درس من شجيرة الورد
كتبها: ميربت ستانلي كونجدن
عالم طبيعي وفيلسوف
دكتوراه من جامعة بورتون - أستاذ سابق بإحدى كليات فلوريدا - عضو الجمعية الأمريكية الطبيعية - أخصائي في الفيزياء وعلم النفس وفلسفة العلوم والبحوث الإنجيلية.

المُشَارَكَة:
مُنْذُ سَنَوَاتٍ عَدِيدَةٍ رَأيْتُ شُجَيْرَةَ وَرْدٍ جَمِيلَةٍ مُزْهِرَةٍ نَمَتْ عَلَى جَانِبِ طَرِيقٍ مُنْعَزِلَةٍ فِي بنسلفانيا.
وعندما مررتُ بالمكإن بعد فترة من الزمن، رأيتُ بجوار الشُّجَيْرَة أنقاض كوخ صغير مُتَهَدِّمٍ وقد غطّتهَا الأعشاب وبعض البقايا النباتية.
وكانت أقرب المساكن تبعد عن هذا المكإن بما لا يقل عن نصف ميل.
وقد استبعدتُ من خاطري أن تكون هذه الشجرة قد نمت بجوار الكوخ بمحض المُصادفة من بذرة حملتها الريح أو الماء أو بعض الحيوانات الأخرى، أو من جزيءٍ من ساق الورد قذفت به الأقدار إلى هذا المكان.
لقد أدركتُ بالبداهة أنه لابد أن تكون هذه الشُّجيرة قد زرعها إنسانٌ لينتفع بها بجوار ذلك الكُوخ، ومع أنني لم أر هذه الشجيرة عند زراعتها وليس لدي مرجع استدل به على تاريخها فإنني لم أشك في أنها قد زرعت في مكانها وتحت ظروفها بوساطة الإنسان.
هذا نوع من الاستدلال.
وقد نستبعد في بادئ الأمر استخدام هذا النوع من المنطق أو التفكير في ميادين العلوم.
ولكننا سوف تصدمنا الحقيقة، وهي أن هذا الأسلوب من أساليب الاستدلال هو الأسلوب الوحيد الذي قام عليه علمٌ من أقدم العلوم الطبيعية، ألا وهو الفلك.
فنحن لا نستطيع أن نخضع المجرَّات والنجوم والسيارات في أفلاكها لحكم التجربة، كما إننا لا نستطيع أن نتخلّص من آثار الأشعة الكونية التي تفصل بيننا وبين هذه الأجرام السَّماوية عند دراستها، بل لا نستطيع أن نعدل ما يطرأ على الموجات الضوئية والصوتية المُنبعثة من هذه الأجرام من تغيُّراتٍ بسبب المسافات الشاسعة التي تفصل بيننا وبينها.
ومع كل ذلك فإن هذه الظروف لم تحل بيننا وبين دراسة هذه الكوكب والنجوم في سمواتها، والاستفادة من النظريات والقوانين التي وصلنا إليها في دراسات أخرى مشابهة في ميادين العلوم.
وقد وصلنا بفضل كل ذلك إلى كثير من المعلومات والحقائق عن هذه العوالم التي لا نستطيع أن نراها إلا من بعد، ولا نستطيع أن نُمحصها إلا تحت ظروف صعبة مُعَقَّدَة.
وما بالنا نذهب بعيداً وقد درسنا الذرة واستخدمنا ما نعرفه من قوانين الكُتلة والطاقة في استنباط صفاتها وتركيبها وخواصها، ونحن مع ذلك لم نر الذرة حتى اليوم بطريقة مباشرة.
ولقد أيَّدَتِ القنبلة الذريَّة الأولى ما وصلنا إليه من قوانين ونظريات حول تركيب الذرة غير المنظورة ووظائفها.
إننا نستدل على هذه الظواهر جميعاً بآثارها، معتمدين في ذلك على الاستدلال المنطقي الصرف وعلى ما لدينا من حقائق أولية بسيطة تتعلق بهذه الظواهر والأشياء.
وإننا لنستطيع أن نستخدم نفس المنطق الاستدلالي في إدراك وجود الله تعالى ومعرفة صفاته.
إننا نستطيع أن نستخدم المنطق لكي ندرك أن لخالق هذا الكون صفات تُناظِرُ الصفات التي نجدها في أنفسنا، فلابد أن يكون سبحانه متصفاً بالحكمة والإرادة والقدرة.
ومما لاشك فيه إننا نحتاج في محاولتنا لوصف الخالق ومعرفة صفاته إلى مصطلحات ومعان تختلف اختلافاً بيَّناً عن تلك التي نستخدمها عندما نصف عالم الماديات، فالصفات المادية والتفسيراًت الميكانيكية التي تقوم على نظريات السلوكيين تعجز عن أن تُعيننا على تحقيق هذه الغاية.
وبخاصة بعد أن تبيَّن لنا أن هذا الكون الذي نعيش فيه لا يمكن أن يكون مادة صِرْفاً وإنَّمَا هو مادة وروح، أو مادة وغير مادة.
ولا نستطيع أن نصف الأشياء غير المادية بالأوصاف المادية وحدها.
وكثيراً ما طلبتُ إلى تلاميذي أن يَصِفُوا لي شيئاً غير مادي مثل (الفكرة)، وطلبتُ اليهم أن يُبيِّنُوا لي التركيب الكيماوي للفكرة وطولها بالسنتيمترات، ووزنها بالغرامات ولونها وضغطها وأن يصفوا لي شكلها وصورتها.
وقد عجزوا جميعاً عن تحقيق ذلك.
وصار من الواضح أنه لكي نصف أمراً غير مادي لابد من استخدام مصطلحات وأوصاف أخرى تختلف اختلافاً كبيراً عن المصطلحات التي نستخدمها في دائرة العلوم.
إننا لا نستطيع أن نسخر من هذه المشكلة أو نفر منها.
فلو لم يكن هذا الكون ثنائياً لاستطعنا أن نعرف الفكرة تعريفاً مادياً صرفاً، وهو ما لم يحدث أبداً.
والنظريات المادية التي قدمها ديموقريطس وهوبز والسلوكيون، وكذلك النظريات المثالية الصرف التي تفسر هذا الكون تفسيراً معنوياً خالصاً مما قدمه ليبنتز وبيركلي وهيجل، نقول أن هذه النظريات الأحادية جميعاً لا تعدو أن تكون مُجَرَّد افتراضات تقوم على التخمين ولا تستند إلى أي أساس من الوجهة التجريبية.
ولابد لأي فلسفة تحاول أن تفسر الطبيعة والكون من أن تختبر أولاً لمعرفة مدى قدرتها على تفسير سائر أنواع الحقائق والعوامل والعناصر التي يتألف منها هذا الكون أو تظهر فيه.
إن العلوم حقائق مُختبرة، ولكنها مع ذلك تتأثّر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بُعده عن الدِّقَّة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته.
ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحُدود.
فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ، وهي تبدأ بالاحتمالات وتنتهي بالاحتمالات كذلك، وليس باليقين.
ونتائج العلوم بذلك تقريبية وعُرضة للأخطاء المُحتملة في القياس والمُقارنات، ونتائجها اجتهادية وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف، وليست نهائية.
وإننا لنرى أن العالم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول أن هذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن، ويترك الباب مفتوحاً لِمَا قد يُسْتَجَدُّ من التعديلات.
إن العلوم تبدأ بقضايا أو بديهيات مُسَلّمٌ بصحتها برغم أنها لا تستند أساساً على حقيقة فيزيائية ملموسة.
وعلى ذلك فإن العلوم تقوم على أساس فلسفي.
والخبرة الشخصية في العلوم كما في الفلسفة والدِّين هي المَحَكِّ النهائي والمَلاذ الأخير الذي تختبر به جميع الحقائق في العلوم كما في الفلسفة والدين.
وبرغم أنه لابد أن تكون الحقائق والنظريات التي يصل إليها رجال العلوم قابلة للاختبار والتحقيق على أيدي غيرهم من العلماء فإن إدراكنا الشخصي للظواهر الطبيعية يعتبر أمراً نسبياً ويتوقّف على ظروف خاصة بنا.
ومع ذلك فإن هذه الحدود والقيود لا تُهَوِّنُ من شأن الطريقة العلمية ولا من قيمة النتائج التي نصل إليها باستخدامها، ولكنها توجه الجهود وتقيد النتائج.
ومن ذلك نُدرك عجز العلوم عجزاً كُلِيَّا من أن تُعالج المشكلات التي تبعد عن التحليل أو التركيب الكمي.
فلننتقل الإن إلى السؤال الذي يدور حول وجود الله، وهو بطبيعة الحال من الأسئلة التي لا نستطيع العلوم بقيودها السَّابقة ودائرتها المادية الضيقة أن تعالجها.
ولكنه إذا كان هنالك تأثير من العالم الروحي على العالم المادي، فإن هذا التأثير يدخل في دائرة العلوم الطبيعية.
ولابد من قبول أية طريقة سليمة نستطيع أن تُعالج هذه المشكلة، ومن ذلك طريقة الاستدلال المنطقي التي تقوم على تفسير النتائج بنظائرها أو مثيلاتها، وهي الطريقة التي أشرنا إليها من قبل.
وتُعالج العلوم كثيراً من الظواهر الطبيعية التي تحدث في هذا الكون، وبرغم أن العلوم لا تؤيد وجود عالم غير مادي تأييداً كاملاً، فإنها لا تستطيع أن تنفي بصورة قاطعة وجود عوالم أخرى غير مادية وراء العالم المادي.
ونستطيع بطريقة الاستدلال والقياس بقدرة الإنسان وذكائه، في عالم يفيض بالأمور العقلية، أن نصل إلى وجوب وجود قوة مُسيطرة مُدبِّرة تُدَبِّرُ هذا الكون وتُدَبِّرُ أمُورَهُ وتُعِينُنَا على فهم ما يغمض علينا من أمر منحنيات التوزيع، ودورة الماء في الطبيعة، ودورة ثاني أوكسيد الكربون فيها، وعمليات التكاثر العجيبة، وعمليات التمثيل الضَّوئِي ذات الأهمية البالغة في اختزان الطاقة الشمسية وما لها من أهمية بالغة في حياة الكائنات الحيَّة، وما لا يُحصى من عجائب من هذا الكون.
إذ كيف يتسنَّى لنا أن نُفَسِّرَ هذه العمليات المُعَقَّدَةِ المُنظمة تفسيراً يقوم على أساس المُصادفة والتخبُّط العشوائي؟
وكيف نستطيع أن نُفَسِّرَ هذا الانتظام في ظواهر الكون والعلاقات السَّبَبِيَّة، والتكامل، والغرضية، والتوافق، والتوازن، التي تنتظم سائر الظواهر وتمتد آثارها من عصر إلى عصر؟
كيف يعمل هذا الكون دون أن يكون له خالقٌ مُدَبِرٌ هو الذي خلقه وأبدعه ودَبَّرَ سائر أموره؟
إن جميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه وَيَدُلُّ على قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ.
وعندما نقوم نحن العلماء بتحليل ظواهر هذا الكون ودراساتها، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية، فإننا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيَادِي الله وعظمته  (1).
ذلك هو اللهُ الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كل ذرَّةٍ من ذرَّات هذا الوجود.
وليست العلوم إلا دراسة خلق الله وآثار قدرته.
-----------------------------------------
(1) - أنظر إلى إبداع القرآن إذ يقول: (أمَّنْ خلق السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فأنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) سورة النمل، آية: 60.
(المترجم).
-----------------------------------------