المبدع الأعظم
كتبه: كلود. م. هاثاواي
مستشار هندسي
حاصل على درجة الماجستير من جامعة كولورادو - مستشار هندسي بمعامل شركة جنرال الكتريك - مصمم العقل الإلكتروني للجمعية العلمية لدراسة الملاحة الجوية بمدينة لانجي فيلد - أخصائي الآلات الكهربائية والطبيعية للقياس.
المُشَارَكَة:
قبل أن أبَيِّنَ الأسباب التي تدعونا إلى الإيمان بالله، أحِبُّ أن أذكر أن معظم إيماني به تعالى في المرحلة الرَّاهنة من مراحل حياتي، يقوم على أساس الخبرة أو المُمَارَسَة.
والواقع إننا لا يجوز لنا أن نستبعد كثيراً من المُعتقدات التي تقوم على أساس الخبرة أو المُمارسة، أو أن ننظر إليها على أنها لا تقوم على أساس عقلي، فنحن إذا فعلنا ذلك نكون قد انتقصنا من قدر الطريقة العلمية ذاتها، والأفضل أن نسمي مثل هذه المعتقدات (فوق فكرية).
وبرغم أن إيماني بالله في السنوات السابقة، كان يقوم على أسباب سوف أتناولها بالشرح بعد قليل، فإن إيماني به في الوقت الحاضر يقوم على أساس خبرة أو معرفة داخليَّة به، وهي خبرة أو معرفة تتضاءل بجانبها جميع المجادلات الفكرية.
وبرغم أن هذا النوع من الاستدلال لا يُعَدُّ مُقنعاً بالنسبة لِمَنْ لم يمارسوه، فإن له وجاهته وقوته بالنسبة لِمَنْ مارسوه.
لقد وجدت أن الإيمان بالله هو الملاذ الوحيد الذي تطمئن إليه الرُّوح، وكما يقول أوغستين: (لقد خلقنا الله لنفسه، وإن أرواحنا لتبقى قلقة حائرة حتى تجد راحتها في رحابه).
أمَّا من حيث الأسباب الفكرية التي تدعوني إلى الإيمان بالله، فإنني أحِبُّ أن أبدأ بذكر الحقائق التي لا سبيل إلى إنكارها والتي لا أشك في أن غيري مِمَّنْ أسهموا في هذا الكتاب قد تناولوها، وهي أن التصميم يحتاج إلى مُصَمِّم.
وقد دعم هذا السبب القوي من أسباب إيماني بالله ما أقوم به من الأعمال الهندسية.
فبعد اشتغالي سنوات عديدة في عمل تصميمات لأجهزة وأدوات كهربية، ازداد تقديري لكل تصميم أو إبداع أينما وجدته.
وعلى ذلك فإنه مما لا يتفق مع العقل والمنطق أن يكون ذلك التصميم البديع للعالم من حولنا إلا من إبداع إلَهٍ أعظم لا نهاية لتدبيره وإبداعه وعبقريته.
حقيقة أن هذه طريقة قديمة من طرق الاستدلال على وجود الله، ولكن العلوم الحديثة قد جعلتها أشَدُّ بياناً وأقوى حجة منها في أي وقت مضى.
إن المهندس يتعلّم كيف يمجد النظام، وكيف يقدر الصعاب التي تصاحب التصميم عندما يحاول المصمم أن يجمع بين القوى والمواد والقوانين الطبيعية في تحقيق هدف معين، أنه يقدر الإبداع بسبب ما واجهه من الصعاب والمشكلات عندما يحاول أن يضع تصميماً جديداً.
لقد اشتغلت منذ سنوات عديدة بتصميم مخ الكتروني يستطيع أن يحل بسرعة بعض المعادلات المعقدة المتعلقة بنظرية: (الشَّدُّ في اتجاهين).
ولقد حققنا هدفنا باستخدام مئات من الأنابيب المُفَرَّغَة والأدوات الكهربائية والميكانيكية والدوائر المُعقّدة ووضعها داخل صندوق بلغ حجمه ثلاثة أضعاف حجم أكبر (بيانو).
ولا تزال الجمعية الاستشارية العلمية في لانجلي فيلد تستخدم هذا المخ الإلكتروني حتى الآن.
وبعد اشتغالي باختراع هذا الجهاز سنة أو سنتين، وبعد أن واجهت كثيراً من المشكلات التي تطلبها تصميمه ووصلت إلى حلها، صار من المستحيلات بالنسبة إليَّ أن يتصوَّر عقلي أن مثل هذا الجهاز يمكن عمليه بأية طريقة أخرى غير استخدام العقل والذكاء والتصميم.
وليس العالم من حولنا إلا مجموعة هائلة من التصميم والإبداع والتنظيم.
وبرغم استقلال بعضها عن بعض، فإنها متشابكة متداخلة، وكل منها أكثر تعقيداً في كل ذرة من ذرات تركيبها، من ذلك المخ الالكتروني الذي صنعته.
فإذا كان هذا الجهاز يحتاج إلى تصميم أفلا يحتاج ذلك الجهاز الفسيولوجي الكيمي البيولوجي الذي هو جسمي، والذي ليس بدوره إلا ذرة بسيطة من ذرات هذا الكون اللانهائي في اتساعه وإبداعه، إلى مُبْدِعٍ يُبْدِعُهُ؟
إن التصميم أو النظام أو الترتيب، أو سَمِّهَا ما شئت لا يمكن أن تنشا إلا بطريقين: طريق المُصادفة العمياء أو طريق الإبداع والتصميم.
وكلما كان النظام أكثر تعقيداً، بعد احتمال نشأته عن طريق المُصادفة.
ونحن في خضم هذا اللانهائي لا نستطيع إلا أن نُسَلِّمَ بوجود الله.
أمَّا النقطة الثانية التي أريد أن أشير إليها في هذا المقام، فهي أن مصمم هذا الكون لا يمكن أن يكون مادياً.
وإنني أعتقد أن الله لطيف غير مادي.
وإنني أسلم بوجود اللاماديات، لأنني بوصفي من علماء الفيزياء أشعر بالحاجة إلى وجود سبب أول غير مادي.
إن فلسفتي تسمح بوجود غير المادي، لأنه بحكم تعريفه لا يمكن إدراكه بالحواس الطبيعية، فمن الحماقة اذن أن أنكر وجوده بسبب عجز العلوم عن الوصول اليه، وفوق ذلك فإن الفيزياء الحديثة قد علمتني أن الطبيعة أعجز من أن تنظم نفسها أو تسيطر على نفسها.
وقد أدرك سير اسحاق نيوتن أن نظام هذا الكون يتجه نحو الانحلال، وأنه يقترب من مرحلة تتساوى فيها درجة حرارة سائر مكوناته، ووصل من ذلك إلى أنه لابد أن يكون لهذا الكون بداية، كما أنه لابد أن يكون قد وضع تبعاً لتصميم مُعَيَّنٍ ونظام مرسوم، وأيدَّت دراسة الحرارة هذه الآراء وساعدتنا على التمييز بين الطاقة الميسورة والطاقة غير الميسورة، وقد وجد أنه عند حدوث أي تغيرات حرارية فإن جزءاً معيناً من الطاقة الميسورة يتحوَّل إلى الطاقة غير الميسورة، وأنه لا سبيل إلى أن يسير هذا التحول في الطبيعة بطريقة عكسية، وهذا هو القانون الثاني من القوانين الديناميكية الحرارية.
وقد اهتم بولتزمإن بتمحيص هذه الظاهرة، واستخدم في دراستها عبقريته ومقدرته الرياضية، حتى أثبت أن فقدان الطاقة الميسورة الذي يشير إليه القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية، ليس إلا حالة خاصة من ظاهرة عامة تشير إلى أن كل تحوُّل أو تغيُّر طبيعي يصحبه تحلل أو نقص في النظام الكوني.
وفي حالة الحرارة يعتبر تحول الطاقة من الصورة الميسورة إلى الصورة غير الميسورة فقداناً أو نقصاً في التنظيم الجزيئي، أو بعبارة أخرى تفتتاً وانحلالاً للبناء.
ومعنى ذلك بطريقة أخرى أن الطبيعة لا تستطيع أن تُصَمِّمِ أو تبدع نفسها، لأن كل تحول طبيعي لابد أن يؤدي إلى نوع من أنواع ضياع النظام أو تصدع البناء العام.
وفي بعض الحالات قد يسير النظام من البسيط إلى المركب، ولكن ذلك لا يتم إلا على حساب تصدع أكبر للتنظيم والترتيب في مكان آخر.
إن هذا الكون ليس إلا كتلة تخضع لنظام معين، ولابد له اذن من سبب أول لا يخضع للقانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية، ولابد أن يكون هذا السبب الأول غير مادي في طبيعته.
إنه هو الله اللطيفُ الخبيرُ الذي لا تُدْرِكُهُ الأبصارُ وهو يُدْرِكُ الأبصارَ.