المبحث الثاني: أنواع الطاعة وحكم كل نوع
تنقسم أنواع الطاعة إِلى أقسام باعتبارات مختلفة.
وأرى أن ثمة قسمين بارزين من أقسام الطاعة هما:
1 - أنواع الطاعة من حيث المأمور به.
2 - أنواع الطاعة من حيث الإِرادة.
وهذا البيان في المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: أنواع الطاعة من حيث المأمور به.
تنقسم طاعة ولاة الأمر بهذا الاعتبار قسمين:
الأول:
الطاعة في المعروف.
الثاني:
الطاعة في المعصية.
لأن ما يأمرون به إِما طاعة لله، أو معصية له.
أما الطاعة في المعروف:
فقد عرفنا المقصود بالمعروف وأنه ما أمر به الشارع أمرًا جازما وهو الواجب، وما أمر به أمرا غير جازم وهو المندوب، وما خيَّر الشارع بين فعله وتركه وهو المباح.
فكل ذلك من المعروف، فما حكم طاعة أولي الأمر في ذلك؟
فأما الطاعة في الواجب:
كأن يأمر الإِمام بإِقامة الصلاة، وبإِيتاء الزكاة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتزام الحجاب بالنسبة للنساء، ومثل ذلك: إِذا أمر بإِلغاء الربا والفواحش، والمنكرات، فطاعته في هذه الأمور واجبة بالإِجماع.
لأن هذه الأمور واجبة في ذاتها، والإِمام منفذ وقائم عليها.
بل هذه من أهم وظائفه الأساسية.
وأما الطاعة في المندوب:
كأن يأمر الإِمام ببناء مساجد، أو شق طريق يحتاجه الناس، أو بناء مدارس، ومثل ذلك: لو نهى عن الإِسراف في الولائم، والأفراح، أو اختلاط النساء بالرجال.
فالطاعة عندئذ واجبة أيضًا، لأن ما أمر به أو نهى عنه قد أمر به الشارع أو نهى عنه في الأصل.
ولأن هذه الأمور داخلة دخولا أوليا في المعروف الذي تجب طاعة الإِمام فيه.
وأما الطاعة في المباح مثل:
الأمر بالتزام التنظيمات الإِدارية التي لا تتعارض مع الشريعة، كتحديد أوقات العمل (الدوام) الرسمي بدءاً ونهاية، وتوزيع الصلاحيات والاختصاصات لكل موظف.
ومثل:
الأمر بتعلم العلوم التطبيقية، والمهنية.
ومثل:
النهي عن حمل السلاح، وصيد الطيور في أوقات معينة.
فالطاعة هنا اختلف فيها أهل العلم:
- فقال بعضهم:
لا تجب الطاعة في المباح، لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلَّله اللَّه تعالى، ولا أن يحلل ما حرَّمه اللَّه.
- وقال بعضهم:
بل تجب الطاعة، لأنه داخل في المعروف الذي شرعت الطاعة فيه كما في الحديث: "إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ".
- وقال بعضهم:
إِذا كان فيه ضرر على المأمور به فيجب الامتثال ظاهراً لا باطناً.
- وقال بعضهم:
إِنما تجب الطاعة فيما كان لله طاعة. وللمسلمين فيه مصلحة.
لما ورد عن أبي هريرة مرفوعاً: ((سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلاةٌ، فَيَلِيكُمُ الْبَرُّ بِبِرِّهِ، وَالْفَاجِرُ بِفُجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُمْ وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ)).
قال الإِمام الطبري:
فإِذا كان معلوما أنه لا طاعة واجبة لأحد غير اللَّه أو رسوله أو إِمام عادل، وكان اللَّه قد أمر بقوله: "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ"، بطاعة ذوي أمرنا كان معلوما أن الذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا هم الأئمة ومن ولوه المسلمون، دون غيرهم من الناس، وإِن كان فرضا القبول من كل من أمر بترك معصية ودعا إِلى طاعة اللَّه، وأنه لا تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه إِلا للأئمة الذين ألزم اللَّه عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعية، فإِن على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية".
ويفرق الإِمام ابن تيمية بين الإِمام العدل، وغيره:
فإِذا كان عدلاً وجبت طاعته فيما لم يعلم أنه معصية، وإِذا كان غير عدل فتجب طاعته فيما علم أنه طاعة كالجهاد.
والذي يظهر لي:
التفصيل هنا وذلك بالتفريق بين الأمر بالمباح، والنهي عنه، فإِذا أمر بالمباح مثل كثير من التنظيمات الإِدارية، ومثل تعلم العلوم الدنيوية وتخطيط المدن ونحو ذلك فهذا يجب امتثاله، لأنه وإِن كان في الأصل مباحاً غير واجب لكنه أصبح واجباً بطلب الإِمام، ويكون داخلاً في المعروف، إِلا إِذا كان المباح وسيلة إِلى مُحَرَّم، فإِن الوسائل لها حُكم الغايات فلا تجب الطاعة حينئذ في هذا المُباح.
وإِذا نهي عن أمر مُباح:
مثل أكل اللحوم، وزراعة بعض الثمار، وركوب بعض المركوبات، والسُّكنى في أماكن معينة.
ومثل:
الحديث في أمور السياسة، أو التجمعات.
ومثل:
تعدُّد الزوجات، والطلاق، وغير ذلك.
فهذا محل نظر، بحيث يفرق بين النهي الفردي، والنهي الجماعي.
فإِن كان فردياً، أي مقصوداً به أفراداً محدودين كأن ينهى الإِمام شخصاً أو أشخاصاً محدودين عن السفر خارج البلاد، أو عن السُّكنى في مدينة ما، أو عن الزواج من الكتابيات.
فمثل ذلك تجب الطاعة فيه إِذا رؤي توخي الإِمام للمصلحة العامة فيه، والمخالف يعتبر عاصياً.
ولعل مما يشهد لذلك ما اشتهر عن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه نهى بعض الصحابة عن الزواج بالكتابيات.
فإِن كان النهي لشهوة لا لمصلحة جازت الطاعة ظاهراً لا باطناً.
وإِن كان جماعياً -أي مقصوداً به جملة الناس- وذلك بأن يصدر فيه تعميمات عامة وقوانين منظمة، فهذا لا يُطاع فيه، لأنه يعتبر بمثابة التشريع، المُخالف لشرع اللَّه، لما في ذلك من تحريم الحلال ومنعه.
ذلك عن الطاعة في المعروف.
أما الطاعة في المعصية:
فقد بيَّنت في الفصل التمهيدي المُراد من المعصية في هذا البحث.
وأنها تطلق على أحد أمرين:
أ) ما يأمر به الإِمام من أفعال محظورة شرعاً.
ب) مخالفة ولي الأمر وعصيانه، والمقصود هنا الإِطلاق الأول.
فما حكم طاعة الإِمام أو نائبه إِذا أمر بمعصية لله ورسوله؟
لقد اتفق أهل العلم على أن الطاعة في المعصية لا تجوز.
وأصل هذا الاتفاق ما جاء في السُّنَّة الصحيحة الصريحة من النهي.
ومن ذلك:
أ - ما روى علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَرِيَّةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا، فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ فَقَالَ: اجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا لَهُ، ثُمَّ قَالَ أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوا، ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَادْخُلُوهَا، قَالَ: فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ النَّارِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ وَطُفِئَتِ النَّارُ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ".
ب - وعن عبد اللَّه بن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (("عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ")).
جـ - وعن عمران بن حصين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه قال للحكم الغفاري: هل تعلم يوما قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: (("لا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ عِمْرَانُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ")) وهناك أحاديث أخرى، ولعل فيما أوردناه غنية.
وفي هذه الأدلة تقييد للنصوص الأخرى المطلقة التي أمرت بالطاعة بإِطلاق، فطاعة المخلوق في معصية اللَّه جريمة كبيرة ومنكر عظيم) لما في ذلك من المفسدة الموبقة في الدارين أو أحدهما، والمطيع هنا له حكم الآمر فهما شريكان في الإِثم وهل فشا الضلال والفساد في الأرض إِلا بمتابعة الضعفاء للكبراء والسادة؟ وسيتذكر هؤلاء الأتباع في الآخرة فساد هذه المتابعة العمياء، وأنهم مخطئون، كما قال اللَّه عنهم، وهم يتقلبون في الجحيم: "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ. وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ".
قال الشوكاني:
والمُراد بالسادة والكبراء والرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم، وفي هذا زجر عن التقليد شديد.
أنواع المعصية:
والمعصية ثلاثة أنواع.
أ - الشرك أو الكفر.
ب - كبائر الذنوب.
جـ - صغائر الذنوب أو المكروهات).
وكلها داخلة في عموم المعصية المنهي عن الطاعة فيها في حديث ابن عمر وعمران السابقين.
فإِذا أمر ولي الأمر بإِلغاء حكم شرعي ثابت كالحدود، أو أمر بالحكم بالقوانين المخالفة للشرع، أو أمر ببناء القباب على القبور، أو نصب التماثيل، أو أباح الزنا والخمر، فلا تجوز طاعته.
وكذلك لو أمر بأخذ المكوس والربا، أو نهى العمال عن صيام شهر رمضان، أو أداء صلاة الجمعة، أو نهى عن رفع الأذان في المساجد، أو أمر بأن تقوم المرأة بقيادة السيارة، أو بمزاولة أعمال فيها اختلاط بالرجال، فلا تجوز طاعته.
وكذلك لو أمر بتعليم اللغات الأجنبية مع إِهمال اللغة العربية، أو أمر بالاختلاط بين الطلبة والطالبات في المرحلة الابتدائية مثلا، أو أمر باتخاذ التاريخ الميلادي تاريخاً رسمياً، أو نهى عن عقد الدروس، والمحاضرات في المساجد، فلا تجوز طاعته.
وهناك فارق كبير في عصيان ولي الأمر وعدم طاعته هنا بين النوع الأول والنوعين الآخرين:
فأما النوع الأول:
وهو الأمر بالكفر فهذا يوجب العصيان، ويبيح الخروج على الإِمام أو عزله.
وأما النوعان الآخران:
وهما الكبائر والصغائر، فهذان يوجبان العصيان دون الخروج.
الطاعة الشركية:
قد تتطور الطاعة في المعصية إِلى أن تكون شركا بالله -عز وجل- فمتى تكون كذلك؟.
قال الإِمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللَّهُ- في كتاب التوحيد:
"باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل اللَّه أو تحليل ما حرم اللَّه فقد اتخذهم أربابا من دون اللَّه " وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، وتقولون قال أبو بكر وعمر، وقال الإِمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإِسناد وصحته ويذهبون إِلى رأي سفيان، والله يقول: "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إِذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، "وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ " أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ"، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، قَالَ: أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ. ا هـ".
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في شرحه لحديث عدي:
وفي الحديث دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية اللَّه عبادة لهم من دون اللَّه ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره اللَّه لِقَوْلِهِ تَعَالَى في آخر الآية: "وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ".
ونظير ذلك قَوْله تَعَالَى:
"وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ".
وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم لعدم اعتبار الدليل إِذا خالف المقلد، وهو من هذا الشرك.اهـ.
فطاعة أولي الأمر في تحليل الحرام وتحريم الحلال تعتبر شركا بالله، غير أن الحكم يحتاج إِلى مزيد من البيان، إِذ ليس كل طاعة في معصية اللَّه تكون شركا بل إِذا صاحبها اعتقاد فاسد وإِلا فلا.
قال أبو بكر بن العربي عند قَوْله تَعَالَى "وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ":
إِنما يكون المؤمن بطاعة المُشرك مُشركاً إِذا أطاعه في اعتقاده الذي هو محل الكفر والإِيمان، فإِذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص.
إِذن فإِطلاق الكفر أو الشرك على مجرد الطاعة والمتابعة لأولي الأمر في المعصية فيه تساهل، ولهذا يقول الإِمام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللَّهُ- حول حديث عدي: "وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم اللَّه وتحريم ما أحل اللَّه يكونون على وجهين:
أحدهما:
أن يعلموا أنهم بدلوا دين اللَّه فيتبعوهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم اللَّه وتحريم ما أحل اللَّه اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله اللَّه ورسوله شركا، وإِن لم يكونوا يصلون لهم فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله اللَّه ورسوله مشركا مثل هؤلاء.
والثاني:
أن يكون اعتقادهم وإِيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتا لكنهم أطاعوهم في معصية اللَّه كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ"، ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إِن كان مجتهدا قصده اتباع الرسول لمن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى اللَّه ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه اللَّه بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه، ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه اللَّه لاسيما إِن اتبع في ذلك هواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه.
والحاصل:
أن المطيع إِذا اعتقد صحة متابعة الآمر مطلقاً أو اعتقد أن لأحد -غير اللَّه ورسوله- أن يأمر بما يشاء ويطاع كما يشاء، وأن ولي الأمر يتصرف كما يريد -ولا يسأل عما يفعل، ومن واجب الرعية الطاعة مطلقا، أو أن لولي الأمر الحق في أن يغير حكماً شرعياً ثابتاً وتجب طاعته عندئذ- فكل هذه الاعتقادات ونحوها كفر مجرد وشرك بالله، لا أعلم فيه نزاعاً.
المطلب الثاني: أنواع الطاعة من حيث الإِرادة
تنقسم الطاعة من حيث الإِرادة إِلى قسمين.
- طاعة اختيارية.
- طاعة اضطرارية.
أما الطاعة الاختيارية:
فهي التي تنشأ عن اختيار المطيع الممتثل بدون إِكراه فإِذا أمره ولي الأمر بشيء أو نهاه عن شيء امتثل بمحض إِرادته.
وقد تكون هذه الطاعة موافقة لهوى النفس وميل القلب، ومن ثم فلا يجد مشقة في الامتثال.
وربما كانت غير موافقة لهوى النفس ولا لميل القلب، ومن ثم يجد الممتثل مشقة على نفسه بالامتثال.
وامتثاله عندئذ إِما استجابة لأمر اللَّه، أو حياء من الآمر وغيره، أو لما يؤمله من كسب المطامع الدنيوية، أو لما يخشاه من لوم أو عقاب أو خسارة دنيوية.
وهذا النوع من الطاعة يحاسب عليها المطيع في الدنيا والآخرة.
وأما الطاعة الاضطرارية:
فهي على خلاف الطاعة الاختيارية.
ولكي يتضح المعنى نوضح معنى الاضطرار:
فالاضطرار مصدر اضطر، والاسم منه الضرورة، وقد اختلف العلماء في تفسيرها ولكن أشهر ما قيل فيها: أنها الضرر النازل مما لا مدفع له.
وقيل:
الإِلجاء إِلى ما ليس منه بد.
والاضطرار كما يقول القرطبي:
إِما أن يكون بإِكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة.
والذي يعنينا هنا:
النوع الأول وهو الإِكراه من ظالم.
فما حكم هذه الطاعة التي تصدر عن الفاعل عن طريق الإِكراه؟.
إِن الجواب على هذا يتطلب منا معرفة حكم المكره، هل هو مكلف أو لا؟ وشروط الإِكراه، ومعرفة ما يباح بالإِكراه.
أولا: تكليف المكره
اختلف فيه على قولين.
1 - قال المعتزلة:
المكره غير مكلف.
2 - وقال غيرهم:
إِذا سلبت قدرته وإِرادته بحيث صار كالآلة فلا تكليف عليه، وإِن لم ينته إِلى ذلك فهو مختار، وتكليفه جائز شرعا وعقلا.
ثم اختلف أهل المذاهب الأربعة في التفاصيل.
ثانيًا: شروط الإِكراه
قال في المغني:
ومن شروط شرط الإِكراه ثلاثة أمور.
أحدها:
أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه.
الثاني:
أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به إِن لم يجبه إِلى ما طلبه.
الثالث:
أن يكون مما يستضر به ضررا كثيرًا كالقتل والضرب الشديد والقيد والحبس الطويلين، فأما السب والشتم فليس بإِكراه.
ثالثًا: ما يباح بالإِكراه:
اختلف العلماء اختلافا كثيرًا فيما يباح بالإِكراه وما لا يباح، ومسائله لا تحصر، غير أنها لا تخلو إِما قولية، أو فعلية، فالقولية، مثل: التلفظ بالكفر، وسب الصحابة أو أحد من الأئمة، أو سب مسلم، أو شهادة زور ونحو ذلك مما قد يكون كفرا في نفسه أو معصية.
والفعلية:
وهي على نوعين:
1 - كفر مثل السجود للصنم.
2 - معصية: مثل: قتل المسلم والزنا وشرب الخمر... إِلخ.
فأما القولية:
فإِما أن يكون الإِكراه بحق كإِكراه المقاتلين من أهل الحرب على أن يشهدوا أن لا إِله إِلا اللَّه أو يعطوا الجزية، فهذا صحيح.
وإِما أن يكون الإِكراه بغير حق:
كالإِكراه على النطق بالكفر أو إِكراه الذمي على النطق بالشهادتين.
فهذا لا يثبت به حكم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
"مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ".
وأما الفعلية:
ففيها خلاف قوي بين أهل العلم.
غير أن الأصل فيها أنها تباح بالإِكراه كما لو أكره على السجود لصنم أو على شرب خمر، أو دفع رشوة، وكما لو أكرهت المرأة على الزنا.
اللهم إِلا الإِكراه على قتل معصوم أو تعذيبه بجلد ونحوه، فلا يجوز بالإِجماع، ولو أدى به إِلى القتل).
واختلف في الزنا هل يباح أم لا؟، وذلك مبني على إِمكان حصول الزنا من الرجل مع الإِكراه.
حكم الطاعة الاضطرارية:
وبعد هذه التأسيسات لحكم الإِكراه يمكننا الوصول إِلى معرفة حكم طاعة ولي الأمر إِذا أَكْرَهَ على فعل شيء من المعاصي، فإِكراهه إِما أن ينصب على الأقوال أو على الأفعال.
فإِذا كان على الأقوال:
فإِما أن يكون إِكراهه بحق كإِكراه المرتد بأن يعلن توبته، فهذا الإِكراه صحيح والطاعة واجبة هنا.
وإِن كان الإِكراه بغير حق كالإِكراه على النطق بالكفر فالطاعة جائزة افتداء لنفسه، بشرط أن يكون قلبه مطمئنا بالإِيمان لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ"، فإِن عصى المكَره وصبر حتى قتل فهو شهيد بلا خلاف.
وإِذا كان الإِكراه على الأفعال:
فإِن كان الإِكراه على قتل معصوم أو تعذيبه، فلا تجوز الطاعة بالإِجماع، كما تقدم وإِن كان على الزنا فتجوز الطاعة من المرأة، أما الرجل فعلى وفق الخلاف السابق.