فالمحظورات:
الطيب
أولاً: الطيب، فلا يجوز للإنسان بعد نية الإحرام أن يتطيب، والدليل على ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الرجل الذي وقصته ناقته، قال النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: (لا تحنطوه) أي: لا تجعلوا فيه طيباً، لأن الحنوط أخلاط من الطيب يطيب بها الميت، وهذا دليل على أنه لا يجوز للإنسان بعد نية الإحرام أن يتطيب، ولكنه قبل نية الإحرام يتطيب، وإذا بقي الطيب بعد نية الإحرام فلا حرج عليه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كنت أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وهو محرم) فإذا قال قائل: ما تقولون فيما إذا تطيب الإنسان قبل الإحرام وبقي الطيب ومسه الإنسان، أي: مس الطيب لغرض صحيح؛ كمسح رأسه في الوضوء وتخليل شعره في الغسل، وفي هذه الحال لابد أن يمس الطيب.
فهل يلزمه فدية ذلك؟
الجواب:
لا. لا يلزمه في ذلك فدية؛ لأن الرسول -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- كان يتطيب قبل إحرامه وينظر إلى وبيص المسك في مفارقه، وهو يتوضأ بلا شك ويغتسل ويفرك رأسه، ولابد أن يعلق بيده شيء من الطيب، لكنه لم يستأنف الطيب بعد الإحرام، فهذا لا يضر، أولاً: لأن ذلك ظاهر السُّنَّة، والثاني: لأن التحرز منه شاق؛ لا يمكن للإنسان أن يتحرز من الطيب الذي تطيب به قبل الإحرام.
الطيب الذي يجب على المُحْرِم أن يتجنبه، هل هو خاص بطيب الثوب أو بطيب البدن، أو بطيب المأكول أو المشروب أو المفروش أم ماذا؟ نقول: هو عام، فلا يجوز للإنسان أن يستعمل الطيب بعد نية الإحرام لا في ثيابه ولا في بدنه، ولا في أكله ولا في شربه، ولا في أدوات التغسيل، وعلى هذا: فلا يجوز للمحرم أن يشرب قهوة فيها زعفران؛ لأن الزعفران من الطيب، وإذا شربها فقد مس الطيب، وكذلك أيضاً: لا يجوز أن يرش على فراشه شيئاً من الطيب ثم يضطجع عليه لأن هذا استعمال للطيب، هذا واحد من محظورات الإحرام.
الجماع ووسائله وذرائعه
الثاني: الجماع ووسائله وذرائعه، لقول الله تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجّ فَلا رَفَثَ)، -والرفث هو: الجماع- (وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجّ) (البقرة: 197) فلا يجوز للمُحرم أن يجامع زوجته بعد نية الإحرام، ولا تجوز مقدمات الجماع كالتقبيل واللمس بشهوة وما أشبه ذلك، بل ولا يجوز عقد النكاح الذي قد يكون ذريعة إلى الجماع وانشغال القلب بالزوجة الجديدة، بل ولا يجوز أن يخطب الإنسان امرأة؛ لأن هذا ذريعة إلى العقد ثم الدخول؛ ولأن هذا يوجب انشغال القلب عن النسك، فهذه أربعة أشياء: الجماع، ومقدمات الجماع، وعقد النكاح، والخطبة، كل هذا حرام وهو من محظورات الإحرام وأعظمها الجماع.
قال أهل العلم:
والجماع إذا كان قبل التحلل الأول ترتبت عليه أحكام:
أولا: الإثم.
ثانياً: فساد النسك.
ثالثاً: وجوب المضي فيه.
رابعاً: وجوب قضائه من العام القادم.
خامساً: الفدية: وهي بدنة يذبحها ويفرقها على المساكين.
إذاً:
الجماع أعظم محظورات الإحرام، وليس في محظورات الإحرام شيء يفسد النسك إلا الجماع قبل التحلل الأول، فإن وقع أعني الجماع بعد التحلل الأول تعلق فيه: أولاً: الإثم، ثانياً: فساد الإحرام، ثالثاً: فدية يخير فيها بين ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام، والفدية على ما قال العلماء كفدية الأذى، أي يخير فيها بين أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يذبح شاة يتصدق بها على الفقراء، المثال: رجل رمى جمرة العقبة يوم العيد وحلق وجامع زوجته قبل أن يطوف طواف الإفاضة، هذا الجماع حصل بعد التحلل الأول، فيكون آثماً بذلك، ويفسد الإحرام دون النسك، إذاً: ماذا يصنع إذا فسد الإحرام؟ قال العلماء: يجدد إحرامه من الحل، أي: يذهب إلى التنعيم أو إلى عَرَفَة ويَحرُم بإزار ورداء، ثم يطوف طواف الإفاضة وعليه الإزار والرداء ويسعى كذلك.
المباشرة والتقبيل من المحظورات لأنها وسائل للجماع، فإن الإنسان إذا قبل أو باشر كان من اليسير عليه أن يجامع؛ لأنها تثور شهوته فيجامع وقد لا يملك نفسه، ولهذا منع المُحْرِم من المباشرة والتقبيل، فإن فعل باشر أو قبل ولم ينـزل فعليه فدية مخير فيها بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة، وإن أنزل فإن كان قبل التحلل الأول فقد قال بعض العلماء: إن عليه بدنة، وقال آخرون: إنه ليس عليه بدنة بل عليه فدية أذى، فيخير بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة.
وهذا القول هو الصحيح لأنه لا سواء بين الجماع وبين الإنزال بالمباشرة، بل بينهما فرق عظيم، فيكف نلزمه بفدية الجماع بدون دليل؟ الثالث: مما تعلق في الجماع: عقد النكاح، فلا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح لنفسه ولا لغيره، ولا يجوز أن يعقد عليه، فلو زوج الرجل ابنته وهو محرم فإن ذلك حرام عليه والنكاح فاسد غير صحيح، ولو تزوج هو بنفسه فإنه حرام عليه والنكاح فاسد، ولو عقد على ابنته المُحْرِمة وهو محل فهو آثم والنكاح فاسد غير صحيح.
بقي الأمر الرابع وهو: الخطبة
فلا يحل للإنسان أن يخطب امرأة وهو محرم، لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قال: (لا ينكح المُحْرِم ولا ينكح ولا يخطب) ولا يخطب عليه أيضاً، فلا يجوز للإنسان المُحْرِم أن يخطب امرأة، ولا يجوز أن تخطب المرأة المُحْرِمة، فإن فعل وخطب امرأة وهو محرم فليس له حق في هذه الخطبة، فيجوز لإنسان آخر أن يخطب هذه المرأة؛ لأن خطبة هذا الرجل المُحْرِم فاسدة غير مشروعة فلا حق له، مع أن الخطبة على خطبة أخيه في الأصل حرام، لكن لما كانت خطبة المُحْرِم خطبة فاسدة صار لا حق له في ذلك، وجاز لغيره أن يخطب هذه المرأة؛ لأن خطبة المُحْرِم لها خطبة منهي عنها لا أثر لها ولا يترتب عليها أحكام الخطبة.
تغطية الرأس
الثالث: تغطية الرجل رأسه، فلا يحل للرجل أن يغطي رأسه بملاصق وهو محرم؛ لأن النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قال في الرجل الذي وقصته ناقته فمات: (لا تخمروا رأسه) فلا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه بملاصق حال الإحرام؛ لنهي النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عن ذلك.
فإذا قال قائل:
هذا في الميت؟
فإننا نقول:
لا فرق بين الميت والحي، لقوله -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: (فإنه يُبْعَثُ يوم القيامة مُلَبِّياً) فدل هذا على أن من كان حاله التلبية يثبت له هذا الحكم.
وقولنا:
أن يغطي رأسه بملاصق، هل يشترط أن يكون معتاداً أم لا؟ يعني: لو ضع منديلاً على رأسه هل يَحرُم أو لا يَحرُم؟ يَحرُم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تخمروا رأسه) فالفرق بين المعتاد كالطاقية والغترة والعمامة، وغير المعتاد كالمنديل مثلاً، فإن كان غير ملاصق فهو جائز، مثل الشمسية والخيمة ونحو ذلك؛ لأن النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إنما نهى عن تغطية الرأس لا عن تظليل الرأس، والشيء البائن عن الرأس المبتعد عنه لا يقال: إنه غطى الرأس بل ظلل الرأس، ولهذا قالت أم الحصين: (رأيت النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ضحى يوم العيد راكباً على ناقته ومعه بلال و أسامة وأحدهما يظلله بثوب من الحر حتى رمى جمرة العقبة) فدل هذا على أن التضليل ليس تغطية.
وإذا قال قائل:
لو وضع الإنسان يده على رأسه، هل يَحرُم؟
الجواب:
لا. لأن هذا لا يعد ستراً في العادة ولا تغطية، فلو وضع إنسان يده على رأسه من شدة الحر مثلاً وهو محرم فلا بأس، ولو حمل عفشه على رأسه وهو محرم، فهل يجوز؟ نعم يجوز؛ لأن هذا لا يسمى ستراً في العادة ولا جرت العادة أن الإنسان إذا أراد أن يخمر رأسه ذهب يحمل المتاع، ولكن بعض أهل العلم قال: إن أراد بالحمل أي بحمل المتاع على رأسه الستر فإن ذلك حرام؛ لقول النبي -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ولكن الظاهر أن ذلك لا يضر مطلقاً؛ لأن هذا يسمى حملاً ولا يسمى ستراً.
أما المرأة فإنها تغطي رأسها وتغطي كذلك وجهها إذا مر الرجال قريباً منها، كما سيأتي إن شاء الله.