فممن ذهب إلى جواز تكرار الاستخارة، بل استحبابها الحافظ العراقي.
ومال إلى ذلك الشوكاني في النيل فقال:
((قد يستدل للتكرار بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ((إذا دعا دعا ثلاثًا))، الحديث الصحيح، وهذا وإن كان المراد به تكرار الدعاء في الوقت الواحد، فالدعاء الذي تسن الصلاة له تكرر الصلاة له كالاستسقاء)).
وممن يفتي بذلك -من المعاصرين- شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز، وكذلك شيخنا المحدث الألباني، غير أنه قيد التكرار بقيد: (من لم تطمئن نفسه لصلاته الأولى)..
وأما من استدل على التكرار بحديث أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات..)) الحديث، فهو حديث ضعيف جدًا، قد اتفق الحفاظ على تضعيفه. راجع تخريجه في فصل (تخريج الأحاديث الواردة) من هذا الكتاب.
ثم بعد كتابة ما تقدم، وقفت على قول عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- في صحيح مسلم، بعدما احترقت الكعبة: ((لو كان أحدكم احترق بيته، ما رضي حتى يُجِدَّه، فكيف ببيت ربكم ، إني مستخير ثلاثًا، ثم عازم على أمري)).
فلما وقفت عليه فرحت به، لما فيه من مرجح قوي، لما ذهبت إليه، من ترجيح قول من قال بالتكرار، والله الهادي إلى سبيل الأبرار.
هل لها وقت معين أو مفضل؟
ليس لها وقت معين، ولا مخصوص، بل يؤتى بها في أي وقت كان.
وإن تحرى أوقات استجابة الدعاء، فلا بأس بذلك، لما قدمنا من أن صلاة الاستخارة هي صلاة حاجة ودعاء.
ومن الأوقات المفضلة للدعاء، والتي يرجى فيها القبول:
1ـ وقت ما بين الأذان والإقامة.
لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((الدعاء لا يُرَدُّ بين الأذان والإقامة)).
2 - ساعة نـزول الغيث.
لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء ووقت المطر)). وفي رواية: ((وتحت المطر)).
3 - الثلث الأخير من الليل.
لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ينـزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له؟ مَنْ يسألني فأعطيه؟ مَنْ يستغفرني فأغفر له؟)).
4 - الساعة الأخيرة من يوم الجمعة.
لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم قائم، يصلي يسأل الله خيرًا إلا أعطاه إياه)).
وجمهور أهل العلم على أنها آخر ساعة، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((التمسوها آخر ساعة بعد العصر)).
وفسرت الصلاة بانتظار الصلاة.
قلت:
ولا يبعد أن تكون الصلاة هنا بمعناها اللغوي، وهو الدعاء، والله أعلم.
5 - في حالة السفر.
لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاث دعوات مُستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)).
6 - ليلة القدر.
لقوله تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر) (القدر: 3).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان)) رواه البخاري (1917) عن ابن عباس ومسلم (1165) عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.
هل تجوز صلاة الاستخارة في أوقات النهي؟ وما هي تلك الأوقات؟
الأصل: منع الصلاة النافلة في أوقات النهي، إلا أن العلماء تنازعوا في صلاة ذوات الأسباب، في أوقات النهي.
والصواب الذي عليه المحققون، جواز تلك الصلوات، كتحية المسجد، وسنة الوضوء، وصلاة الاستخارة، وبخاصة إذا ضاق عليه الوقت، أو كان مضطرًا.
وإن تَرَك الاستخارة في تلك الأوقات، كان ذلك أبعد عن مواطن الخلاف، وأرجى للاطمئنان، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((دع ما يريبك إلى مالا يريبك)).
وأوقات النهي هي:
ـ من بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وترتفع.
ـ ووقت استوائها في كبد السماء حتى تميل.
ـ وحين تصفر الشمس حتى تغرب.
عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: ((ثلاث ساعات نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا، حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيَّف للغروب حتى تغرب)).
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس)).
هل هناك زمن محدد قبل الأمر المستخار له؟
لا يوجد زمن محدد قبل الأمر المستخار له، وإنما عليه أن يستخير بعد الهم، وتبييت النية، والقصد له، وقبل البدء بالفعل، وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا هم أحدكم بالأمر)).
فإن شرع في مقصوده، كأن خطب أو رأى مخطوبته، ثم تذكر الاستخارة، استحب له ذلك، ما لم يتم الأمر له.
فإن فاتته الاستخارة، فليدع بخير أن يجعل الله تعالى له في الأمر الحاصل خيرًا، وأن يجنبه شره.
هل من دعاء مأثور بعد حصول المطلوب؟
نعم ؛ إذا كان عينًا، كزواج وشراء بيت، وامتلاك دابة، وما شابه ذلك.. فإنه يدعو بما جاء في الحديث..
قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا اشترى أحدكم الجارية، فليقل: اللهمَّ إني أسألكَ خيرَها، وخيرَ ما جبلْتها عليه، وأعوذُ بكَ منْ شرِّها، وشرِّ ما جبلتها عليه، وليدعُ بالبركة، وإذا اشترى أحدكمْ بعيرًا، فليأخذ بذروةِ سنامه، وليدعُ بالبركةِ، وليقل مثل ذلك)).
وفي رواية:((إذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادمًا، فليأخذ بناصيتها وليسم الله عز وجل، وليدع بالبركة)).
لذا يسن وضع اليد على مقدمة الشيء، ثم التسمية، والدعاء بالبركة، وبالدعاء المأثور، ثم قس على ذلك، كالسيارة وغيرها.
هل لصلاة الاستخارة قراءة معينة؟
لا.. ليس لصلاة الاستخارة قراءة مخصوصة من القرآن الكريم، وما استحسنه بعض أهل العلم في قراءة بعض السور مردود، لأن الاستحباب حكم شرعي يحتاج إلى دليل، وهو هاهنا مجرد استحسان بالعقل والرأي يفتقر إلى دليل، ولم يرد شيء من ذلك في السنة النبوية، وخير الهدي هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما ترك خيرًا إلا أرشدنا إليه.
هل دعاء الاستخارة قبل السلام أم بعده؟
دعاء الاستخارة يكون بعد السلام من الركعتين المخصوصتين، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل..))
ففيه إشارتان:
الأولى: ((ليركع ركعتين)) أي ليتم صلاتهما.
الثانية: ((ثم ليقل)) فإن ((ثم)) تفيد التعقيب والتراخي، وفي هذا المقام تفيد الفعل مع المتابعة، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الدعاء قبل السلام، لكن ما قدمنا من ظاهر الرواية يرد عليهم، والله أعلم.
إذا نسي المستخير دعاء الاستخارة عقب الصلاة، ثم تذكر ذلك فماذا يفعل؟
ينبغي أن يكون دعاء الاستخارة عقب الصلاة مباشرة، دونما فاصل، فإن نسي الدعاء وهو ما يزال جالسًا، ما لم ينصرف أو يحدث فيدعو به، فإن قام وانصرف، فعليه إعادة الركعتين ثم الدعاء بعدها، إن شاء أن يأتي بالاستخارة على وجهها المشروع.
ففي قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثم ليقل)) إفادة الترتيب والتعقيب.
كما يستأنس لهذا بما رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، وتقول الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه حتى ينصرف أو يحدث)).
قال الشوكاني:
((قوله ((ثم ليقل)) فيه أنه لا يضر تأخر دعاء الاستخارة عن الصلاة ما لم يطل الفصل)).
هل يشرع دعاء الاستخارة بعد صلاة فرض؟
في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الاستخارة ((فليركع ركعتين من غير الفريضة)) دليل على أن الدعاء ينبغي أن يكون بعد صلاة نافلة لا فرض، وإلا لم يتحقق المقصود من سنة الاستخارة.
فإن دعا به بعد فريضة، كان دعاؤه كأي دعاء آخر، ولا يكون والحال هذه قد أتى بسنة الاستخارة على الوجه المشروع، ولم يحقق الاتباع فيها، وإنما يكون قد أتى بدعاء ليس إلا.
هل تشرع الاستخارة في صلاة نفل راتبة، أو ذات سبب؟
لا شك أن إتيان المستخير بصلاة مستقلة، هو الأولى، وهو أدعى للقبول، وأقرب للاستجابة، وأبعد عن الخلاف. غير أن ظاهر الحديث يفيد جواز ذلك.
قال النووي رحمه الله: ((قال العلماء: تُستحب الاستخارة بالصلاة -أي مستقلة- والدعاء المذكور، وتكون الصلاة ركعتين من النافلة، والظاهر أنها تحصل بركعتين من السنن الرواتب، وبتحية المسجد وغيرها من النوافل)).
قلت:
ولكن يشترط عقد نية الاستخارة قبل الشروع بالصلاة، ثم إن الحافظ اعترض على إطلاق النووي فقال: ((كذا أطلق وفيه نظر)).
قلت:
والنظر، أن صلاة النافلة أنواع بحسب سبب مشروعيتها، فإن كانت ذات سبب مجرد، كتحية المسجد وسنة الوضوء، فينوي المستخير بها الاستخارة، فيحصل المقصود من ذات السبب، إذ المقصود من تحية المسجد عدم الجلوس قبل الصلاة، فيحصل هذا بأي صلاة.. سواء كانت صلاة فرض، أو نافلة راتبة، أو ضحى.
وأما جمع الاستخارة مع الرواتب ففي النفس من ذلك شيء.
قال العراقي:
وإن نوى بالراتبة سنة الصلاة وسنة الاستخارة فيحتمل حصولهما، ويحتمل أن لا يحصل للتشريك)).
قلت:
وأما في غير ذلك من النوافل، كالخسوف والاستسقاء، فلا نرى إجزاء ذلك، والله أعلم.
إذا شرع العبد بصلاة، أو انتهى منها، ثم تذكر أن يستخير، فهل يجزئه ذلك؟
الظاهر لمن شرع بالنافلة دون نية الاستخارة، ثم أراد أن يعقد النية وهو في الصلاة، أن هذا لا يجزئه، وعليه إتمام الصلاة، ثم استئناف صلاة جديدة، بنية معقودة للاستخارة، وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا هم أحدكم بالأمر)) ففيه دلالة واضحة على أن الهم وبالتالي النية لصلاة الاستخارة، إنما تكون قبل الشروع بالصلاة.
قال العراقي:
((إنما أمَره -صلى الله عليه وسلم- بذلك بعد حصول الهم بالأمر.. وقد يُقال: إن لم ينو بالركعتين الاستخارة بعدها، لم تحصل سنتها بذلك)).
وكذلك قال الحافظ في الفتح:
((ويبعد الإجزاء لمن عرض له الطلب بعد فراغ الصلاة، لأن ظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة الأمر)).
قلت:
فإن فعل ذلك، وعقد النية بعد الشروع بالصلاة، ثم دعا فلا حرج، إذ على أقل تقدير، تحسب له دعاء.
لكنه لم يأت بسنة الاستخارة على وجهها المشروع، والأكمل.
هل تجزيء الاستخارة بالدعاء دون الصلاة؟
لا شك أن الأكمل أن يأتي المستخير بالصور الشرعية من الصلاة، ثم الدعاء، فإن اضطر العبد، أو ضاق به الوقت، فلم يقدر على أداء الركعتين، جاز له الدعاء بلا صلاة، على اعتباره دعاء.
قال النووي:
((ولو تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء)).
ويكون الدعاء والحال هذه كأي دعاء حاجة آخر، حتى ولو كان الدعاء دعاء مخصوصًا بصلاة، فقد استسقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعاء دون صلاة، والمسنون الصلاة والدعاء.
وينبغي للمسلم دائمًا، أن يأتي بالعبادة على وجهها الأكمل، وذلك بعدًا عن الخلاف والريبة، وأدعى لاستجابة الدعاء، وقبول العبادة.
وقد تكون ((الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء، أن المراد بالاستخارة، حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة، لما فيها من تعظيم الله، والثناء عليه، والافتقار إليه، مآلاً وحالاً)).
هل يجب الالتزام بنص الدعاء؟
نعم، يجب الالتزام بنص الدعاء المخصوص، ودعاء الاستخارة دعاء مخصوص.
ففي الصحيحين: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علَّم البراء بن عازب -رضي الله عنه- دعاء الإيواء إلى الفراش، وفيه: ((آمنت بكتابك الذي أنـزلت، وبنبيك الذي أرسلت))، فلما أعاد البراء الدعاء للاستذكار، قال ((.. وبرسولك الذي أرسلت))، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا، وبنبيك الذي أرسلت)).
فدل هذا:
على وجوب الالتزام بنص الدعاء في الأدعية المخصوصة، والله أعلم.
قال النووي:
((فإن ألفاظ الأذكار يحافظ على الثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-)).
هل يلقن الدعاء من لا يحفظه أو يقرأه من كتاب.؟
لا نرى مانعًا من تلقين الدعاء من لا يحفظه، ليدعو به، أو قراءته من ورقة أو كتاب، لقوله تعالى (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) [البقرة 286).
وقوله:
(فاتقوا الله ما استطعتم) (التغابن 16).
وعلى المسلم، القادر على حفظ الدعاء، أن يحفظه لما في حفظه من خير عظيم، إذ قلما يمر بالمسلم زمن، إلا ويعرض له عارض، أو يهم بأمر، فيستخير بذلك ربه من حفظه.
فربما كان في سفر، أو مكان، وليس بين يديه الدعاء، وهو مُقْدِمُ على أمر عظيم، فيخسر استخارة خالقه، ومن إلى الخير يرشده.
هل يُسَنُّ رفع اليدين في دعاء الاستخارة؟
الأصل في الأدعية، رفع الأيدي إلا ما ثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عدم الرفع فيه وذلك لعموم الأدلة.
مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله حيى كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين))
هل يختم دعاء الاستخارة بشيء، أو يقدم بين يديه شيئاً من الحمدلة، أو الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
أفاد شيخنا العلامة ابن باز، جواز ذلك، فيقدم المستخير بين يدي الدعاء، الحمد والثناء على الله تعالى بما هو أهله، ويختم بالصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك لعموم الأدلة، التي تفيد تقديم الحمد والثناء على الله قبل الدعاء، وختمه بالصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأبى ذلك شيخنا العلامة الألباني، فمنع ذلك، وذلك لأن دعاء الاستخارة دعاء مخصوص، على صورة مخصوصة، لا ينبغي للمسلم أن يضيف عليه شيئًا، تقديمًا كان ذلك أو ختمًا، والذي تميل إليه النفس، عدم إضافة شيء من ذلك، وذلك دفعًا للريبة، وخشية الوقوع في الابتداع، وخوفًا من التقديم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وحرصًا على التمسك بنص الدعاء، والله أعلم.
هل تشرع الاستخارة لأمرين في صلاة واحدة، ودعاء واحد؟
إن كان هذان الأمران مرتبطين، ومتعلقاً كل واحد منهما بالآخر، فلا شك في جواز ذلك وشرعيته.
كالزواج من فلانة مع قيمة المهر، و كالشراكة مع فلان مع قيمة المبلغ المشارك فيه، وكالسفر إلى بلد مع نوع الوسيلة.
ومثاله أن يقول:
((اللهم إن كنت تعلم أن في سفري إلى بلاد كذا وكذا بالسيارة خير لي في ديني..)).
مثال آخر:
((اللهم إن كنت تعلم أن شراكتي مع زيد، وبمبلغ كذا، خير لي في ديني)).
وأما إن كان الأمران مفترقين، ولا يتعلق أحدهما بالآخر، فقد أفتى شيخنا العلامة ابن باز، بجواز ذلك، وقال: لانرى مانعًا. وأبى ذلك شيخنا العلامة الألباني، وقال: لا نرى ذلك، ولعل دليله: قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا هم أحدكم بالأمر..)).
والذي تميل إليه النفس، ويطمئن إليه القلب، أن يكون لكل أمر استخارة خاصة به، فإن كان مضطرًا، أو لا يكفيه الوقت، فأرجو أن لا يكون بذلك بأس إن شاء الله تعالى، فإن فعله بلا عذر، فأرجو أن يجزئه، وقد ترك الأفضل والأكمل، والله أعلم.
إذا كان القلب مائلاً إلى الشيء قبل الاستخارة، فهل يستخير المرء؟
وما فائدة الاستخارة والحال هذه؟
نعم يستخير المسلم، سواء كان قلبه مائلاً إلى الشيء المستخار له، أو لم يكن مائلاً إليه.
لأن الاستخارة هي طلب التيسير من الله لهذا الأمر، أو صرفه عنه بعلمه وقدرته، فييسرها بأسباب، ويصرفها بأخرى، سواء أدركنا هذه الأسباب، أم لم ندركها.
وليست الاستخارة لانشراح الصدر أو عدمه، وهذا أمر ما يزال غامضًا عندكثير من المسلمين.
وفائدة ذلك واضحة:
وهي أن الإنسان ربما ينشرح صدره للشيء، ويظن أن فيه الخير كله، وليس فيه إلا مضرته، والعكس صحيح، لأن الإنسان طبع على إدراك ظاهر الأمور، وخفي عليه غيبها، ولذلك شرع الله عز وجل له هذه الاستخارة، لييسر له من الخير ما لم يعلمه، ويصرف عنه من الشر ما لم يعلمه، ثم يهبه الرضى والاطمئنان بما قدّره، إن كان مؤمنًا صادقًا، مهما كان هذا الأمر في ظاهره لا يرضيه.
هل يوفق المستخير يقيناً؟
لا شك أن الاستخارة بمنـزلة الدعاء، ومن الأدعية ما يستجاب، ومنها مالا يستجاب.
وقد تكون عدم الاستجابة لمانع من المستخير، كما سبقت الإشارة إليه، فعلى المسلم تجنب موانع استجابة الدعاء، والإلتزام بأحكام الدعاء وآدابه، كيما يستجيب الله دعاءك، ويسّهل لك أمرك، فقد يكون الأمر المستخار فيه، مرتبطًا بك، لا ينفك عنك طوال عمرك، فتخسر التوفيق والسداد.
وقد تكون عدم الاستجابة، لأمر يريده الله سبحانه في تكفير ذنوب أو ابتلاء، فما على العبد العاقل، إلا الصبر والرضى بقضاء الله في جميع الأحوال.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((ما من على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم…)) الحديث.
هل يمكن للمستخير أن يعرف أنه وفق أم لا؟
كثيرٌ من الناس يشْكون: إنهم استخاروا ولكن.!
وغفلوا عن أن التوفيق الأكبر، والنعمة العظمى هي: توفيق الله لعبده، بقيامه بهذه الاستخارة، التي فيها ما ذكرنا من الفوائد التعبدية، والرضا بقدر الله تعالى، والتسليم لقضائه، وبخاصة بعد الاستخارة، وعدم الاستكانة للتفكير والهم، وكثرة التردد، الذي يعطل قدرة العبد، ويسلمها للأوهام المهلكة، والعجز المقعد، وهذا من أعظم التوفيق، وأكبر من تحصيل العبد لمصلحة دنيوية، أو منفعة شخصية.
أما فيما يخص الأمر المستخار فيه نفسه: فحقيقة الأمر لا يمكن معرفتها.
وذلك لأن العبد قد يظن أنه لم يوفق، بناء على ظاهر الأمر، ولكن حقيقته قد تكون التوفيق كله، لأن نظر الإنسان غالبًا ما يكون قاصرًا على الأمور الظاهرة، غافلاً عن حقيقة الأمر وغيبه، قال تعالى (يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا) (الروم 7].
فليس كل عطاء يكون ظاهره خيرًا يكون في باطنه كذلك، وليس كل حرمان هو شرًا في حقيقته.
قال ابن القيم في الفوائد (174):
((وكذلك الأب الشفيق على ولده العالم بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه، بَضَعَ جلده وقطع عروقه، وأذاقه الألم الشديد، وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه ، كلُّ ذلك رحمةً به وشفقة عليه، وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يُعْطِهِ ولم يوسع عليه، لعلمِهِ أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته، حمية له، ومصلحة لا بخلاً عليه.
فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين، الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم، ومن آبائهم وأمهاتهم، إذا أنـزل بهم ما يكرهون كان خيرًا لهم من أن لا ينـزله بهم، نظرًا منه لهم، وإحسانًا إليهم، ولطفًا بهم، ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لَعَجزوا عن القيام بمصالحهم، علمًا وإرادة وعملاً، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم، بموجب علمه وحكمته ورحمته، أحبوا أم كرهوا، فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته، فلم يتهموه في شيء من أحكامه، وخفي ذلك على الجهال به وبأسمائه وصفاته، فنازعوه تدبيره، وقدحوا في حكمته، ولم ينقادوا لحكمه، وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة ، وآرائهم الباطلة، وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عرفوا، ولا لمصالحهم حَصَّلوا، والله الموفق.
ومتى ظفر العبدُ بهذه المعرفة، سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه نعيمها إلا نعيم جنة الآخرة، فإنه لا يزال راضيًا عن ربه، والرضا جنة الدنيا، ومستراح العارفين، فإنه طَيِّبُ النفس بما يجري عليها من المقادير، التي هي عين اختيار الله له، وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية، وهذا هو الرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً -صلى الله عليه وسلم- ، وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك)).
قال تعالى:
{وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) [البقرة: 216].
وقال تعالى:
(ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) (الشورى: 27).
فقد يستخير المرء لتجارة، ثم يخسر فيها، فيظن أنه لم يوفق، ولربما لو لم يستخر، لكان هناك مشكلات أكثر، ومصائب أعظم، فصرف الله عنه تلك التي لم يعلمها، وقدر له ما ظهر له من الخسارة.
وقد يستخير العبد لزواج، ثم يظهر له أنه لم يوفق فيه، بل ربما يطلق، أو تُطلَّق، رغم الاستخارة.
ولربما لولم يستخر، أو تستخر، لكان هناك من البلايا والرزايا ما دفعها الله عز وجل بفضله ورحمته، أن استجاب دعاء الاستخارة.
قال ابن الجوزي:
((فإياك أن تسأل شيئاً إلا وتقرنه بسؤال الخيرة، فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سبباً للهلاك، وإذا كنت قد أمرت بالمشاروة في أمور الدنيا لجليسك، ليبين لك في بعض الآراء ما يعجز رأيك وترى أن ما وقع لك لا يصلح، فكيف لا تسأل الخير ربك وهو أعلم بالمصالح، والاستخارة من حسن المشاورة)).
ويحكى أن رجلا استخار في تجارة، فخسر ماله، فاستغرب ذلك، فقيل له: إن في مالك حرامًا أذهبه الله عنك باستخارتك له، عوضًا عن محاسبتك به يوم القيامة.
ويحكى أن رجلاً طلب الجهاد، فلم يوفق له، فحزن حزنًا شديدًا فقيل له: لو أنك جاهدت لأسرت، ولو أسرت لكفرت.
ويحكى أن امرأة استخارت في زواج، وبعد الزواج طُلقت، فاستنكرت ذلك، فقيل لها: لو لم تستخيري لتزوجت رجلاً كان سببًا في وقوعك في الفواحش، أو قتل نفسك.
قال ابن القيم في الفوائد (172):
((وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها شرٌّ كثير لا يعرفه، فالإنسان كما وصفه خالقه ظَلومٌ جهولٌ، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضرّه وينفعه ميله وحبًّه ونَفْرته وبُغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه. فأنفعُ الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه، وأضرُّ الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه)).
واحذر يا عبد الله من القنوط من رحمة الله، واليأس من استجابة الدعاء، وعدم الرضا بقضاء الله، فإنه ينافي كمال التوحيد، ويخدش تمام الإيمان.
وإياك أن تستبطئ الإجابة، فتقول: دعوت فلم يستجب لي، فلا يستجاب إذن لك، لأنه اعتراض على قدرة الله، وتقديم بين يديه سبحانه، وقد سبق الحديث ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت ربي فلم يستجب لي)).
وربما كان له في ذلك تكفير لذنوبه، وتطهير لنفسه، وفي هذا من الخير مالا يعلمه إلا الله سبحانه.
خلاصة الأمر:
أن الأمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى، وأن تدبير الخالق لخلقه خير لهم من تدبيرهم لأنفسهم، وتقديره خير لهم من ظنهم، وعلى العبد إحسان الظن بالله تعالى، وصدق اليقين به، والتسليم لأحكامه، وتوطين النفس على الصبر على قدره، والرضا بقضائه، وأنه سبحانه، لا يقدر لعبده المؤمن إلا الخير، فإن بلغ هذه الدرجة من الإيمان، كان أنفع له من كل غرض دنيوي، ومقصد مادي.
فعن صهيب -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((عجبت للمؤمن، إن الله تعالى لم يقض له قضاءً إلا كان خيرًا له)).
قال ابن الجوزي:
((فإذا جاء إبليس فقال: كم تدعوه ولا ترى إجابة؟ فقل: أنا أتعبد بالدعاء، وأنا موقن أن الجواب حاصل، غير أنه ربما كان تأخيره لبعض المصالح علي مناسب، ولو لم يحصل حصل التعبد والذل)) الذي هو أعظم منفعة، من تحقيق الغرض الدنيوي.
وليس هناك من محظور، إذا ما شعر العبد أن دعاءه لا يستجاب، وأن أعماله لا توفق، أن يراجع أعماله، ويحاسب نفسه، ويستقيم في دينه، ويكثر من طاعة ربه، بل هذا هو الخليق بالمؤمن، والجدير به، فقد يكون هناك موانع لاستجابة الدعاء، يفعلها العبد من غير علم أو قصد، كأن يكون غافلاً عن ربه، ضعيف اليقين به، أو يكون في طعامه حرام، وفي دخله شبهة، أو لظلم يفعله، أو لذنب يرتكبه، فليراجع العبد نفسه، وليتفقد أحواله، فإن في ذلك خيرًا عظيمًا، لنفسه و عاقبته، فإن المعاصي سد في بلوغ الأرب، والغفلة حجاب أمام استجابة الدعاء والطلب.
قال ابن الجوزي:
((فإذا تبت ودعوت ولم تر للإجابة أثراً فتفقد أمرك، فربما كانت التوبة ما صحت، فصححها ثم ادع ولا تمل من الدعاء، فربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، وربما لم تكن المصلحة في الإجابة، فأنت تثاب وتجاب إلى منافعك، ومن منافعك أن لا تعطى ما طلبت بل تعوض غيره)).
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)).
هل يستشير المستخير أحدًا.. ومتى؟
وما فائدة الاستشارة مع الاستخارة؟
نعم يستشير المستخير من علم منهم صلاحًا، وسدادًا في الرأي ونصحًا، وسواء كانت الاستشارة قبل الاستخارة، أم بعدها، فلا فرق، وقديمًا قيل: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار. فالاستخارة لله، والاستشارة للعباد.
والاستخارة عمل إيماني، والاستشارة عمل سببي، ولا تعارض بينهما، تماماً كالتوكل على الله عز وجل بالقلب، ومباشرة الأسباب بالجوارح، التي خلقها الله عز وجل للوصول إلى الغايات، وهذا هو المشروع في دين الإسلام، أما ترك الأسباب، فهو التواكل الذي يأباه الإسلام، وأما الاعتماد عليها دون الله عز وجل، فهو المسمى بشرك بالأسباب.
قال تعالى:
(وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) (آل عمران: 159).
فجمع الله تعالى -في آية واحدة- بين اتخاذ الأسباب، وهي المشورة، ووجوب التوكل على الله تعالى، الذي هو عمل إيماني، وصفة كمال من صفات المؤمنين.
وهذا من فضل الله علينا، في عظمة هذا الإسلام، أن جمع بين الإيمان والعمل، ووازن بين الروح والمادة.
وفي الحديث المشهور:
أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن دابته أيعقلها ويتوكل؟ أو يطْلقها ويتوكل؟
فكان هذا الجواب الكامل، والكلم الجامع، والبيان الرائع: ((اعقلها وتوكل)).
وكان من سيرته -صلى الله عليه وسلم- مشاورة أصحابه، بل ونسائه أحيانًا، فشاورهم في أحد، وشاورهم في الخندق، وشاورهم في أسارى بدر، وفي كثير من الأمور.
وأثر عن سلفنا الصالح قولهم للعاطلين عن العمل:
((إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة)).
والناس في الاستشارة:
كما قال معن بن زائدة: ((إنما نعيش بعقل غيرنا)).
وقال بعضهم: الناس ثلاثة:
فواحد كالغذاء لا يُستغنى عنه.
وواحد: كالدواء، يحتاج إليه في بعض الأوقات.
وواحد: كالداء لا يحتاج إليه أبدًا.
هل هناك طرق للاستخارة غير هذا؟
لا يوجد طريقة شرعية للاستخارة غير ما ذكرنا، من الصلاة والدعاء.
إذن ما حكم هذه الاستخارات التي يفعلها الناس؟
ما يفعله كثير من الناس غير الاستخارة الشرعية، إنما هو من محدثات الأمور، عدا عن أنها كانت سببًا في الإِعراض عن الاستخارة الشرعية، وقمين أن لا يستجاب لصاحبها إلا أن يشاء الله تعالى، الأمر الذي يؤدي به إلى ضعف إيمانه، وشكه في قدرة ربه، وسوء ظنه بالله سبحانه.
قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إياكم ومحدثات الأمور)).
وصدق ابن عباس:
((ما من بدعة تحيا إلا وسُنَّةٌ تموت)).