سعاد: قصة كل يوم تعاد Untit398
سعاد: قصة كل يوم تعاد
بقــلم: فدوى رضــــوان
غفر الله لها ولوالديها وللمسلمين

حلَّ المساء حاملًا معه بردَ ليلة شتوية قاسية، وكانت الحاجَّة سعاد قد مشت كثيرًا خلال اليوم مما زاد خطواتها البطيئة بطئًا، قرَّرت أن تجلس على زاوية الرصيف، وتسند ظهرها المقوَّس الذي حَنَتْه السنون إلى الجدار، بَدَتْ ثيابُها رثَّةً مُهلهلةً خفيفةً لا تكفي لدرء برد الشتاء، ولم تنتعل حذاءً؛ بل نعلًا مفتوحًا من الأمام قد أنهكه السير طويلًا، فبدَتْ أصابعُها الهزيلة المتعبة مكشوفةً، وتكاد تُلامِس بلاط الرصيف، بَدَتْ عيناها غائرتين أكثر من أي وقت، والجفاف كان جليًّا على بشرتها المتعبة، كل ما أكلته خلال يومها شطيرة من أحد المحلات، تَصَدَّق بها صاحبُ المحل عليها، وقال لها ادعي لي يا خالة.

لو كانت الحاجَّة سعاد في منزلها في هذا الوقت، لكانت تستعدُّ للنوم على فراشها النظيف بثيابها النظيفة بعد أن أنهت صلاة العشاء، وأمضت يومًا في رعاية أسرتها؛ ولكنها الآن بعد وفاة زوجها وتقاسُم الأبناء الميراثَ وزواجهم وانفصالهم عنها، لم يَعُدْ لها بيتٌ، صار لها برنامج إقامة بالتناوُب عند أولادها، كل ولد يستضيفها أسبوعًا.

كان الأمر جيدًا في البداية؛ ولكن مع التكرار بَدَتْ الكنات بالتثاقُل من دورها عندهن، وصِرْنَ يبثُثْنَ شكواهن لأزواجهن عن السيدة سعاد أُمهم التي أنجبتهم وربَّتهم.

بدأت تتوجَّه ملاحظات للسيدة سعاد باستمرار: هذه المنشفة لكِ، لا تستعملي غيرها، وهذه الوسادة لكِ، لا تُبْدليها مع الأولاد، وهذه الغرفة لدراسة الأولاد، لا تجلسي فيها، وأنا ذاهبةٌ لزيارة أبي المريض، فيا ليتكِ تذهبين إلى ابنكِ الصغير خلال هذين اليومين، وعندما تذهب الحاجَّة سعاد إلى الابن الصغير ترى الوجوه مكفهرَّةً منها، وتبدأ الكنة الصغرى باستكمال فصول مسرحية الطَّرْد غير المباشر، واختلاق حواجز؛ لمنع استمرارها عندها، وتذكيرها بأنها يجب أن تزور إخوتها؛ فهي رحم لهم أيضًا، وهكذا تمضي الأيام.

إلى أن جاء هذا اليوم الذي غادرت فيه الحاجة سعاد بيوت الجميع، وظلت في الشارع وهي لا تملك هاتفًا نقَّالًا حتى يستطيع أحد الاتِّصال بها وتفقُّدها، لا تملك شيئًا من هذا العالم المادي المزيَّف، وجدت نفسها في نهاية اليوم على رصيف بارد؛ ولكنه أدفأ من البرد الذي يسري في قلبها وعواطفها.

في تلك اللحظة بدأت تقترب منها خطوات نسائية لطيفة، لم ترفع الحاجة سعاد رأسها لترى من يقترب منها؛ فالهزيمة والانكسار داخلها أفقداها انتظارَ أي شيء، اقتربت منها شابَّةٌ تبدو على وجهها الطيبة والنقاء، وسلَّمت عليها، نظرت الحاجَّة سعاد إليها ولم ترد، سألتها الشابَّة: يا خالة، لماذا تجلسين هنا؟ هل أضعت البيت؟ هل تحتاجين أن أوصلك بالسيارة؟ هل تحتاجين إلى نقود؟

لم يكن عند الحاجة سعاد رغبة في الإجابة، كرَّرَتِ الشابَّةُ السؤال: يا خالة، قولي لي أي شيء، لماذا تجلسين هنا؟!

وهنا بدأت الحاجة سعاد نوبة بكاء شديدة، أخبرتها فيها كيف طَرَدَها أولادُها من بيوتهم بشكل غير مباشر، وهي الآن دون مأوى، ولم يسألوا عنها، طبطبت الشابة على كتف الحاجة سعاد وظهرها، واحتضنَتْها بحنانٍ، وقالت لها: دعيني أتصرَّف؛ بدأت بالاتصال بدارٍ لإيواء المسنِّين وشرحت لهم حرج وضرورة الموقف، فاعتذروا؛ لأن النُّزلاء عندهم ليسوا بالمجان؛ فهم ليسوا جمعية خيرية، اتصلت بمَنْ يمكنه مساعدتها لإيواء الحاجة سعاد في جمعية خيرية، فكان الردُّ أن الوَضْع الاقتصادي صعبٌ، والدعم قليل، وليس بالإمكان تقديم أي خدمة، بقي حَلٌّ واحدٌ أمام هذه الشابة؛ وهو أن تستضيف الحاجة سعاد في منزلها؛ ولكن ذلك غير ممكن؛ لأن والدتها من المحسوبات على الفئة المترفة، وسوف ترفض دخولها البيت.

جلست الشابة بجانب السيدة العجوز، وأسندت ظهرها إلى نفس الحائط، وأمسكت بيديها الباردتين، وصارت تفركهما بكفَّيها، رنَّ هاتفها فإذا بوالدها يسألها: أين أنت يا بنتي؟
فقالت له: في الشارع، أجلس على الرصيف.
قال لها: ليس هذا وقت المزاح.
قالت له: أقول الحقيقة يا أبي، والتقطت صورة لها مع الحاجة سعاد، وأرسلتها إليه.
قال لها: فسِّري لي هذا الموقف.
قالت له: تعالَ خُذْني وخُذْها يا أبي.

(القصة حقيقية بتصرُّف)

رابط الموضوع:
https://www.alukah.net/literature_language/0/132670/#ixzz60VBhWjlU