* أضرار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الشخص:
من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة المخلوقين نُزع منه الطاعة، وزالت عنه المهابة، فاحذر المداهنة، فهي باب من الذل والهوان عريض، ولا تأسف على من قلاك، ولا من فارقك لأمرك أو نهيك له، واقطع أطماعك من الخلق، وثق بكفاية رب الخلق، والقيام بهذه الشعيرة لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً، وترك هذه الشعيرة إيذان بسخط الله على الخلق، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "من لم يعرف قلبه المعروف، وينكر قلبه المنكر، نُكس، فجعل أعلاه أسفله".
ومن ترك هذه العبادة استخف به أهل العصيان، وسلّط الله عليه من يأمره وينهاه بما يضاد الشريعة.
* هل أنكر المنكر وأنا أفعل المعصية؟
ترك الذنب ليس شرطاً في الناهي، بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً، ويلزم المسلم الأمر بالمعروف وإن لم يمتثله، ويلزمه النهي عن المنكر وإن ارتكبه، وتبقى ثلمة مخالفة الفعل القول.
يقول أبو الدرداء:
"إني لآمركم بالمعروف وما أفعله، ولكن لعل الله يأجرني فيه" (49).
فمن كان يستمع إلى الأغاني إذا رأى رجلاً يستمع إليها، يجب عليه أن ينكر عليه سماعه لذلك المحرم وإن كان هو يستمع إلى الأغاني، فإذا سكت عن المنكر جمع محرمين: الأول: استماعه للأغاني، والثاني: السكوت عن ذلك المنكر وعدم إنكاره.
ومن رأى ذا منكر ولم ينهه فقد أعانه عليه بالتخلية بينه وبين معصيته، والسكوت عن الذنب تزيين للمعصية في الصدور، ومجانبة المنكر من مقتضيات إنكار المنكر في القلب.
* كيف أنكر المنكر؟
المنكر ينقسم إنكاره إلى ثلاث درجات:
الدرجة الأولى:
الإنكار باليد، وذلك حال القدرة على إزالته كالزوج في داره يزيل المنكر.
الدرجة الثانية:
الإنكار باللسان، وذلك في حال تعذر الإنكار باليد، كمن يرى امرأة متبرجة في الأسواق فهذا ينكر عليها باللسان بالحكمة.
الدرجة الثالثة:
الإنكار بالقلب، وذلك في حال تعذر الإنكار باليد واللسان، وهذه أضعف درجات الإنكار.
وإنكار الخطيئة بالقلب فرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال.
يقول عليه الصلاة والسلام:
«مَنْ رأى منكم مُنكراً فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». (رواه مسلم).
قال ابن رجب (50):
"إنكاره بالقلب لابد منه، فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه".
قال شيخ الإسلام:
"القلب إذا لم يكن فيه كراهة ما يكرهه الله لم يكن فيه من الإيمان الذي يستحق به الثواب، وقوله من الإيمان أي من هذا الإيمان وهو الإيمان المطلق أي ليس وراء هذه الثلاث ما هو من الإيمان ولا قدر حبة خردل، والمعنى هذا آخر حدود الإيمان ما بقي بعد هذا من الإيمان شيء ليس مراده أنه من لم يفعل ذلك لم يبق معه من الإيمان شيء"(51).
والمنكر يُزال بالحكمة، والاستطاعة، عدم الوقوع في منكر أو مفسدة أعظم منه.
* لا تيأس من نصح صاحب المنكر:
أطرق باب قلب العاصي مراراً فلا تعلم متى يفتح الله قلبه على يديك، فنوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو قومه غير يائس من دعوتهم، فمتى رأيت ذا منكر على معصية فبادره بالنصيحة بحكمة ولين ولا ترجئ النصيحة، فقد يلقى المقصر ربه وهو على معصية وأنت لم تبد له النصح فتتحسر على تقصيرك.
* لا تنظر إلى إزالة المنكر:
اعلم أنه ليس في كل أمر أو نهي تقوم به يجب معه زوال المحذور أو أداء الواجب، فزمام الاستقامة بيد الهادي جل وعلا، قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص: 56] ويقول سبحانه: (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود: 12] فالمنكر قد يزول بالإنكار، وقد لا يزول، ولا تجعل نصب عينيك وأنت تقيم هذه الشعيرة إزالة المنكر فإن لم يزل تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن هذا من الخطأ.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُقام لثمرات عديدة وإن لم يزل المنكر، فمنها أن المسلم يؤدي بتلك الشعيرة عبادة جليلة هي من أجل العبادات وبأدائها يتقرب العبد إلى ربه ويكون المرء متصفاً بصفة من صفات المؤمنين قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
وبإقامتها سبب تكفير الذنوب والخطايا، وحفظ النعم، ومنع العذاب من السماء، وبها يُدفع عن المجتمع شر أعظم من المنكر الواقع، وهي وسيلة من وسائل إصلاح المجتمع والحفاظ على حصن الإسلام، وبها تُحجز الأمة عن الفتن وتُحمى من الشبهات والشهوات وإحسان عظيم للخلق، كل ذلك وغيره من فوائد إنكار المنكر، فإن زال المنكر بالإنكار فهذه نعمة كبرى، وإن لم يزل المنكر فقد جنى العبد بإقامة تلك الشعيرة مصالح عديدة تعود على الفرد والمجتمع بالخيرات ووفور النعم، وهذا من مقاصد الشريعة.
وقد بَيَّنَ ابن رجب (52) مقاصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله:
"واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يُحمل عليه رجاء ثوابه، وتارة خوف العقاب في تركه، وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه، وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لغضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة، وتارة يُحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته، وأنه أهل أن يُطاع فلا يُعصى ويُذكر فلا يُنسى ويُشكر فلا يُكفر".
* الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يؤذى فماذا يفعل؟
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر معرض للأذى، فمن أقامه فلا يستوحش من سلوك طريقه فهو عبادة أداؤها ثمرة من ثمار الإيمان، وليجعل له من الصبر حصناً مكيناً واثقاً بالثواب مما يتلقى من المشاق.
قال ابن كثير (53):
"الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لابد أن يناله من الناس أذى فأمر بالصبر".
ومن وصايا لقمان لابنه (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان: 71] فأمره لابنه بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إشارة إلى إيذاء من أدى تلك الشعيرة.
وإياك وأهل التخذيل أو الركون إلى الضعف، وقف مع البلاء بالإيمان والتوكل، واصبر واحتسب وواصل الجهد، وخاطب الناس على ضوء قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].
الصبر على المستهزئين
الهداية منحة من الكريم لا تسدى لكل أحد، وسنة الله في هذه الحياة ابتلاء من تمسك بهذا الدين لتمحيص الصادق في الاستقامة قال تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 3] ورسل الله سَخِر أقوامهم منهم قال تعالى عن قوم نوح: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود: 38].
وأخبر جلَّ وعلا أن كل رسول يُبعث يُبهت بالسحر، ويُرمى بالجنون سخرية منه قال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات: 52] والصحابة سَخر منهم قال سبحانه: (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) [المطففين: 30-31].
فالسخرية سنة جارية، فمن استهزأ باستقامتك أو إرخاء لحيتك أو لُبس السُّنة في ملبسك فلا تحزن، فإن دافعه الهوى أو الجهل، والساخر في عمق نفسه يتمنى الهداية ولكنه لا يملكها، قال سبحانه عن أهل الضلالة: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر: 2] بل ويعلم أن الحق هو ما سلكته قال سبحانه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [النمل: 14].
ومن سخر بك فالزم ما لزمه الأنبياء من الصبر والعفو والحلم والأناة والإعراض عمن آذاك، قال سبحانه لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) [الأحقاف: 35].
وقال جل وعلا:
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 109] فأمر الله بالعفو والصفح وقال جلَّ وعلا: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].
وإذا سخر بك فافرح فتلك بشرى صدق استقامتك ورفعة لك، فقد رُميت بأعلى المراتب، فالزم الصبر ولا تحبط العمل بالجزع أو الهلع على تمسكك بهذا الدين.
الدعاء
الدعاء سمة العبودية، وروضة القلب، وجنة الدنيا، عبادة ميسورة مطلقة غير مقيدة بمكان ولا زمان ولا حال، هو عدو البلاء يُدافعه ويُعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يُخففه إذا نزل، يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة فإذا ألهمت الدعاء فإن معه الإجابة"، الدعاء بإذن الله يكشف البلايا والمصائب، ويمنع وقوع العذاب والهلاك، وهو سلاح المؤمن، لا شيء من الأسباب أنفع ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، ما استُجلبت النعم ولا استُدفعت النقم بمثله، به تُفرج الهموم وتزول الغموم، كفاه شرفاً قرب الله من عبده حال الدعاء: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].
وأعجز الناس مَنْ عجز عن الدعاء.
بالدعاء تسمو النفس، وتعلو الهمم، ويقطع الطمع عما في أيدي الخلق، هو سهام الليل يطلقه القانتون، وهو حبل ممدود بين السماء والأرض، فالجأ إلى الله في الطلب والتحصيل، وافزع إليه وحده في الدعاء واللجوء إليه والانكسار بين يديه، والأرزاق خزائن ومفاتيحها السؤال، وثق بأن خزائن الله ملأى ويديه سحَّاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، فادع وربك الأكرم، وألق نفسك بين يديه، وسلم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وعظِّم الرغبة، فما رد سائله ولا خاب طالبه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسد فاقته ومن أنزلها بالرب فنعم الرزاق هو، ومن ظن بربه خيراً أفاض عليه جزيل خيراته وأسبل عليه جميل تفضلاته، فلازمْ الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخرت، ومن يُكثر قرع الأبواب يُوشك أن يُفتح له.
ومن حلت به نوائب الدهر وجأر إلى الله حماه (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62].
ألقي يونس في بطن الحوت، وبالدعاء نُبذ بالعراء من غير أذى.
وإذا تزخرف الناس بطيب الفراش فارفع أكف الضراعة إلى المولى في دجى الأسحار، فبدعوة تتقلب الأحوال، فالعقيم يولد له، والسقيم يُشفى، والفقير يرزق، والشقي يسعد، بدعوة واحدة أغرق أهل الأرض جميعهم إلا من شاء الله وهلك فرعون بدعوة موسى، قال سبحانه: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [يونس: 88].
ووُهب ما وهب سليمان بغير حساب بسؤال ربه الوهاب، وشفى الله أيوب من مرضه بتضرعه (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء: 83].
فأكثر الدعاء لنفسك بالهداية والبُعد عن الفتن والثبات على الدين وإصلاح نيتك وإخلاص عملك.
الصدقة
قسَّم الله خلقه إلى غني وفقير، ولا تتم مصالحهم إلا بسد خلة الفقير، فأوجب في فضول أموال الأغنياء ما يسد به عوز الفقراء.
والسخي المؤمن قريب من الله ومن خلقه ومن أهله، قريب من الجنة بعيد عن النار، والبخيل بعيد من خلقه بعيد من الجنة قريب من النار.
فجود الرجل يحببه إلى أضداده، وبخله يبغضه إلى أولاده، وأحب الخلق إلى الله من اتصف بمقتضيات صفاته مما لم يختص به الرب جل وعلا، فهو سبحانه كريم يحب الكريم من عباده، وعالم يحب العلماء، ورحيم يحب الرحماء.
قال ابن القيم (54):
"الكريم المتصدق يعطيه الكريم مالا يُعطي غيره جزاء له من جنس عمله".
ومن خير أعمال المسلم الصدقة على الفقراء وذوي الحاجات والكربات.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:
"ذكر لي أن الأعمال تتباهى فتقول الصدقة أنا أفضلكم".
وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-:
كان يدعو إلى الإحسان والصدقة والسعي في تفريج هموم المسلمين.
وأفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه، وكانت دائمة مستمرة، والصدقة تَفدي العبد من عذاب الله، فإن ذنوبه وخطاياه تقتضي هلاكه فتجيء الصدقة تفديه من العذاب، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خطب النساء يوم العيد: «يا معشر النساء تصدقن ولو من حُليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار» (متفق عليه).
وفي الصحيحين:
«فاتقوا النار ولو بشق تمرة».
والصدقة تطفئ شؤم المعصية، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه-: «ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّةٌ والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماءُ النار» (رواه الترمذي).
الصدقة تقي مصارع السوء، وتدفع البلاء، وتحفظ المال، وتجلب الرزق، وتُفرح القلب، وتُوجب الثقة بالله وحسن الظن به، وتُزكي النفس وتنميها، وتحبب العبد إلى ربه وتستر عليه كل عيب، وتزيد في العمر، وتدفع عن صاحبها عذاب القبر، وتكون عليه ظلاًّ يوم القيامة، وتشفع له عند الله، وتُهون عليه شدائد الدنيا والآخرة، وتدعوه إلى سائر أنواع البر فلا تُستعصي عليه.
الصدقة وقاية بين العبد وبين النار، والمخلص المسرُّ بها يستظل بها يوم القيامة، ويدعى من باب الصدقة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة» (متفق عليه).
الصدقة ترفع البلاء وتنفرج بها بإذن الله الكروب، قال ابن القيم (55):
"للصدقة والإحسان تأثير عجيب في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد، ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديماً وحديثاً لكفى به، فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته، عليه من الله جنة واقية وحصن حصين".
ويقول أيضاً (56):
"فإن للصدقة تأثيراً عجيباً في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجر أو من ظالم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعاً من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مُقرون به، لأنهم جرَّبوه". اهـ.
والمتصدق كلما تصدَّق بصدقة انشرح لها قلبه وانفسح بها صدره.
قال ابن القيم (57):
"ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيقاً بالاستكثار منها والمبادرة إليها، وقد قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]".اهـ.
والبخيل محبوس عن الإحسان، ممنوع عن البر، ممنوع من الانشراح، ضيق الصدر، صغير النفس قليل الفرح، كثير الهم والغم والحزن، لا يكاد تقضى له حاجة، ولا يعان على مطلوب.
فتصدَّق في يومك ولو بشيء يسير، فأفضل الصدقة جهد المقل، وفي صبيحة كل يوم ينزل ملكان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً.
والصدقة قرض مسترد مضاعف.
قال عليه الصلاة والسلام:
«ما نقصت صدقة من مال». رواه مسلم.
وقال جل وعلا:
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245] فابذل للفقير بسخاء نفس، وجود يد، وحسن ظن بالله بمضاعفة الثواب والمال.
*******************
الهوامش:
49) سير أعلام النبلاء 2/335.
50) جامع العلوم والحكم 2/245.
51) الفتاوى: 7/52.
52) جامع العلوم والحكم 2/255.
53) تفسير ابن كثير 3/450.
54) الوابل الصيب ص56.
55) بدائع الفوائد 2/467.
56) الوابل الصيب ص49.
57) الوابل الصيب ص51.