطب من الميادين التي تعني بدراسة الإنسان وتحليله ومعرفة الأسباب التي تجعله يسلك سلوكاً معيناً، وقد يكون في ذكر بعض المبادئ الطبية ما يلقي به بعض الضوء على عقيدة الإنسان في الخالق.

فمن المعروف مثلاً أن جميع الأمراض التي تُصِيبُ الإنسان إمَّا أن تكون عضوية أو نفسية، ومن المعروف كذلك أن الحالة النفسية للمريض وموقفه العقلي من هذا المرض يحددان إلى درجة كبيرة مدى تأثره بالمرض، ثم أن من المعروف أن تتغيَّر الحالة النفسية أو النظرة العقلية يُعَدُّ من الأمور المتعذرة، فالشخص السليم في عقله ونفسه، يبقى كذلك طيلة حياته، أمَّا الشخص القلق المضطرب فلا يكاد يصلحه العلاج إلا اصلاحاً سطحياً، ولا يكاد المعالج ينتهي من حل مشكلة من مشكلاته حتى تبرز له أخرى غيرها.

وها هو ذا المسيح عيسى عليه السلام يقول في نفس هذا المعنى: (درب الطفل على الطريق الذي تريده أن يسلكه، فلن يحيد عنه بعد ذلك) (1).          

وقد ثبتت صحة هذا الرأي، اذ من الصعب حقاً تغيير معتقدات الإنسان أو طريقته في النظر للأمور.

والفردُ منا يتأثر في كل ذلك بطريقة تنشئته، بل إنه كثيراً ما يكون ضحية لها.
-----------------------------------------
(1) - من أمثلة العرب في هذا الصَّدد: مَنْ شَبَّ على شيءٍ شاب عليه.
-----------------------------------------

وكثير من الأطفال الذين ينشأون على الأخذ بمعتقدات مُعيَّنة يبقون متمسكين بها طيلة حياتهم، فإذا نشأوا في مجتمع في مجتمع ملحد صاروا ملحدين، وإذا نشأوا في مجتمع ديني بقوا مؤمنين وهكذا..

وقبول الإنسان لبعض المعتقدات بسبب نشأته وتربيته لا يُعَدُّ في ذاته دليلاً على صحة هذه المعتقدات وذلك برغم شعوره بأنها لابد أن تكون صحيحة، فالواقع أننا نتقبّل كثيراً من المعتقدات قبولاً يقوم على التسليم، ثم نتحيَّز لها بطريقة أو بأخرى.

وبرغم أننا نستطيع أن نتجرَّد من أهوائنا وعواطفنا عند حَلِّ كثير من المشكلات التي تواجهنا في حياتنا، فإننا نعجز عن أن نتجرَّد من هذه العواطف عندما نحاول الإجابة على مَنْ يسألنا بقوله: (هل لهذا الكون إله؟).

ويرجع ذلك لِمَا لهذا السؤال من آثار عميقة في نفوسنا تمتد آثارها إلى أيام طفولتنا.

ونحن لا نستطيع أن نفر من ذلك، بل لعله لا ينبغي لنا أن نفر.

ولَمَّا كان لهذا السؤال أهمية كبيرة بالنسبة لوجودنا، فلابد أن نجد له جواباً.

وانا أعتقد شخصياً أنه لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بعد أن يخطو الإنسان خطوة نحو الإيمان الروحي، وهو لا يمكن أن يقوم بهذه الخطوة إلا بعد أن يصل (باستخدام عقله) إلى وجود إلَهٍ وخالقٍ لهذا الكون.

وما أن يصل الإنسان إلى ذلك حتى يُثَبِّتَ اللهُ إيمانه به وينزل على قلبه السكينة.

وقد يُعَدُّ بعض الناس ذلك تحيُّزاً مني أو تعصُّباً لفكرة من الأفكار، إلا أنني أعتقد أن الإيمان بالله خبرة شخصية قبل كل شيء.

ويستطيع الإنسان أن يصل إلى فكرة وجود الله باستخدام عقله، وذكائه، ولكنه لا يستطيع أن يُقيم البرهإن على ذلك إلا بالطرق غير المادية، فالإيمان بالله هو أساس الاطمئنإن إلى وجوده تعالى.

وقد عُرِّفَ الإيمان في (الكتب المقدسة) بأنه: (القوة التي تُعِينُ على استجابة الدُّعاء، وتجعلُ الإنسانَ يطمئنُ إلى الغيب).

وقد عَرَّفَ سير وليام أوزلر، وهو الطبيب الكندي المشهور، الإيمان بأنه: (القوة الدافعة (1) الكبرى التي لا نستطيع أن نزنها في الميزإن أو نختبرها في الجفنة).

ولا يمكن أن يتم الاعتقاد في وجود الله بدون هذا الإيمان.
-----------------------------------------
(1) من تعاريف القرآن للمؤمن ما جاء في سورة الحجرات أية 15: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون).
-----------------------------------------