بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ النَّبَأِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا.
تَقَدَّمَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ هُوَ وَالْآيَاتِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ (11 107)، مَعَ الْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِدَوَامِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ بِلَا انْقِطَاعٍ كَقَوْلِهِ: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (4 \ 57)، فِي سُورَةِ “الْأَنْعَامِ” فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ الْآيَةَ (6 \ 128)، فَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ وَبَيَّنَّا وَجْهَ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ.

وَأَمَّا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحْقَابِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا مَعَ الدَّوَامِ الْأَبَدِيِّ الَّذِي قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي لِدَلَالَةِ ظَاهِرِ الْقُرْءَانِ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، أَيْ: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (79 23 - 25)، فَإِذَا انْقَضَتْ تِلْكَ الْأَحْقَابُ عُذِّبُوا بِأَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ غَيْرَ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ.

وَيَدُلُّ لِهَذَا تَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِأَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ غَيْرَ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ فِي قَوْلِهِ: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (38 \ 57 - 58).

وَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَدَاخُلُ الْحَالِ وَهُوَ جَائِزٌ حَتَّى عِنْدَ مَنْ مَنَعَ تَرَادُفَ الْحَالِ كَابْنِ عُصْفُورٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ جُمْلَةَ: لَا يَذُوقُونَ: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ، وَنَعْنِي بِاسْمِ الْفَاعِلِ قَوْلَهُ: لَابِثِينَ الَّذِي هُوَ حَالٌ، وَنَظِيرُهُ مِنْ إِتْيَانِ جُمْلَةِ فِعْلٍ مُضَارِعٍ مَنْفِيٍّ بِلَا حَالًا فِي الْقُرْءَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا (16 \ 78)، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَحْقَابَ لَا تَنْقَضِي أَبَدًا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ

وَقَالَ: إِنَّهُ أَصَحُّ مِنْ جَعْلِ الْآيَةِ فِي عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ.

الثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ قَوْلِهِ: “أَحْقَابًا” عَلَى التَّنَاهِي وَالِانْقِضَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا فُهِمَ مِنْ مَفْهُومِ الظَّرْفِ وَالتَّأْبِيدِ مُصَرَّحٌ بِهِ مَنْطُوقًا وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَوْلُ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْقُرْءَانِ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (78 \ 28)، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ.