الباب الحادي والخمسون:
في ذِكْرِ الغِنَى وحُبِّ المال والافتخار بجمعه
قال الله تعالى:
( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ).
وقيل:
الفقر رأس كل بلاء وداعية إلى مقت الناس وهو مع ذلك مسلبة للمروءة مذهبة للحياء فمتى نزل الفقر بالرجل لم يجد بُدَّاً من ترك الحياء ومَنْ فقد حياءُه فقد مُروءَته ومَنْ فقد مروءَته مُقِتَ ومّنَ مُقِتَ ازدُرِيَ به ومَنْ صار كذلك كان كلامه عليه لا له.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
( إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ).
وفي الحديث:
( لا خير فيمَنْ لا يُحِبُّ المال ليصل به رحمه ويؤدِّي به أمانته ويستغني به عن خلق ربه ).
وقال عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ تعالى وجهه:
الفقر الموت الأكبر.
وقد استعاذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكُفر والفقر وعذاب القبر.
وقيل:
مَنْ حفظ دنياه حفظ الأكرمين دينه وعِرْضَه.
قال الشاعر
( لا تلمني إذا وقيت الأواقي ... بالأواقي لماء وجهي واقي )
وقال لقمان لابنه:
يا بني أكلت الحنظل وذقت الصبر فلم أر شيئاً أمَرُّ من الفقر، فإن افتقرت فلا تحدث به الناس، كيلا ينتقصوك، ولكن اسأل الله تعالى من فضله، فمَنْ ذا الذي سأل اللهَ فلم يُعطِهِ أو دَعَاهُ فلم يُجبهُ أو تضرَّع إليه فلم يكشف ما به.
وكان العباس رضي الله تعالى عنه يقول:
الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع للشمس وهو عندهم أعذب من الماء وأرفع من السماء وأحلى من الشهد وأزكى من الورد خطؤه صواب وسيئاته حسنات وقوله مقبول يرفع مجلسه ولا يُمل حديثه، والمُفلس عند الناس أكذب من لمعان السراب وأثقل من الرصاص لا يُسأل عليه إن قدم ولا يُسلّم عنه إن غاب وإن حضر أردوه وإن غاب شتموه وإن غضب صفعوه، مصافحته تنقض الوضوء وقراءته تقطع الصلاة.
وقال بعضهم:
طلبت الراحة لنفسي فلم أجد لها أروح من ترك ما لا يعنيها وتوحشت في البرية فلم أر وحشة أقر من قرين السوء وشهدت الزحوف وغالبت الأقران فلم أر قريناً أغلب للرجل من المرأة السُّوء ونظرت إلى كل ما يُذلُّ القوي ويكسره فلم أر شيئاً أذلَّ له ولا أكبر من الفاقة.
( وكل مقل حين يغدو لحاجة ... إلى كل ما يلفى من الناس مذنب )
( وكانت بنو عمي يقولون مرحبا ... فلما رأوني معدما مات مرحب )
وقال آخر:
( المال يرفع سقفا لا عماد له ... والفقر يهدم بيت العز والشرف )
وقال آخر:
( جروح الليالي ما لهن طبيب ... وعيش الفتى بالفقر ليس يطيب )
( وحسبك أن المرء في حال فقره ... تحمقه الأقوام وهو لبيب )
( ومن يغترر بالحادثات وصرفها ... يبت وهو مغلوب الفؤاد سليب )
( وما ضرني إن قال أخطأت جاهل ... إذا قال كل الناس أنت مصيب )
وقال آخر:
( الفقر يزري بأقوام ذوي حسب ... وقد يسود بغير السيد المال )
وقال آخر:
( لعمرك إن المال قد يجعل الفتى ... سنبلاً وأن الفقر بالمرء قد يزري )
( وما رفع النفس الدنية كالغنى ... ولا وضع النفس النفيسة كالفقر )
وقال آخر:
( إذا قل مال المرء لانت قناته ... وهان على الأدنى فكيف الأباعد )
وقال ابن الأحنف:
( يمشي الفقير وكل شيء ضده ... والناس تغلق دونه أبوابها )
( وتراه مبغوضا وليس بمذنب ... ويرى العداوة لا يرى أسبابها )
( حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة ... خضعت لديه وحركت أذنابها )
( وإذا رأت يوما فقيرا عابرا ... نبحت عليه وكشرت أنيابها )
وقال آخر:
( فقر الفتى يذهب أنواره ... مثل اصفرار الشمس عند المغيب )
( والله ما الإنسان في قومه ... إذا بلي بالفقر إلا غريب )
وقال آخر:
( إن الدراهم في الموطن كلها ... تكسو الرجال مهابة وجمالا )
( فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... وهي السلاح لمن أراد قتالا )
وقال آخر:
( ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فكلما انقلبت يوما به انقلبوا )
( يعظمون أخا الدنيا فان وثبت ... يوما عليه يما لا يشتهي وثبوا )
وقال بعض الفُرس:
مَنْ زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كذَّاب.
وقال الكناني
( أصبحت الدنيا لنا عبرة ... فالحمد لله على ذلكا )
( قد أجمع الناس على ذمها ... وما أرى منهم لها تاركا )
وقال الزمخشري:
( وإذا رأيت صعوبة في مطلب ... فاحمل صعوبته على الدينار )
( وابعثه فيما تشتهيه فإنه ... حجر يلين قوة الأحجار )
قال الثوري رحمه الله تعالى:
لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى لئيم.
وفي هذا المعنى قال الشاعر:
( احفظ عرى مالك تحظى به ... ولا تفرط فيه تبقى ذليل )
( وإن يقولوا باخل بالعطا ... فالبخل خير من سؤال البخيل )
( واحفظ على نفسك من زلة ... يرى عزيز القوم فيها ذليل )
وأما ما جاء في الاحتراز على الأموال:
فقد قالوا ينبغي لصاحب المال أن يحترز ويحتفظ عليه من المطمعين والمبرطحين والمحترفين والموهمين والمتنسمين.
فأما المطمعون:
فهم الذين يتلقون أصحاب الأموال بالبشر والإكرام والتحية والإعظام إلى أن يأنسوا بهم ويعرفوهم بالمشاهدة وربما قضوا ما قدروا عليه من حوائجهم إلى أن يألفوهم ويحصل بينهم سبب الصداقة ثم إن أحدهم يذكر لصاحب المال في معرض المقال أنه كسب فائدة كثيرة في معيشته ثم يمشي معه في الحديث إلى أن يقول إني فكرت فيما عليك من المؤن والنفقات وهذا أمر يعود ضرره في المستقبل إن لم تساعد بالمكاسب وغرضي التقرب إليك ونصحك وخدمتك وأريد أن أوجه إليك فائدة من المتجر بشرط أن لا أضع يدي لك على مال بل يكون مالك تحت يدك أو تحت يد أحد من جهتك.
ويخرج له في صفة الناصحين المشفقين فإذا أجابه إلى ذلك كان أمره معه على قسمين أن ائتمنه وجعل المال بيده أعطاه اليسير منه على صفة أنه من الربح وطاول به الأوقات ودفع إليه في المدة الطويلة الشيء اليسير من ماله ثم يحتج عليه ببعض الآفات ويدعي الخسارة فإن لزمه صاحب المال قابحه وبرطل من جملة المال صاحب جاه فيدفعه ويقول هذا راباني فإن روعي صاحب المال وفق بينهما على أن يكتب عليه ببقية المال وثيقة فلا يستوفي ما فيها إلا في الآخرة وإن هو لم يأتمنه وعوَّل أن يكون القبض بيده والمتاع مخزوناً لديه واطأ عليه البائعين والمشترين وحصل لنفسه وعمل ما يقول به فان حصل لصاحب المال أدنى ربح أوهمه أن مفاتيح الأرزاق بيده وإن كسد المشترى او رخص أحال الأمر على الأقدار وقال ليس لي علم بالغيب.
ومن أشد المطمعين المتعرضون لصنعة الكيمياء وهم الطماعون المطمعون في عمل الذهب والفضة من غير معدنها فيجب أن يحذر التقرب منهم والاستماع لهم في شيء من حديثهم فإن كذبهم ظاهر وذلك أنهم يوهمون الغير أنهم ينيلونهم خيرا ويطلعونهم على صنعتهم ابتداء منهم لا لحاجة وهذا يستحيل ويحتجون بأن ما يلجئهم إلى ذلك إلا عدم الإمكان وتعذر المكان فمنهم من يكون شوقه إلى أن يدخل إلى مكان ويترك عنده عدة لها قيمة فيأخذها وينسحب ومنهم من يشترط أن عمله لا ينتهي إلى مدة فيقنع في تلك المدة بالأكل غدرة وعشية وسبيله بعد ذلك إن كان معروفا قال فسد علي العمل من جهة كيت وكيت ويقول للذي ينفق عليه هل لك في المعاودة فان حمله الطمع ووافقه كان هذا له أتم غرض ثم يحتال آخر المدة على الفراق بأي سبب كان وإن كان منكورا غافل صاحب المكان وخرج هاربا ومن المطمعين قوم يجعلون في الجبال أمارات من ردم وحجر ويأتون إلى أصحاب الأموال ويقولون إنا نعرف علم كنز فيه من الإمارات كيت وكيت ثم يوقفونهم على ورقة متصنعة ويقولون نريد أن تأخذ لنا عدة تنفق علينا ومهما حصل من فضل الله تعالى لنا ولك فيوافقهم على ذلك ويوطن نفسه على أن المدة تكون قريبة فيعملون يوما أو يومين فيظهر لهم أكثر الإمارات فيزداد طمعا ويعتقد الصحة ثم يدرجونه إلى أن ينفق عليهم ما شاء الله تعالى ويكون آخر أمرهم كصاحب الكيمياء وإن كانوا منكورين ورغبتهم الطمعة في قماشه أو في العدة التي معه فربما قتلوه هناك لأجل ذلك ومضوا فهذا أمر المطمعين.
وأما المبرطحون:
فهم من الخونة والناس بهم أكثر غرراً وذلك أنهم إذا ندب صاحب المال أحد منهم لشراء حاجة سارع فيها واحتاط في جودتها وتوفير كيلها أو وزنها أو درعها ووضع من أصل ثمنها شيئاً وزنه من عنده حتى يبيض وجهه عند صاحب المال ويعتقد نصحه وأمانته ونجح مساعيه وكذلك إن ندبه لشيء يبيعه استظهر واستجود النقد ولا يزال هكذا دأبه حتى يلقى مقاليد أموره إليه فيستعطفه ويفوز به ثم يغير الحال الأول في الباطن فينبغي لصاحب المال أن لا يغفل عنه.
وأما المحترفون الموهمون:
فهم الذين يتعرضون لذوي الأموال فيظهرون لهم الغنى والكفاية ويباسطونهم مباسطة الأصدقاء ويعتمدون جودة اللباس ويستعملون كثيرا من الطيب ثم إن أحدهم يذكر أنه يربح الأرباح العظيمة فيما يعانيه ويذكر ذلك مع الغير ولا يزال كذلك حتى يثبت ويستقر في ذهن صاحب المال أنه يكتسب في كل سنة الجمل الكثيرة من المال وأنه لا يبالي إذا أنفق أو أكل أو شرب فتشره نفس صاحب المال لذلك فيقول له على سبيل المداعبة يا فلان تريد الدنيا كلها لنفسك.
لم لا تشركنا في متاجرك هذه وأرباحك ؟ فيقول له أنت جبان يعز عليك إخراج الدينار وتظن أنك إن أظهرته خطف منك ولا تدري أنه مثل البازي إن أرسلته أكل وأطعمك وإن أمسكته لم يصد شيئا واحتجت إلى أن تطعمه وإلا مات وأنا والله لو كان عندي علم أنك تنبسط لهذا كنت فعلت معك خيرا كثيرا ولكن ما كان إلا هكذا وما كان لا كلام فيه والعمل في المستأنف فيشكره صاحب المال ويسأله أخذ المال فيمطله بتسليمه فيزداد فيه رغبة إلى أن يسلمه إليه فيكون حاله كحال المطمع إذا صار المال تحت يده.
وأما المتنسمون:
فهم أهل الرياء المظهرون التعفف والنسك ومجانبة الحرام ومواظبة الصلاة والصيام لكي يشتهر ذكرهم عند الخاص والعام ثم يلقون ذوي الأموال بالبشر والإكرام والتلطف في المقال ويمشون إلى أبواب الملوك على صفة التهاني بالأعياد وربما يأتي معه بأحد من الأولاد ويظهرون النزاهة والغنى ويجعلون الدين سلما إلى الدنيا وأكثر أغراضهم أن تودع عندهم الأموال وتفوض إليهم الوصايا ويجلهم العوام وتقبل شهادتهم الحكام وتندبهم الملوك إلى الوصايا والأموال وهؤلاء أشر من اللصوص والقطاع وذلك أن شهرة اللصوص والقطاع تدعو إلى الاحتراز منهم وتشبه هؤلاء بأهل الخير يحمل الناس على الاغترار بهم.