المبحث الثاني
ما جاء في الآيات من ألفاظ العظمة.
وردت لفظة «العظمة» وما يتفرَّع عنها في الآيات القرآنية في مواطن كثيرة، نأخذ منها ما يدل على المقصود:
1- قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ) (الحجر: 87).
نوَّه الله تعالى في هذه الآية بعظمة القرآن، ووصفه بأنه نعمة عظمى، تتضاءل دونها جميع النِّعَم.
2- وقال تعالى: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) (ص: 67).
لا ريب أنَّ القرآن خبر عظيم، وحديث عظيم؛ لأنه كلام ربِّ العالمين؛ ولأنه حوَّل خَطَّ سير البشرية إلى الطَّريق الأقوم.
3- قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة: 76 - 78).
قال ابن (26) كثير -رحمه الله-: « قوله: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ).
أي: وإن هذا القسم الذي أقسمتُ به عظيم، لو تعلمون عظمته لعظَّمتم المقسوم به عليه، أي: (إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ) إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم، (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)، أي: معظَّمٌ في كتاب معظَّمٍ محفوظٍ موقَّر» (27).
4- قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32).
المراد بالشَّعائر: أعلام الدِّين الظاهرة، ومنها: المناسك كلُّها، كما قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (البقرة: 158).
ومنها: الهدايا والقربان للبيت.
ومعنى تعظيمها: إجلالها، والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد.
ومنها: الهدايا، فتعظيمها: باستحسانها واستسمانها، وأن تكون مكملة من كل وجه.
فتعظيم شعائر الله، أساسه تقوى القلوب.
فالمُّعظِّم لها، يُبرهن على تقواه، وصحَّة إيمانه؛ لأنَّ تعظيمها، تابع لتعظيم الله وإجلاله (28).
وقد ذُكرت القلوب هنا؛ لأنَّ المنافق قد يظهر التَّقوى للناس تصنُّعًا، وقد يكون قلبه خاليًا منها، فلا يكون مُجدًا في أداء الطاعات.
أمَّا المُخلص-الذي تكون التَّقوى متمكنة في قلبه- فإنه يُبالغ في أداء الطَّاعات على سبيل الإخلاص (29).
5- قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (الحج: 30).
يُخبر الله تعالى أنَّ من يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيمًا في نفسه، فهذا التَّعظيم يكون له خير وثواب مدخر له في الآخرة عند ربه (30).
ولأنَّ تعظيم حرُمات الله، من الأمور المحبوبة لله، المقرِّبة إليه، فمن عظَّمها وأجلَّها، أثابه الله تعالى ثوابًا جزيلًا، وكانت له خير في الدُّنيا والآخرة.
وحرماتُ الله: كلُّ ما له حرمة، وأمَرَ باحترامه، من عبادةٍ أو غيرها، كالمناسك كلِّها، والحرام والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات المأمور بها شرعًا، فتعظيمها يكون إجلالًا بالقلب، وأداءها من غير تهاون أو تكاسل أو تثاقل (31).
6- قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) (الطلاق: 5).
أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنَّ من خافه واتَّقاه، باجتناب معاصيه وأداء فرائضه، يمحُ الله تعالى عنه ذنوبه وسيئات أعماله التي اقترفها؛ لأنَّ التَّقوى من أسباب مغفرة الذُّنوب.
ومعنى: (يُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) أي يُعطه أجرًا عظيمًا في الآخرة، وهو الجنة.
وقيل: بالمضاعفة.
وقيل: إعظام الأجر أن يخلِّده في الجنة.
ولا منافاة بين هذه الأقوال.
وحاصلها: أن أجره يعظُمُ في الدُّنيا والآخرة (32).
«قرأ الأعمش (33): (نعْظِمْ) بالنُّون، التفاتًا من الغيبة إلى التَّكلُّم.
وقرأ ابن مقسم (34): (يُعْظِمْ) بالياء والتَّشديد، مضارع عظم مشدَّدًا» (35).
7- قوله تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ) (التوبة: 20).
من قوانين الاقتصاد أنك تدفع المال لشراء سلعة هي أغلى منه، هكذا تكون قوانين المادَّة، ونفس الشَّيء يقال في مجال المعنويات، وهو ما أشار إليه الرازي (36) -رحمه الله- بقوله: «إنَّ من كان موصوفًا بهذه الصِّفات الأربعة كان أعظَمَ درجةً عند الله ممن اتَّصف بالسِّقاية والعمارة.
وتلك الصِّفات الأربعة هي هذه:
فأوَّلها: الإيمان، وثانيها: الهجرة، وثالثها: الجهاد في سبيل الله بالمال، ورابعها: الجهاد بالنفس.
وإنَّما قلنا: إنَّ المَوصوفين بهذه الصِّفات الأربعة في غاية الجلالة والرِّفعة؛ لأنَّ الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة: الروح، والبدن، والمال.
أمَّا الرُّوح: فلمَّا زال عنه الكفر وحصل فيه الإيمان، فقد وصل إلى مراتب السَّعادات اللائقة بها.
وأمَّا البدن والمال: فبسبب الهجرة وقعا في النُّقصان، وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا مُعَرَّضَين للهلاك والبطلان.
ولا شك أن النفس والمال محبوب الإنسان، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول، فلولا أنَّ طلب الرضوان أتم عندهم من النَّفس والمال، وإلاَّ لما رجَّحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال، ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضاة الله تعالى.
فثبت أنَّ عند حصول الصِّفات الأربعة صار الإنسان واصلًا إلى آخر درجات البشرية، وأوَّل مراتب درجات الملائكة، وأيُّ مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السِّقاية والعمارة لمجرد الاقتداء بالآباء والأسلاف ولطلب الرِّياسة والسمعة؟
واعلم أنَّه تعالى لم يقل أعظم درجة من المشتغلين بالسِّقاية والعمارة؛ لأنه لو عيَّن ذكرهم لأوهم أنَّ فضيلتهم إنَّما حصلت بالنسبة إليهم، ولمَّا ترك ذكر المرجوح، دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق؛ لأنه لا يُعقل حصول سعادة وفضيلة للإنسان أعلى وأكمل من هذه الصفات» (37).
«فإن قال قائل: كيف يستقيم قوله: (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ) وليس للمشركين درجةٌ أصلًا؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أعظم درجة من درجتهم على تقديرهم في أنفسهم، وهذا مثل قوله تعالى: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) (الفرقان: 24) ومعناه على تقديرهم في أنفسهم.
والثاني: أنَّ هؤلاء الصِّنف من المؤمنين أعظم درجة عند الله من غيرهم» (38).
8- قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (الحديد: 10).
ومعنى: (أَعْظَمُ دَرَجَةً) أي: أعظم منزلة عند الله.
وقيل: درجات الجنة تتفاضل فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها (39).
و«المراد بالفتح هنا هو: فتح الحديبية (40) حين جرى من الصُّلح بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش مما هو أعظم الفتوحات، التي حصل فيها نشر الإسلام، واختلاط المسلمين بالكافرين، والدعوة إلى الدين من غير معارض.
فدخل الناس من ذلك الوقت، في دين الله أفواجًا، واعتزَّ الإسلام عزًا عظيمًا.
وكان المسلمون قبل هذا الفتح، لا يقدرون على الدَّعوة إلى الدين في غير البقعة التي أسلم أهلها، كالمدينة وتوابعها.
وكان مَن أسلم من أهل مكة وغيرها، من ديار المشركين، يؤذى ويخاف.
فلذلك كان من أسلم قبل الفتح وقاتل، أعظم درجة وأجرًا وثوابًا، ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إلاَّ بعد ذلك، كما هو مقتضى الحكمة.
ولهذا كان السابقون، وفضلاء الصحابة، غالبهم أسلم قبل الفتح.
ولمَّا كان التَّفضيل بين الأمور، قد يُتوهَّم منه نقصٌ وقدح في المفضول، احترز تعالى من هذا بقوله: (كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) أي الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، كلهم وعده الله الجنة.
وهذا يدل على فضل الصحابة كلهم رضي الله عنهم، حيث شهد الله لهم بالإيمان، ووعدهم الجنة» (41).
9- قوله تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) (المزمل: 20).
لقد أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنَّ الصَّدقة-في الدُّنيا- خير من الإمساك وأعظم ثوابًا.
ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا من الذي تؤخره إلى وصيتك عند الموت.
وقال الزَّجاج (42) -رحمه الله-: تجدوه عند الله هو خيرًا لكم من متاع الدنيا (43).
«وليُعلم أنَّ مثقال ذرة في هذه الدَّار من الخير، يُقابله أضعاف أضعاف الدُّنيا، وما عليها في دار النَّعيم المقيم، من اللذات والشهوات.
وإنَّ الخير والبرَّ في هذه الدنيا، مادَّةُ الخير والبر في دار القرار، وبذرُه وأصلُه وأساسهُ.
فوا أسفاه على أوقات مضت في الغفلات.
وواحسرتاه على أزمان تقضت في غير الأعمال الصالحات.
وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها من نفسها» (44).
الهوامش
26. هو الحافظ أبو الفداء، عماد الدِّين، إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء البصري ثم الدِّمشقي، الشافعي، ولد سنة (700 هـ) وقدم دمشق وصاهر الحافظ المزي، وصحب ابن تيمية، وتبعه في كثير من آرائه، وامتحن بسبب ذلك وأوذي، كان كثير الحفظ، سهل الاستحضار، انتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير. له التفسير المشهور، ثاني كتاب في التفسير بالمأثور بعد تفسير ابن جرير، وله موسوعة التاريخ: « البداية والنهاية» توفي سنة (774 هـ). انظر: شذرات الذهب، (6/230). البدر الطالع بمحاسن ما بعد القرن السابع، للشوكاني (1/153)».
27. تفسير ابن كثير، (7/548).
28. انظر: تفسير السعدي، (3/320).
29. انظر: التفسير الكبير، للرازي، (23/29).
30. انظر: تفسير ابن كثير، (5/430). تفسير أبي السعود، (6/105).
31. انظر: تفسير السعدي، (3/318).
32. انظر: تفسير الطبري، (28/144). فتح القدير، للشوكاني (5/242).
33. هو سليمان بن مهران الكاهلي (أبو محمد)، المشهور بالأعمش، ولد سنة (60 هـ) من الأئمة الثقات، قال ابن سعد: « وكأن الأعمش صاحب قرآن وفرائض وعلم الحديث». وعده ابن سعد في الطبقة الرابعة، من الكوفيين، وثقه ابن معين وأبو حاتم، وقال أبو زرعه: إمام، توفي سنة (148 هـ). انظر: « الطبقات الكبرى، لابن سعد (6/342). الجرح والتعديل (4/146-147)، ترجمة (630)».
34. هو محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن مقسم، أبو بكر البغدادي العطار، النحوي، المفسر، المقري، ولد سنة (265 هـ). قال الخطيب البغدادي: « كان ثقة« من توفى سنة (354 هـ). ومن مصنفاته: « الأنوار في علم القرآن«، و «المصاحف« و «الوقف والابتداء» و « الرد على المعتزلة». انظر: « تاريخ بغداد« للخطيب البغدادي (2/206). البداية والنهاية، (2/123). ميزان الاعتدال، (6/114).
35. روح المعاني، للألوسي (28/138).
36. هو العلامة أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين القرشي، الطبرستاني الأصل، ثم الرازي ، المفسر، التكلم، إمام وقته في العلوم العقلية، ولد سنة (544 هـ)، صنف في فنون كثيرة، ومن تصانيفه: « التفسير الكبير« المعروف بـ « مفاتيح الغيب» و «المحصول»، و« نهاية العقول»، قيل: إنه ندم في آخر حياته على دخوله في علم الكلام. توفي بهراة يوم الفطر سنة (606 هـ). « انظر: طبقات المفسرين، للداوودي (2/216). شذرات الذهب، (5/21)».
37. التفسير الكبير، (16/12).
38. تفسير السمعاني، (2/296).
39. انظر: زاد المسير، (8/164).
40. قال ابن الجوزي رحمه الله: « فيه قولان: أحدُهما: أنه فتح مكة. قاله ابن عباس والجمهور، والثَّاني: أنه فتح الحديبية. قاله الشَّعبي». زاد المسير: ](8/163)[.
41. تفسير السعدي، (5/176-177).
42. هو أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد السَّري، الزَّجاج، البغدادي، نحويُّ زمانه، لزم المبرد، فكان يعطيه من عمل الزجاج كل يوم درهمًا، له تأليف جمَّة منها: « معاني القرآن» و «القروض» و «الاشتقاق». توفي سنة (311 هـ). « انظر: سير أعلام النبلاء، (14/360)«.
43. انظر: التفسير الكبير، (30/166).
44. المصدر السابق، (5/330).