بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الرَّعْدِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادِيًا، وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَقْوَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَادٍ، سَوَاءٌ فَسَّرْنَا الْهُدَى بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ أَوْ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَادٍ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ (6 \ 116)، فَهَؤُلَاءِ الْمُضِلُّونَ لَمْ يَهْدِهِمْ هَادٍ الْهُدَى الْخَاصَّ، الَّذِي هُوَ التَّوْفِيقُ، لِمَا يُرْضِي اللَّهَ، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (11 \ 17)، وَقَوْلُهُ: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (12 \ 103)، وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (26 \ 8)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَقْوَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَادٍ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ، الَّذِي هُوَ إِبَانَةُ الطَّرِيقِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ (36 \ 6)، بِنَاءً عَلَى التَّحْقِيقِ مِنْ أَنَّ “مَا” نَافِيَةٌ لَا مَوْصُولَةٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ... الْآيَةَ (5 \ 19).
فَالَّذِينَ مَاتُوا فِي هَذَا الْفَتْرَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَادٍ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَيْضًا.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ أَيْ دَاعٍ يَدْعُوهُمْ وَيُرْشِدُهُمْ إِمَّا إِلَى خَيْرٍ كَالْأَنْبِيَاءِ، وَإِمَّا إِلَى شَرٍّ كَالشَّيَاطِينِ، أَيْ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُنْذِرٌ هَادٍ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ الْهُدَى فِي الْإِرْشَادِ إِلَى الشَّرِّ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (22 \ 4)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (37 \ 23)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ (4 \ 168)، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا إِطْلَاقُ الْإِمَامِ عَلَى الدَّاعِي إِلَى الشَّرِّ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ الْآيَةَ (28 \ 41).
الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ، أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذِرٌ، وَأَنَا هَادِي كُلِّ قَوْمٍ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (35 \ 14)، يَعْنِي نَفْسَهُ، كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ قَتَادَةَ بْنِ سَلَمَةَ الْحَنَفِيِّ:
وَلَئِنْ بَقِيتُ لَأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ... تَحْوِي الْغَنَائِمَ أَوْ يَمُوتُ كَرِيمُ
يَعْنِي نَفْسَهُ.
وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ هَذَا الْمَبْحَثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ “الْقَارِعَةِ”، وَتَحْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مُنْذِرٌ وَأَنَا هَادِي كُلِّ قَوْمٍ سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ وَالْهُدَى فِي عِلْمِي، لِدَلَالَةِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هَدَى قَوْمًا وَأَضَلَّ آخَرِينَ، عَلَى وَفْقِ مَا سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (16 \ 37).
الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ أَيْ قَائِدٌ، وَالْقَائِدُ الْإِمَامُ، وَالْإِمَامُ الْعَمَلُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ عَمَلٌ يَهْدِيهِمْ إِلَى مَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَيَدُلُّ لِمَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: “هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ” (10 \ 30)، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا بِتَائَيْنِ بِمَعْنَى تَتْبَعُ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى: “تَتْلُو”، تَقْرَأُ فِي كِتَابِ عَمَلِهَا مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ.
وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ: لِتَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ الْحَدِيثَ.
الرَّابِعُ: وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْمِ الْأُمَّةُ وَالْمُرَادَ بِالْهَادِي النَّبِيُّ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ أَيْ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ نَبِيٌّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (35 \ 24)، وَقَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ (10 \ 47).
وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ اسْمُ الْقَوْمِ عَلَى الْأُمَّةِ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ (11 \ 25)، وَقَوْلِهِ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ (7 \ 65)، وَقَوْلِهِ: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ (7 \ 73)، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ أَعَمُّ مِنْ مُطْلَقِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقَوْمِ لُغَةً، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ: أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً الْحَدِيثَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقَوْمِ لُغَةً أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ بِأَضْعَافٍ، وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ الرَّابِعِ أَنَّ الْآيَةَ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ، وَقَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِحَصْرِ الْأُمَمِ فِي سَبْعِينَ، كَمَا بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ، فَآبَاءُ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يُنْذَرُوا مَثَلًا الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ (36 \ 6)، لَيْسُوا أُمَّةً مُسْتَقِلَّةً حَتَّى يَرِدَ الْإِشْكَالُ فِي عَدَمِ إِنْذَارِهِمْ، مَعَ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ بَلْ هُمْ بَعْضُ أُمَّةٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ لَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (25 \ 51)، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَرْسَلْنَا إِلَى جَمِيعِ الْقُرَى، بَلْ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ رَسُولًا وَاحِدًا، هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ أَنَّا لَوْ شِئْنَا أَرْسَلْنَا إِلَى كُلِّ قَرْيَةٍ بِانْفِرَادِهَا رَسُولًا، وَلَكِنْ لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ لِيَكُونَ الْإِرْسَالُ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فِيهِ الْإِظْهَارُ لِفَضْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ، بِإِعْطَائِهِ مَا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ عُمُومَ رِسَالَتِهِ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ، مِمَّا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ.
وَأَقْرَبُ الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَنَا، هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، أَيْ لِكُلِّ أُمَّةِ نَبِيٌّ، فَلَسْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ.
وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا كَثْرَةُ إِتْيَانِ مِثْلِهِ فِي الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (16 \ 36)، وَقَوْلِهِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ وَقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ وَعَلَيْهِ فَالْحِكْمَةُ فِي الْإِخْبَارِ بِأَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ نَبِيًّا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَجِبُوا مِنْ إِرْسَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ (10 \ 2)، وَقَوْلِهِ: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ (50 \ 2)، وَقَوْلِهِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ إِنْذَارَهُ لَهُمْ لَيْسَ بِعَجَبٍ وَلَا غَرِيبٍ لِأَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مُنْذِرًا، فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ (46 \ 9)، وَقَوْلِهِ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ (4 \ 163)، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ... الْآيَةَ.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ الْفَرَحَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ دَلِيلُ الْإِيمَانِ.
وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ (2 \ 121)، وَقَوْلُهُ: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ... الْآيَةَ (17 \ 107).
وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ -إِلَى أَنْ قَالَ- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ (98 \ 1 - 6)، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْثَرُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (3 \ 110).
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، فَهِيَ فِي خُصُوصِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَكَالثَّمَانِينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنَ النَّصَارَى الْمَشْهُورِينَ، كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ التَّبْعِيضُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ... الْآيَةَ (3 \ 199).