الباب الحادى والثلاثون في مناقب الصالحين وكرامات الأولياء رضي الله عنهم
اعلم أن كرامات الأولياء لا تنكر ومناقبهم أكثر من أن تحصر نسأل الله تعالى أن يحشرنا معهم في زمرة نبينا محمد يوم المحشر أنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.

حكاية
قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى احتبس عنا المطر بالبصرة فخرجنا نستسقي مرارا فلم نر للإجابة أثرا فخرجت أنا وعطاء السلمي وثابت البناني ويحيى البكاء ومحمد بن واسع وأبو محمد السختياني وحبيب الفارسي وحسان بن ثابت بن أبي سنان وعتبة الغلام وصالح المزني حتى إذا صرنا إلى المصلى بالبصرة خرج الصبيان من المكاتب ثم استسقينا فلم نر للإجابة أثرا حتى انتصف النهار وانصرف الناس وبقيت أنا وثابت البناني بالمصلى فلما أظلم الليل إذا أنا بعبد أسود مليح رقيق الساقين عليه جبة صوف قومت ما عليه بدرهمين فجاء بماء فتوضأ ثم جاء الى المحراب فصلى ركعتين خفيفتين ثم رفع طرفه الى السماء وقال إلهي وسيدي ومولاى ألى كم ترد عبادك فيما لا ينفعك أنفد ما عندك أم نقص ما في خزائنك أقسمت عليك بحبك لي إلا ما أسقيتنا غيثك الساعة قال فما تم كلامه حتى تغيمت السماء وجاءت بمطر كأفواه القرب قال مالك فتعرضت له وقلت له يا أسود أما تستحي مما قلت قال وما قلت قلت قولك بحبك لي وما يدريك أنه يحبك قال تنح عنى يا من اشتغل عنه بنفسه افتراه بدأني بذلك إلا لمحبته إياى ثم قال محبته لي على قدرة ومحبتى له على قدرى فقلت له يرحمك الله ارفق قليلا فقال إني مملوك وعلي فرض من طاعة مالكي الصغير قال فانصرف وجعلنا نقفوا أثره على البعد حتى دخل دار نخاس فلما أصبحنا أتينا النخاس فقلت يرحمك الله أعندك غلام تبيعه منا للخدمة قال نعم عندى مائة غلام للبيع فجعل يعرض علينا غلاما بعد غلام حتى عرض علينا سبعين غلاما فلم ألق حبيبي فيهم فقال عودا إلي في غير هذا الوقت فلما أردنا الخروج من عنده دخلنا حجرة خربة خلف داره وإذا بالأسود قائم يصلي فقلت حبيبي ورب الكعبة فجئت إلى النخاس فقلت له يعني هذا الغلام فقال يا ابا يحيى هذا غلام ليست له همة في الليل الا البكاء وفي النهار الا الخلوة والوحدة فقلت له لا بد من أخذه منك ولك الثمن وما عليك منه فدعاه فجاء وهو يتناعس فقال خذه بما شئت بعد أن تبرئني من عيوبه كلها فاشتريته منه بعشرين دينارا وقلت له ما اسمك قال ميمون فأخذت بيده أريد المنزل فالتفت إلي وقال يا مولاى الصغير لماذا اشتريتني وأنا لا اصلح لخدمة المخلوقين فقلت له والله يا سيدي إنما اشتريتك لأخدمك بنفسي قال ولم ذلك على ذلك فقلت ألأست صاحبنا البارحة بالمصلى قال بلى وقد أطلعت على ذلك قلت نعم وأنا الذي عارضتك البارحة في الكلام بالمصلى قال فجعل يمشي حتى أتى إلى مسجد فاستأذنني ودخل المسجد فصلى ركعتين خفيفتين ثم رفع طرفه إلى السماء وقال إلهي وسيدي ومولاى سر كان بيني وبينك أطلعت عليه غيرك فكيف يطيب الآن عيشي أقسمت عليك بك إلا ما قبضتني إليك الساعة ثم سجد فانتظرته ساعة فلم يرفع رأسه فجئت إليه وحركته فإذا هو قد مات رحمه الله تعالى عليه قال فمددت يديه ورجليه فإذا هو ضاحك مستبشر وقد غلب البياض على السواد ووجهه كالقمر ليلة البدر وإذا شأب قد دخل من الباب وقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أعظم الله أجورنا وأجوركم في أخينا ميمون هاكم الكفن فناولني ثوبين ما رأيت مثلهما قط فغسلناه وكفناه فيهما ودفناه قال مالك بن دينار فبقبره نستسقي إلى الآن ونطلب الحوائج من الله تعالى رحمة الله عليه.

وحكى عن حذيفة المرعشي رضي الله عنه وكان خدم إبراهيم الخواص رضي الله عنه وصحبه مدة فقيل له ما اعجب ما رأيت منه فقال بقينا في طريق مكة أياما لم نأكل طعاما فدخلنا الكوفة فأوينا إلى مسجد خرب فنظر إلى ابراهيم وقال يا حذيفة أرى بك أثر الجوع فقلت هو كما ترى فقال علي بدواة وقرطاس فأحضرتهما إليه فكتب بسم الله الرحمن الرحيم أنت المقصود بكل حال والمشار إليه بكل معنى ثم قال
( أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر ... أنا جائع أنا ضائع أنا عارى )
( هي ستة وأنا الضمين لنصفها ... فكن الضمين لنصفها يا بارى )
( مدحي لغيرك لهب نار خضتها ... فأجر عبيدك من لهيب النار )

قال حذيفة ثم دفع إلى الرقعة وقال اخرج بها ولا تعلق قلبك بغي الله تعالى وادفعها إلى أول من يلقاك قال فخرجت فأول من لقيني رجل على بغلة فناولته الرقعة فأخذها فقرأها وبكى وقال ما فعل بصاحب هذه الرقعة قلت هو في المسجد الفلاني فدفع إلي صرة فيها ستمائة درهم فأخذتها ومضيت فوجدت رجلا فسألته من هذا الراكب على البلغة فقال هو رجل نصراني قال فجئت ابراهيم وأخبرته بالقصة فقال لا تمس الدراهم فإن صاحبها يأتي الساعة فلما كان بعد الساعة أقبل النصراني راكبا على بغلته فترجل على باب المسجد ودخل فأكب على إبراهيم يقبل رأسه ويديه ويقول أشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله قال فبكي ابراهيم الخواص فرحا به وسرور وقال الحمد لله الذي هداك للاسلام وشريعة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

وحكى ان بعضهم كان ملاحا ببحر النيل المبارك بمصر قال كنت أعدى من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي ومن الشرقي إلى الجانب الغربي فبينما أنا ذات يوم في الزورق إذا بشيخ مشرق الوجه عليه مهابة فقال السلام عليكم فرددت عليه السلام فقال أتحملنى إلى الجانب الغربي لله تعالى فقلت نعم فطلع إلى الزورق وعديت به الى الجانب الغربي وكان وعلى ذلك الفقير مرقعة وبيده ركوة وعصا فلما أراد الخروج من الزورق قال إني أريد أن أحملك أمانة قلت وما هى قال إذا كان غدا وقت الظهر تجدني عند تلك الشجرة ميتا وستنسي فإذا ألهمت فأتني وغسلني وكفني في الكفن الذي تجده عند رأسي وصل علي وادفنى تحت الشجرة وهذه المرقعة والعصا والركوة يأتيك من يطلبها منك فادفعها إليه ولا تحتقره قال الملاح ثم ذهب وتركني فتعجبت من قوله وبت تلك الليلة فلما أصبحت انتظرت الوقت الذي قال لي فلما جاء وقت الظهر ونسيت فما تذكرت الا قريب العصر فسرت بسرعة فوجدته تحت الشجرة ميتا ووجدت كفنا جديدا عند رأسه تفوح منه رائحة المسك فغسلته وكفنته فلما فرغت من غسله حضر عندى جماعة عظيمة لم أعرف منهم أحدا فصلينا عليه ودفنته تحت الشجرة كما عهد إلي ثم عدت إلى الجانب الشرقي وقد دخل الليل فنمت فلما طلع الفجر وبانت الوجوه إذ أنا بشاب قد أقبل علي فحققت النظر في وجهه فإذا هو من صبيان الملاهي كان يخدمهم فأقبل وعليه ثياب رقاق وهو مخضوب الكفين وطاره تحت إبطه فسلم علي فرددت عليه السلام فقال يا ملاح أنت فلان بن فلان قلت نعم قال هات الوديعة التى عندك قلت من اين لك هذا قال لا تسأل فقلت لا بد ان تخبرني فقال لا أدري الا أني البارحة كنت في عرس فلان التاجر فسهرنا نرقص ونغني إلى أن ذكر الله الذاكرون على المآذن فنمت لأستريح وإذا برجل قد أيقظني وقال إن الله تعالى قد قبض فلانا الولي وأقامك مقامة فسر إلى فلان بن فلان صاحب الزورق فان الشيخ أودع لك عنده كيت و كيت قال فدفعتها له فخلع أثوابه الرقاق ورمي بها في الزورق وقال تصدق بها ما شئت وأخذ الركوة والعصا ولبس الركعة وسار وتركني أتحرق وأبكي لما حرمت من ذلك وأقمت يومي ذلك أبكي الى الليل ثم نمت فرأيت رب العزة جل جلاله في النوم فقال يا عبدي أثقل عليك إن مننت على عبد عاص بالرجوع إلي إنما ذلك فضلي أويته من أشاء من عبادى وأنا ذو الفضل العظيم.

وحكى أبو أسحاق الصعلوكي قال خرجت سنة الى الحج فبينما أنا في البادية تائه وقد جن الليل وكانت ليلة مقمرة إذ سمعت صوت شخص ضعيف يقول يا أبا إسحق قد أنتظرتك من الغداة فدنوت منه فإذا هو شاب نحيف الجسم قد أشرف على الموت وحوله رياحين كثيرة منها ما أعرف ومنها مالا أعرف فقلت له من أنت ومن أين أنت قال من مدينة شمشاط كنت في عزة ورفعة فطالبتني نفسي بالغربة والعزلة فخرجت وقد أشرفت الآن على الموت فدعوت الله تعالى أن يقيض لي وليا من أوليائه وأرجو أن تكون أنت هو فقلت ألك حاجة قال نعم لي والدة واخوة وأخوات فقلت هل أشتقت إليهم قط قال لا إلا اليوم اشتقت أن أشم ريحهم فهممت أريدهم فاحتوشتني السباع والهوام وبكين معي وحملوا إلى هذه الريا حين التى تراها قال أبو إسحاق فبينما أنا معه يرق له قلبي وإذا بحية عظيمة في فمها باقة نرجس كبيرة فقالت دع ولي الله تعالى فإن الله يغار على أوليائه قال فغشي عليه وغشي علي فما أفقت إلا وهو قد خرجت روحه رحمه الله قال فدخلت مدينة شمشاط بعدما حججت فاستقبلني امرأة بيدها ركوة ما رأيت أشبه بالشاب منها فلما رأتني نادت يا أبا إسحاق ما شأن الشاب الغريب الذي مات غريبا فاني منتظرتك منذ كذا فذكرت لها القصة الى أن قلت لها أشم ريحهم فصاحت أواه قد بلغ والله الشم ثم شهقت خرجت روحها فخرج إليها بنات أتراب عليهم مرقعات ومروط فكفلت أمرها وتولين دفنها وهن مستترات رضوان الله على الجميع.

شعر
( يا نسيما هب من وادي قبا ... خبريني كيف حال الغربا )
( كم سألت الدهر أن يجمعنا ... مثل ما كنا عليه فأبي )

وحكى أن رجلا كان يعرف بدينار العيار وكان له والدة صالحة تعظه وهو لا يتعظ فمر في بعض الأيام بمقبرة فأخذ منها عظما فتفتت في يده ففكر في نفسه وقال ويحك يا دينار كأني بك وقد صار عظمك هكذا رفاتا والجسم ترابا فندم على تفريطه وعزم على التوبة ورفع رأسه إلى السماء وقال إلهي وسيدي ألقيت إليك مقاليد أمرى فاقلبني وارحمني ثم أقبل نحو أمه متغير اللون منكسر القلب فقال يا أماه ما يصنع بالعبد الآبق إذا أخذه سيده قالت يخشن ملبسه ومطعمه ويغل يديه وقدميه فقال أريد جبة من صوف وأقراصا من شعير وغلين وافعلي بي كما يفعل بالعبد الآبق لعل مولاى يرى ذلي فيرحمنى ففعلت به ما أراد فكان إذا جن عليه الليل أخذ في البكاء والعويل ويقول لنفسه ويحك يا دينار ألك قوة على النار كيف تعرضت لغضب الجبار ولا يزال كذلك إلى الصباح فقالت له أمه يا بني أرفق بنفسك فقال دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا يا أماه إن لي غدا موقفا طويلا بين يدي رب جليل ولا أدري أيؤمر بي الى ظل ظليل أو إلى شر مقيل قالت يا بني خذ لنفسك راحة قال لست للراحة أطلب كأنك يا أماه غدا بالخلائق يساقون إلى الجنة وانا أساق الى النار مع أهلها فتركته وما هو عليه فأخذ في البكاء والعبادة وقرأءة القرآن فقرأ في بعض الليالي ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) ففكر فيها وجعل يبكي حتى غشي عليه فجاءت أمه إليه فنادته فلم يجبها فقالت له يا حبيبي وقرة عيني اين الملتقي فقال بصوت ضعيف يا أماه إن لم تجديني في عرصات القيامة فاسألي مالكا خازن النار عني ثم شهق فمات رحمه الله تعالى فغسلته أمه وجهزته وخرجت نتادي أيها الناس هلموا إلى صلاة على قتيل النار فجاء الناس من كل جانب فلم ير أكثر جمعا ولا أغزر دمعا من ذلك اليوم فلما دفنوه نام بعض أصدقائه تلك الليلة فرآه يتبختر في الجنة وعليه حلة خضراء وهو يقرأ الآية ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) ويقول وعزته وجلاله سألني ورحمنى وغفر لي وتجاوز عنى ألآ أخبروا عنى والدتي بذلك.

وحكى عن الحسن البصرى قال نزل سائل بمسجد فسأل الناس أن يطعموه كسرة فلم يطعموه فقال الله تعالى لملك الموت اقبض روحه فإنه جائع فقبض روحه فلما جاء المؤذن رآه ميتا فأخبر الناس بذلك فتعاونوا على دفنه فلما دخل المؤذن المسجد وجد الكفن في المحراب مكتوبا عليه هذا الكفن مردود عليكم بئس القوم أنتم استطعمكم فقير فلم تطعموه حتى مات جوعا من كان من أحبابنا لا نكله إلى غيرنا.

وحكى أبو علي المصري قال كان لي جار شيخ يغسل الموتى فقلت له يوما حدثنى أعجب ما رأيت من الموتى فقال جاءني شاب في بعض الأيام مليح الوجه حسن الثياب فقال لي أتغسل لنا هذا الميت قلت نعم فتبعته حتى أوقفنى على الباب فدخل هنيهة فإذا بجارية هى أشبه الناس بالشاب قد خرجت وهى تمسح عينيها فقالت أنت الغاسل قلت نعم قالت بسم الله أدخل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فدخلت الدار وإذا أنا بالشاب الذي جاءني يعالج سكرات الموت وروحه في لبته وقد شخص بصره وقد وضع كفنه وحنوطه عند رأسه فلم أجلس إليه حتى قبض فقلت سبحان الله هذا ولي من أولياء الله تعالى حيث عرف وقت وفاته فأخذت في غسله وأنا أرتعد فلما أدرجته أتت الجارية وهي أخته فقبلته وقالت أما إني سألأحق بك عن قريب فلما أردت الانصراف شكرت لي وقالت أرسل ألي زوجتك إن كانت تحسن ما تحسنه أنت فارتعدت من كلامها وعلمت أنها لاحقة به فلما فرغت من دفنه جئت أهلي فقصصت عليها القصة واتيت بها إلى تلك الجارية فوقفت بالباب واستأذنت فقالت بسم الله تدخل زوجتك فدخلت زوجتى وإذا بالجارية مستقبلة القبلة وقد ماتت فغسلتها زوجتي وأنزلتها على أخيها رحمه الله عليهما.

شعر
( أحبابنا بنتم عن الدار فاشتكت ... لبعدكم آصالها وضحاها )
( وفارقتم الدار الأنيسة فاستوت ... رسوم مبانيها وفاح كلاها )
( كأنكم يوم الفراق رحلتم ... بنومي فعيني لا تصيب كراها )
( وكنت شحيحا من دموعي بقطرة ... فقد صرت سمحا بعدكم بدماها )
( يراني بساما خليلي يظن بي ... سرورا وأحشائي السقام ملاها )
( وكم ضحكه في القلب منها حرارة ... يشب لظاها لو كشفت غطاها )
( رعى الله أياما بطيب حديثكم ... تقضت و حياها الحيا وسقاها )
( فما قلت إيها بعدها لمسامر ... من الناس إلا قال قلبي آها )

وحكى سري السقطي رحمه الله تعالى قال أرقت ليلة ولم أقدر على النوم فلما طلع الفجر صليت فلما أصبحت دخلت المارستان فإذا أنا بجارية مقيدة مغلولة وهى تقول
( تغل يدي إلى عنقي ... وما خانت وما سرقت )
( وبين جواني كبد ... أحس بها قد احترقت )

قال فقلت للقيم ما هذه الجارية قال هذه جارية اختل عقلها فحبست لعلها تصلح فلما سمعت كلامه تبسمت وقالت
( معشر الناس ما جننت ولكن ... أنا سكرانة وقلبي صاحي )
( لم غللتم يدي ولم آت ذنبا ... غير هتكي في حبه وافتضاحي )
( أنا مفتونة بحب حبيب ... لست أبغي عن بابه من براح )
( ما على من أحب مولى الموالى وارتضاه لنفسه من جناح )

قال فلما سمعت كلامها بكيت بكاءا شديدا فقالت يا سري هذا بكاؤك من الصفة فكيف لو عرفته حق المعرفة قال فبينما هى تكلمنى إذ جاء سيدها فلما رآني عظمنى فقلت والله هى أحق منى بالتعظيم فلم فعلت بها هذا قال لتقصيرها في الخدمة وكثرة بكائها وشدة حنينها وأنينها كأنها ثكلى لا تنام ولا تدعنا ننام وقد اشتريتها بعشرين ألف درهم لصناعتها فإنها مطربة قلت فما كان بدء أمرها قال كان العود في حجرها يوما فجعلت تقول
( وحقك لأنقضت الدهر عهدا ... ولا كدرت بعد الصفو ودا )
( ملأت جوانحي والقلب وجدا ... فكيف أقر يا سكني وأهدأ )
( فيا من ليس لي مولى سواه ... تراك رضيتني بالباب عبدا )

فقلت لسيدها أطلقها وعلى ثمنها فصاح وافقراه من أين لك عشرون ألفا يا سرى فقلت لا تعجل علي فقال تكون في المارستان حتى توفيني ثمنها فقلت نعم قال سري فانصرفت وعيني تدمع وقلبي يخشع وأنا والله ما عندى درهم من ثمنها فبت طول ليلتي أتضرع إلى الله تعالى فإذا بطارق يطرق الباب ففتحت فدخل علي رجل ومعه سته من الخدم ومعهم خمس بدر فقال اتعرفني يا سري قلت لا قال أنا أحمد بن المثني كنت نائما فهتف بي هاتف وقال لي يا أحمد هل لك في معاملتنا فقلت ومن أولى منى بذلك فقال احمل الى سري السقطى خمس بدر من أجل الجارية الفلانية فإن لنا بها عناية قال سري فسجدت لله شكرا وجلست أتوقع طلوع الفجر فلما طلع صلينا وذكرنا وانصرفنا نحوها فسمعناها تقول
( قد تصبرت ألى ان ... عيل من حبك صبري )
( ضاق من غلي وقيدي ... وامتهاني منك صدري )
( ليس يخفي عنك أمري ... يا منى قلبي وذخري )
( أنت قد تعتق رقي ... وتفك اليوم أسري )

قال سري فبينما أنا أسمعها وإذا بمولاها قد جاء وهو يبكي فقلت لا بأس عليك قد جئناك برأس مالك وربح عشرة آلاف درهم فقال والله لا فعلت ذلك قلت نزيدك قال والله لو أعطيتني ما بين الخافقين ما فعلت وهي حرة لوجه الله تعالى فقال فتعجبت من ذلك وقلت ما كان هذا كلامك بالأمس فقال جيبي لا توبخني فالذي وقع لي من التوبيخ كفاني وأشهدك أني قد خرجت من جميع مالي صدقة في سبيل الله تعالى وإني هارب إلى الله تعالى فبالله لا تردني عن صحبتك فقلت نعم ثم التفت فرأيت صاحب المال يبكي فقلت ما يبكيك قال يا أستاذي ما قلبني مولاى لما ندبني إليه ورد علي ما بذلت أشهدك أني قد خرجت من جميع ما أملكه لله تعالى في سبيل الله وكل عبد أملكه وجارية أحرار لوجه الله تعالى قال سري فقلت ما أعظم بركتك يا جارية قال فنزعنا الغل من عنقها والقيد من رجلها وأخرجناها من المارستان فنزعت ما كان عليها من ناعم الثياب ولبست خمارا من صوف ومدرعة من شعر وولت وقال سري فتوجهت أنا ومولاها وصاحب المال الى مكة فبينما نحن نطوف إذ سمعنا صوتا فتبعناه فإذا هى أمرأة كالخيال فلما رأتني قالت السلام عليكم ورحمة عليك بأسري فلت لها وعليك السلام لله وبركاته من أنت فقالت لا أله الا الله وقع الشك بعد المعرفة فتأملها فإذا هي الجارية فقلت لها ما الذي أفادك الحق بعد انفرادك عن الخلق فقالت أنسي به وحشتي من غيره ثم توجهت إلى البيت وقالت إلهي كم تخلفني في دار لا أرى فيها أنيسا قد طال شوقي فعجل قدومي عليك ثم شهقت شهقة وخرت ميته رحمة الله تعالى عليها فلما نظر إليها مولاها بكى وجعل يدعو ويضعف كلاما إلى أن خر إلى جانبها ميتا رحمة الله عليه فدفناهما في قبر واحد شعر
( بحرمة ما قد كان بيني وبينكم ... من الود إلا ما رجعتم إلى وصلي )
( ولا تحرمونى نظرة من جمالكم ... فلن تجدوا عبدا ذليلا لكم مثلي )
( فوالله ما يهوى فؤادي سواكم ... ولو رشقوه بالأسنة والنبل )

وحكى أنه كان في زمن بني إسرائيل رجل من العباد الموصوفين بالزهد وكان قد سخر الله له سحابة تسير معه حيث يسير فاعتراه فتور في بعض الأيام فأزال الله عنه سحابته وحجب إجابته فكثر لذلك حزنه وشجونه وطال كمده وأنينه وما زال يشتاق إلى زمن الكرامة ويبكي ويتأسف ويتحسر ويتلهف فقام ليلة من الليالي فصلى ما شاء الله وبكى وتضرع ودعا الله تعالى ونام فقيل له في المنام إذا أردت أن يرد الله تعالى عليك سحابتك فائت الملك الفلاني في بلد كذا واسأله أن يدعو الله لك أن يرد عليك سحابتك قال فسار الرجل يقطع الأرض حتى وصل إلى تلك البلد التى ذكرت له في المنام فدخلها وسأل من يرشده إلى قصر الملك فجاء الى القصر وإذا عند بابه غلام جالس على كرسي عظيم من الذهب الأحمر مرصع بالدر والجوهر والناس بين يديه يسألونه حوائجهم وهو يصرف الناس فوقف الرجل الصالح بين يديه وسلم عليه فقال له الغلام من أين أنت وما حاجتك فقال من بلاد بعيدة وقصدي الاجتماع بالملك فقال له الغلام لا سبيل لك اليوم فسل حاجتك أقضها لك إن استطعت فقال إن حاجتى لا يقضيها إلا الملك فقال الغلام إن الملك ليس له إلا يوم واحد في الجمعة يجتمع إليه الناس فيه فاذهب حتى يأتي ذلك فانصرف الرجل إلى مسجد داثر وأقام يعبد الله تعالى فيه وأنكر على الملك لا حتجابه عن الناس فلما كان ذلك اليوم الذي يجلس فيه الملك جاء إلى القصر فوجد خلقا كثيرا عند الباب ينتظرون الإذن فوقف مع جملة الناس فلما خرج الوزير أذن للناس في الدخول فدخل أرباب الحوائج ودخل صاحب السحابة معهم وإذا بالملك جالس وبين يديه أرباب دولته على قدر مراتبهم فجعل رأس النوبة يقدم الناس واحدا بعد واحد حتى وصلت النوبة لصاحب السحابة فلما نظر إليه الملك قال مرحبا بصاحب السحابة اجلس حتى أفرغ من حوائج الناس وانظر في أمرك قال فتحير صاحب السحابة في أمره فلما فرغ الملك من حوائج الناس قام من مجلسه فأخذ بيد صاحب السحابة وأدخله معه إلى قصره ثم مشى به في دهليز القصر فلم يجد في طريقه إلا مملوكا واحدا فسار به حتى انتهى إلى باب من جريد وإذا به بناء مهدوم وحيطان مائلة وبيت خرب فيه برش وليس هناك ما يساوى عشرة دراهم إلا سحابة خلقه وقدح للضوء وحصيرة رثه وشيء من الخوص فانخلع الملك من ثياب الملك ولبس مرقعة من صوف وجعل على رأسه قلنسوة من شعر ثم جلس وأجلس صاحب السحابة ونادى يا فلانة قالت لبيك قال أتدرين من هو الليلة ضيفا قالت نعم صاحب السحابة فدعا بها لحاجة فخرجت فإذا هي امرأة كالشن البالي عليها مسح من شعر خشن وهي شابة صغيرة قال الرجل فالتفت الى الملك وقال يا أخي نطلعك على حالنا او نقضي حاجتك وتنصرف فقلت والله لقد شغلني حالكما عما جئت بسببه فقال الملك الله يعلم أنه كان لي في هذا الأمر آباء كرام صالحون يتوارثون المملكة كابرا عن كابر فلما توفوا إلى رحمة الله تعالى ووصل الأمر إلى بغض الله إلى الدنيا وأهلها فأردت أن أسيح في الأرض وأترك الناس ينظرون لهم من يسوس أمرهم فيملكونه عليهم فخفت عليهم دخول الفتنة وتضييع الدين والشرائع وتبديل شمل الدين فبايعوني وأنا والله كاره فتركت أمورهم على ما كانت عليه وجعلت السماط على عادته والحراس على حالها والمماليك على دأبها ولم أغير شيئا وأقعدت المماليك على الأبواب بالسلاح إرهابا لأهل الشرور وردعا عن أهل الخير وتركت القصر مزينا على حاله وفتحت له بابا وهو الذي رأيته يوصلني إلى هذه الخربة فأدخل فيها وأنزع ثياب الملك وألبس هذا وأضفر الخوص وأبيعه وأتقوت من ثمنه أنا وزوجتى هذه التى رأيتها هي ابنة عمي زهدت في الدنيا كزهدي واجتهدت حتى صارت كالشن البالي والناس لا يعلمون ما نحن فيه ثم إني أقمت لي نائبا ينوب عني طول الجمعة وعلمت أني مسؤول فجعلت لي يوما في الجمعة أبرز للناس فيه وأكشف مظالمهم كما رأيت وأنا على هذه الحالة مدة فأقم عندنا يرحمك الله حتى نبيع خويصاتنا ونبتاع من ثمنها طعاما وتفطر معنا وتبيت عندنا الليلة ثم تنصرف بحاجتك إن شاء الله تعالى فلما كان آخر النهار دخل علينا غلام خماسي العمر فأخذ ما عملاه من خوص وسار به إلى السوق فباعه واشترى من ثمنه خبزا وفولا واشترى بباقي ثمنه خوصا فلما كان عند الغروب أفطرا وأفطرت معهما وبت عندهما قال فقاما في نصف الليل يصليان ويبكيان فلما كان السحر قال الملك اللهم إن عبدك هذا يطلب منك رد سحابته وإنك قد دللته علينا اللهم ارددها عليه إنك على كل شيء قدير والمرأة تؤمن على دعائه وإذا بالسحابة قد طلعت من قبل السماء فقال لي لك البشارة بقضاء حاجتك وتعجيل إجابتك قال فودعتهما وانصرفت والسحابة معي كما كانت فأنا بعد ذلك لا أسأل الله تعالى بسرهما شيئا إلا أعطاني إياه رحمة الله تعالى عليهما.

شعر
( استعمل الصبر تجني بعده العسلا ... ولازم الباب حتى تبلغ الأملا )
( لا ومرغ الخد في اعتابه سحرا ... واحمل لمرضاته في الحب كل بلا )
( فما يفوز بوصل يا أخي سوى ... صب لثقل الهوى والوجد قد حملا )
( هذا الحبيب ينادى في الدجي سحرا ... فانهض وكن رجلا بالسعي قد وصلا )

وحكى عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال خرجت إلى مكة حاجا فبينما أنا سائر إذ رأيت شابا ساكتا لا يذكر الله تعالى فلما جن الليل رفع وجهه نحو السماء وقال يا من لا تسره الطاعات ولا تضره المعاصي هب لى مالا يسرك واغفر لي ما لا يضرك ثم رأيته بذي الحليفة وقد لبس إحرامه والناس يلبون وهو لا يلبي فقلت هذا جاهل فدنوت منه فقلت له يا فتي قال لبيك قلت له لم لا تلبي فقال يا شيخ وما تغني التلبية وقد بارزته بذنوب سالفات وجرائم مكتوبات والله أني لأخشي أن أقول لبيك فيقول لا لبيك ولا سعديك لا أسمع كلامك ولا أنظر إليك فقلت له لا تقول ذلك فإنه حليم إذا غضب رضي وإذا رضي لم يغضب وإذا وعد وفي ومتى توعد عفا فقال يا شيخ أتشير على بالتلبية قلت نعم فبادر إلى الأرض واضطجع ووضع خده على التراب وأخذ حجرا فوضعه على خده الآخر وأسبل دموعه وقال لبيك اللهم لبيك قد خضعت لك وهذا مصرعي بين يديك فأقام كذلك ساعة ثم مضي فما رأيته إلا بمني وهو يقول اللهم إن الناس ذبحوا ونحروا وتقربوا إليك وليس لي شيء أن أتقرب به سوى نفسي فتقبلها منى ثم شهق شهقة وخر ميتا رحمة الله تعالى عليه.

وحكى أنه كان بمدينة بغداد رجل يعرف بأبي عبد الله الأندلسي وكان شيخا لكل من بالعراق وكان يحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله وكان يقرأ بجميع الروايات فخرج في بعض السنين إلى السياحة ومعه جماعة من أصحابه مثل الجنيد والشبلي وغيرهما من مشايخ العراق قال الشبلي فلم نزل في خدمته ونحن مكرمون بعناية الله تعالى إلى أن وصلنا إلى قرية من قرى الكفار فطلبنا ماء نتوضأ به فلم نجد فجعلنا ندور بتلك القرية وإذا نحن بكنائس وبها شمامسة وقساوسة ورهبان وهم يعبدون الأصنام والصلبان فتعجبنا منهم ومن قلة عقلهم ثم انصرفنا إلى بئر في آخر القرية وإذ نحن بجوار يستقين الماء على البئر وبينهن جارية حسنة الوجه ما فيهن أحسن ولا أجمل منها وفي عنقها قلائد الذهب فلما رآها الشيخ تغير وجهه وقال هذه ابنة من فقيل له هذه ابنة ملك هذه القرية فقال الشيخ فلم لا يدللها أبوها ويكرمها ولا يدعها تستقي الماء فقيل له أبوها يفعل ذلك بها حتى إذا تزوجها رجل أكرمته وخدمته ولا تعجبها نفسها فجلس الشيخ ونكس رأسه ثم أقام ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا يكلم أحدا غير أنه يؤدي الفريضة والمشايخ واقفون بين يديه ولا يدرون ما يصنعون قال الشبلي فتقدمت إليه وقلت له يا سيدي إن أصحابك ومريديك يتعجبون من سكوتك ثلاثة أيام وأنت ساكت لم تكلم أحدا قال فأقبل علينا وقال يا قوم إعلموا أن الجارية التى رأيتها بالأمس قد شغفت بها حبا واشتغل بها قلبي وما بقيت أقدر أفارق هذه الأرض قال الشبلي فقلت يا سيدي أنت شيخ أهل العراق ومعروف بالزهد في سائر الآفاق وعدد مريديك اثنا عشر ألفا فلا تفضحنا وإياهم بحرمة الكتاب العزيز فقال يا قوم جرى القلم بما حكم ووقعت في بحار العدم وقد انحلت عني عرى الولاية وطويت عنى أعلام الهداية ثم أنه بكى بكاء شديدا وقال يا قوم انصرفوا فقد نفذ القضاء والقدر فتعجبنا من أمره وسألنا الله تعالى أن يجيرنا من مكره ثم بكينا وبكي حتى أروى التراب ثم أنصرفنا عنه راجعين إلى بغداد فخرج الناس إلى لقائه ومريدوه في جملة الناس فلم يروه فسألوا عنه فعرفناهم بما جرى فمات من مريديه جماعة كثيرة حزنا عليه وأسفا وجعل الناس يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى أن يرده عليهم وغلقت الرباطات والزوايا والخوانق ولحق الناس حزن عظيم فأقمنا سنة كاملة وخرجت مع بعض أصحابي نكشف خبره فأتينا القرية فسالنا عن الشيخ فقيل لنا أنه في البرية يرعى الخنازير قلنا وما السبب في ذلك قالوا إنه خطب الجارية من أبيها فأبي أن يزوجها إلا ممن هو على دينها ويلبس العباءة ويشد الزنار ويخدم الكنائس ويرعى الخنازير ففعل ذلك كله وهو في البرية يرعي الخنازير.

قال الشبلي فانصدعت قلوبنا وانهملت بالبكاء عيوننا وسرنا إليه وإذا به قائم قدام الخنازير فلما رآنا نكس رأسه وإذا عليه قلنسوة النصارى وفي وسطه زنار وهو متوكىء على العصا التى كان يتوكأ عليها إذا قام إلى المحراب فسلمنا عليه فرد علينا السلام فقلنا يا شيخ ما ذاك وماذا وما هذه الكروب والهموم بعد تلك الأحاديث والعلوم فقال يا إخواني وأحبابي ليس لي من ألأمر شيء سيدي تصرف في كيف شاء وحيث أراد أبعدني عن بابه بعد إن كنت من جملة أحبابه فالحذر الحذر يا أهل وداده من صده وإبعاده والحذر الحذر يا أهل المودة والصفاء من القطيعة والجفاء ثم رفع طرفه إلى السماء وقال يا مولاى ما كان ظنى فيك هذا ثم جعل يستغيث ويبكي ونادى يا شبلي اتعظ بغيرك فنادى الشبلي بأعلى صوته بك المستعان وأنت المستغاث وعليك التكلان اكشف عنا هذه الغمة بحلمك فقد دهمنا أمر لا كاشف له غيرك قال فلما سمعت الخنازير بكاءهم وضجيجهم أقبلت إليهم وجعلت تمرغ وجوهها بين أيديهم وزعقت زعقة واحدة دويت منها الجبال قال الشبلي فظننت أن القيامة قد قامت ثم إن الشيخ بكى بكاء شديدا قال الشبلي فقلنا له هل لك أن ترجع معنا إلى بغداد فقال كيف لي بذلك وقد استرعيت الخنازير بعد أن كنت أرعى القلوب فقلت يا شيخ كنت تحفظ القرآن وتقرؤه بالسبع فهل بقيت تحفظ منه شيئا فقال نسيته كله إلا آيتين فقلت وما هما قال قوله تعالى ( ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ) والثانية قوله تعالى ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) فقلت يا شيخ كنت تحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهل تحفظ منها شيئا قال حديثا واحدا وهو قوله من بدل دينه فاقتلوه قال الشبلي فتركناه وانصرفنا ونحن متعجبون من أمره فسرنا ثلاثة ايام وإذا نحن به أمامنا قد تطهر من نهر وطلع وهو يشهد شهادة الحق ويجدد إسلامه فلما رأيناه لم نملك أنفسنا من الفرح والسرور فنظر إلينا وقال يا قوم اعطوني ثوبا طاهرا فأعطيناه ثوبا فلبسه ثم صلى وجلس فقلنا له الحمد لله الذي ردك علينا وجمع شملنا بك فصف لنا ما جرى لك وكيف كان أمرك فقال يا قوم لما وليتم من عندى سألته بالوداد القديم وقلت له يا مولاى أنا المذنب الجاني فعفا عنى بجوده وبستره غطاني فقلنا له بالله نسألك هل كان لمحنتك من سبب قال نعم لما وردنا القرية وجعلتم تدورون حول الكنائس قلت في نفسي ما قدر هؤلاء عندى وأنا مؤمن موحد فنوديت في سري ليس هذا منك ولو شئت عرفناك ثم أحسست بطائر قد خرج من قلبي فكان ذلك الطائر هو الإيمان قال الشبلي ففرحنا به فرحا شديدا وكان يوم دخولنا يوما عظيما مشهودا وفتحت الزوايا والرباطات والخوانق ونزل الخليفة للقاء الشيخ وأرسل إليه الهدايا وصار يجتمع عنده لسماع علمه أربعون ألفا وأقام على ذلك زمانا طويلا ورد الله عليه ما كان نسيه من القرآن والحديث وزاده على على ذلك فبينما نحن جلوس عنده في بعض الأيام بعد صلاة الصبح وإذا نحن بطارق بطرق باب الزاوية فنظرت من الباب فإذا شخص ملتف بكساء أسود فقلت له ما الذي تريد فقال قل لشيخكم إن الجارية الرومية التى تركتها بالقرية الفلانية قد جاءت لخدمتك قال فدخلت فعرفت الشيخ فاصفر لونه وارتعد ثم أمر بدخولها فلما دخلت عليه بكت بكاء شديدا فقال لها الشيخ كيف كان مجيئك ومن أوصلك إلى ههنا قالت يا سيدي لما وليت من قريتنا جاءني من أخبرني بك فبت ولم يأخذني قرار فرأيت في منامي شخصا وهو يقول إن أحببت أن تكوني من المؤمنات فاتركى ما أنت عليه من عبادة الأصنام واتبعي ذلك الشيخ وادخلى في دينه فقلت وما دينه قال دين الإسلام قلت وما هو قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت كيف لي بالوصول إليه قال اغمضي عينيك واعطيني يدك ففعلت فمشي قليلا ثم قال افتحي عينيك ففتحتهما فإذا أنا بشأطيء الدجلة فقال امضي إلى تلك الزاوية واقرئي مني الشيخ السلام وقولي له إن أخاك الخضر يسلم عليك قال فأدخلها الشيخ إلى جواره وقال تعبدى ههنا فكانت أعبد أهل زمانها تصوم النهار وتقوم الليل حتى نحل جسمها وتغير لونها فمرضت مرض الموت وأشرفت على الوفاة ومع ذلك لم يرها الشيخ فقالت قولوا للشيخ يدخل على قبل الموت فلما بلغ الشيخ ذلك دخل عليها فلما رأته بكت فقال لها لا تبكي فان اجتماعنا غدا في القيامة في دار الكرامة ثم انتقلت إلى رحمة الله تعالى فلم يلبث الشيخ بعدها إلا أياما قلائل حتى مات رحمة الله تعالى عليه.

قال الشبلي فرأيته في المنام وقد تزوج بسبعين حوراء وأول ما تزوج بالجارية وهما مع الذين أنعم الله عليهم من النبي -صلى الله عليه وسلم-ين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفي بالله عليما وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.