منطق الإيمان
كتبه: جورج هربرت بلونت
أستاذ الفيزياء التطبيقية
حاصل على درجة الماجستير من معهد كاليفورنيا التكنولوجي - كبير المهندسين بقسم البحوث الهندسية بجامعة كاليفورنيا.

المُشَارَكَة:
انني أومن بالله، بل وأكثر من ذلك، أنني أوكل إليه أمري، ففكرة الألوهية بالنسبة إلى ليست مجرد قضية فلسفية، بل أن لها في نفسي قيمتها العلمية العظمى، وإيماني بالله جزء من صميم حياتي اليومية.

ويختلف هذا الرأي اختلافاً كبيراً عمَّا يذهب إليه كثير من المُفكِّرين، فهنالك عدد غير قليل من عمالقة الفكر واستبعدوا فكرة وجود الله عن محيطهم وأقاموا من أنفسهم دُعاة إلى الإلحاد، وهذا يفرض علينا أن نوضِّح الأسباب التي تدعونا إلى الإيمان بالله.

ولديَّ محاولتي القيام بهذا الواجب، أحِبُّ أن أوضح بعض خواطري، وإن أناقش بعض النظريات الهامَّة التي تدعو إلى الإيمان أو الإلحاد، ولسوف تُعينُنا مناقشة هذه الآراء على إدراك الأسباب التي تدعو كل مَنْ يستخدم عقله إلى الإيمان بالله، وأريد بعد ذلك أن أبَيِّنَ لماذا يؤمن الناس بالله.

لقد درس كثير من الباحثين الأسباب التي تجعل الناس يؤمنون إيماناً أعمى يقوم على التسليم لا على أساس المنطق والاقتناع، وما يؤدي إليه هذا النوع من الإيمان من أفكار متناقضة حول صفات الله.

وتدل الشواهد على أن هنالك نوعاً من الإجماع بين الفلاسفة والمفكرين على أن لهذا الكون إلهاً، ولكن لا يوجد هنالك اتفاق على أن هذا الإله هو ذاته إله الكُتُب المقدسة.

وليس معنى ذلك بطبيعة الحال أن هنالك مطعناً في تلك الكتب، أو أن ذلك الغموض يرجع إلى عدم وجود الأدلة الكافية، فقد يكون العيب في المنظار ذاته الذي ترى به الحقائق، وعندئذ يؤدي ضبط المنظار إلى المزيد من الوضوح، ولكن حتى مع ذلك يبدو أن الأدلة في حَدِّ ذاتها لا تعطي الحُكمَ المُطلق.

ولكي أبَيِّنَ القيمة الحقيقية للأدلة وما يعتبر من وجهة نظري الطريقة السليمة لاستخدامها، أحِبُّ أن ألفت الأنظار إلى طريقة الاستدلال التي نستخدمها في علوم الرياضة.

فمن المعروف في علم الهندسة، أننا نستطيع أن نبني كثيراً من النظريات على عدد قليل، من البديهيات، أو تلك الفروض التي نسلم بها ونقبلها دون مناقشة أو جدال حول صحتها، فالعلماء يسلمون أولاً بالبديهيات، ثم يتتبعون مقتضياتها أو النتائج التي تترتب عليها.

وعند إثبات أي نظرية نجد أن برهانها يعتمد في النهاية على مسلمات أو أمور بديهية، ومع ذلك فإن النظريات مجتمعة لا تستطيع أن تقدم دليلاً على صحة بديهية من هذه البديهيات، ولكننا نستطيع أن نختبر صحة هذه البديهيات بمعرفة ما يترتب على استخدامها من اتفاق أو تضارب مع التطبيقات العملية والحقائق المشاهدة.

ولا تعتبر صحة النظريات التي تقوم على الأخذ بهذه البديهيات، ولا مُجرَّد عدم مشاهدة آثار للتناقض بين هذه النظريات وبين الواقع والمشاهد، دليلاً أو برهاناً كافياً على صحة البديهيات المستخدمة.

فالواقع إننا نقبل البديهيات قبول تسليم وإيمان.

وليس معنى ذلك بطبيعة الحال أنه تسليم وإيمان أعمى لا يقوم على البصيرة.

وكذلك الحال فيما يتعلّق بوجود الله، فوجوده تعالى أمْرٌ بديهي من الوجهة الفلسفية، والاستدلال بالأشياء على وجود الله -كما في الإثبات الهندسي- لا يرمي إلى إثبات البديهيات) (1)، ولكنه يبدأ بها، فإذا كان هنالك اتفاق بين هذه البديهية وبين ما نشاهده من حقائق هذا الكون ونظامه، فإن ذلك يعد دليلاً على صحة البديهية التي اخترناها.
-----------------------------------------
(1) – الحقيقة (الفلسفية والدينية أيضا) أن الله تعالى هو الذي يشهد على الأشياء، وليست الأشياء هي التي تشهد عليه، وهو الذي يعطي هذا الوجود وما حوى مغزى ومعنى: (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد..) سورة فصلت، آية: 53.
-----------------------------------------
وعلى ذلك فإن الاستدلال على وجود الله يقوم على أساس المُطابقة بين ما نتوقعه إذا كان هنالك إله وبين الواقع الذي نشاهده.

والاستدلال بهذا المعنى ليس معناه ضعف الإيمان، ولكنه طريقة مقبولة البديهيات قبولاً يتسم باستخدام الفكر، ويقوم على أساس الاقتناع بدلاً من أن يكون تسليماً أعمى.

والأدلة أنواع: منها الأدلة الكونية، ومنها الأدلة التي تقوم على إدراك الحكمة، ثم الأدلة التي تكشف عنها الدراسات الإنسانية.

فالأدلة الكونية تقوم على أساس أن الكون متغير، وعلى ذلك فإنه لا يمكن أن يكون أبدياً، ولابد من البحث عن حقيقة أبدية عُليا.

أمَّا الأدلة التي تُبنى على إدراك الحكمة فتقوم على أساس أن هنالك غرضاً معيناً أو غاية وراء هذا الكون، ولابد ذلك من حكيم أو مُدَبِّر.

وتكمُن الأدلة الإنسانية وراء طبيعة الإنسان الخلقية، فالشعور الإنساني في نفوس البشر إنما هو اتجاه إلى مُشَرِّعٍ أعظم.

ولَمَّا كان اشتغالي بالعلوم ينحصر في التحليل الفيزيائي، فإن الأدلة التي يتجه إليها تفكيري تعتبر من النوع الذي يبحث عن حكمة الخالق فيما خلق.

ولاكتشاف القوانين التي تخضع لها الظواهر المختلفة، لابد من التسليم أولاً بأن هذا الكون أساسه النظام، ثم يتجه عمل الباحث نحو كشف هذا النظام.

ويبدأ الباحث عمله عند حل مشكلة من المشكلات بعمل نموذج أو تجربة تعينه على دراسة الظاهرة التي يدرسها، وليس النموذج أو التجربة إلا محاولة لاختبار صحة فرض من الفروض.

ويجب أن يكون هذا الفرض بسيطاً مع مطابقته للواقع، ثم يدور البحث حول النموذج أو التجربة لمعرفة العوامل التي تؤثر في الظاهرة التي هي موضع البحث، فإذا كانت النتائج مؤيدة للفرض الذي بدأ به، فإنه يعده صحيحا لأن ما ينطبق على هذا النموذج ينطبق أيضاً على سواه، مما يدل على تسليمنا بأن هنالك نظاماً يسود هذا الكون.

ولا يمكن أن يتصور العقل أن هذا النظام قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم أو من الفوضى، وعلى ذلك فإن الإنسان المفكر لابد أن يصل ويسلم بوجود إله مُنظم لهذا الكون، وعندئذ تصير فكرة الألوهية إحدى بديهيات الحياة، بل الحقيقة العظمى التي تظهر في هذا الكون، والمطابقة بين الفرض والنتيجة تعد برهاناً على صحة هذا الفرض.

والمنطق الذي نستخدمه هنا هو أنه إذا كان هنالك إله فلابد أن يكون هنالك نظام.

وعلى ذلك فما دام هنالك نظام فلابد من وجود إله.

ويلاحظ أن للملحدين منطقهم، ولكنه منطق سلبي، فهم يقولون أن وجود الله يستدل عليه بشواهد معينة وليس ببراهين قاطعة، وهذا من وجهة نظرهم يعني عدم وجوده تعالى.

إنهم يردون على الأدلة الكونية بقولهم: أن المادة والطاقة يتحول كل منهما إلى الآخر بحيث يمكن أن يكون الكون بذلك أبدياً.

كما أنهم يُنكرون النظام في الكون، ويرونه مجرد وهم، وهذا ينكرون الشعور النفسي بالعدالة والاتجاه نحو موجه أعظم، ومع ذلك لا يستطيعون أن يقيموا دليلاً واحداً على عدم وجود الله، ومن منطقهم: أن الأدلة المقدمة لإثبات وجود الله لا تعتبر كافية من وجهة نظرهم.

وهنالك فئة أخرى من الملحدين لا يعترفون بإله لهذا الكون لأنهم لا يرونه، ولكنهم لا ينفون وجود إله في كون أو عالم آخر غير هذا الكون.

ولا شك أن هذا موقف مائع متضارب لا يستند إلى أساس سليم.

فاذا قارنا بين الشواهد التي يستدل بها المؤمنون على وجود الله، وتلك التي يستند إليها الملحدون في انكار ذاته العلية، لا تضح لنا أن وجهة نظر الملحد تحتاج إلى تسليم أكثر مما تحتاج إليه وجهة نظر المؤمن، وبعبارة أخرى نجد المؤمن يقيم إيمانه على البصيرة (1).
-----------------------------------------
(1) -) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) سورة الحج، آية: 54.
-----------------------------------------

أمَّا المُلحد فيقيم الحاده على العمى (1).

وأنا مقتنع أن الإيمان يقوم على العقل وإن العقل يدعو إلى الإيمان.

وإذا كان الإنسان يعجز أحياناً من مشاهدة الأدلة، فقد يكون ذلك راجعاً إلى عدم قدرته على أن يفتح عينيه.

ومجرد الاقتناع بوجود الله، لا يجعل الإنسان مؤمناً، فبعض الناس يخشون من القيود التي يفرضها الاعتراف بوجود الله على حريتهم.

وليس هذا الخوف قائماً على غير أساس، فإننا نشاهد أن كثيراً من المذاهب المسيحية، حتى تلك التي تعتبر مذاهب عظمى، تفرض نوعاً من الدكتاتورية على العقول.

ولا شك أن هذه الدكتاتورية الفكرية إنما هي من صنع الإنسان وليست بالأمر اللازم في الدين، فالإنجيل مثلاً يسمح بالحرية الفكرية حينما يقول: (قال الرب أقبل علينا ودعنا نفكر معاً) (2).

فماذا يدعو الإنسان إذن إلى الإيمان الحقيقي والاعتراف بوجود الله؟
-----------------------------------------
(1) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) سورة الحج، آية: 8.
(وكأين من أية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) سورة يوسف، آية: 105.
 (2) أمَّا القرإن فيخاطب العقول الواعية، بل ويطالب بالإيمان عن طريق العلم والمعرفة كما جاء في آيات عديدة: منها:
(1) قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) سورة الزمر، آية: 9.
(2) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) سورة العنكبوت، آية: 20.
(3) لخلق السماوات والأرض اكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون) سورة غافر، آية: 57.
(.. ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك..) سورة آل عمران، آية: 191.
(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء ما ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) سورة البقرة، أية:164.
-----------------------------------------

أنه نفس الشيء الذي يدعو إلى الاعتراف بوجود صديقه، وعلى ذلك فإن الإيمان الحقيقي يحدث عندما يتجه الإنسان إلى ربه ويرجع اليه.

وأعتقد أنني قد آمنت بالله بهذه الطريقة، كما أعتقد أن الإيمان بالله يقوم على أساس المنطق والاقتناع، ولكن هذا يعتبر أمراً ثانوياً بالنسبة للأمر الأول: لقد اتجهت إلى الله وحصلت على خبرة شخصية محض لا أستطيع أن أقدمها اليك.

فإذا كنت في شك من أمره تعالى فاليك الحل: (اتجه إليه وسوف تجده).