الباب التاسع والعشرون في الشرف والسؤدد وعلو الهمة
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من رزقه الله مالا فبذل معروفه وكف أذاه فذلك السيد وقيل لقيس بن عاصم بم سدت قومك قال لم أخاصم أحدا الا تركت للصلح موضعا وقال سعيد بن العاص ما شاتمت رجلا مذ كنت رجلا لأني لم أشاتم الا أحد رجلين إما كريم فأنا أحق أن أجله وإما لئيم فأنا أولى أن أرفع نفسي عنه وقالوا من نعت السيد أن يكون يملأ العين جمالا والسمع مقالا وقيل قدم وفد من العرب على معاوية وفيهم الأحنف بن قيس فقال الحاجب إن أمير المؤمنين يعزم عليكم أن لا يتكلم منكم أحد إلا لنفسه فلما وصلوا إليه قال الأحنف لولا عزم أمير المؤمنين لأخبرته أن رادفه ردفت ونازلة نزلت ونائبة نابت الكل بهم حاجة إلى المعروف من أمير المؤمنين فقال له معاوية حسبك يا أبا بحر فقد كفيت الشاهد والغائب
وقال رجل للأحنف بم سدت قومك وما أنت بأشرفهم بيتا ولا أصبحهم وجها ولا أحسنهم خلقا فقال بخلاف ما فيك قال وما ذاك قال تركي من أمرك مالا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك وقيل السيد من يكون للأولياء كالغيث الغادي وعلى الأعداء كالليث العادي وكان سبب ارتفاع عرابة الأوسي وسؤدده أنه قدم من سفر فجمعه والشماخ ابن ضرار المزني الطريق فتحادثا فقال له عرابة ما الذي أقدمك المدينة يا شماخ قال قدمتها لأمتار منها فملأ له عرابة رواحله برا وتمرا وأتحفه بتحف غير ذلك فأنشد يقول
( رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين )
( إذا ما راية رفعت بمجد ... تلقاها عرابة باليمين )

واما علو الهمة فهو أصل الرياسة
فممن علت همته وشرفت نفسه عمارة بن حمزة قيل إنه دخل يوما على المنصور وقعد في مجلسه فقام رجل وقال مظلوم يا أمير المؤمنين قال من ظلمك قال عمارة بن حمزة غصبني ضيعتي فقال المنصور يا عماره قم فاقعد مع خصمك فقال ما هو لي بخصم إن كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها وإن كانت لي فقد وهبتها له ولا أقوم من مقام شرفني به أمير المؤمنين ورفعني وأقعدني منه لأجل ضيعة وتحدث السفاح هو وأم سلمة يوما في نزاهة نفس عمارة وكبره فقالت له ادع به وأنا أهب له سبحتي هذه فإن ثمنها خمسون ألف دينار فإن هو قبلها علمنا أنه غير نزه النفس فوجه إليه فحضر فحادثته ساعة ثم رمت إليه بالسبحة وقالت هى من الطرف وهي لك فجعلها عمارة بين يديه ثم قام وتركها فقالت لعله نسيها فبعثت بها إليه مع خادم فقال للخادم هي لك فرجع الخادم فقال قد وهبها لي فأعطت أم سلمة للخادم الف دينار واستعادتها منه وأهدى عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ولى مصر مائة وصيف مع كل وصيف ألف دينار ووجه إليه بذلك ليلا فرده وكتب إليه لو قبلت هديتك ليلا لقبلتها نهارا وما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون.

وكان سبب فتح المعتصم عمورية إن امرأة من الثغر سبيت نادت وامحمداه وامعتصماه فبلغه الخبر فركب لوقته وتبعه الجيش فلما فتحها قال لبيك أيتها المنادية وكان سعيد بن عمرو بن العاص ذا نخوة وهمة قيل له في مرضه إن المريض يستريح إلى الأنين وإلى شرح ما به إلى الطبيب فقال أما الأثنين فهو جزع وعار والله لا يسمع الله مني أنينا فأكون عنده جزوعا وأما وصف ما بي إلى الطبيب فوالله لا يحكم غير الله في نفسي إن شاء أمسكها وإن شاء قبضها.

ومن كبر النفس ما روي عن قيس بن زهير أنه أصابته الفاقة واحتاج فكان يأكل الحنظل حتى قتله ولم يخبر أحدا بحاجته ومن الشرف والرياسة حفظ الجوار وحمى الذمار وكانت العرب ترى ذلك دينا تدعو إليه وحقا واجبا تحافظ عليه وكان أبو سفيان بن حرب إذا نزل به جار قال يا هذا إنك اخترتني جار أو اخترت داري دارا فجناية يدك على دونك وإن جنت عليك يد فاحتكم حكم الصبي على أهله وكان الفرزدق يجير من عاذ بقبر أبيه غالب بن صعصعة فمن استجار بقبر أبيه فأجاره امرأة من بني جعفر بن كلاب خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر أن يسميها وينسبها فعاذت بقبر أبيه فلم يذكر لها اسما ولا نسبا ولكن قال
( عجوز تصلى الخمس عاذت بغالب ... فلا والذي عاذت به لا اضيرها )

وقال مروان بن أبي حفصة
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين فنزل )

وقال ابن نباتة
( ولو يكون سواد الشعر في ذمم ... ما كان للشيب سلطان على القمم )
وقيل إن الحجاج أخذ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وعذبه واستأصل موجوده وسجنه فتوصل يزيد بحسن تلطفه وأرغب السجان واستمالة وهرب هو والسجان وقصد الشام إلى سليمان بن عبد الملك ابن مروان وكان الخليفة في ذلك الوقت الوليد بن عبد الملك فلما وصل يزيد بن المهلب إلى سليمان بن عبد الملك أكرمه وأحسن إليه وأقامة عنده فكتب الحجاج إلى الوليد يعلمه أن يزيد هرب من السجن وأنه عند سليمان بن عبد الملك أخي أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين وأن أمير المؤمنين أعلى رأيا فكتب الوليد إلى أخيه سليمان بذلك فكتب سليمان إلى أخيه يقول يا أمير المؤمنين أني ما أجرت يزيد بن المهلب الا لأنه هو وأبوه وإخوته من صنائعنا قديما وحديثا ولم أجر عدوا لأمير المؤمنين وقد كان الحجاج قصده وعذبه وأغرمه أربعة آلاف ألف درهم ظلما ثم طالبة بعدها بثلاثة آلاف ألف درهم وقد صار إلى واستجار بي فأجرته وأنا أغرم عنه هذه الثلاثة آلاف ألف درهم فإن راى أمير المؤمنين أن لا يختبرني في ضيفي فليفعل فإنه أهل الفضل والكرم فكتب اليه الوليد إنه لا بد أن ترسل إلي يزيد مغلولا مقيدا فلما ورد ذلك على سليمان أحضر ولده أيوب فقيده ودعا يزيد بن المهلب فقيده ثم شد قيد هذا إلى قيد هذا بسلسلة وغلها جميعا بغلين وأرسلهما الى أخيه الوليد وكتب اليه أما بعد يا امير المؤمنين فقد وجهت اليك يزيد وابن أخيك أيوب بن سليمان ولقد هممت أن أكون ثالثهما فإن هممت يا أمير المؤمنين بقتل يزيد فبالله عليك أبدا بأيوب من قبله ثم اجعل يزيد ثانيا واجعلني إذا شئت ثالثا والسلام فلما دخل يزيد بن المهلب وأيوب بن سليمان في سلسلة واحدة أطرق الوليد استيحاء وقال لقد أسأنا إلي أبي ايوب إذ بلغنا به هذا المبلغ فأخذ يزيد ليتكلم ويحتج لنفسه فقال له الوليد ما يحتاج إلى الكلام فقد قبلنا عذرك وعلمنا ظلم الحجاج ثم أنه أحضر حدادا وأزال عنهما الحديد وأحسن اليهما ووصل أيوب ابن أخيه بثلاثين ألف درهم ووصل يزيد بن المهلب بعشرين ألف درهم وردهما إلى سليمان وكتب كتابا إلى الحجاج يقول له لا سبيل لك على يزيد بن المهلب فإياك أن تعاودني فيه بعد اليوم فسار يزيد الى سليمان بن عبد الملك وأقام عنده في أعلى المراتب وأرفع المنازل.

وحكى أن رجلا من الشيعة كان يسعي في فساد الدولة فجعل المهدي لمن دل عليه او أتي به مائة ألف درهم فأخذه رجل من بغداد فأيس من نفسه فمر به معن بن زائدة فقال له يا أبا الوليد أجرني أجارك الله فقال معن للرجل مالك وماله فقال إن امير المؤمنين طالبه قال خل سبيله قال لا أفعل فأمر معن غلمانه فأخذوه غصبا وأردفه بعضهم خلفه ومضى الرجل فأخبر أمير المؤمنين المهدي بالقصة فأرسل خلف معن فأحضره فلما دخل عليه قال له يا معن أتجير علي قال نعم يا أمير المؤمنين قتلت في يوم واحد في طاعتكم خمسة آلاف رجل هذا مع أيام كثيرة تقدمت فيه طاعتى أفما تروني أهلا أن تجيروا إلى رجلا واحدا استجار بي فاستحيا المهدي وأطرق طويلا ثم رفع رأسه وقال قد أجرنا من أجرت يا ابا الوليد قال ان رأى أمير المؤمنين أن يصل من استجار بي فيكون قد أجاره وحباه قال قد أمرت له بخمسين ألف درهم فقال معن يا أمير المؤمنين ينبغي أن تكون صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية وأن ذنب الرجل عظيم فإن رأى امير المؤمنين أن يجزل صلته فليفعل قال قد أمرت له بمائة ألف درهم فرجع معن إلي منزله ودعا بالرجل ودفع له المال ووعظه وقال له لا تتعرض لمساخط الخلفاء
وكان جعفر بن ابي طالب يقول لأبيه يا أبت إني لأستحي أن أطعم طعاما وجيراني لا يقدرون على مثله فكان أبوه يقول إني لأرجو أن يكون فيك خلف من عبد المطلب وسقط الجراد قريبا من بيت بعض العرب فجاء أهل الحي فقالوا نريد جارك فقال أما جعلتموه جاري فوالله لا تصلون إليه وأجاره حتى طار فسمى مجير الجراد وقيل هو أبو حنبل والحكايات في معنى ذلك كثيرة والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.