نبوغ العميان Aoi_aa10
نبوغ العميان
الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

عَقيل بن أبي طالب أبو يزيد الهاشمي أخو علي -رضي الله عنهما- قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أبا يزيد، إنّي أحبّك حبَّين: حبًّا لقرابتك منّي، وحبًّا لما كنت أعلم من حبّ عمّي إيَّاك) (1).

قدم البصرة ثمَّ أتى الكوفة ثمَّ الشَّام، وتوفي في خلافة معاوية وله دار بالمدينة مذْكورة، وكان قد أخرج إلى بدْرٍ مكْرهًا ففداه عمّه العبَّاس، ثمَّ إنَّه أتى مسلمًا قبل الحديْبية وشهد غزوة مؤتة، وتوفِّي في حدود الخمسين وقد أضرَّ بصره، وروى له النَّسائي وكان أسنَّ من أخيه جعفر بعشر سنين، وجعفر أسنّ من عليّ بعشر سنين.

وكان عَقيل أنسب قريش وأعلمهم بأيَّامهم، ولكنَّه كان مبغَّضًا إليْهم؛ لأنَّه كان يعدّ مساوئهُم، وكانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلِّي عليها، ويجتمع إليْه في علم النَّسب وأيَّام العرب، وكان أسرع النَّاس جوابًا، وأحضرهم مراجعة في القول، وأبلغهم في ذلك.

وكان الَّذين يتحاكم إليْهِم ويوقف عند قولِهم في علم النَّسب أربعة: عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل الزُّهري وأبا جهم بن حذيفة العدوي وحويطب بن عبدالعزى، وعقيل أكثرهم ذكرًا لمثالب قريْش، فعادَوه بذلك وقالوا فيه الباطل، ونسبوه إلى الحُمق واختلقوا عليه أحاديث مزوَّرة، وكان ممَّا أعانَهم عليه في ذلك مغاضبته لأخيه عليّ وخروجه إلى معاوية وإقامته معه.

وقال معاوية يومًا بحضرته:
هذا أبو يزيد لوْلا علمه بأنِّي خيرٌ له من أخيه لما أقام عندنا وتركه، فقال عقيل: أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرت دنياي وأسأل الله خاتمة خير.

ولمَّا التحق عَقيل بمعاوية بالغ في إكرامه إرْغامًا لعلي، فلمَّا قُتِل عليّ واستقلَّ معاوية بالأمر ثقل عليه أمر عقيل، فكان يسمعه ما يكره لينصرف عنه، فبيْنما هو يومًا في مجلس حفل بأعيان النَّاس من الشَّاميين إذ قال معاوية: أتعرِفون أبا لهب الَّذي أنزل الله في حقِّه: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ (المسد: 1) مَن هو؟ فقال أهل الشَّام: لا، فقال معاوية: هو عمّ هذا، وأشار إلى عقيل، فقال عقيل: أتعرفون امرأتَه الَّتي قال الله في حقِّها: ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ (المسد: 4) مَن هي؟ فقالوا: لا، فقال عقيل: هي عمَّة هذا وأشار إلى معاوية، وكانت عمَّته أم جميل بنت حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف هي زوْجة أبي لهب عبدالعزى.

ويَحسن أن نذكر هنا بعضًا من مشاهير العميان سواء مَن وُلِد أعمى أو حصل له العمى بعد ذلك.
فمِن الصحابة -رضي الله عنهم-:
البراء بن عازب، جابر بن عبدالله، حسان بن ثابت، الحكم بن أبي العاص، سعد بن أبي وقاص، سعيد بن يربوع، صخْر بن حرب أبو سفيان، العبَّاس بن عبدالمطلب، عبدالله بن الأرقم، عبدالله بن عمر، عبدالله بن العباس، عبدالله بن عمير، عبدالله بن أبي أوْفى، عتبان بن مالك، عتبة بن مسعود الهذلي، عثمان بن عامر أبو قحافة، عقيل بن أبي طالب، عمرو بن أم مكتوم، قتادة بن النعمان، كعب بن مالك، مالك بن ربيعة، أبو أسيد الساعدي، مخرمة بن نوفل.

ومن التَّابعين:
عطاء بن أبي رباح، أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، قتادة بن دعامة، أبو عبدالرحمن السُّلمي، أبو هلال الراسبي (2).

وعن قتادة بن النّعمان قال:
أُهْدي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوسٌ فدفعها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إليَّ يوم أحُد فرميت بها بين يدَي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتَّى اندقَّت ولم أزل عن مقامي نصب وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألقى السهام، وكلما مال سهم منها إلى وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استقبلته، فكان آخرها سهمًا ندرت منه حدقتي على خدّي، وافترق الجمع، فأخذت حدقتي بكفّي فسعيت بها في كفّي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كفّي دمعت عيناه فقال: اللهُمَّ إنَّ قتادة فدى وجْه نبيِّك بوجهِه، فاجعلها أحسن عينيْه وأحدَّهما نظرًا، فكانت أحسن عيني وأحدَّهما نظرًا.

وقال في ذلك الخرنق الأوسي:
وَمِنَّا الَّذِي سَالَتْ عَلَى الخَدِّ عَيْنُهُ
فَرُدَّتْ بِكَفِّ المُصْطَفَى أَحْسَنَ الرَّدِّ
فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ لأَحْسَنِ حَالِهَا
فَيَا طِيبَ مَا عَيْنٍ وَيَا طِيبَ مَا يَدِ

قال صلاح الدين الصفدي في "نكت الهميان":
أميَّة بن الأشكر الكناني:
من بني ليث، الصَّحابي -رضي الله عنه- شاعر مخضرَم كان من سادات قومِه، وكان له ابنٌ اسمه كلاب، اكتتب نفسَه في الجند الغازي مع أبي موسى الأشعري في خلافة عمر -رضي الله عنه- فاشتاقه أبوه وكان قد أضرَّ فأخذ قائده بيدِه ودخل به على عمر وهو في المسجد...

فأنشده أمية:
أَعَاذِلَ قَدْ عَذَلْتِ بِغَيْرِ قَدْرٍ        وَمَا تَدْرِينَ عَاذِلَ مَا أُلاقِي
فَإِمَّا كُنْتِ عَاذِلَتِي فَرُدِّي        كِلابًا إِذْ تَوَجَّهَ لِلعِرَاقِ
فَتَى الفِتْيَانِ فِي عُسْرٍ وَيُسْرٍ        شَدِيدُ الرُّكْنِ فِي يَوْمِ التَّلاقِ
فَلا وَأَبْيكَ مَا بَالَيْتَ وَجْدِي        وَلا شَغَفِي عَلَيْكَ وَلا اشْتِيَاقِي
وَإِيقَادِي عَلَيْكَ إِذَا شَتَوْنَا        وَضَمَّكَ تَحْتَ نَحْرِي وَاعْتِنَاقِي
فَلَوْ فَلَقَ الفُؤَادَ شَدِيدُ وَجْدٍ        لَهَمَّ سَوَادُ قَلْبِي بِانْفِلاقِ
سَأَسْتَعْدِي عَلَى الفَارُوقِ رَبًّا        لَهُ عَمَرَ الحَجِيجُ إِلَى بُسَاقِ
وَأَدْعُو اللَّهَ مُحْتَسِبًا عَلَيْهِ        بِبَطْنِ الأَخْشَبَيْنِ إِلَى دُقَاقِ
إِنِ الفَارُوقُ لَمْ يَرْدُدْ كِلابًا        عَلَى شَيْخَيْنِ هَامُهُمَا زَوَاقِ


فبكى عمر -رضي الله عنه- وكتب إلى أبي موسى الأشعري بردّ كلاب إلى المدينة، فلمَّا قدم ودخل عليْه، قال عمر: ما بلغ من برِّك بأبيك؟ قال: كنت أوثره وأكفيه أمرَه، وكنت إذا أردتُ أن أحلب له لبنًا أجيء إلى أغْزَر ناقة في إبله فأريحها وأتركها حتَّى تستقرَّ ثمَّ أغْسل أخلافَها حتَّى تبرد ثمَّ أحلب له فأسقيه، فبعث عمر -رضي الله عنه- إلى أميَّة فجاءه، فدخل عليه وهو يتهادى وقد انحنى، فقال له: كيف أنتَ يا أبا كلاب؟ فقال: كما ترى يا أمير المؤمنين، فقال: هل لك من حاجة؟ قال: نعم، كنت أشتهي أن أرى كلابًا فأشمّه شمَّة وأضمّه ضمَّة قبل أن أموت، فبكى عمر -رضي الله عنه- وقال: ستبلغ في هذا ما تُحبُّ إن شاء الله تعالى، ثمَّ أمر كلابًا أن يحلب لأبيه ناقةً كما كان يفعل ويبعث بلبنِها إليه، ففعل وناوله عمر -رضي الله عنه- الإناء وقال: اشرب هذا يا أبا كلاب، فأخذه فلمَّا أدناه من فيه قال: والله يا أمير المؤمنين إنّي لأشمّ رائحة يدي كلاب، فبكى عمر -رضي الله عنه- وقال: هذا كلاب عندك وقد جئْناك به، فوثب إلى ابنِه وضمَّه وجعل عمر -رضي الله عنه- والحاضرون يبكون وقالوا لكلاب: الزَم أبويك، فلم يزل مقيمًا عندهما إلى أن ماتا، والله أعلم.

قتادة بن دعامة السدوسي:
أبو الخطَّاب الأعمى أحد علماء التَّابعين والأئمة العاملين، روى عن أنس بن مالك وجماعة من التَّابعين، منهم سعيد بن المسيب والبصْري وأبو العالية وزرارة بن أبي أوْفى وعطاء ومجاهد ومحمَّد بن سيرين ومسروق وأبو مجلز وغيرهم، وحدَّث عنه جماعات من الكبار، كأيّوب وحمَّاد بن سلمة وحُميد الطَّويل وسعيد بن أبي عروبة والأعمش وشعبة والأوزاعي ومسعر ومعمر وهمام.

قال ابن المسيب:
ما جاءني عِراقي أفضل منه.

وقال بكر المزني:
ما رأيتُ أحفظ منه.

وقال محمَّد بن سيرين:
هو من أحفظ الناس.

وقال مطر:
كان قتادة إذا سمِع الحديث يأخذه العويل والزَّويل حتَّى يحفظه.

وقال الزُّهري:
هو أعلم من مكحول.

وقال معمر:
ما رأيتُ أفقه من الزُّهري وحماد وقتادة.

وقال قتادة:
ما سمعت شيئًا إلاَّ وعاه قلبي.

وقال أحمد بن حنبل:
هو أحْفظ أهل البصرة لا يسمع شيئًا إلاَّ حفظه، وقُرئتْ عليه صحيفة جابر مرَّة فحفِظَها.

وذُكِر يومًا فأثْنى على عمله وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتَّفسير وغير ذلك (3).

اليمان بن أبي اليمان أبو بشْر البندنيجي:
أصلُه من الأعاجم من الدهاقين، وُلِد أكمه لا يرى الدنيا في سنة 200 هـ وتوفي سنة 284هـ.

نشأ بالبندنيجين، وحفظ هناك أدبًا كثيرًا، وأشعارًا كثيرة، وكان بها أبو الحسن علي بن المغيرة الأثرم صاحب أبي عبيدة يروي كتُبه كلها، وكتب الأصمعي، فلزم أبو بشر ذلك النمط وحفظ من كتب الأثرم علمًا كثيرًا.

قال:
حفِظْت في مجلس واحد مائة وخمسين بيتًا من الشعر، وخرج إلى بغداد وسُرَّ من رأى ولقي العلماء، وقرأ على محمَّد بن زياد الأعرابي، وسمع منه، ولقي أبا نصر صاحب الأصمعي وهو ابن أخته، وحفِظ كتاب الأجناس الأكبر، وكانت لأبي بشر ضياع كثيرة وبساتين خلفها أبوه فباعها، وأنفقها في طلب العلم.

ولقي يعقوبَ بن السكيت ولقي الزيادي والرياشي بالبصرة، وقرأ عليهما من حفظه كتبًا كثيرة، ومِن تصانيفه: كتاب التقفية، كتاب معاني الشعر، كتاب العروض.

ومن شعره:
أَنَا اليَمَانُ بْنُ أَبِي اليَمَانِ
أَسْعَدُ مَنْ أَبْصَرْتُ فِي العُمْيَانِ
إِنْ تَلْقَنِي تَلْقَ عَظِيمَ الشَّانِ
تُلاقِنِي أَبْلَغَ مِنْ سَحْبَانِ
فِي العِلْمِ وَالحِكْمَةِ وَالبَيَانِ


وقد اشتهر عن كثيرٍ من العميان الذَّكاء، منهم:
الحافظ الترمذي، والفقيه منصور المصري الشَّاعر، وأبو العيناء، والشَّاطبي المقرئ، وأبو العلاء المعرّي، والسُّهيلي صاحب "الرَّوض الأنف"، وابن سِيده اللغوي، وأبو البقاء العكبري، وابن الخباز النحوي، والنيلي شارح الحاجبية وغيرهم.

وأورد الميداني في الأمثال: أحفظ من العميان.

هبة الله بن عبدالحليم بن إبراهيم:
شيخ الإسلام، ومفتي الشام، القاضي شرف الدين أبو القاسم بن القاضي نجم الدين بن القاضي الكبير شمس الدين بن الطاهر بن المسلم الجهني الحموي البارزي، قاضي حماة، صاحب التصانيف.

ولد سنة 645 هـ وتوفي سنة 738 هـ، سمع من أبيه وجده وابن هامل، والشيخ إبراهيم بن الأرموي، وتلا بالسَّبع على التاذفي، وأجاز له نجم الدين البادرائي والكمال الضرير والرشيد العطار وعماد الدين الحرستاني، وعزّ الدين بن عبدالسلام، وبرع في الفقه وغيره.

شارك في الفضائل وانتهت إليه الإمامة في زمانه ورُحل إليه، وكان من بحور العلم قوي الذَّكاء مكبًّا على الطلب لا يفتر ولا يملّ مع الصَّون والدين، والفضل والرزانة والخير والتواضع، وكان جم المحاسن كثير الزيارة للصالحين حسن المعتقد اقتنى من الكتب شيئًا كثيرًا.

وأذِن لجماعة بالإفتاء وحكم بحماة دهرًا، ثمَّ إنَّه ترك الحكم وذهب بصره وحجَّ مرَّات، وحدّث بأماكن، وحمل عنه خلق، ولما توفي أغلقت حماة لمشهده.

وله من التصانيف:
تفسيران، وكتاب البديع في القرآن، وشرح الشاطبية، وكتاب الشرعة في السبعة، والناسخ والمنسوخ، ومختصر جامع الأصول، والوفا في شرف المصطفى، والأحكام على أبواب التنبيه وغريب الحديث، وشرح الحاوي أربع مجلدات ومختصر التنبيه والزبدة في الفقه، وكتاب المناسك، وكتاب عروض وغير ذلك.

ووقف كتبه وهي تساوي مائة ألف درهم، وباشر القضاء بلا راتِب لغناه عنه، ولا اتَّخذ درَّة ولا عزَّر أحدًا قط، ولا ركب بمهماز ولا بمقرعة، وعيِّن مرات لقضاء مصر فاستعفى، وكانت جلالته عجيبة مع تواضعه.

وقال صلاح الدين الصفدي بعد أن أوْرد ترجمته:
وقال لي غير واحد: إنَّ الشيخ برهان الدين بن تاج الدين الغزَّاوي شيخ دمشق، كان يقول مع جلالته: وددتُ لو سافرت إلى حماة وقرأت التَّنبيه على القاضي شرف الدين البارزي، وله ما يقرأ معكوسًا "سور حماة بربِّها محروس".

قال الصفدي في "نكت الهميان":
وحكى لي الشيخ يحيى بن محمد الخباز الحموي قال:
كان عندنا في حماة أعمى يعرف بنجم يلعب بالحمام ويصيد الطير الغريب، فاستبعدتُ صيد الطائر الغريب، فقال لي: سألتُه عن ذلك، فقال: إنَّ طيوري أبخرها ببخور أعرفه، وأطيرها، فإذا طارت ونزلت ومعها الطير الغريب هدرتْ حوله فأعرف أنَّ معها غريبًا فأرمي العب (4) على الجميع وآخذها واحدًا بعد واحد فأشمه، فالَّذي ليس فيه شيء من بخوري أعرف أنَّه غريب فأصطاده.

ثم قال الصفدي:
وأما أنا فقد رأيتُ بالديار المصرية إنسانًا يعرف بعلاء الدين بن قيران أعمى، وهو عالية في الشّطرنج يلعب ويتحدَّث وينشد الشِّعْر، ويتوجَّه إلى بيت الخلاء ويعود إلى اللعب ولا يتغيَّر عليه نقل شيء من القطع، وهذا معروف يعرفه أصحابنا في القاهرة.

جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم المتوفى سنة 711 هـ:
هو أنصاري من ولد رويفع بن ثابت الصحابي، سمع من يوسف بن المخيلي وعبدالرحمن بن الطفيل، ومرتضى بن حاتم وابن المقير وطائفة، وقد عمِّر، وأكثروا عنه، كان فاضلاً عنده تشيع بلا رفض، خدم في ديوان الإنشاء بمصر ثم ولي نظر طرابلس، وكتب عنه الشيخ شمس الدين الذهبي، ولد يوم الاثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة 630 هـ وتوفي سنة 711 هـ، وقد ترك بخطِّه خمسمائة مجلد.

قال الصفدي:
وما أعرف في كتُب الأدب شيئًا إلاَّ وقد اختصره، من ذلك كتاب الأغاني الكبير رتَّبه على الحروف مختصرًا، وزهر الآداب للحصْري، واليتيمة، والذَّخيرة، ونشوان المحاضرة، واختصر تاريخ ابن عساكر، وتاريخ الخطيب، وذيل ابن النجَّار عليه، وجمع بين صحاح الجوهري، وبين المحكم لابن سيده، وبين الأزهري في سبع وعشرين مجلدة.

قال الصفدي:
ورأيتُ أنا أوَّلها بالقاهرة، وقد كتب عليه أهل ذلك العصر يقرِّظونه ويصفونه بالحسن، كالشيخ بهاء الدين بن النحَّاس، وشهاب الدين محمود، ومحيى الدين بن عبدالقاهر وغيرهم (5).

واختصر صفوة الصفوة، ومفردات ابن البيطار، وكتاب التيفاشي فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب، اختصره في عشر مجلدات، وسماه سرور النفس.

قال الصفدي:
ورأيت كتاب الصِّحاح للجوهري في مجلَّدة واحدة بخطِّه، في غاية الحسن، ولم يزل يكتب إلى أن أضرَّ وعمِي في آخر عمره، رحمه الله تعالى.

عبدالملك بن إبراهيم المقدسي المتوفى سنة 489 هـ ببغداد:
فقيه زاهد ورع فرضي، كان إمامًا في الفرائض والحساب وقسمة التركات، وإليه مرجع الناس في ذلك، طلبه الوزير أبو شجاع للقضاء فاعتذر بالعجْز وعلوّ السّنّ، وقال: لو كانت ولايتي متقدِّمة لاستعفيتُ منها.

وأنشد:
إِذَا المَرْءُ أَعْيَتْهُ السِّيَادَةُ نَاشِئًا
فَمَطْلَبُهَا كَهْلاً عَلَيْهِ شَدِيدُ


وكان يحفظ "المجمل" لابن فارس و "غريب الحديث" لأبي عبيدة، ولم يعرف أنَّه اغتاب أحدًا قط (6).

قال الصفدي في كتاب "نكت الهميان في أخبار العميان".
محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز:
الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ شمس الدين أبو عبدالله الذهبي، حافظ لا يُجارى، ولافظ لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإيهام في تواريخهم والإلباس، مع ذهن يتوقد ذكاؤه، ويصحُّ إلى الذهب نسبته وانتماؤه، جمع الكثير، ونفع الجم الغفير، وأكثر من التصنيف ووفر بالاختصار مؤنة التطويل في التأليف.

وقف الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني على تاريخه الكبير المسمى تاريخ الإسلام جزءًا بعد جزء، إلى أن أنْهاه مطالعة، وقال: هذا كتاب علم.

اجتمعت به وأخذت عنْه وقرأت عليه كثيرًا من تصانيفه، ولم أجد عنده جمود المحدِّثين ولا كودنة النقلة، بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس ومذاهب الأئمة من السلف، وأرباب المقالات، وأعجبني ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثًا يورده حتى يبيِّن ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد أو طعن في رواة، وهذا لم أر غيره يعاني هذه الفائدة فيما يورده، توفِّي -رحمه الله- ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة سنة 748 هـ ودفن في مقابر باب الصغير.

أخبرني العلامة قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي السُّبكي الشَّافعي قال:
عُدته ليلة مات فقلت له: كيف تجِدك؟ فقال: في السياق، وكان قد أضرَّ -رحمه الله تعالى- قبل موته بأربع سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، فكان يتأذَّى ويغضب إذا قيل له: لو قدحت هذا رجع إليْك بصرك، ويقول: ليس هذا بماء وأنا أعرف بنفْسي؛ لأنَّني ما زال بصري ينقص قليلاً قليلاً إلى أن تكامل عدمه.

وأخبرني عن مولده فقال:
في ربيع الآخر سنة 673 هـ، وارتحل وسمع بدمشق وبعلبكَّ وحمص حماة وحلب وطرابلس ونابلس والرملة وبلبيس والقاهرة والإسكندرية والحجاز والقدس وغير ذلك.

ومن تصانيفه:
"تاريخ الإسلام" -وقد قرأت منه عليه المغازي والسيرة النبوية إلى آخِر أيام الحسن رضي الله عنه، وجميع الحوادث إلى آخر سنة 700 هـ- والثَّلاثين البلدية ومن تكلِّم فيه وهو موثق -وقد كتبتُهما بخطي وقرأتهما عليه- وتاريخ النبلاء والدول الإسلامية، وطبقات القراء- وسمَّاه القرَّاء الكبار على الطبقات والأعصار.

تناولته منه وأجازني روايته عنه وكتبتُ عليه:
عَلَيْكَ بِهَذِهِ الطَّبَقَاتِ فَاصْعَدْ        إِلَيْهَا بِالثَّنَا إِنْ كُنْتَ رَاقِ
تَجِدْهَا سَبْعَةً مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ        كَنَظْمِ الدُّرِّ فِي حُسْنِ اتِّفَاقِ
تُجَلِّي عَنْكَ ظُلْمَةَ كُلِّ جَهْلٍ        بِهِ أَضْحَى مَقَالُكَ فِي وَثَاقِ
فَنُورُ الشَّمْسِ أَحْسَنُ مَا تَرَاهُ        إِذَا مَا لاحَ فِي السَّبْعِ الطِّبَاقِ


وطبقات الحفاظ مجلدان، وميزان الاعتدال في الرجال في ثلاثة أسفار، وكتاب المشتبه في الأسماء والأنساب مجلد، نبأ الرجال مجلد، تذهيب التهذيب، اختصار تهذيب الكمال للشيخ جمال الدين المزي، واختصار كتاب الأطراف أيضًا للمزي، والكاشف اختصار التذهيب، اختصار السنن الكبير للبيهقي، تنقيح أحاديث التعليق لابن الجوزي، المستحلى في اختصار المحلى، المقتنى في الكنى، المغني في الضعفاء، العبر في خبر من غبر مجلدان، اختصار تاريخ نيسابور مجلد، اختصار المستدرك للحاكم، اختصار تاريخ ابن عساكر في عشرة أسفار، اختصار تاريخ الخطيب مجلدان، الكبائر جزآن، تحريم الإدبار جزآن، أخبار السد، أحاديث مختصر ابن الحاجب، تدقيق أهل التَّوفيق على مناقب الصديق، نعم السمر في سيرة عمر، التبيان في مناقب عثمان، فتح المطالب في أخبار علي بن أبي طالب -وقرأتُه عليه من أوَّله إلى آخره- معجم أشياخه وهم ألف وثلاثمائة شيخ، اختصار كتاب الجهاد لبهاء الدين بن عساكر، ما بعد الموت مجلد، اختصار كتاب القدر للبيهقي ثلاثة أجزاء، هالة البدر في عدد أهل بدْر، اختصار تقويم البلدان لصاحب حماة، نفض الجعبة في أخبار شعبة، قض نهارك بأخبار ابن المبارك، أخبار أبي مسلم الخراساني، وله في تراجم الأعيان لكل واحد مصنف قائم الذات مثل الأئمَّة الأربعة ومَن جرى مجراهم، لكنَّه أدخل الكلَّ في تاريخ النبلاء، وقد أجازني رحِمه الله -تعالى- رواية جميع ما يجوز له تسميعه.

أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي:
أحد الأئمة الأعلام صاحب السُّنن المعروفة المشهور، إحدى الكتب الستَّة، كان ضريرًا، ويقال: بل كان أكمه، وله من المؤلفات غيرها الشمائل، وأسماء الصَّحابة، والعلل.

قال أبو يعلى الخليل بن عبدالله الخليلي القزويني في كتابه علوم الحديث:
محمد بن عيسى بن سورة بن شدَّاد الحافظ متَّفق عليه، له كتاب في السنن، وكتاب في الجرح والتعديل، وروى عنه أبو محبوب والأجلاَّء، وهو مشهور بالأمانة والإمامة والعلم.

قال الترمذي:
صنَّفت هذا المسند الصَّحيح وعرضته على علماء الحجاز، فرضوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته خراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب، فكأنما في بيته نبي ينطق.

أبو البقاء عبدالله بن الحسين بن عبدالله العكبري الضرير:
النحوي الحنبلي، صاحب إعراب القرآن العزيز، وكتاب اللباب في النحو، وله حواشٍ على المقامات، ومفصَّل الزمخشري وديوان المتنبي وغير ذلك، وله في الحساب وغيره، وكان صالحًا دينًا، مات وقد قارب الثمانين.

وكان إمامًا في اللغة، فقيهًا مناظرًا، عارفًا بالأصلين والفقه (7).

أبو القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير:
مصنِّف الشاطبية في القراءات السبع التي لم يُسبق إليها ولا يلحق فيها.

وبلده شاطبة في الأندلس، وقد أريد منه أن يلي الخطابة، فامتنع من ذلك لأجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصْف الملوك، خرج إلى الحج وقدم الإسكندرية فولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته، وزار القدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة فكانت وفاته بها، وكان دينًا ورعًا وقورًا، لا يتكلَّم فيما لا يعنيه (8).

قال صلاح الدين الصفدي في كتابه (نكت الهميان في نكت العميان):
محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل:
القاضي جمال الدين قاضي حماة الشافعي الحموي، أحد الأئمَّة الأعلام، ولد بحماة ثاني شوال سنة 604 هـ وعمر دهرًا طويلاً وتوفي سنة 697 هـ، وبرع في العلوم الشرعية والعقلية، والأخبار وأيام الناس، وصنف ودرس وأفتى واشتغل وبعد صيتُه واشتهر اسمه.

وكان من أذكياء العالم، ولي القضاء مدة طويلة وحدَّث عن الحافظ زكي الدين البِرزالي بدمشق وبحماة، وتخرج به جماعة، وما زال حريصًا على الاشتغال، وغلب عليه الفكر إلى أن صار يذهب عن أحوال نفسه وعمَّن يجالسه، ولما مات رحمه الله -تعالى- يوم الجمعة رابع عشر شوال من السنة المذكورة، توفي عن عمر يبلغ 94 سنة.

وصنف في الهيئة وله تاريخ، واختصر الأغاني.

قال صلاح الدين الصفدي:
وملكتُ باختصاره نسخة عظيمة إلى الغاية في ثلاثة مجلدات، وخطُّه عليها بعدما أضرَّ، وهي كتابة مَن قد عمي رحمه الله، وله مختصر الأربعين، وشرح المرجز للأفضل الخونجي، وشرح الجمل له، وهداية الألباب في المنطق، وشرح قصيدة ابن الحاجب في العروض والقوافي، والبارع الصالي، ومختصر الأدوية لابن البيطار.

وقيل إنَّه جهزه بعض ملوك مصر (أظنه الصالح) إلى الأنبرور ملك الفرنج في الرسيلة، فتلقاه وعظَّمه وأحضر له الأرغل يومًا وضرب به قدَّامه، وأراد بذلك ليستخفَّه فيقال: إنَّه ما تحرَّك ولا اهتزَّ وثبت وما أظهر لهم خفَّة لذلك ولا طربًا، إلاَّ أنَّه لمَّا قام وجدوا تحتَه نقط دم، يقال: إنَّه بقي يحكُّ كعبيْه في الأرض إلى أن أدماها، فعظم أمره عند الأنبرور، ثم قال له: يا قاضي، أنا ما عندي ما أسألك عنه لا فقه ولا عربيَّة، وسأله ثلاثين سؤالاً من علم المناظر فبات تلك الليلة وصبَّحه بالجواب عنْها، فصلب الأنبرور على وجهه، وقال: هكذا يكون قسيس المسلمين؛ لأنَّ القاضي لم يكن معه كتب في تلك السفرة، وإنَّما أجابه عن ظهر قلب.

وله أيضًا كتاب: "مفرج الكروب في دولة بني أيوب"، وغير ذلك، وقيل إنه كان يُشغل في حلقته في ثلاثين علمًا، وحضر حلقته نجم الدين دبيران الكاتبي المنطقي، وأورد عليه إشكالاً في المنطق، وحكى لي عنه الإمام البارع شمس الدين بن الأكفاني غرائبَ عن حفظه وذكائه.

وحكى لي الحكيم السديد الدمياطي اليهودي قال:
جاء ليلةً إليَّ عند الشيخ علاء الدين بن النفيس في بعض سفراته إلى القاهرة، ونام عنده تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة وانفتح بينهما باب البحث، فلم يزالا إلى أن طلع الضَّوء والشَّيخ علاء الدين يبحث معه من غير انزعاج، والقاضي جمال الدين بن واصل يحتد في البحث، ويحمارّ وجهه، فلما طلع الضوء التفت إلى الشيخ علاء الدين، وقال له: يا شيخ علاء الدين، نحن عندنا نكت ومسائل وأطراف، وأما خزائن علم هكذا فما عندنا.

وحكى لي العلامة أثير الدين أبو حيان قال:
قدم عليْنا القاهرة مع المظفر فسمعت منه وأجاز لي رواياته ومصنَّفاته، وذلك بالكبش من القاهرة يوم الخميس التاسع والعشرين من المحرم سنة تسعين وستمائة، وهو مِن بقايا من رأيناه من أهل العِلْم الذين ختمت بهم المائة السابعة.
------------------------------------------------------
(1) أخرجه الحاكم (3/576).
(2) انظر نكت الهميان في نكت العميان، لصلاح الدين الصفدي.
(3) توفي بواسط سنة 117هـ وعمره ست وخمسون سنة.
(4) العب: عصا طويلة في أحد طرفيها دائرة فيها شبكة ترمى على الطائر فيمسكه.
(5) وهذا الكتاب هو لسان العرب.
(6) نكت الهميان في نكت العميان.
(7) توفي سنة 616 هـ.
(8) وفاته سنة 590 هـ.


رابط الموضوع:
https://www.alukah.net/web/fayad/0/24563/#ixzz5qCAdMpVC