منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Empty
مُساهمةموضوع: كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ    كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Emptyالإثنين 21 مارس 2011, 6:22 am

بسم الله الرحمن الرحيم
http://www.shamela.ws
الكتاب:
رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ
المؤلف: محمد حامد محمد
المحقق:
الناشر:
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: 1
[ملاحظات]
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف , ولا يجوز استغلاله تجاريا.
رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ
تأليف
محمَّدُ حَامِد محمَّدُ
(1/4)
________________________________________
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله - سبحانه وتعالى -.?
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ـ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) آل عمران/102.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء/1.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) الأحزاب/70 -71.
الحمد لله الذي شرفنا بحفظ كتابه، ووفقنا لفهم منطوقه ومفهوم خطابه ووعدنا على تبيين معانيه وإعرابه بجزيل مواهبه وعظيم ثوابه وهدانا بنبيه المصطفى ورسوله المجتبى خير مبعوث بآياته وباهر بالقرآن، وهو أعظم معجزاته، كتابٌ مجيد (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت/42، أذلت بلاغته أعناق أرباب الكلام وأعجزت فصاحته ألسنة فصحاء الأنام فبسط المؤمنون يد
(1/5)
________________________________________
الإذعان والتسليم وأطلقوا ألسنتهم بالقول الصحيح السليم (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الحاقة/40، وقبض الكافرون يد الإنصاف، وقيدوا ألسنتهم بالخلاف فخرجوا عن طريق الهدايات، وحصلوا في شرك الضلالات (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) البقرة/257، فلما وقعوا في داهية دهياء، أجابوا بفطنة عمياء، فقالوا بلسان الكلال والحصر: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) المدثر/24، أقعدتهم براعته، ودهمتهم فصاحته، فأجابوا بلسان الباطل والمخبون وقالوا: (أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ) الصافات/36 أفحمتهم جزالة آياته ورمتهم سهام مغيباته، فتاهوا في ظلمة معاندٍ أو راعنٍ، وقالوا: هو كاهن، فيا عجبًا كيف كلَّت سيوف فصاحتها، وعثرت فرسان بلاغتها، حتى نطقوا بكلام غير معقول، ولا يرشدها ولا يهديها عقول وأي عقول ولكن كادها باريها.
فالحمد لله على نعمة الهداية، وله الشكر على السلامة من الضلالة والغواية.
وبعد فهذه تأملات، في معاني البسملة، لغويًا، وفقهيًا، وحديثيًا، وأدبيًا، قد منّ الله - سبحانه وتعالى - بها عليّ منذ سنوات، فأحببت أن ينتفع بها غيري، وأن تكون لي ذُخرًا يوم الحساب، وأن أنال بها ثوابها بعد انقطاع الأجل، وقد سمّيتها (رفع الأستار المسبلة عن مباحث البسملة) والتي أسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يجعلها خالصة لوجه الكريم هو ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب
محمد حامد محمد
(1/6)
________________________________________
الفصل الأول
في معاني الباء
تؤدي الباء التي هي للجر أربعة عشر معنى، وهي:

1- الإلصاق:
جعل سيبويه الإلصاق المعنى الأصلي للباء وسماه الإلزاق والاختلاط، ومثّل له بقوله: خرجتُ بزيد، ودخلتُ به، وضربتُ بالسوط، ألزقت ضربك إياه بالسوط فما اتسع الكلام فهو أصله (1) . وذكر المبرد أنها للإلصاق (2) ، وتابعه ابن السّراج (3) ، وجعلها ابن جني للإلصاق والاستعانة (4) .
وجعل الزبيدي الإلصاق المعنى الأساسي للباء (5) .
وعدَّها للإلصاق أيضًا الزمخشري وتابعه ابن يعيش (6) وذكره ابن الجوزي (7) والحيدرة (8) ، والشلوبين (9) ، وابن فارس (10) ، وابن عصفور (11) ، وابن منظور نقلًا عن الجوهري الذي قال: وهي لإلصاق الفعل به (12) .
__________
(1) الكتاب 4/217
(2) المقتضب 1/39
(3) الأصول في النحو 1/503
(4) سر صناعة الإعراب 1/135 - 138
(5) الواضح في علم العربية ص 301
(6) شرح المفصل 8/22
(7) منتخب قرة العيون ص 80
(8) كشف المشكل ص 233
(9) التوطئة ص 200
(10) الصاحبي ص 132
(11) المغرب 1/ 203
(12) لسان العرب 1/ 196
(1/7)
________________________________________
وقسّم المالقي الإلصاق إلى: إلصاق لفظي، وإلصاق معنوي.
فالإلصاق المعنوي: كما في قوله تعالى (ليَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) الروم/34، وقوله تعالى (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ) سبأ/53.
والإلصاق اللفظي كما في قوله تعالى (وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) المطففين/30 ورفض المالقي جعل الإلصاق معنى أصليًا للباء، وصحّ عنده تعدد معانيها (1) وذكر لها معنى الإلصاق الرضى (2) ، وأكد ذلك أبوحيان (3) ، وذكر محقق الكوكب الدُّري أن الإلصاق هو المعنى الأول للباء، وعدد معانيها (4) .
وذكر ابن هشام، أن الإلصاق معنى لا يفارق الباء، ولهذا اقتصر عليه سيبويه وقسم الإلصاق إلى حقيقي، كأمسكتُ بزيد، ومجازي كمررتُ بزيد (5) .
وذكره ابن عقيل والأشموني والصبان (6) .
وذكر الأربلي أن للباء معانٍ كثيرة، لكن الإلصاق ملاحظ فيها (7) ، ونقل هذا المعنى السيوطي عن أبي حيان وابن جني (8) ، وجعل التنوخي هذا المعنى لا يفارقها أبدًا (9) .
وفي قوله تعالى (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ) المائدة/6، جعلها الزمخشري للإلصاق، وقال: المراد إلصاق المسح بالرأس (10) ، وذكر الزركشي أنها للإلصاق وهو أصلها ومعناه: اختلاط الشئ بالشئ، ويكون حقيقة وهو الأكثر نحو-به داء -، ومجازًا نحو-
__________
(1) رصف المباني ص143.
(2) شرح الكافية 2/324.
(3) البحر المحيط 3/436.
(4) الكوكب الدري ص315.
(5) مغني اللبيب 1/118.
(6) حاشية الصبان 2/221.
(7) جواهر الأدب ص18.
(8) الهمع 2/20.
(9) الأقصى القريب ص13.
(10) الكشاف 1/325.
(1/8)
________________________________________
مررت به - إذ معناه: جعلت مروري ملصقًا بمكان قريب منه لا به، فهو وارد على الاتساع (1) .

2- التعدية:
وهي التي بواسطتها يتعدى الفعل اللازم إلى المفعول , فهي بذلك تؤدي وظيفة همزة التعدية، وجمهور النحاة على أن باء التعدية بمعنى همزة التعدية؛ وإنما لا يقتضي ذلك مشاركة الفاعل للمفعول.
وذكر المرادي: أن المبرد والسهيلي خالفا ذلك وعندهما أنها تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول (2) ، وأطلق ابن هشام عليها باء النقل، قال وهي المعاقبة للهمزة في تصير الفاعل مفعولًا، وأكثر ما يعدي الفعل القاصر، وتقول في: ذهب زيد، ذهبتُ بزيد، وأذهبته، ومنه قوله تعالى: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) البقرة/17 وقُرئ أذهب الله نورهم، ومنه قوله تعالى (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) البقرة/251والمعنى دفع الناس بعضهم بعضًا، وقولنا صحككت الحجر بالحجر، والأصل: صك الحجر الحجر (3) .
وجعلها ابن فارس للتعدية في قوله تعالى (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) الإسراء/ 1. ونصّ البغدادي على أن الباء للتعدية في قوله تعالى (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) البقرة/ 166 أي قطعتهم الأسباب، ومثله قوله: تفرقت بهم الطرق؛ أي فرقتهم، وأسند ذلك إلى السّمين (4) ، وجعلها الرازي للتعدية في قوله تعالى (مِنْ نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ) النساء/23، وبذلك قال الزمخشري، وشاهده قوله تعالى (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)
__________
(1) البرهان 4/252.
(2) الجنى الداني ص38.
(3) مغني اللبيب 1/120.
(4) الخزانة 1/86
(1/9)
________________________________________
ق/19، قال الزمخشري: والباء للتعدية؛ يعني وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي انطق الله به كتبه ورسله (1) ، وجعلها الزركشي للتعدية أيضًا في قوله تعالى (وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) البقرة/20، وجعلها للتعدية أيضًا في قوله تعالى (مِنْ نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ) النساء/23.

3-الاستعانة:
وضع المرادي ضابطها بقوله: وهي الداخلة على آلة الفعل، نحو: كتبتُ بالقلم، وضربتُ بالسيف، ومنه في أشهر الوجهين في (بسم الله الرحمن الرحيم) .وذكر المرادي أن ابن مالك لم يذكر باء الاستعانة في التسهيل؛ وأدرجها في باء السببية.
وصرّح المرادي بأن الباء التي في الأفعال المنسوبة إلى الله - سبحانه وتعالى - لا يجوز أن تكون فيها الباء للاستعانة، ويجوز أن تكون الباء للسببية (2) .
وللتفرقة بين باء الاستعانة، وباء السبب، ننظر فيما أدخلت عليه، فإن كان آلة يستخدمها الفاعل لأداء الفعل كانت الباء للاستعانة، وإن كان سببًا أو علة لحدوثه كانت الباء فيها للسبب.
وذكر المبرد باء الاستعانة (3) ، وصرّح به الرماني ومثّل لها بـ (كتبتُ بالقلم وقطعتُ بالمدية) (4) ، وقال الزمخشري: ويدخل باء الاستعانة في نحو: كتبتُ بالقلم،
__________
(1) الكشاف 4/21.
(2) الجنى الداني ص38
(3) المقتضب 1/39
(4) معاني الحروف ص36
(1/10)
________________________________________
ونجّرتُ بالقدوم، وشرح ابن يعيش ذلك بقوله: استعنتُ بهذه الأشياء على هذه الأفعال (1) .
وذكر لها الاستعانة أيضًا ابن الجوزي (2) ، وابن جني (3) ، والمالقي (4) .
وعدّها ابن هشام للاستعانة في البسملة، وقال: لا يأتي على الوجه الأكمل إلا بها (5) وذكر لها معنى الاستعانة ابن مالك أيضًا (6) ، وجعلها المجاشعي للاستعانة في قولك: كتبتُ بالقلم، وقطعتُ بالمُدية (7) .
وأسند لها ابن منظور معنى الاستعانة إلى الجوهري في نحو: كتبتُ بالقلم (8) .
وجعلها الزركشي للاستعانة في البسملة (9) وذكرها أيضًا فيها السيوطي (10) .

4 - السببية أو التعليل:
بالسببية عبّر ابن هشام ووجعلها في قوله تعالى (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) البقرة/54، وقوله تعالى (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ) العنكبوت/40. وفي قول الشاعر:
قَدْ سُقِتَتْ آبَالُهُمْ بِالنَّارِ... وَالْنَّارُ قَدْ تَشْفِي مِنَ الأُوَارِ (11)
__________
(1) شرح المفصل 8/22
(2) منتخب قرة العيون ص90
(3) سرّ صناعة الإعراب 1/138
(4) رصف المباني 143
(5) مغني اللبيب 1/120
(6) الكافية الشافية ص45
(7) شرح عيون الإعراب ص182
(8) لسان العرب 1/197
(9) البرهان 4/256
(10) معترك الأقران 1/635
(11) مغني اللبيب 1/120
(1/11)
________________________________________
وبالتعليل عبّر المرادي ووضع ضابطها نقلًا عن ابن مالك بقوله: هي التي تصلح غالبًا في موضعها اللام، شاهده قوله تعالى (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) البقرة/54، وقوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ) النساء/160، واحترز بقوله: غالبًا من قول العرب: غضبتُ لفلان؛ إذا غضبت من أجله وهو حي، وغضبت بفلان إذا غضبت من أجله وهو ميت.
وأكثر النحاة لم يذكروا باء التعليل استغناءً بباء السبب؛ لأن التعليل والسبب عندهم واحد، ولذلك مثلوا بهذه المُثل التي مثل بها ابن مالك للتعليل (1) .
وقال ابن قتيبة: الباء تكون مكان اللام في قوله تعالى (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) الدخان/39، وقدّر المعنى بـ للحق (2) ، وسمّاها السيوطي باء السببية (3) ، وذكر الزركشي لها معنى التعليل في قوله تعالى (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) البقرة/54 وقال: هي بمنزلة اللام (4) .
وفي قوله تعالى (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) البقرة/54 جعلها الألوسي للسببية (5) وهو ما ذهب إليه أبو حيان في نفس الآية (6) .
وفي قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ) النساء/160، جعلها الإسنوي للسببية (7) .
وفرّق الأشموني بين باء السبب وباء التعليل، وذكر قوله تعالى (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ) العنكبوت/40 وجعل الباء فيه للسببية، وذكر قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا
__________
(1) الجنى الداني ص39
(2) تأويل مشكل القرآن ص578
(3) معترك الأقران 1/635
(4) البرهان 4/256
(5) روح المعاني 1/357
(6) البحر المحيط 3/36
(7) الكوكب الدري ص315
(1/12)
________________________________________
عَلَيْهِمْ) النساء/160، وجعله للتعليل؛ لكن الصبان أسقط التعليل وقال: لأن التعليل والسبب شئ واحد، واعتمد في ذلك على ما ذكره ابن هشام، وأبو حيان، والسيوطي وذكر أن الشيخ يحي فرّق بين العلة والسبب، فالعلة متأخرة في الوجود متقدمة في الذهن، وهي الغاية أو الغرض، وأما السبب فهو متقدم ذهنًا وخارجًا؛ لكن يمنع من توجيه صنيع الشارح هذا تمثيله بنحو حفرت البئر بالماء (1) .
وجعلها الثعالبي بمعنى السببية في قوله تعالى (وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ) الروم/13، وقدّر المعنى: بـ من أجل شركائهم (2) .
وذكره ابن منظور في قول لبيد:
غُلْب تَشَذَّرُ بِالْدُّخُولِ كَأَنَّهَا... جِنُّ الْبّدِيَّ رَوَاسِيَا أَقْدَامُهَا (3)

5- باء المصاحبة أو الحال:
وضع المرادي ضابطها وهو أن يحسن في موضعها (مع) ، وأن يغني عنها وعن مصحوبها الحال. وشاهده لها قوله تعالى (قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ) النساء/170 أي: مع الحق أو محقًا، وقوله تعالى (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ) هود/48 أي: مع سلام، أو مسلمًا عليك.
قال المرادي: ولصلاحية وقوع الحال موقعها سمّاها كثير من النحويين باء الحال (4) وذكر هذا الضابط أيضًا الزركشي، وشاهده قوله تعالى (قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ) النساء/170 (5) .
__________
(1) حاشية الصبان 2/220
(2) فقه اللغة ص516
(3) لسان العرب 1/197.
(4) الجنى الداني ص40
(5) البرهان 4/256
(1/13)
________________________________________
وذكر الضابط أيضًا الزمخشري. وجعل منه قوله تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ) التوبة/25، وقوله تعالى (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) التوبة/25، وقدّر المعنى في الآية الأولى بجهالة في موضع الحال، بما رحبت؛ أي مع رحبها (1) .
وجعلها أبو حيان للحال في الآية السابقة، وقدّر المعنى: ضاقت بكم الأرض مع كونها رحبًا لشدة الحال وصعوبتها، كأنهم لا يجدون مكانًا يستصلحونه للهرب والنجاة لفرط ما لحقهم من الرعب، وجعل منه قوله تعالى (وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ) هود/41، فهي عنده في موضع الحال (2) .
وفي قوله تعالى (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) النصر/3، جعلها أبو حيان للمصاحبة (3) وكذلك جعلها الزجاج (4) .
وذهب ابن القيم أن الباء في قوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) الإسراء/1، أنها تفيد المصاحبة، وذكر ما يفيد مصاحبته في مسراه (5) . وذكر العلوي في أحد وجهين: أن الباء للحال في كل الأحوال، لا يخرجن عنه ساعةً واحدة ولا يملن
__________
(1) الكشاف 1/256، 2/146
(2) البحر المحيط 5/224
(3) البحر المحيط 1/143
(4) إعراب القرآن 1/269
(5) بدائع الفوائد 3/202
(1/14)
________________________________________
عن الانقياد طرفة عين (1) . وذكر الثعالبي قوله تعالى (وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ) المائدة/61، شاهدًا على أن الباء بمعنى (مع) (2) ؛ وبذلك قال ابن هشام (3) .
وذكر الرماني أن الباء في هذه الآية للحال، وقال: لا يريد أنهم دخول يحملون شيئًا، وخرجوا يحملونه؛ إنما أراد أنهم دخول كافرين وخرجوا كافرين وجعلها للمصاحبة في قول الشاعر:
وَمُسْتَنَّةٍ كَاسْتِنَانِ الخَرو... فِ قَدْ قَطَعَ الحَبْلَ بِالْمرْودِ
أراد: مع المرود (4) .

6- الظرفية:
وضع المرادي ضابطها، وهو: أن يصلح في موضعها (في) نحو قوله تعالى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) آل عمران/123، وقوله تعالى (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ) الصافات/137-138، وقال المرادي: وهو كثير في الكلام (5) .
وجعلها الإسنوي بمعنى (في) في قوله تعالى (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ) الصافات/137-138، وقدّر المعنى بـ (وفي الليل) (6)
وذكر لها الرماني معنى الظرفية، وذلك في قول الشّماخ:
وَهُنَّ وُقُوفٌ يَنْتَظِرْنَ قَضَاءَهُ... بِضَاحِي غَداةٍ أمْرُهُ وهُوَ ضَامِرُ (7)
__________
(1) الطراز 1/150
(2) فقه اللغة ص516
(3) مغني اللبيب 1/120
(4) معاني الحروف ص39
(5) الجنى الداني ص40
(6) الكوكب الدري ص315
(7) معاني الحروف ص36
(1/15)
________________________________________
وعدّها المجاشعي للوعاء بمعنى (في) وشاهده قوله تعالى (بِبَطْنِ مَكَّةَ) الفتح/24 (1) ، وذكر ابن هشام قوله تعالى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) آل عمران/ 123 شاهدًا للباء على الظرفية وكذلك قوله تعالى (نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ) القمر/34 (2) . وقال الأربلي: هو أن يحسن في موضعها (في) وهي الداخلة على الاسم من ظروف الزمان أو من ظروف المكان (3) ، وفي قوله تعالى (السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ) المزمل/18 جعلها للظرفية، والباء في (به) بمعنى (في) ومنه قول الشاعر:
إِنَّ الرَّزِيَّة لَا رَزِّيَّةَ مِثْلُهَا... أَخَوَاي إِذْ قُتِلَا بِيَوْمٍ وَاحِدٍ
أي: في يوم واحد (4) .
وجعلها الحيدرة بمعنى (في) في قوله تعالى (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) النور/36، وقدّر المعنى بـ (في الغدو) (5) .
وذكر المالقي أن الباء بمعنى (في) في قوله تعالى (أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً) يونس/87 ومنه قول زهير:
بِهَا العِينُ وَالاَرَامُ يَمْشِينَ خَلْفَهُ... وَأَطْلاَؤهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
وقدّر بها بـ (فيها) (6) .
وذكر الفراء لها هذا المعنى وقال: سمعتُ من العرب من يقول: أدخلك الله بالجنة؛ أي فيها (7) .
__________
(1) شرح عيون الإعراب ص182
(2) المغني 1/121
(3) جواهر الأدب ص19
(4) الأزهية ص296
(5) كشف المشكل ص233
(6) رصف المباني ص145
(7) معاني القرآن 2/70
(1/16)
________________________________________
وفي قوله تعالى (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) آل عمران/26 قال ابن الجوزي: الباء بمعنى في (1) .
وذكر السيوطي أنها للظرفية في قوله تعالى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) آل عمران/ 123، وقوله تعالى (نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ) القمر/34، والمعنى: في يوم بدر وفي سحر (2) .
7- البدل:
علامتها عند المرادي أن يحسن في موضعها كلمة (بدل) كما في قول قريط ابن أنيف:
فَلَيْتَ لي بِهِم قوْمَا، إِذَا رَكِبُوا... شَنُّوا الإِغَارَةَ فُرْسَانَا وَرُكْبَانًا
وفي الحديث: «مَا يَسُرُّنِى أَنَّ لِى بِهَا حُمْرَ النَّعَمِ» (3) ، والشاهد في قوله (بها) أي: بدلها.
وذكر لها هذا المعنى كلٌ من ابن هشام (4) ، والسيوطي ووضع علامتها كالمرادي (5) وابن مالك كما في الخلاصة والتسهيل (6) .

8- العوض:
ذكره المالقي وشاهده قوله تعالى (وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) سبأ/16، ومنه قول الشافعي:
__________
(1) منتخب قرة العيون ص82
(2) معترك الأقران 1 /635
(3) الجنى الداني ص40، والحديث أخرجه أحمد (819)
(4) مغني اللبيب 1/121
(5) الهمع 1/21
(6) التسهيل ص145
(1/17)
________________________________________
فَأَصْبَحُوا وَلِسَانُ الحالِ يُنْشدُهُمُ... هَذَا بِذَاكَ وَلَا عَتْبٌ عَلَى الزَّمَنِ
وقدّر المعنى في الآية: عوض جنتيهم، وفي البيت: عوض ذلك (1) .
ووضع الدكتور عباس حسن الفرق بين باء البدل، وباء العوض: وهو أن البدل اختيار أحد الشيئين، وتفضله على الآخر من غير مقابلة بين الجانبين، والعوض هو دفع شئ في مقابل الآخر. وجعل الحكم في هذا للقرينة فهي تعين المراد وتوجه الذهن إليه (2) .
ويبدو أن النحاة استغنوا عن هذا المعنى بالمقابلة، كما يظهر ذلك عند الحديث عن باء المقابلة.
9- المقابلة:
وضع المرادي ضابطها بأنها الداخلة على الأثمان والأعواض، غير أن المرادي أدخلها في باء السبب (3) ، وجعلها السيوطي للأعواض وأدخلها في باء البدل (4) ، وسمّاها النضر بن شميل باء الثمن، ومثّل له بقوله:: أشتريتُ بدرهم (5) ، وقال ابن الجوزي: وتصحب الأثمان كقولك: أشتريتُ بدرهم، وبعتُ بدينار (6) ، وجعلها السيوطي للمقابلة في قوله تعالى (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل/32، ورفض السيوطي جعلها للسببية في هذه الآية (7) .
__________
(1) رصف المباني ص146
(2) النحو الوافي 2 /492
(3) الجنى الداني ص41
(4) الهمع 2 /20
(5) البلغة في شذور اللغة ص161
(6) قرة العيون ص80
(7) معترك الأقران 1/636
(1/18)
________________________________________
وجعلها الفراء التي تدخل في المبيع والمشتري؛ فإن ذلك أكثر ما يأتي في الشيئين لا يكونان ثمنًا معلومًا، مثل الدنانير والدراهم، فمن ذلك اشتريت ثوبًا بكساء، أيهما شئت تجعله ثمنًا لصاحبه؛ لأن هذا ليس من الأثمان.
وما كان ليس من الأثمان مثل الرقيق والدور وجميع العروض فهو على هذا، فإن جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء في الثمن.
قال تعالى (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) يوسف/20، وقال تعالى (اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) التوبة/9، وفي قوله تعالى (اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ) البقرة/86، وقوله تعالى (اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ) البقرة/175، فأدخل أي هذين شئت، ومتى تصير إلى الدراهم والدنانير، فإنك تدخل الباء فيهن مع العروض، في أيهما شئت إذا اشتريت أحدهما بصاحبه (1) .
وجعلها ابن هشام للمقابلة في قوله تعالى (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل/32، مخالفًا لقول المعتزلة، ودلل بالحديث الشريف «لاَ يَدْخُلُ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» ؛ لأن المعطى بعوض قد يعطى مجانًا، أما المسبب فلا يوجد بدون العمل وقد تبين أنه لا تعارض بين الآية والحديث لاختلاف محمل البائين جميعًا في الأدلة (2) .
وكلام ابن هشام يفيد أن الباء في الآية جاءت بمعنى المقابلة وهي غير السبب، فكان دخول الجنة تعويضًا منه - سبحانه وتعالى - عمّا عمله المؤمنون من أعمال طيبة، والباء في الحديث جاءت للسبب، وفيه نفي دخول المؤمن الجنة بسبب عمله، لأنه مهما قدم من أعمال صالحة لا تكون هذه الأعمال سببًا في دخوله الجنة، لأنها أكثر من ذلك وباختلاف معنى البائين في الآية والحديث زال الخلاف بينهما وبطل العجب، والله اعلم.
__________
(1) معاني القرآن 1/30
(2) مغني اللبيب 1/121، والحديث أخرجه أحمد (7688)
(1/19)
________________________________________
10- المجاوزة:
وضابطها أن توافق (عن) ، وجعلها ابن قتيبة للمجاوزة في قوله تعالى (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) الفرقان/59، وفي قول علقمة:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ... فَإِنَّنِي بَصِيرٌ بَأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
الشاهد فيه: قوله (بالنساء) أي: عن النساء.
وقول ابن أحمر:
تَسَائَلْ بِابنِ أَحْمَرَ مَنْ... رَأَهُ أَعَارَتْ عَيْنَه أَمْ لَمْ تَعَارَا (1)
وأجازه الزجاج في قوله تعالى (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) المعارج/1 وقدّر الباء فيها بمعنى (عن) (2) ، وقدّره الزركشي في الآيتين السابقتين، وأضاف آيتين، قوله تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ) الفرقان/25 وقدّر المعنى عن الغمام؛ وقوله تعالى (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) التحريم/8؛ أي: وعن أيمانهم (3) . وذهب السيوطي إلى أنها بمعنى (عن) في قوله تعالى (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) المعارج/1؛ وقدّر المعنى: عن عذاب (4) .
وذكر لها الفراء هذا المعنى في قوله تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ) الفرقان/25؛ أي: عن الغمام، وفي قول العرب: رميت بالقوس، أي عنها (5) .
وجعلها الهروي بمعنى (عن) في قوله تعالى (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) المعارج/1؛ أي: عن عذاب واقع، وفي قول عنترة:
__________
(1) تأويل مشكل القرآن ص568، والشاهد في قوله: بابن أحمر؛ أي: عنه.
(2) إعراب القرآن 2/424
(3) البرهان 4/257
(4) معترك الأقران 1 /635
(5) معاني القرآن2/267
(1/20)
________________________________________
هَلَّا سَأَلْتِ الْخَيْلَ يَا بْنَةَ مَالِكٍ... إنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي
وأراد الشاعر: عمَّا تعلمي. ومنه قول الجعدي:
سَأَلتني بِأُنَاسٍ هَلَكُوا... شَرِبَ الدَّهرُ عَلَيهِم وَأَكَلْ
أي: عن أناس (1) .
وذكر لها هذا المعنى ابن فارس (2) والحيدرة (3) وابن منظور فيما أسنده لابن الأعرابي وأبي عبيدة (4) ، وذكره أيضًا المالقي (5) ، وذكر المرادي لها معنى المجاوزة، وعبّر عنه بعضهم بموافقتها (عن) وذلك كثير بعد السؤال، نحو قوله تعالى (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) المعارج/1؛ وقليل بعد غيره نحو قوله تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ) الفرقان/25؛ وأسند ذلك للأخفش وذكر المرادي: أنها بمعنى عن بعد السؤال منقول عن الكوفيين، وعند الشلوبين باء السبب (6) .
وذكر ابن هشام لها هذا المعنى، وبيّن أنه قيل تختص بالسؤال، نحو قوله تعالى (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) الفرقان/59، بدليل يسألون عن أنبائكم، وقيل: لا تختص بدليل قوله تعالى (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) التحريم/8 وقوله تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ) الفرقان/25 (7) .
__________
(1) الأزهية ص295
(2) الصاحبي ص133
(3) كشف المشكل ص133
(4) لسان العرب1/197
(5) رصف المباني ص144
(6) الجنى الداني ص41
(7) مغني اللبيب 1/ 122
(1/21)
________________________________________
وذهب ابن الجوزي إلى أنها بمعنى (عن) قوله تعالى (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) البقرة/166 (1) .

11- الاستعلاء:
ضابطها أنها توافق (على) ، وذكر هذا المعنى الزركشي، وشاهده قوله تعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ) آل عمران/75، أي على قنطار؛ ومنه قوله تعالى (وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) المطففين/30؛ أي عليهم (2) .
وجعل الفراء الباء بمعنى (على) في قوله تعالى (حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ) الأعراف/105، بدليل قراءة عبد الله (بأن لا أقول) (3) فتكون الباء بمعنى على بقراءة عبد الله هذه بدليل القراءة المتواترة.
وفي قوله تعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ) آل عمران/75، جعلها الآمدي بمعنى (على) (4) ، وذكره أيضًا السيوطي وشاهده الآية السابقة (5) بدليل قوله تعالى (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) يوسف/64، وزاد في الهمع قول راشد السلمي:
أَرَبُّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأَسِهِ... لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيهِ الثَّعَالِبُ (6) .
وذكره ابن جني وشاهده قول العرب: رميت بالقوس؛ أي عليها (7) .
__________
(1) منتخب قرة العيون ص80
(2) البرهان 4/257
(3) معاني القرآن 1/386
(4) الأحكام ص85
(5) معترك الأقران 1/625
(6) همع الهوامع 2/22
(7) الخصائص 2/308
(1/22)
________________________________________
وجعل ابن الجوزي الباء بمعنى على في قوله تعالى (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ) النساء/42؛ أي: عليهم (1) .

12- التبعيض:
ضابطها أنه يحسن في موضعها (من) ، ذكر لها هذا المعنى ابن قتيبة وشاهده قوله تعالى (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) المطففين/28، وقوله تعالى (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّه) الإنسان/6، وقوله تعالى (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ) هود/14، وقدّر المعنى: يشرب منها، ومن علم الله.
ومنه قول أبي ذويب:
شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَعَتْ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَ نَئِيجُ
وقول عنترة:
شَرِبَتْ بِمَاءٍ الدُّحْرَضِينِ فَأَصْبَحَتْ... زُوْرًا تَنفِرُ عَنْ حِيَاضِ الْدَّيْلَمِ
والمعنى: شربن من ماء في البيتين (2) .
وذهب ابن القيم إلى أنها بمعنى (من) في قوله تعالى (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ) المائدة/6 (3) .
وقدّر لها معنى التبعيض السيوطي أيضًا في قوله تعالى (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) المطففين/28 (4) ، وذهب القاضي عياض إلى ذلك أيضًا (5) ، وقدّره ابن
__________
(1) قرة العيون ص83
(2) تأويل مشكل القرآن ص575
(3) بدائع الفوائد 4/208
(4) معترك الأقران 1/636
(5) مشارق الأنوار 1/72
(1/23)
________________________________________
الجوزي في قوله تعالى (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) المطففين/28، (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّه) الإنسان/6 (1) .
وذكر المالقي أن أصحاب مالك قالوا: الباء في آية الوضوء تبعيضية، فقالوا: المسح في الوضوء ببعض الرأس؛ غير أنه في رأي الصحيح أن الباء فيها للإلصاق أما التبعيض فمجاز فيها (2) .
ويتضح لنا في هذه المسألة مدى تأثر المعنى بتقدير معنى الجار.
ونسب المرادي معنى التبعيض في الباء إلى الأصمعي، وابن قتيبة، والفارسي، وابن مالك وذكر الشواهد القرآنية السابقة، وعدّها تبعيضية في قول عمر بن أبي ربيعة:
فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذَا بِقُرُونِهَا... شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ
ورفض كونها للتبعيض في آية الوضوء (3) .

13- القسم:
ذكر المرادي أنها أصل حروف القسم، لأنه لا يجب حذف الفعل معها، وتدخل على المضمر، وتستعمل في الطلب وغيره، وهي جارة في القسم وغيره (4) .
وذكر ذلك ابن هشام وزاد دخولها على القسم الاستعطافي، ومثاله: بالله هل قام زيد؟؛ أي: أسألك بالله مستحلفًا (5) .
وأشار السيوطي إلى هذا المعنى، وأسنده إلى ابن جني الذي قال: الباء أصل حروف القسم (6) ، وذكر لها معنى القسم الزركشي وجعلها للقسم في قوله تعالى (
__________
(1) منتخب قرة العيون ص80
(2) رصف المباني ص 146
(3) الجنى الداني ص44
(4) الجنى الداني ص45
(5) مغني اللبيب 1/123
(6) البرهان 3/43
(1/24)
________________________________________
وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) النحل/38، وقوله تعالى (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) التوبة/62 وذكر أن الفعل واجب الإتيان معها، وقد تجئ والفعل محذوفًا في قوله تعالى (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) لقمان/13وقدّرالمعنى بـ (يابني) لا تشرك، ثم ابتدأ فقال: بالله لا تشرك. وحذف لا تشرك للدلالة عليه، وقوله تعالى (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) المائدة/116، فتقف على (لي) وتبتدئ (بحق) فتجعله قسمًا (1) .

14- الزائد:
أشار سيبويه إلى زيادتها في خبر ليس، ورأى أنها دخلت على شئ لو لم تدخل عليه لم يخل بالمعنى، ولم يحتج إليها، ومثل لها بقوله: ليس زيد بجبان ولا بخيلًا (2) . وذكر أنها مزيدة في قوله تعالى (كَفَى بِاللهِ) (3) ، وجعلها بمنزلة (من) للتوكيد ومثل لذلك بقوله: كفى بالشيب، قال: لو ألقى الباء لاستقام الكلام (4) .
وذكر أن الخليل زعم أن (به) في قولك: مررت برجل حسبك به من رجل بمنزلة (هو) لكن الباء دخلت هنا للتوكيد، كما قال: كفى بالشيب والإسلام، وكفى بالشيب والإسلام (5) .
فيكون سيبويه قد ذكر زيادة الباء , في خبر ليس، وفاعل حسب وكفى. وذكر الفراء أن أهل الحجاز لا يكادون ينطقون إلا بالباء في خبر (ما) وكل ما في القرآن أتى بالباء، إلا قوله تعالى (مَا هَذَا بَشَراً) يوسف/31 وقوله تعالى (مَّا
__________
(1) نفسه.
(2) الكتاب 1/66
(3) نفسه 1/41
(4) نفسه 4/225
(5) نفسه2/26
(1/25)
________________________________________
هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) المجادلة/2، وأما أهل نجد فيتكلمون بالباء وبغير الباء، فإذا أسقطوها رفعوا وهو أقوى الوجهين في العربية، قال وأنشدني بعضهم:
لشَتَّان مَا أَنْوِي وَيَنْوِي بَنُو أَبِي... جَمِيعَا فَمَا هَذَانِ مُسْتَوِيَانِ
وقال: وأنشدوني:
وَيِزْعُمُ حِسْلٌ أَنَّهُ فَرْعُ قَوْمِهِ... وَمَا أَنْتَ فَرْعُ يا حُسَيلُ وَلا أَصْلُ
وذكر أن الباء لم تستعمل ولم تدخل؛ ألا ترى أنه قبيح أن تقول: ما بقائم أخوك، لأنها تقع في المنفي إذا سبق الاسم، فلما لم يكن في (ما) ضمير الاسم قبل دخول الباء وحسن ذلك في ليس أن تقول: ليس بقائم أخوك.
لأن ليس فعل يقبل المضمر، ولم يكن ذلك في (ما) ، وأجاز دخولها في (لا) لأنها أشبه بليس من (ما) (1) .
وذكر ابن منظور أن الأزهري أسند إلى المبرد القول بزيادة الكاف والباء واللام (2) . وعدّها الزجاج مزيدة في خبر (ما) وبيّن أنها مؤكدة للنفي في قوله تعالى (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) البقرة/8 (3) ، وأسند إلى الأخفش زيادة الباء في خبرالمبتدأ كما في قوله تعالى (جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) يونس/27 (4) .
وذكر المجاشعي زيادتها مع الفاعل، ومع المفعول، ومع المبتدأ، ومع الخبر. قال: فمن زيادتها مع الفاعل قوله تعالى (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً) النساء/79، أي: كفى الله، وهذا من المستعمل. ومن زيادتها مع المفعول قوله تعالى (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة/195، ومن زيادتها مع المبتدأ، قول الأشعر الرقيان:
__________
(1) معاني القرآن 2/42
(2) لسان العرب 4/ 3431
(3) معاني القرآن 1/50
(4) إعراب القرآن 2/668
(1/26)




كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأربعاء 02 يونيو 2021, 2:06 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ    كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Emptyالإثنين 21 مارس 2011, 6:23 am

بِحَسْبِكَ فِي الْقُومِ أَنْ يَعْلَمُوا... بِأَنَّكَ فِيْهِم غَنِئُّ مُضَرِ
ومن زيادتها مع الخبر قوله تعالى (جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) يونس/27 (1) .
وذكر الرماني مواضع زيادتها بقوله: وهي التي تدخل على الفاعل في قوله تعالى (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً) النساء/79، ولكنه نسب إلى ابن السراج عدم زيادتها هنا وقدّر المعنى: كفى والاكتفاء بالله؛ غير أنه ردّ ذلك بأن هذا التأويل فيه بعد القبح حذف الفاعل، وذكر شاهدًا آخر وهو قول قيس بن زهير العبسي:
أَلَمْ يَأَتِيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِي... بِمَا لَا قَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ
وأن تدخل على المبتدأ، كما في قوله تعالى (جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) يونس/27
وتدخل على المفعول، كقول الشاعر:
نَحْنُ بَنُوضُبَّةٍ أَصْحَابُ الفَلَج... نَضْرِبُ بِالسيفِ وَنَدْعُو بِالفرجِ
وقوله تعالى (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة/195، وتزاد مع حرف النفي كقولك: ما زيدٌ بقائم، وليس عبدالله بخارج (2) .
وذكر ابن خالويه أنها مزيدة في قوله تعالى (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) التين/7، وقوله تعالى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) التين/8، فهي مزيدة عنده في خبر ما وخبر ليس (3) .
وباستقراء آراء العلماء في نوع الباء في البسملة، فإنها لا تخرج عن معنى من ثلاث:
__________
(1) شرح عيون الإعراب ص182
(2) معاني الحروف ص36
(3) إعراب ثلاثين سورة ص131
(1/27)
________________________________________
الأول: وهو رأي الرازي، أن تكون بمعنى الإلصاق. وهي متعلقة بمحذوف، فيحتمل أن يكون اسمًا، أو أن يكون فعلًا، وعلى التقديرين: فيجوز متقدمًا، ومتأخرًا. فهذه أقسام أربعة.
أما إذا كان متقدمًا وكان فعلًا، فكقولك: أبدأُ باسم الله، وأما إذا كان متقدمًا وكان اسمًا، فكقولك: ابتدأ الكلام باسم الله، وأما إذا كان متأخرًا وكان فعلًا، فكقولك: باسم الله أبدأ، وأما إذا كان متأخرًا وكان اسمًا، فكقولك: باسم الله ابتدائي (1) .
الثاني: وهو رأي البيضاوي، أن تكون للمصاحبة، والمعنى: متبركًا باسم الله تعالى اقرأ، وهذا وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه ويحمد على نِعمه ويُسأل من فضله (2) .
الثالث: وهو رأي الألوسي، أن تكون بمعنى الاستعانة، وهي أولى. بل يكاد أن تكون متعينة إذ فيها من الأدب والاستكانة وإظهار العبودية ما ليس في دعوى المصاحبة، ولأن فيها تلميحًا من أول وَهلة إلى إسقاط الحَوْل والقوة، ونفي استقلال قُدِر العباد وتأثيرها وهو استفتاح لباب الرحمة وظفر بكنز لاحول ولا قوة إلا بالله (3) .

والخلاصة:
أن الباء أصلية على المشهور، ومعناها الاستعانة أو المصاحبة على وجه التبرك واستؤنس لهذا كما في تفسير البلقيني بحديث «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِى صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ
__________
(1) تفسير الفخر الرازي 1/138
(2) تفسير البيضاوي 1/32
(3) روح المعاني 1/117
(1/28)
________________________________________
وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِى لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَىْءٌ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَيَضُرُّهُ شَىْءٌ» (1) .
وكل جار ومجرور لابدّ له من متعلق، كما قال الراجز:
لا بدَّ للجار من متعلِّق... بفعل أو معناه نحو مُرتقى
واستثن كلَّ زائدٍ له عملٌ... كالباء ومن والكاف أيضًا ولعل
ويَحْسُن جعل المقدر- المتعلق- متأخرًا، لأن (اسم) أحق بالتقديم ولأن الجار والمجرور يفيد اختصاص الاسم الكريم بكونه متبركًا، لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون: باسم اللات وباسم العزى، فوجب أن يقصد الموحِد معنى اختصاص اسم الله - عز وجل - بالابتداء.
فاسم: مرفوع بالإبتداء تقديرًا لا محلًا، والخبر محذوف- اسم اوفعل- والتقدير: اسم الله مبدوءٌ به أو أبدأ به.
قال الزمخشري:
" فإن قلت لم قدرت المحذوف متأخرًا؟ قلت: لأن الأهم من الفعل والمتعلّق به هو المتعلّق به لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات باسم العزى فوجب أن يقصد الموحِد معنى اختصاص اسم الله - عز وجل - ابتداء وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما فعل في قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) حيث صرَّح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص، والدليل عليه قوله (بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) هود/41 فإن قلت فقد قال (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) العلق/1 فقدم الفعل؟ قلت هناك تقديم الفعل أوقع لأنها أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم، فإن قلت ما معنى تعلق اسم الله بالقراءة؟ قلت فيه وجهان: أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتبة في قولك: كتبت بالقلم على معنى أن المؤمن لما اعتقد أن فعله لا يجيء معتدًا به في الشرع واقعًا على السنة حتى يصدّر بذكر اسم الله
__________
(1) رواه الترمذي (3716)
(1/29)
________________________________________
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ كَلاَمٍ أَوْ أَمْرٍ ذِى بَالٍ لاَ يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ أَبْتَرُ أَوْ قَالَ أَقْطَعُ» (1) .وإلا كان فعلًا كلا فعل جعل فعله مفعولًا باسم الله كما يفعل الكتب بالقلم.
والثاني أن يتعلق بها تعلق الدهن بالإنبات في قوله (تَنبُتُ بِالدُّهْنِ) المؤمنون/20 على معنى: متبركًا بسم الله أقرأ وكذلك قول الداعي للمعرس بالرفاة والبنين معناه أعرست ملتبسًا بالرفاة والبنين وهذا الوجه أعرب وأحسن. فإن قلت فكيف قال الله تبارك وتعالى متبركًا باسم الله أقرأ قلت: هذا مقول على ألسنة العباد كما يقول الرجل الشعر على لسان غيره. اهـ
ولحذف العامل في بسم الله فوائد عديدة:
* منها أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر الله، فلو ذكرت الفعل وهو لا يستغني عن فاعله كان ذلك مناقضاً للمقصود. فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ليكون المبدؤ به اسم الله كما نقول في الصلاة: الله أكبر ومعناه من كل شيء ولكن لا نقول هذا المقدر ليكون اللفظ مطابقاً لمقصود الجنان وهو أن لا يكون في القلب إلا الله وحده، فكما تجرد ذكره في قلب المصلي تجرد ذكره في لسانه.
* ومنها أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالتسمية في كل عمل وقول وحركة، وليس فعل أولى بها من فعل. فكان الحذف أعمّ من الذكر فإن أي فعل ذكرته كان المحذوف أعمّ منه.
* ومنها أن الحذف أبلغ، لأن المتكلم بهذه الكلمة كأنه يدعي الاستغناء بالمشاهدة عن النطق بالفعل فكأنه لا حاجة إلى النطق به، لأن المشاهدة والحال دالّة على أن هذا وكل فعل فإنّما هو باسمه تبارك وتعالى.
__________
(1) رواه أحمد (8946)
(1/30)
________________________________________
والحوالة على شاهد الحال أبلغ من الحوالة على شاهد النطق كما قيل:
ومن عجب قول العواذل من به وهل غير من أهوى يحب ويعشق (1) .
ولكن لماذا بُنيتْ الباء على الكسر؟
قال الرماني: وهي مكسورة، وإنما كسرت لتكون على حركة معمولها، وحركة معمولها الكسر (2) .
وعلل الحريري ذلك بقوله: وإنما خصت الباء بالكسرة لأنها في كل مواقعها تجر، فجعلت حركتها من جنس عملها (3) .
__________
(1) بدائع الفوائد 1/25
(2) معاني الحروف1/36
(3) ملحة الإعراب 1/92
(1/31)
________________________________________
الفصل الثاني
المبحث الأول
تعريف الاسم وإثباته لله - سبحانه وتعالى - (1)

المطلب الأول: اشتقاق الاسم
اختلف البصريون والكوفيون في اشتقاق الاسم، فقال البصريون: إن الاسم مشتق من السُّمُو، والسُّمُو من الرفعة، والأصل فيه (سَمَو) على وزن (جَمَل) ، وجمعه (أسْمَاء) ، مثل (قنو وأقْنَاء) ، و (حَنو وأحْنَاء) .
وحذفت الواو تخفيفًا لكثرة الاستعمال ولتعاقب الحركات، وسكن السين وحرك الميم.
وقال الكوفيون: إن الاسم مشتق من (الوَسمَ) ، و (السِمة) وهى العلامة، وكأنه علامة على معناه وعلامة على المسمى.
حذفت الألف أيضًا عند الأخفش والكسائي، وقال الفراء لا تحذف إلا في بسم الله فقط (2) .
والراجح من حيث اللفظ ومقاييس العربية: هو قول البصريين لأن العرب لا تعرف شيئًا دخلته ألف الوصل وحذفت فاء فعله.
__________
(1) هذا الفصل مستفاد من كتاب (أسماء الله الحسنى) لعبد الله الغصن، بشئ من التصرف.
(2) مشكل إعراب القرآن ص 65
(1/33)
________________________________________
ونحو قولك (عِدة) و (زِنة) ، فلو كان أصل الاسم (وَسَمَ) لكان تصغيره إذا حذفت منه ألف الوصل (وُسَيم) وفي الجمع (أوسَام) كما أن تصغير (عِدة وصِلَة) (عِدة ووُصيَلة) ، ولا يقدر أحد أن يري في العربية ألف الوصل فيما حذفت فاؤه من الأسماء.
وكلام البصريين والكوفيين من جهة صلة اشتقاق الاسم بالمعنى متقارب. قال ابن يعيش بعد أن ذكر الخلاف بين البصريين والكوفيين في هذه المسألة: "وكلاهما حسن من جهة المعنى إلا أن اللفظ يشهد مع البصريين" (1) .
وحذفت الألف من الخط في بسم الله لكثرة الاستعمال وقيل حذفت لتحرك السين في الأصل لأن أصل السين الحركة وسكونها لعلة دخلتها وقيل للزوم الباء هذا الاسم فإن كتبت بسم الرحمن أو بسم الخالق.
فإن قيل: لِمَ حذفوا ألف اسم هنا، وأثبتوه في (اقرأ باسم ربك) ؟
فالإجابة عند الرازي-: - حيث قال: والفرق من وجهين:-
الأول: أن كلمة بسم الله مذكورة في أكثر الأوقات عند أكثر الأفعال فلأجل التخفيف حذفوا الألف بخلاف سائر المواضع فإن ذكرها قليل.
الثاني: قال الخليل إنما حذفت الألف في قوله بسم الله لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن، فلمَّا دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف فسقطت في الخط وإنما لم تسقط في قوله اقرأ باسم ربك لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع كما في بسم الله لأنه يمكن حذف الباء من اقرأ باسم ربك مع بقاء
__________
(1) شرح المفصل 1/23
(1/34)
________________________________________
المعنى صحيحًا، فإنك لو قلت اقرأ اسم ربك صحّ المعنى، أما لو حذفت الباء من بسم الله لم يصح المعنى فظهر الفرق (1) .
__________
(1) التفسير الكبير 1/ 144
(1/35)
________________________________________
المطلب الثاني: تعريف الاسم
الكلمة: اسم، وفعل، وحرف ولقد عرف النحاة القدماء من أقسام الكلمة: الفعل، والحرف ولم يعرفوا الاسم، ذلك لوضوحه عندهم؛ ولذلك اكتفي سيبويه عن تعريف الاسم - بعد تعريف الفعل والحرف- بقوله:" الاسم: رجل، وفرس وحائط " (1) .
ويتنوع استعمال النحاة للاسم وإطلاقهم له: فتارة يطلق الاسم ويراد به ما يقابل الفعل والحرف، وهذا أوسع إطلاق للاسم، وله علامات خمس تميزه هى:
دخول الجر عليه، والتنوين، والنداء، و (أل) ، والإسناد إليه (2) .
وتارة يطلق ويراد به الجامد - أي غير المشتق -، ويكون المراد بالمشتق الصفة. والاسم في مقياس الصناعة النحوية ما ذكره الزجاجى حيث قال:" الاسم في كلام العرب ما كان فاعلًا أو مفعولًا، أو واقعًا في حيز الفاعل والمفعول به " (3) .
وأما من جهة معناه: فيذكر السهيلي أنه:" اللفظ الذى وضع دلالة على المعنى (4) .
وقال الزمخشري:
" الاسم: ما دلّ على معنى في نفسه دلالة مجردة عن الاقتران" (5) .
__________
(1) الكتاب 1/12
(2) انظر: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك 1/13
(3) الإيضاح في علل النحو ص48
(4) نتائج الفكر ص39
(5) شرح المفصل 1/22
(1/36)
________________________________________
والمعنى هو الشئ الموجود في الأعيان إن كان من المحسوسات كزيد وعمرو، وفي الأذهان إن كان من المعقولات كالعلم والإرادة.

المطلب الثالث: إثبات الاسم لله - سبحانه وتعالى -.
ورد إثبات لفظ الاسم ونسبته إلي الله، وورد إثبات أسماء لله - سبحانه وتعالى - على وجه التفصيل.
فأما إثبات لفظ (الاسم) ونسبته إلى الله:
فقد ورد في نصوص عديدة منها قوله تعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) الأعراف/180، وقوله (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى) الآيات الدالة على إثبات لفظ الاسم لله - عز وجل -.
ومن الأحاديث: ما رواه البخاري ومسلم من أن النبي< كان إذا أوى إلي فراشه قال: «بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا» (1) ومن الأحاديث أيضًا قول الرسول<: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِى صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِى لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَىْءٌ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَيَضُرُّهُ شَىْءٌ» (2) .
وأما الإثبات المفصل لأسماء الله - سبحانه وتعالى - فهو كثير في القرآن الكريم والسنة النبوية، فمما ورد في القرآن الكريم قول الحق - سبحانه وتعالى -: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) الحشر/23.
__________
(1) البخاري (6312) ومسلم (7062)
(2) رواه الترمذي (3716)
(1/37)
________________________________________
فبيّن الحق في هذه الآية بعض أسمائه، وهى الله الملك، القدوس السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر.
ويختم الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز كثيرًا من الآيات بأسمائه الحسنى مثل قوله تعالى (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة/37 وقوله (وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) البقرة/263.
ومن السنة قول المصطفي - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» (1) . وقوله - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ» (2) .
ومما سبق يتبين لنا أنه قد ورد بالدليل الصحيح إثبات الاسم لله - سبحانه وتعالى - من حيث صحة نسبة الاسم لله، ومن حيث ورود أسماء كثيرة ثابتة لله - سبحانه وتعالى -.
__________
(1) رواه مسلم (275)
(2) رواه البخاري (831)
(1/38)
________________________________________
المبحث الثاني
كراهة الخوض في الاسم والمسمّي

كَره السّلف الخوض في مسألة الاسم: هل هو عين المسمّي أم لا. ذلك أنها مسألة حادثة، قليلة الفائدة، لم يرد فيها أثر من كتاب أو سنة ولا من أقوال السلف، وهذه المسألة نشأت نتيجة الخلاف مع المعتزلة في عهد الإمام أحمد بن حنبل-:.
وقد كان الخلاف في كلام الله (القرآن) هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟
فقالت المعتزلة: الاسم غير المسمّي، فردّ السّلف عليهم، وقد كان أول من رد عليهم الإمام أحمد -:-؛ ولذلك يذكر الطبري -:- أن أول من أثر عنه الحديث ردًا على المبتدعة وبيانًا للحق في مسألة الاسم والمسمّي، ممن يُعتدّ بقوله هو: الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل-"- ومع ذلك فقد كان يشق على الإمام أحمد ويعظم عليه الكلام في الاسم والمسمّي ابتداءً مسألة حادثة.
قال الإمام الطبري-:-:" وأما القول في الاسم أهو المسمّي أم غير المسمّي؟ فإنه من الحماقات الحادثة، التي لا أثر فيها فيتبع ولا قول من إمام فيستمع، فالخوض فيه شَين، والصمت عنه زين " (1) .
وقال في موضع آخر:
__________
(1) صريح السنة ص25 -26
(1/39)
________________________________________
" حدث في دهرنا هذا حماقات خاض فيها أهل الجهل والغباء، ونوكي (1) الأمة، والرعاع يتعب إحصاؤها، ويملّ تعدادها، فيها القول في اسم الشئ أهو هو، أم هو غيره " (2) .
ويرى أبو حامد الغزالي أن مسألة الاسم والمسمّي: طويلة الذيل قليلة النيل، قليلة الجدوي (3) .
وقد ناقشه السهيلي في هذه المقولة، وبين أن الأمر عنده ليس كما ذكره الغزالي، فنيلها كثير لمن نظر واستبصر (4) .
والحق في هذه المسألة مع الغزالي-:- إذ التحقيق - عند من علَّمه الله علمًا نافعًا - أن البحث عن أمثال تلك المباحث من باب الخوض فيما لا يعني، وقد قال رسول الله < «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ» (5) . وقد حكى الله - سبحانه وتعالى - عن حال أهل النار قولهم (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) المدثر/45.
ولم ير المسلمون في آية من آيات الكتاب العزيز، أو حديث من أحاديث النبي< ذكر الاسم وكونه هو المسمّى أو غيره، وأن الصفات زائدة على الذات أم لا؟، ولذا كان السلف الصالح في غفلة من هذا، بل في عافية تامة من ذلك، ثم جرى إبليس من بني آدم مجري الدم في هذه المسألة، ولبّس على الكثير من المتكلمين والصوفية فخاضوا في هذه الخرافات، وحسبوا أنهم أحسنوا صنعًا ولم يعلموا أن هذا الصنيع عن مقاصد الدين بمعزل، فرحم الله
__________
(1) الأنوك: أي الأحمق
(2) صريح السنة ص17
(3) المقصد الأسنى ص31
(4) نتائج الفكر ص38
(5) رواه الترمذي (2487)
(1/40)
________________________________________
أمرأً اقتصر على ظاهر الكتاب والسنة الصحيحة ولم يخض في تلك الموبقات والمهلكات التي لا تأتي بفائدة ولا تعود بفائدة.
(1/41)
________________________________________
المبحث الثالث
أقوال الناس في الاسم والمسمّى

اختلف الناس في الاسم، هل هو عين المسمّي، أم غيره؟ على أقوال:
القول الأول: أن الاسم هو المسمّي: وهو قول بعض المنتسبين إلي السنة، كالإمام البغوي والإمام اللالكائي وكذلك أبو عبيدة معمر بن المثني. والقرطبي وهو أحد قولي الأشاعرة، اختاره أبو بكر ابن فورك (1) .
القول الثاني: أن الاسم غير المسمّي، وهو قول الجهمية، والمعتزلة وممن قال بهذا القول: ابن جنى، وابن حزم، والسهيلي والغزالي، والرازي وهو اختيار ابن حجر العسقلاني على اختلاف بين بعضهم في تخريجه لقوله (2) .
القول الثالث: الاسم للمسمّي، وهو دليل وعلم عليه، ولا يطلق القول في الاسم هل هو عين المسمّي أو غيره؟ إنما يستفصل، لأن الكلام عن هذه المسألة عام مجمل يحتاج إلي تخصيص وتقييد، وهذا القول هو قول أكثر أهل السنة وفي مقدمتهم، إمام أهل السنة الإمام أحمد ابن حنبل وتبعه الطبري، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمهم الله (3) .
وهذا القول الأخير هو القول الصحيح، لموافقته الكتاب والسنة الصحيحة من جهة: ولإمكان الرد على الأقوال المخالفة من جهة أخرى.
__________
(1) شرح السنة للبغوي 5 /30، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/240، مجاز القرآن 1 / 16، الجامع لأحكام القرآن1/101.
(2) الخصائص3/24، الفصل في الملل والنحل5/27، نتائج الفكر ص39، المقصد الأسنى في شرح معاني الأسماء الحسنى ص24، لوامع البينات شرح أسماء الله الحسنى ص21، فتح الباري11/225.
(3) صريح السنة ص25، درء تعارض العقل والنقل 8/530، بدائع الفوائد 1/16.
(1/42)
________________________________________
أما موافقته الكتاب والسنة فيدل عليه قوله تعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الأعراف/180، وقوله تعالى (قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الإسراء/110، وغيرها من الآيات، ولقول الرسول< «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . [سيأتي تخريجه باستفاضة] .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُقَفِّى وَالْحَاشِرُ وَنَبِىُّ التَّوْبَةِ وَنَبِىُّ الرَّحْمَةِ» (1) . فهذه النصوص تدل على أن الاسم للمسمّى ويدل عليه.
وهذا القول أيضًا موافق لمنهج أهل السنة والجماعة في عدم إطلاق الألفاظ التي لم يرد في الكتاب والسنة، التي هي محتملة لمعنيين صحيح وباطل، فإذا سئل أهل هذا القول عن الاسم أهو المسمّى أم غيره؟ أجابوا بجوابين:
الأول: أن هذه المسألة حادثة لم ترد في الكتاب والسنة، ولم ترد عن السلف الصالح.
والثاني: أن هذا السؤال فيه إجمال، فلا يجاب بإطلاق، إنما يفصل ذلك ويقال: "الاسم يراد به المسمّى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى فإذا قلت: قال الله كذا، أو سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك، فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله: اسم عربي، والرحمن: اسم عربي، والرحمن من أسماء الله تعالى ونحو ذلك.
فالاسم هنا للمسمّى ولا يقال غيره لما في لفظ الغير من الإجمال فإذا أريد أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له،
__________
(1) رواه مسلم (6254)
(1/43)
________________________________________
حتى خلق لنفسه أسماء أو حتى سمّاه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى " (1) .
وأما من جهة إمكان الرد على الأقوال الأخرى، فهو ميسور - بحمد الله وتوفيقه - ويتضح خطأ هذه الأقوال بسرد أشهر الأدلة، ثم مناقشتها.
بيان القول بأن، الاسم هو المسمّى، وأشهر أدلته، ومناقشتها.
1- يرى أصحاب هذا القول أن اللفظ هو التسمية، وأن الاسم هو المراد باللفظ، فإذا قلت: يا زيد، فليس مرادك دعاء اللفظ، وإنما دعاء المسمّى باللفظ، فصار المراد بالاسم هو المسمي، كما يقول البغوي - رحمه الله: "الاسم هو المسمّى وعينه وذاته " (2) .
2- ويستدل أصحاب هذا القول ببعض الآيات التى منها قوله تعالى {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} مريم/7، ثم نادى الاسم فقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} مريم/12 فنادى الاسم وهو المسمّى.
3- ومنها قوله تعالى {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم} يوسف/40، وأراد الأشخاص المعبودة، فهم عبدوا المسمّيات لا الأقوال التى هى أعراض لا تعبد.
4- واستدل أصحاب هذا القول بقول لبيد:
إلى الحَوْلِ ثمَّ اسْم السَّلام عَلَيْكُمَا... وَمَنْ يَبْك حَوْلًا كَاملًا فَقَدْ اعْتَذَر
قالوا: والمعنى: ثم السلام عليكما، فإن اسم السلام هو السلام.
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية 1/102
(2) معالم التنزيل 1/38
(1/44)
________________________________________
5- ومما يختص بالله - - سبحانه وتعالى - - منها قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) الأعلى/1، فإن المسبح هو المسمّى، وهو الله.
هذه أشهر أدلة القائلين بأن الاسم هو المسمّى، ولكن قبل البدء بمناقشة القول وأدلته لابد من بيان أن القائلين بهذا القول لم يريدوا به أن اللفظ المؤلف من الحروف هو نفس الشخص المسمي به: فإن هذا لا يقوله عاقل ولهذا يقال: لو كان الاسم هو المسمي هو: أن الله وحده هو الخالق وما سواه مخلوق، فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة، وللزوم أن لا يكون له اسم في الأزل، فمرادهم أن الله غير مخلوق ردًا على الجهمية والمعتزلة.
وهذا مما لا يتنازع فيه الجهمية والمعتزلة، فإن أولئك كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-: - ما قالوا الأسماء مخلوقة إلا لما قال هؤلاء هي التسميات فوافقوا الجهمية والمعتزلة في المعنى، ووافقوا أهل السنة في اللفظ، وقد عرف أنه إذا أطلق الاسم في الكلام المنظوم فالمراد به المسمى فلهذا يقال: ما اسم هذا؟ فيقال: زيد، فيجاب باللفظ، ولا يقال: ما هذا؟ فيقال: هو هو.
فأما دليلهم الأول الذى استدلوا به: وهو أن الاسم هو المراد باللفظ، وأن اللفظ هو التسمية، فهو باطل مخالف لما يعلمه جميع الناس من جميع الأمم، وقد أنكره عليهم جمهور الناس من أهل السنة ومن غيرهم.
مثل دعواهم أن لفظ (اس م) معناه ذات الشئ ونفسه، وأن الأسماء مثل زيد وعمرو هي التسميات ليست هي أسماء المسميات.
فلم يقل نحوي قط، ولا عربي: إن الاسم هو المسمّى، ويقولون: أجلّ مسمّى، ولا يقولون: أجلّ اسم، ويقولون: هذا الرجل مسمى بزيد، ولا يقولون: هذا الرجل اسم زيد، ويقولون بسم الله، ولا يقولون: بمسمى الله......... إلخ.
(1/45)
________________________________________
وإذا ظهر الفرق بين الاسم والمسمّى فبقي ها هنا التسمية، وهى عبارة عن فعل المسمِّى ووضعه الاسم للمسمَّى، كما أن التحلية عبارة عن فعل المحلي ووضعه الحلية على المحلَّى فهنا ثلاث حقائق، اسم ومسمّى وتسمية (كحِلْيَة ومُحَلّى وتَحلِيَة) ، و (عَلاَمة ومعَلَّم وتَعْلِيم) ، ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد لتباين حقائقها، وإذا جعلت الاسم هو المسمّى، بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولابد (1) .
وأما دليلهم الثاني: وهو قوله تعالى {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} مريم/7، فالاسم الذى هو يحيى هو هذا اللفظ المؤلف من (ياء وحاء وياء) هذا هو اسمه، ليس اسمه هو ذاته، ثم لما ناداه فقال {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} مريم/12، فالمقصود المراد بنداء الاسم هو نداء المسمّى لم يقصد نداء اللفظ، لكن المتكلم لا يمكنه نداء الشخص المنادى إلا بذكر اسمه وندائه، فيعرف حينئذ أن قصده نداء الشخص المسمّى.
وأما دليلهم الثالث: وهو قوله تعالى {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم} يوسف/40، فاستدلالهم به غير صحيح، وهو - أي الدليل- حجة عليهم: لأن المراد في الآية أنهم سموها آلهة، واعتقدوا ثبوت الإلهية فيها، وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء، لا حقيقة المسمّى فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها، وهذا - كما يذكر ابن القيم - كمن سمى قشور البصل لحمًا وأكلها، فيقال: ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسمّاه (2) .
وأما دليلهم الرابع وهو استدلالهم ببيت لبيد، فقد أجيب عنه بعدة أجوبة منها:
__________
(1) تفسير الطبري 1/39
(2) بدائع الفوائد 1/19
(1/46)
________________________________________
1- أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، والسلام عبارة عن التحية فإن أراد الأول فلا إشكال، فكأنه قال: ثم اسم السلام عليكما أي بركة اسمه، وإن أراد الثاني: فإنه أضافه إلى الله لشرفه، ولأنه أبلغ في التحية كأنه يقول: لو وجدت سلامًا أشرف من هذا لحييتكم به، ولكن لا أجده لأنه اسم السلام.
2- أن لبيدًا لم يرد إيقاع التسليم عليهم لحينه، وإنما أراده بعد الحول ولو قال: ثم السلام عليكما لكان مسلِّمًا في وقته الذي نطق فيه بالبيت، فلذلك ذكر الاسم الذي هو عبارة عن اللفظ أي إنما اللفظ بالتسليم بعد الحول، وذلك أن السلام دعاء، فلا يتقيد بالزمان المستقبل، وإنما هو لحينه.
قال ابن القيم -: -:" وفيه نكتة حسنة: كأنه أراد ثم هذا اللفظ باق عليكما، جار لا ينقطع مني، بل أنا مراعيه دائما " (1) .
3- أن مراد لبيد: ثم النطق بهذا الاسم وذكره وهو التسليم المقصود، كأنه قال: ثم سلامٌ عليكم، ليس مراده أن السلام يحصل عليهما بدون أن ينطق به ناطق، ويذكره لم يحصل (2) .
وأما دليلهم الخامس: وهو قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) الأعلى/1، فاستدلالهم بهذه الآية حجة عليهم، لأن النبي < امتثل هذا الأمر، وقال سبحان ربي الأعلى، ولو كان الأمر كما زعموا لقال: سبحان اسم ربي الأعلى، ثم إن الأمة كلهم لا يجوز لأحد منهم أن يقول: عبدت اسم ربي، ولا سجدت لاسم ربي، لأنه إذا أطلق الاسم في الكلام المنتظم فالمراد به المسمّى.
وللناس في (الاسم) المذكور في هذه الآية وما شابهها قولان معروفان، كلاهما حجة على من استدل بها في أن الاسم عين المسمّى:
__________
(1) بدائع الفوائد 1/21
(2) تفسير الطبري 1/40
(1/47)
________________________________________
فمنهم من قال: (الاسم) صلة، والمراد: سبح ربك، وإذا قيل صلة فهو زائد لا معنى له، فيبطل قولهم أن مدلول لفظ اسم: (ألف، سين، ميم) هو المسمى.
ومن قال: إنه ليس بصلة، بل المراد تسبيح الاسم نفسه، فهذا مناقض لقولهم مناقضة ظاهرة.
والتحقيق: أنه ليس بصلة، بل أمر الله بتسبيح اسمه، كما أمر بذكر اسمه والمقصود بتسبيحه وذكره هو تسبيح المسمّى وذكره، فإن المسبح والذاكر إنما يسبح اسمه، ويذكر اسمه بقوله: سبحان ربي الأعلى، فهو نطق بلفظ (ربي الأعلى) فتسبيحه إنما وقع على الاسم، لكن مراده هو المسمّى، فهذا يبين أنه ينطق باسم المسمّى والمراد المسمى، لكن هذا لا يدل على أن لفظ اسم الذي هو (ألف، سين، ميم) المراد به المسمّى (1) .
بيان القول بأن الاسم غير المسمّي، وأشهر أدلته ومناقشتها:
يرى أشهر القائلين بأن الاسم غير المسمّى: أن أسماء الله تعالى حروف حادثة مخلوقة، تدل على الذات المقدسة، وهى غيرها لحدوثها، فأسماء الله غيره، لأنها مخلوقة وأصحاب هذه الشبهة هم الجهمية، والمعتزلة ومن وافقهم من متأخري الشيعة.
ومرادهم في قولهم بأن الاسم غير المسمّى: أن أسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق، فأسماء الله مخلوقة عندهم (2) .

المناقشة:
__________
(1) بدائع الفوائد 1/18
(2) شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص542
(1/48)
________________________________________
اشتد إنكار السلف على الجهمية القائلين بأن (الاسم غير المسمّى، لأن أسماء الله غيره، فأسماء الله مخلوقة) ، ومما ورد في إنكار السلف عليهم ما يلي:
قال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد ذكر له رجل أن رجلًا قال: إن أسماء الله مخلوقة، والقرآن مخلوق. قال أحمد: كفرٌ بيِّن (1) .
وقال الإمام الشافعي -: -: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمّى، فاشهد عليه بالزندقة (2) .
وروي اللالكائي بسنده عن الأصمعي أنه قال:" إذا سمعت الرجل يقول الاسم غير المسمّى فاحكم أو قال: فاشهد - عليه بالزندقة، لفظهما سواء" (3) .
وأسماء الله لا يقال عنها إنها غير الله، وأنها مستعارة مخلوقة، ابتدعها الخلق فأعاروها خالقهم، لأن في هذا نسبة العجز والوهن إلى الله تعالى ونسبة الضرورة والحاجة إلى الخلق، لأن المستعير محتاج مضطر، والمعير أعلى وأغنى، ولو كان الاسم مخلوقًا مستعارًا غير الله، لم يأمر الله أن يسبح مخلوقًا غيره، فقال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) الأعلى/1.
ثم ذكر الآلهة التي تعبد من دون الله بأسمائها المخلوقة المستعارة، فقال تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم) النجم/23 يعني أن أسماء الله لم تزل، كما لم يزل الله، وأنه بخلاف هذه الأسماء المخلوقة التي أعاروها الأصنام، فإن لم تكن أسماء الله بخلافها فأي توبيخ لأسماء الآلهة المخلوقة، إذا كانت أسماؤها وأسماء الله مخلوقة مستعارة؟ !
__________
(1) ملحق في الجهمية، ضمن عقائد السلف: جمع النشار والطالبي. ص104
(2) مناقب الشافعي 1/405
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/212
(1/49)
________________________________________
ويناقش الإمام الدرامي -: - الجهمية القائلين بأن أسماء الله مخلوقة، وأنها من ابتداع البشر، نقاشًا عقليًا، فيقول:
" أرأيتم قولكم: إن أسماء الله مخلوقة، فمن خلقها؟ أو كيف خلقها؟ أجعلها أجسامًا وصورًا تشغل أعيانها أمكنة دونه من الأرض والسماء؟ أم موضعًا دونه في الهواء؟
فإن قلتم لها أجسام دونه، فهذا ما تنقمه عقول العقلاء وإن قلتم خلقها على ألسنة العباد، فدعوه بها، وأعاروه إياها، فهو ما ادعينا عليكم: أن الله كان بزعمكم مجهولًا لا اسم له حتى أحدث الخلق، وأحدثوا له اسمًا من مخلوق كلامهم، فهذا هو الإلحاد بالله وأسمائه والتكذيب بها....، ومن أين علم الخلق بأسماء الخالق قبل تعليمه إياهم، فإنه لم يعلم آدم ولا الملائكة أسماء المخلوقين، حتى علّمهم الله من عنده، وكان بدء علمها منه..... (1)
ثم قال: " وأي تأويل أوحش مما يدعي رجل أن الله كان ولا اسم له؟ ما يدعي هذا مؤمن، ولن يدخل الإيمان قلب رجل حتى يعلم أن الله لم يزل إلهًا واحدًا بجميع أسمائه وجميع صفاته، لم يحدث له منها شئ، كما لم تزل وحدانيته (2) .
وأسماء الله لا تقاس بأسماء الخلق، لأن أسماء الخلق مخلوقة مستعارة وليست أسماؤهم نفس صفاتهم، بل مخالفة لصفاتهم ولا شئ من صفاته مخالف لأسمائه.
ثم إن القائلين بأن الاسم غير المسمّى يلزمون بعدة لوازم، منها:
__________
(1) الرد على بشر المريسي ص10
(2) السابق ص13
(1/50)
________________________________________
أ - أن من أعظم الشرك أن يقال في قول الله تعالى (وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً) النساء/36، أن العبادة للاسم، واسمه مخلوق، وقد أمر بالعبادة للمخلوق.
ب- قال تعالى (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) الحج/36، فأمر الله أن يذكر اسمه على البُدْن حين نحرها تقربًا إليه، وعلى مذهب المبتدعة: لو ذكر اسم زيد أو عمرو أو اللات والعزى يجزيه، لأن هذه الأسماء مخلوقة كما أن أسماء الله عز وجل عندهم مخلوقة.
ج) وأجمع المسلمون أن المؤذن إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فإنه قد أتى بالتوحيد، وأقر بالنبوة إلا المعتزلة فإنه يلزمهم أن يقولوا: أشهد أن الذى اسمه الله لا إله إلا هو وأشهد أن الذى اسمه محمد رسول الله، وهذا خلاف ما وردت به الشريعة وخلاف ما عليه المسلمون.
د) ويلزم الجهمية والمعتزلة على مذهبهم أن الإيمان بالله تبارك وتعالى كلها يجب أن تكون مخلوقة، والناس يحلفون بالمخلوق دون الخالق، لأن الاسم غير المسمّى، والاسم مخلوق عندهم.
وبهذا يتضح بطلان إطلاق القول بأن الاسم هو المسمّى، أو أن الاسم غير المسمي.
والله أعلم بالصواب.
(1/51)
________________________________________
المبحث الرابع
سياق ما فسر من كتاب الله تعالى وما روي عن رسول الله وورد من لغة العرب على أن الاسم والمسمى واحد وأنه هو هو لا غير (1)

قال الله تبارك وتعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) الأعلى/1-2.
وقال تبارك وتعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الأعراف/180.
وقال تبارك وتعالى (قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الإسراء/110.
وقال تعالى (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ) غافر/60.
وقال تعالى (َادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) غافر/65.
وقال تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) قريش/3.
ولم يقل احد من العقلاء: من اسمه رب هذا البيت؟ ولا قال أحد: ادعو الذي اسمه الله.
وقال تبارك وتعالى (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) العنكبوت/56.
وقال تعالى (وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً) النساء/36.
ومن أعظم الشرك أن يقال إن العبادة لاسمه، واسمه مخلوق، وقد أمر بالعبادة للمخلوق!!
وهذا قول المعتزلة والنجارية وغيرهم من أهل البدع والكفر والضلالة.
__________
(1) اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/204 وما بعده
(1/52)
________________________________________
وقال تبارك وتعالى (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) الإخلاص/1.
وقد أجمع المسلمون على أن هو إشارة إليه، لا أن اسمه هو.
وقال تباكر وتعالى (اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) الحج/36، فأمر الله تبارك وتعالى أن يذكر اسمه على البُدْن حين نحرها للتقرب إليه.
وعلى مذهب المبتدعة لو ذكر اسم زيد أو عمرو أو اللات والعزى يجزئه لأن هذه الأسماء مخلوقة، وأسماء الله عز وجل عندهم مخلوقة.
وقال في آية أخرى (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) الأنعام/118.
وفي موضع آخر (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) الأنعام/121.
وقال تبارك وتعالى (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) الرحمن/78.
وقال في أخرى (فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) غافر/64.
وقال تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) الأحزاب/41 -42.
وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الأحزاب/56.
وأجمع المسلمون أن المؤذن إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فإنه قد أتى بالتوحيد، وأقر بالنبوة، إلا المعتزلة فإنه يلزمهم أن يقولوا أشهد أن الذي اسمه لا إله إلا الله هو، وأشهد أن الذي اسمه محمد رسول الله!!
وهذا خلاف ما وردت به الشريعة وخلاف ما عليه المسلمون.
وكذلك هذه الأيمان التي بالله تبارك وتعالى كلها عندهم يجب أن تكون مخلوقة، والناس يحلفون بالمخلوق دون الخالق لأن الاسم غير المسمى والاسم مخلوق عندهم.
(1/53)
________________________________________
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا» (1).
وكان يستشفي للمرضى بقوله" أعيذك بكلمات الله التامة ".
وكان يعوذ بها حسنًا وحسينًا. وجبريل حين اشتكى رسول الله < عوّذه بها.
ثم قول الناس في الأدعية: اللَّهم اغفر لي وارحمني، معناه عندهم: من اسمه اللَّهم الذي هو مخلوق اغفر لي!!
وهذا كفر بالله، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع المسلمين ولغة العرب والعرف والعادة.
فأما لغة العرب: فعن الأصمعي، وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى: إذا رأيت الرجل يقول الاسم غير المسمّى فأشهد عليه بالزندقة.
وعن خلف بن هشام البزار المقرئ أنه قال: من قال إن أسماء الله مخلوقة فكفره عندي أوضح من هذه الشمس.
ومن الأئمة الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ونعيم بن حماد ومحمد بن أسلم الطوسي ومحمد بن جرير الطبري.
335- أخبرنا أحمد بن عبيد الواسطي قال: أخبرنا علي بن عبد الله بن مبشر قال حدثنا أحمد بن سنان قال حدثنا وكيع بن الجراح قال حدثنا سفيان:/ ح /.
336- وأخبرنا أحمد قال: حدثنا علي قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال: كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ «بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا» . وَإِذَا قَامَ قَالَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» . أخرجه البخاري ومسلم ولفظهما سواء (1) .
__________
(1) رواه البخاري (6324)
(1/54)




كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأربعاء 02 يونيو 2021, 2:07 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ    كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Emptyالإثنين 21 مارس 2011, 6:26 am


337- أخبرنا عبيد الله بن أحمد قال: أخبرنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا يوسف بن موسى قال: حدثنا جرير عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ «إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ» . أخرجه البخاري (2) .
338 - أخبرنا محمد بن علي بن النضر قال: أخبرنا الحسين بن اسماعيل قال: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح قال: حدثنا عبيدة بن حميد عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله <: «أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِى أَهْلَهُ بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنِى الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِى ذَلِكَ، أَوْ قُضِىَ وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا» أخرجه البخاري ومسلم (3) .
339 - أخبرنا أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني قال: أخبرنا عبد الله بن محمد ابن زياد قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب وأبيه الحارث بن يعقوب حدثاه عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج عن القعقاع بن حكيم عن ذكوان عن أبي هريرة أنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - <- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِى الْبَارِحَةَ قَالَ «أَمَا
__________
(1) رواه البخاري (6312) وهو عند مسلم من حديث البراء (2711) .
(2) رواه البخاري (3371) .
(3) رواه البخاري (5165) ومسلم (1434) .
(1/55)
________________________________________
لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرُّكَ» أخرجه مسلم (1) .
340 - أخبرنا أحمد بن محمد بن عروة قال حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال حدثنا عبد الله بن عمران العابدي قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدار وردي عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة: أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ إِذَا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ -<- رَقَاهُ جِبْرِيلُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ يُبْرِيكَ وَمِنْ كُلِّ دَاءٍ يَشْفِيكَ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ وَشَرِّ كُلِّ ذِى عَيْنٍ. أخرجه مسلم (2) .
341 - أخبرنا محمد بن عبد الله الجعفي قال: أخبرنا محمد بن علي بن رحيم قال: حدثنا أحمد بن حازم قال: حدثنا مسدد، وأبو معمر قالا: حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن جبريل أتى النبي فقال: يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ فَقَالَ «نَعَمْ» . قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ. أخرجه مسلم (3) .
342 - ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: حدثنا أبو زرعة يعني الرازي قال حدثني إبراهيم بن زياد ولقبه سبلان قال: حدثنا عباد بن عباد قال حدثنا مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -<- «لَتَضْرِبَنَّ مُضَرُ عِبَادَ اللَّهِ حَتَّى لاَ يُعْبَدُ للَّهِ اسْمٌ» (4) .
343- أخبرنا علي بن محمد بن عمر قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال حدثنا الربيع بن سليمان المرادي بمصر في أول لقية لقيته في مسجد الجامع، فسألته عن هذه الحكاية وذلك أني كنت كتبتها عن أبي بكر بن القاسم عنه قبل خروجي إلى
__________
(1) رواه مسلم (2709) .
(2) رواه مسلم (2185) .
(3) رواه أحمد (3/86) وفيه مجالد بن سعيد، وهو ضعيف.
(4) رواه مسلم (2186) .
(1/56)
________________________________________
مصر، فحدثني الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة، لأن اسم الله غير مخلوق ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة فليس عليه الكفارة لأنه مخلوق وذلك غير مخلوق.
344- وأخبرنا عبيد الله بن محمد بن أحمد قال: أخبرنا علي بن إبراهيم بن عيسى المستملي قال: حدثنا أبو نعيم الجرجاني قال: حدثنا الربيع قال: قال الشافعي من حلف بالله أو باسم من أسماء الله فعليه الكفارة.
345- أخبرنا الحسين بن أحمد بن إبراهيم الطبري قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد الميلي قال: حدثنا محمد بن يحيى بن آدم قال: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن طريف قال: حدثنا أبو حاتم يحيى بن زكريا الأموي قال: حدثنا محمد بن إدريس الشافعي قال: حدثني بعض أصحابنا قال اختصم رجلان مسلم ويهودي إلى عيسى بن أبان - وكان قاضي البصرة وكان يرى رأي القوم - فصارت اليمين على المسلم فقال له اليهودي حلِّفه.
فقال: احلف بالله الذي لا إله إلا هو.
قال اليهودي للقاضي: إنك تزعم أن القرآن مخلوق، والله الذي لا إله إلا هو في القرآن، فحلِّفه لي بالخالق لا بالمخلوق.
فتحيّر عيسى عنده وقال قوما حتى انظر في أمركما.
346- أخبرنا محمد بن الحسين الفارسي قال حدثنا حبشون بن موسى قال حدثنا حفص بن عمر قال سمعت أبا سعيد الأصمعي: / ح /.
347- وأخبرنا علي بن محمد بن إبراهيم الجوهري قال: حدثنا الحسين بن إدريس القافلاني قال: حدثنا حفص بن عمر السياري قال: سمعت أبا سعيد الأصمعي يقول: إذا سمعته يقول: الاسم غير المسمّى فاحكم - أو قال فاشهد عليه بالزندقة لفظهما سواء.
(1/57)
________________________________________
348- أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران عن أبي بكر بن أبي داود السجستاني قال من زعم أن الاسم غير المسمّى فقد زعم أن الله غير الله، وأبطل في ذلك لأن الاسم غير المسمّى في المخلوقين؛ لأن الرجل يسمى محمودًا، وهو مذموم ويسمى قاسمًا ولم يقسم شيئًا قط. وإنما الله جل ثناؤه واسمه منه- ولا نقول اسمه هو، بل نقول اسمه منه.
فإن قال قائل إن اسمه ليس منه فإنه قال إن الله مجهول!!
فإن قال إن له اسمًا وليس منه فقال: إن مع الله ثان!!
349- ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: ذكر الفضل بن شاذان المقرئ الرازي قال: حدثنا الحسن بن محمد الكندي قال: قرأت على أبي عبيدة معمر بن المثنى البصري قال: بسم الله إنما هو الله، لأن اسم الشيء هو الشيء.
قال لبيد:
إلى الحَوْلِ ثمَّ اسْم السَّلام عَلَيْكُمَا... وَمَنْ يَبْك حَوْلًا كَاملًا فَقَدْ اعْتَذَر
350 - أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله قال: حدثنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا الحسن بن عبد الوهاب قال: حدثني أبو بكر بن حماد قال: سمعت خلف بن هشام فيمن قال: الاسم غير المسمّى، وهو ينكر ذلك أشد النكرة ويقول: لو أن رجلًا شتم رجلًا - على قول من قال هذه المقالة - لم يلزمه شيء يقول إنما شتمت الاسم.
ولو أن رجلًا حلف بالله على مال رجل لم يلزمه في كلامه حنث - على قول من قال هذه المقالة- ويقول إنما حلفت بالاسم فلم أحلف بالمسمى.
ورأيت يدور أمر الإسلام على هذا الاسم. قال رسول الله < «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» (1) .
__________
(1) رواه البخاري (1399) ومسلم (20) .
(1/58)
________________________________________
أرأيت الوضوء حين يبدأ فيه الانسان يقول" بسم الله " فإذا فرغ قال" سبحانك اللهم " ورأيت الأذان أوله: الله أكبر ولا يزال يردد أشهد أن لا إله إلا الله.
ثم رأيت الصلاة حين يفتتح بقوله "الله أكبر "لا يزال في ذلك حتى يختم بقوله "السلام عليكم ورحمة الله " فأولها وآخرها الله.
ورأيت الحج:" لبيك اللهم لبيك ".
ورأيت الذبيحة:" بسم الله ".
ورأيت أمر الإسلام يدور على هذا الاسم فمن زعم أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر وكفره عندي أوضح من هذا الشمس.
351 - أخبرنا أحمد بن محمد قال: أخبرنا عمر بن أحمد المروزي قال: حدثنا أحمد ابن محمد بن محمد الباغندي قال: حدثنا إبراهيم بن هانىء قال: سمعت أحمد بن حنبل وهو مختفٍ عندي فسألته عن القرآن فقال: من زعم أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر.
352 - ذكره عبد الرحمن حدثنا أحمد بن سلمة قال: حدثنا إسحاق بن راهويه قال: أفضوا إلى أن قالوا أسماء الله مخلوقة، لأنه كان ولا اسم، وهذا الكفر المحض لأن لله الأسماء الحسنى، فمن فرّق بين الله وبين أسمائه وبين علمه ومشيئته فجعل ذلك مخلوقًا كله والله خالقها، فقد كفر.
ولله عز وجل تسعة وتسعون اسمًا صحَّ ذلك عن النبي< أنه قاله.
ولقد تكلم بعض من ينسب إلى جهم بالأمر العظيم فقال: لو قلت إن للرب تسعة وتسعين اسمًا لعبدت تسعة وتسعين إلهًا! حتى إنه قال: إني لا أعبد الله الواحد الصمد. إنما أعبد المراد به.
فأي كلام أشد فرية وأعظم من هذا أن ينطق الرجل أن يقول لا اعبد الله.
(1/59)
________________________________________
353- ذكره عبد الرحمن قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي قال سمعت إسحاق بن داود الشعراني يذكر أنه عرض على محمد بن أسلم كلام رجل تكلم في القرآن فقال محمد بن أسلم: أما أسماء الله التي قد ذكرها فإنها كلها أسماؤه، فإذا قال الإنسان: نعبد الله فإنما يعنى الاسم والمعنى شيء واحد فهو موحد.
(1/60)
________________________________________
المبحث الخامس
قاعدة في الاسم والمسمّى
لشيخ الإسلام ابن تيمية:
(وهي خلاصة المسألة)

قال شيخ الإسلام: - أحمد بن تيمية رحمه الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فصل: في الاسم والمسمّى هل هو هو أو غيره؟ أو لا يقال هو هو ولا يقال هو غيره؟ أو هو له؟ أو يفصل في ذلك؟. فإن الناس قد تنازعوا في ذلك والنزاع اشتهر في ذلك بعد الأئمة بعد أحمد وغيره والذي كان معروفًا عند أئمة السنة أحمد وغيره: الإنكار على الجهمية الذين يقولون: أسماء الله مخلوقة.
فيقولون: الاسم غير المسمّى وأسماء الله غيره وما كان غيره فهو مخلوق؛ وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه وكلام الله غير مخلوق؛ بل هو المتكلم به وهو المسمي لنفسه بما فيه من الأسماء.
والجهمية يقولون: كلامه مخلوق وأسماؤه مخلوقة؛ وهو نفسه لم يتكلم بكلام يقوم بذاته ولا سمّى نفسه باسم هو المتكلم به؛ بل قد يقولون: إنه تكلم به وسمّى نفسه بهذه الأسماء بمعنى أنه خلقها في غيره؛ لا بمعنى أنه نفسه تكلم بها الكلام القائم به. فالقول في أسمائه هو نوع من القول في كلامه.
والذين وافقوا السلف على أن كلامه غير مخلوق وأسماءه غير مخلوقة يقولون: الكلام والأسماء من صفات ذاته؛ لكن هل يتكلم بمشيئته وقدرته. ويسمي نفسه بمشيئته
(1/61)
________________________________________
وقدرته؟ هذا فيه قولان: النفي هو قول ابن كلّاب ومن وافقه. والإثبات قول أئمة أهل الحديث والسنة وكثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والكرامية وغيرهم كما قد بسط هذا في مواضع.
والمقصود هنا أن المعروف عن أئمة السنة إنكارهم على من قال أسماء الله مخلوقة وكان الذين يطلقون القول بأن الاسم غير المسمّى هذا مرادهم؛ فلهذا يروى عن الشافعي والأصمعي وغيرهما أنه قال: إذا سمعت الرجل يقول:
الاسم غير المسمّى فاشهد عليه بالزندقة؛ ولم يعرف أيضًا عن أحد من السلف أنه قال الاسم هو المسمّى؛ بل هذا قاله كثير من المنتسبين إلى السنة بعد الأئمة وأنكره أكثر أهل السنة عليهم. ثم منهم من أمسك عن القول في هذه المسألة نفيًا وإثباتًا؛ إذ كان كل من الإطلاقين بدعة كما ذكره الخلال عن إبراهيم الحربي وغيره؛ وكما ذكره أبو جعفر الطبري في الجزء الذي سمّاه (صريح السنة) ذكر مذهب أهل السنة المشهور في القرآن والرؤية والإيمان والقدر والصحابة وغير ذلك. وذكر أن مسألة اللفظ ليس لأحد من المتقدمين فيها كلام؛ كما قال لم نجد فيها كلامًا عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلا عمَّن في كلامه الشفاء والغناء ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى أبو عبد الله أحمد بن حنبل فإنه كان يقول: اللفظية جهمية. ويقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. وذكر أن القول في الاسم والمسمّى من الحماقات المبتدعة التي لا يعرف فيها قول لأحد من الأئمة وأن حسب الإنسان أن ينتهي إلى قوله تعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الأعراف/180، وهذا هو القول بأن الاسم للمسمّى. وهذا الإطلاق اختيار أكثر المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيره. والذين قالوا الاسم هو المسمّى كثير من المنتسبين إلى السنة: مثل أبي بكر عبد العزيز وأبي القاسم الطبري واللالكائي وأبي محمد البغوي صاحب (شرح السنة) وغيرهم؛ وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري اختاره أبو بكر بن فورك وغيره.
(1/62)
________________________________________
والقول الثاني: وهو المشهور عن أبي الحسن أن الأسماء ثلاثة أقسام تارة يكون الاسم هو المسمّى كاسم الموجود. وتارة يكون غير المسمّى كاسم الخالق. وتارة لا يكون هو ولا غيره كاسم العليم والقدير.
وهؤلاء الذين قالوا: إن الاسم هو المسمّى لم يريدوا بذلك أن اللفظ المؤلَّف من الحروف هو نفس الشخص المسمَّى به؛ فإن هذا لا يقوله عاقل. ولهذا يقال: لو كان الاسم هو المسمّى لكان من قال: نار. احترق لسانه. ومن الناس من يظن أن هذا مرادهم ويشنّع عليهم وهذا غلط عليهم؛ بل هؤلاء يقولون: اللفظ هو التسمية والاسم ليس هو اللفظ؛ بل هو المراد باللفظ؛ فإنك إذا قلت: يا زيد! يا عمر! فليس مرادك دعاء اللفظ؛ بل مرادك دعاء المسمّى باللفظ وذكرت الاسم فصار المراد بالاسم هو المسمّى. وهذا لا ريب فيه إذا أخبر عن الأشياء فذكرت أسماؤها فقيل: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) الفتح/29، (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) الأحزاب/40 (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً) النساء/164، فليس المراد أن هذا اللفظ هو الرسول وهو الذي كلمه الله.
وكذلك إذا قيل: جاء زيد، وأشهد على عمرو، وفلان عدل ونحو ذلك فإنما تذكر الأسماء والمراد بها المسمّيات وهذا هو مقصود الكلام. فلما كانت أسماء الأشياء إذا ذكرت في الكلام المؤلَّف فإنما المقصود هو المسميات: قال هؤلاء: " الاسم هو المسمّى " وجعلوا اللفظ الذي هو الاسم عند الناس هو التسمية كما قال البغوي: والاسم هو المسمّى وعينه وذاته. قال الله تعالى: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى) مريم/7 أخبر أن اسمه يحيى. ثم نادى الاسم فقال (يَا يَحْيَى) مريم/12وقال: (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا) يوسف/40 وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسميات. وقال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) الأعلى/1 و (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) الرحمن/78.
قال: ثم يقال: للتسمية أيضًا اسم. واستعماله في التسمية أكثر من المسمّى. وقال أبو بكر بن فورك: اختلف الناس في حقيقة الاسم ولأهل اللغة في ذلك كلام ولأهل الحقائق فيه بيان وبين المتكلمين فيه خلاف.
(1/63)
________________________________________
فأما أهل اللغة فيقولون: الاسم حروف منظومة دالة على معنى مفرد ومنهم من يقول إنه قول يدل على مذكور يضاف إليه؛ يعني الحديث والخبر. قال: وأما أهل الحقائق فقد اختلفوا أيضًا في معنى ذلك فمنهم من قال: اسم الشيء هو ذاته وعينه والتسمية عبارة عنه ودلالة عليه فيسمى اسمًا توسعًا. وقالت الجهمية والمعتزلة: الأسماء والصفات هي الأقوال الدالة على المسمّيات وهو قريب مما قاله بعض أهل اللغة.
والثالث: لا هو هو ولا هو غيره؛ كالعلم والعالم ومنهم من قال اسم الشيء هو صفته ووصفه. قال: والذي هو الحق عندنا قول من قال: اسم الشيء هو عينه وذاته واسم الله هو الله وتقدير قول القائل: بسم الله أفعل أي بالله أفعل وإن اسمه هو هو. قال: وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام. واستدل بقول لبيد.
إلى الحَوْلِ ثمَّ اسْم السَّلام عَلَيْكُمَا... وَمَنْ يَبْك حَوْلًا كَاملًا فَقَدْ اعْتَذَر
والمعنى ثم السلام عليكما؛ فإن اسم السلام هو السلام.
قال: واحتج أصحابنا في ذلك بقوله تبارك وتعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن/78، وهذا هو صفة للمسمى لا صفة لما هو قول وكلام وبقوله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) الأعلى/1، فإن المسبح هو المسمى وهو الله وبقوله سبحانه: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى) مريم/7 ثم قال: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) مريم/12، فنادى الاسم وهو المسمّى. وبأن الفقهاء أجمعوا على أن الحالف باسم الله كالحالف بالله في بيان أنه تنعقد اليمين بكل واحد منهما؛ فلو كان اسم الله غير الله لكان الحالف بغير الله لا تنعقد يمينه؛ فلما انعقد ولزم بالحنث فيها كفارة دل على أن اسمه هو. ويدل عليه أن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ قلنا الله. فإذا قال: وما معبودكم؟ قلنا الله فنجيب في الاسم بما نجيب به في المعبود؛ فدل على أن اسم المعبود هو المعبود لا غير. وبقوله (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا) يوسف/40، وإنما عبدوا المسميات لا الأقوال التي هي أعراض لا تعبد. قال: فإن قيل: أليس يقال: الله إله واحد وله أسماء كثيرة فكيف يكون الواحد كثيرًا؟ قيل إذا أطلق (أسماء) فالمراد به مسميات
(1/64)
________________________________________
المسمين والشيء قد يسمى باسم دلالته كما يسمى المقدور قدرة. قال: فعلى هذا يكون معنى قوله: باسم الله: أي بالله والباء معناها الاستعانة وإظهار الحاجة وتقديره: بك أستعين وإليك أحتاج وقيل تقدير الكلمة: أبتدئ أو أبدأ باسمك فيما أقول وأفعل. قلت: لو اقتصروا على أن أسماء الشيء إذا ذكرت في الكلام فالمراد بها المسميات - كما ذكروه في قوله (يَا يَحْيَى) ونحو ذلك - لكان ذلك معنى واضحًا لا ينازعه فيه من فهمه لكن لم يقتصروا على ذلك؛ ولهذا أنكر قولهم جمهور الناس من أهل السنة وغيرهم؛ لما في قولهم من الأمور الباطلة مثل دعواهم أن لفظ اسم الذي هو (اس م) معناه ذات الشيء ونفسه وأن الأسماء - التي هي الأسماء - مثل زيد وعمرو هي التسميات؛ ليست هي أسماء المسميات وكلاهما باطل مخالف لما يعلمه جميع الناس من جميع الأمم ولما يقولونه. فإنهم يقولون: إن زيدًا وعمرًا ونحو ذلك هي أسماء الناس والتسمية جعل الشيء اسمًا لغيره هي مصدر سميته تسمية إذا جعلت له اسمًا و (الاسم) هو القول الدال على المسمى ليس الاسم الذي هو لفظ اسم هو المسمّى؛ بل قد يُراد به المسمّى؛ لأنه حكم عليه ودليل عليه.
وأيضًا: فهم تكلفوا هذا التكليف؛ ليقولوا إن اسم الله غير مخلوق ومرادهم أن الله غير مخلوق وهذا مما لا تنازع فيه الجهمية والمعتزلة؛ فإن أولئك ما قالوا الأسماء مخلوقة إلا لما قال هؤلاء هي التسميات فوافقوا الجهمية والمعتزلة في المعنى ووافقوا أهل السنة في اللفظ. ولكن أرادوا به ما لم يسبقهم أحد إلى القول به من أن لفظ اسم وهو (ألف سين ميم) معناه إذا أطلق هو الذات المسمَّاة؛ بل معنى هذا اللفظ هي الأقوال التي هي أسماء الأشياء مثل زيد وعمرو وعالم وجاهل. فلفظ الاسم لا يدل على أن هذه الأسماء هي مسمَّاه. ثم قد عرف أنه إذا أطلق الاسم في الكلام المنظوم فالمراد به المسمّى؛ فلهذا يقال: ما اسم هذا؟ فيقال: زيد. فيجاب باللفظ ولا يقال: ما اسم هذا فيقال هو هو؛ وما ذكروه من الشواهد حجة عليهم. أما قوله: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى) مريم/7 ثم قال (يَا يَحْيَى) فالاسم الذي هو يحيى هو هذا اللفظ المؤلف من (ياء، حاء، ياء) هذا هو اسمه ليس اسمه هو ذاته؛ بل هذا مكابرة. ثم
(1/65)
________________________________________
لما ناداه فقال: (يَا يَحْيَى) فالمقصود المراد بنداء الاسم هو نداء المسمّى؛ لم يقصد نداء اللفظ لكن المتكلم لا يمكنه نداء الشخص المنادى إلا بذكر اسمه وندائه؛ فيعرف حينئذ أن قصده نداء الشخص المسمّى وهذا من فائدة اللغات وقد يدعى بالإشارة وليست الحركة هي ذاته ولكن هي دليل على ذاته.
وأما قوله (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن/78، ففيها قراءتان: الأكثرون يقرءون (ذِي الْجَلَالِ) فالرب المسمَّى: هو ذو الجلال والإكرام. وقرأ ابن عامر (ذو الجلال والإكرام) وكذلك هي في المصحف الشامي؛ وفي مصاحف أهل الحجاز والعراق هي بالياء. وأما قوله (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن/27، فهي بالواو باتفاقهم قال ابن الأنباري وغيره "تبارك" تفاعل من البركة والمعنى أن البركة تكتسب وتنال بذكر اسمه؛ فلو كان لفظ الاسم معناه المسمّى لكان يكفي قوله تبارك ربك فإن نفس الاسم عندهم هو نفس الرب؛ فكان هذا تكريرًا. وقد قال بعض الناس: إن ذكر الاسم هنا صلة والمراد تبارك ربك؛ ليس المراد الإخبار عن اسمه بأنه تبارك؛ وهذا غلط فإنه على هذا يكون قول المصلي تبارك اسمك أي تباركت أنت ونفس أسماء الرب لا بركة فيها. ومعلوم أن نفس أسمائه مباركة وبركتها من جهة دلالتها على المسمى. ولهذا فرقت الشريعة بين ما يذكر اسم الله عليه وما لا يذكر اسم الله عليه في مثل قوله (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) الأنعام/118، وقوله (وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) الأنعام/119، وقوله (وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) المائدة/4، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِذَا أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ» . قُلْتُ أُرْسِلُ كَلْبِى فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ قَالَ «فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبٍ آخَرَ» (1) .
وأما قوله تعالى (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا) يوسف/40، فليس المراد كما ذكروه: أنكم تعبدون الأوثان المسماة فإن هذا هم معترفون به. والرب تعالى
__________
(1) رواه البخاري (175) .
(1/66)
________________________________________
نفى ما كانوا يعتقدونه وأثبت ضده ولكن المراد أنهم سموها آلهة واعتقدوا ثبوت الإلهية فيها؛ وليس فيها شيء من الإلهية فإذا عبدوها معتقدين إلهيتها مسمين لها آلهة لم يكونوا قد عبدوا إلا أسماء ابتدعوها هم ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن الله لم يأمر بعبادة هذه ولا جعلها آلهة كما قال (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) الزخرف/45، فتكون عبادتهم لما تصوروه في أنفسهم من معنى الإلهية وعبروا عنه بألسنتهم وذلك أمر موجود في أذهانهم وألسنتهم لا حقيقة له في الخارج؛ فما عبدوا إلا هذه الأسماء التي تصوروها في أذهانهم وعبروا عن معانيها بألسنتهم؛ وهم لم يقصدوا عبادة الصنم إلا لكونه إلهًا عندهم وإلهيته هي في أنفسهم؛ لا في الخارج فما عبدوا في الحقيقة إلا ذلك الخيال الفاسد الذي عبر عنه. ولهذا قال في الآية الأخرى: (وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ) الرعد/33، يقول: سموهم بالأسماء التي يستحقونها هل هي خالقة رازقة محيية مميتة أم هي مخلوقة لا تملك ضرًا ولا نفعًا؟ فإذا سمّوها فوصفوها بما تستحقه من الصفات تبين ضلالهم. قال تعالى (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ) وما لا يعلم أنه موجود فهو باطل لا حقيقة له ولو كان موجودًا لعلمه موجودًا (أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ) أم بقول ظاهر باللسان لا حقيقة له في القلب؛ بل هو كذب وبهتان.
وأما قولهم: إن الاسم يراد به التسمية , وهو القول: فهذا الذي جعلوه هم تسمية هو الاسم عند الناس جميعهم والتسمية جعله اسمًا والإخبار بأنه اسم ونحو ذلك وقد سلموا أن لفظ الاسم أكثر ما يراد به ذلك وادّعوا أن لفظ الاسم الذي هو (ألف سين ميم) : هو في الأصل ذات الشيء ولكن التسمية سميت اسمًا لدلالتها على ذات الشيء: تسمية للدال باسم المدلول ومثّلوه بلفظ القدرة؛ وليس الأمر كذلك؛ بل التسمية مصدر سمى يسمي تسمية والتسمية نطق بالاسم وتكلّم به ليست هي الاسم نفسه، وأسماء الأشياء هي الألفاظ الدالة عليها ليست هي أعيان الأشياء. وتسمية المقدور قدرة هو من باب تسمية المفعول باسم المصدر وهذا كثير شائع في اللغة كقولهم
(1/67)
________________________________________
للمخلوق خلق وقولهم درهم ضرب الأمير أي مضروب الأمير ونظائره كثيرة. وابن عطية سلك مسلك هؤلاء وقال: الاسم الذي هو (ألف وسين وميم) يأتي في مواضع من الكلام الفصيح يراد به المسمّى ويأتي في مواضع يراد به التسمية نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وغير ذلك ومتى أريد به المسمّى فإنما هو صلة كالزائد كأنه قال في هذه الآية: سبح ربك الأعلى أي نزهه. قال: وإذا كان الاسم واحد الأسماء كزيد وعمرو فيجيء في الكلام على ما قلت لك. تقول: زيد قائم تريد المسمّى وتقول: زيد ثلاثة أحرف تريد التسمية نفسها على معنى نزّه اسم ربك عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقا ل له (إله أو رب) . قلت: هذا الذي ذكروه لا يعرف له شاهد لا من كلام فصيح ولا غير ذلك ولا يعرف أن لفظ اسم (ألف سين ميم) يراد به المسمّى بل المراد به الاسم الذي يقولون هو التسمية. وأما قوله: تقول زيد قائم زيد المسمّى. فزيد ليس هو (ألف سين ميم) بل زيد مسمّى هذا اللفظ فزيد يراد به المسمّى ويراد به اللفظ. وكذلك اسم (ألف سين ميم) يراد به هذا اللفظ؛ ويراد به معناه وهو لفظ زيد وعمرو وبكر؛ فتلك هي الأسماء التي تراد بلفظ اسم؛ لا يراد بلفظ اسم نفس الأشخاص؛ فهذا ما أعرف له شاهدًا صحيحًا فضلًا عن أن يكون هو الأصل كما ادّعاه هؤلاء. قال تعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ) الأعراف/180، فأسماؤه الحسنى مثل: الرحمن الرحيم والغفور الرحيم فهذه الأقوال هي أسماؤه الحسنى وهي إذا ذكرت في الدعاء والخبر يراد بها المسمّى. إذا قال (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) الشعراء/217، فالمراد المسمّى ليس المراد أنه يتوكل على الأسماء التي هي أقوال؛ كما في سائر الكلام: كلام الخالق وكلام المخلوقين. وما ذكروه من أن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ قلنا: الله. فنجيب في الاسم بما نجيب به في المعبود؛ فدل على أن اسم المعبود هو المعبود: حجة باطلة وهي عليهم لا لهم. فإن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ فقلنا: الله. فالمراد أن اسمه هو هذا القول ليس المراد أن اسمه هو ذاته وعينه الذي خلق السموات والأرض فإنه إنما سأل عن اسمه لم يسأل عن نفسه؛ فكان الجواب بذكر اسمه. وإذا قال: ما معبودكم؟ فقلنا الله: فالمراد هناك المسمّى؛ ليس المراد أن المعبود هو
(1/68)
________________________________________
القول، فلما اختلف السؤال في الموضعين اختلف المقصود بالجواب وإن كان في الموضعين قال الله لكنه في أحدهما أريد هذا القول الذي هو من الكلام وفي الآخر أريد به المسمّى بهذا القول. كما إذا قيل: ما اسم فلان؟ فقيل: زيد أو عمر فالمراد هو القول. وإذا قال: من أميركم أو من أنكحت؟ فقيل زيد أو عمرو فالمراد به الشخص فكيف يجعل المقصود في الموضعين واحدا. ولهذا قال تعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الأعراف/180، كان المراد أنه نفسه له الأسماء الحسنى. ومنها اسمه الله. كما قال (ُقلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الأسراء/110، فالذي له الأسماء الحسنى هو المسمى بها؛ ولهذا كان في كلام الإمام أحمد أن هذا الاسم من أسمائه الحسنى؛ وتارة يقول الأسماء الحسنى له أي المسمى ليس من الأسماء؛ ولهذا في قوله (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الأعراف/180، لم يقصد أن هذا الاسم له الأسماء الحسنى؛ بل قصد أن المسمّى له الأسماء الحسنى. وفي حديث أنس الصحيح (1) : أن رسول الله < كان نقش خاتمه: محمد رسول الله، محمد سطر ورسول سطر والله سطر. ويراد الخط المكتوب الذي كتب به ذلك؛ فالخط الذي كتب به محمد سطر، والخط الذي كتب به رسول سطر، والخط الذي كتب به الله سطر. ولما قال النبي < «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ أَنَا مَعَ عَبْدِى إِذَا هُوَ ذَكَرَنِى وَتَحَرَّكَتْ شَفَتَاهُ» (2) ، فمعلوم أن المراد تحرك شفتاه بذكر اسم الله وهو القول ليس المراد أن الشفتين تتحرك بنفسه تعالى. وأما احتجاجهم بقوله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) الأعلى/1 وأن المراد سبح ربك الأعلى وكذلك قوله: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن/78، وما أشبه ذلك فهذا للناس فيه قولان معروفان وكلاهما حجة عليهم. منهم من قال: الاسم هنا صلة والمراد سبح ربك وتبارك ربك. وإذا قيل: هو صلة فهو زائد لا معنى له؛ فيبطل
__________
(1) عند البخاري (5877) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَنَقَشَ فِيهِ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ «إِنِّى اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَنَقَشْتُ فِيهِ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فَلاَ يَنْقُشَنَّ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ» .
(2) رواه أحمد (11259)
(1/69)
________________________________________
قولهم إن مدلول لفظ اسم (ألف سين ميم) هو المسمّى فإنه لو كان له مدلول مراد لم يكن صلة. ومن قال إنه هو المسمّى وأنه صلة كما قاله ابن عطية؛ فقد تناقض فإن الذي يقول هو صلة لا يجعل له معنى؛ كما يقوله من يقول ذلك في الحروف الزائدة التي تجيء للتوكيد كقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ) آل عمران/159، و (قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) المؤمنون/40، ونحو ذلك. ومن قال: إنه ليس بصلة بل المراد تسبيح الاسم نفسه فهذا مناقض لقولهم مناقضة ظاهرة.
والتحقيق: أنه ليس بصلة بل أمر الله بتسبيح اسمه كما أمر بذكر اسمه. والمقصود بتسبيحه وذكره هو تسبيح المسمّى وذكره فإن المسبِّح والذاكر إنما يسبح اسمه ويذكر اسمه؛ فيقول: سبحان ربي الأعلى فهو نطق بلفظ ربي الأعلى والمراد هو المسمّى بهذا اللفظ فتسبيح الاسم هو تسبيح المسمّى. ومن جعله تسبيحًا للاسم يقول المعنى أنك لا تسم به غير الله ولا تلحد في أسمائه فهذا مما يستحقه اسم الله لكن هذا تابع للمراد بالآية ليس هو المقصود بها القصد الأول.
وقد ذكر الأقوال الثلاثة غير واحد من المفسرين كالبغوي قال: قوله (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) الأعلى/1؛ أي قل سبحان ربي الأعلى. وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة وذكر حديث ابن عباس أن النبي< قرأ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) الأعلى/1. فقال: سبحان ربي الأعلى. قلت: في ذلك حديث عقبة بن عامر عن النبي< أنه لما نزل (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الواقعة/74، قال اجعلوها في ركوعكم ولما نزل (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) الأعلى/1 قال: اجعلوها في سجودكم (1) .
والمراد بذلك أن يقولوا في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى كما ثبت في الصحيح (2) عن حذيفة عن النبي< أنه "قام بالبقرة والنساء وآل
__________
(1) رواه أبو داود (869) .
(2) رواه مسلم (1850) ولفظه: عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّى بِهَا فِى رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ» . فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ «سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى» . فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ.
(1/70)
________________________________________
عمران ثم ركع نحوًا من قيامه يقول: سبحان ربي العظيم وسجد نحوًا من ركوعه يقول: سبحان ربي الأعل. وفي السنن عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" إذا قال العبد في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثا فقد تم ركوعه وذلك أدناه وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثا فقد تم سجوده وذلك أدناه. (1) . وقد أخذ بهذا جمهور العلماء.
قال البغوي: وقال قوم معناه نزّه ربك الأعلى عمّا يصفه به الملحدون. وجعلوا الاسم صلة. قال: ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمّى واحدًا؛ لأن أحدًا لا يقول سبحان اسم الله وسبحان اسم ربنا إنما يقولون: سبحان الله وسبحان ربنا. وكان معنى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) الأعلى/1، سبح ربك.
قلت: قد تقدم الكلام على هذا والذي: يقول سبحان الله وسبحان ربنا إنما نطق بالاسم الذي هو الله والذي هو ربنا: فتسبيحه إنما وقع على الاسم لكن مراده هو المسمّى فهذا يبين أنه ينطق باسم المسمّى والمراد المسمّى.
وهذا لا ريب فيه لكن هذا لا يدل على أن لفظ اسم الذي هو (ألف سين ميم) المراد به المسمّى. لكن يدل على أن أسماء الله؛_مثل الله وربنا وربي الأعلى ونحو ذلك يراد بها المسمّى مع أنها هي في نفسها ليست هي المسمّى لكن يراد بها المسمّى فأما اسم هذه الأسماء (ألف سين ميم) فلا هو المسمّى الذي هو الذات ولا يراد به المسمّى الذي هو الذات؛ ولكن يراد به مسماه الذي هو الأسماء كأسماء الله الحسنى
__________
(1) رواه أبو داود (886) ولفظه: «إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَإِذَا سَجَدَ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى ثَلاَثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» . قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا مُرْسَلٌ عَوْنٌ لَمْ يُدْرِكْ عَبْدَ اللَّهِ.
(1/71)
________________________________________
في قوله (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الأعراف/180، فلها هذه الأسماء الحسنى التي جعلها هؤلاء هي التسميات وجعلوا التعبير عنها بالأسماء توسعًا؛ فخالفوا إجماع الأمم كلهم من العرب وغيرهم وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول. والذين شاركوهم في هذا الأصل وقالوا: الأسماء ثلاثة قد تكون هي المسمّى وقد تكون غيره وقد تكون لا هي هو ولا غيره وجعلوا الخالق والرازق ونحوهما غير المسمّى وجعلوا العليم والحكيم ونحوهما للمسمّى: غلطوا من وجه آخر فإنه إذا سلم لهم أن المراد بالاسم الذي هو (ألف سين ميم) هو مسمّى الأسماء؛ فاسمه الخالق هو الرب الخالق نفسه ليس هو المخلوقات المنفصلة عنه واسمه العليم هو الرب العليم الذي العلم صفة له فليس العلم هو المسمّى؛ بل المسمّى هو العليم؛ فكان الواجب أن يقال على أصلهم: الاسم هنا هو المسمّى وصفته. وفي الخالق الاسم هو المسمّى وفعله؛ ثم قولهم إن الخلق هو المخلوق وليس الخلق فعلًا قائمًا بذاته قول ضعيف مخالف لقول جمهور المسلمين. كما قد بسط في موضعه.
(1/72)
________________________________________
فتبيّن أن هؤلاء الذين قالوا: الاسم هو المسمّى إنما يسلم لهم أن أسماء الأشياء إذا ذكرت في الكلام أريد به المسمّى وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء؛ لا أن لفظ اسم. (ألف سين ميم) يراد به الشخص.
وما ذكروه من قول لبيد:
إلى الحَوْلِ ثمَّ اسْم السَّلام عَلَيْكُمَا... وَمَنْ يَبْك حَوْلًا كَاملًا فَقَدْ اعْتَذَر
فمراده ثم النطق بهذا الاسم وذكره وهو التسليم المقصود؛ كأنه قال ثم سلام عليكم ليس مراده أن السلام يحصل عليهما بدون أن ينطق به ويذكر اسمه. فإن نفس السلام قول فإن لم ينطق به ناطق ويذكره لم يحصل.
وقد احتج بعضهم بقول سيبويه إن الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبني لما مضى ولما لم يكن بعد وهذا لا حجة فيه؛ لأن سيبويه مقصوده بذكر الاسم والفعل ونحو ذلك الألفاظ. وهذا اصطلاح النحويين سمّوا الألفاظ بأسماء معانيها؛ فسمّوا قام ويقوم وقم فعلًا؛ والفعل هو نفس الحركة؛ فسمّوا اللفظ الدال عليها باسمها. وكذلك إذا قالوا: اسم معرب ومبني فمقصودهم اللفظ ليس مقصودهم المسمّى وإذا قالوا هذا الاسم فاعل فمرادهم أنه فاعل في اللفظ؛ أي أسند إليه الفعل ولم يرد سيبويه بلفظ الأسماء المسمّيات كما زعموا؛ ولو أراد ذلك فسدت صناعته.
فصل: وأما الذين قالوا: إن الاسم غير المسمّى فهم إذا أرادوا أن الأسماء التي هي أقوال ليست نفسها هي المسمّيات فهذا أيضًا لا ينازع فيه أحد من العقلاء. وأرباب القول الأول لا ينازعون في هذا؛ بل عبّروا عن الأسماء هنا بالتسميات وهم أيضًا لا يمكنهم النزاع في أن الأسماء المذكورة في الكلام مثل قوله يا آدم! يا نوح! يا إبراهيم! إنما أريد بها نداء المسمين بهذه الأسماء. وإذا قيل: خلق الله السموات والأرض فالمراد خلق المسمى بهذه الألفاظ؛ لم يقصد أنه خلق لفظ السماء ولفظ الأرض والناس لا يفهمون من ذلك إلا المعنى المراد به ولا يخطر بقلب أحد إرادة الألفاظ؛ لما قد استقر في نفوسهم من أن هذه الألفاظ والأسماء يراد بها المعاني والمسمّيات؛ فإذا تكلم
(1/73)
________________________________________
بها فهذا هو المراد؛ لكن لا يعلم أنه المراد إن لم ينطق بالألفاظ والأسماء المبينة للمراد الدالة عليه. وهذا من البيان الذي أنعم الله به على بني آدم في قوله (خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) الرحمن/3-4 وقد علَّم آدم الأسماء كلها سبحانه وتعالى.
ولكن هؤلاء الذين أطلقوا من الجهمية والمعتزلة أن الاسم غير المسمّى مقصودهم أن أسماء الله غيره؛ وما كان غيره فهو مخلوق.
ولهذا قالت الطائفة الثالثة: لا نقول هي المسمّى ولا غير المسمّى. فيقال لهم: قولكم إن أسماءه غيره مثل قولكم إن كلامه غيره وإن إرادته غيره ونحو ذلك وهذا قول الجهمية نفاة الصفات وقد عرفت شبههم وفسادها في غير هذا الموضع وهم متناقضون من وجوه كما قد بسط في مواضع.
فإنهم يقولون: لا نثبت قديمًا غير الله؛ أو قديمًا ليس هو الله حتى كفروا أهل الإثبات وإن كانوا متأولين كما قال أبو الهذيل: إن كل متأول كان تأويله تشبيهًا له بخلقه وتجويزًا له في فعله وتكذيبًا لخبره فهو كافر؛ وكل من أثبت شيئًا قديمًا لا يقال له الله فهو كافر ومقصوده تكفير مثبتة الصفات والقدر ومن يقول إن أهل القبلة يخرجون من النار ولا يخلدون فيها. فمما يقال لهؤلاء: إن هذا القول ينعكس عليكم فأنتم أولى بالتشبيه والتجويز والتكذيب؛ وإثبات قديم لا يقال له الله فإنكم تشبهونه بالجمادات، بل بالمعدومات، بل بالممتنعات وتقولون إنه يحبط الحسنات العظيمة بالذنب الواحد؛ ويخلد عليه في النار وتكذبون بما أخبر به من مغفرته ورحمته وإخراجه أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها وإنه من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.
وأنتم تثبتون قديمًا لا يقال له الله فإنكم تثبتون ذاتًا مجردة عن الصفات ومعلوم أنه ما ليس بحي ولا عليم ولا قدير؛ فليس هو الله فمن أثبت ذاتًا مجردة فقد أثبت قديمًا ليس هو الله وإن قال أنا أقول إنه لم يزل حيًا عليمًا قديرًا فهو قول مثبتة الصفات؛ فنفس كونه حيًّا ليس هو كونه عالمًاونفس كونه عالمًا ليس هو كونه قادرًا ونفس ذلك ليس هو كونه ذاتًا متصفة بهذه الصفات فهذه معان متميزة في العقل ليس هذا هو هذا.
(1/74)
________________________________________
فإن قلتم هي قديمة فقد أثبتم معاني قديمة؛ وإن قلتم هي شيء واحد جعلتم كل صفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف فجعلتم كونه حيًا هو كونه عالمًا وجعلتم ذلك هو نفس الذات ومعلوم أن هذا مكابرة وهذه المعاني هي معاني أسمائه الحسنى وهو سبحانه لم يزل متكلمًا إذا شاء.
يتبع إن شاء الله تعالى...



كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ    كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Emptyالإثنين 21 مارس 2011, 6:29 am


فهو المسمي نفسه بأسمائه الحسنى كما رواه البخاري (1) في صحيحه عن ابن عباس أنه لما سئل عن قوله: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا) فقال هو سمّى نفسه بذلك وهو لم يزل كذلك؛ فأثبت قدم معاني أسمائه الحسنى وأنه هو الذي سمّى نفسه بها. فإذا قلتم إن أسماءه أو كلامه غيره فلفظ (الغير) مجمل؛ إن أردتم أن ذلك شيء بائنٍ عنه فهذا باطل؛ وإن أردتم أنه يمكن الشعور بأحدهما دون الآخر فقد يذكر الإنسان الله ويخطر بقلبه ولا يشعر حينئذ بكل معاني أسمائه بل ولا يخطر له حينئذ أنه عزيز وأنه حكيم فقد أمكن العلم بهذا دون هذا؛ وإذا أريد بالغير هذا فإنما يفيد المباينة في ذهن الإنسان
__________
(1) برقم (41) ولفظه: قَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ إِنِّى أَجِدُ فِى الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَىَّ قَالَ (فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ) . (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) . (وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) . (رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) فَقَدْ كَتَمُوا فِى هَذِهِ الآيَةِ، وَقَالَ (أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) إِلَى قَوْلِهِ (دَحَاهَا) فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ) إِلَى (طَائِعِينَ) فَذَكَرَ فِى هَذِهِ خَلْقَ الأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَقَالَ (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) عَزِيزًا حَكِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا، فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى. فَقَالَ (فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ) فِى النَّفْخَةِ الأُولَى ثُمَّ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ، فَصَعِقَ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ، فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِى النَّفْخَةِ الآخِرَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) . (وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ) فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لأَهْلِ الإِخْلاَصِ ذُنُوبَهُمْ وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُولُ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ. فَخَتَمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لاَ يُكْتَمُ حَدِيثًا وَعِنْدَهُ (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيَةَ، وَخَلَقَ الأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، فَسَوَّاهُنَّ فِى يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ، وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْجِمَالَ وَالآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ (دَحَاهَا) ، وَقَوْلُهُ (خَلَقَ الأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ) فَجُعِلَتِ الأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَىْءٍ فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَخُلِقَتِ السَّمَوَاتُ فِى يَوْمَيْنِ. (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا) سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ، أَىْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلاَّ أَصَابَ بِهِ الَّذِى أَرَادَ، فَلاَ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
(1/75)
________________________________________
؛ لكونه قد يعلم هذا دون هذا وذلك لا ينفي التلازم في نفس الأمر فهي معانٍ متلازمة لا يمكن وجود الذات دون هذه المعاني ولا وجود هذه المعاني دون وجود الذات.
واسم (الله) إذا قيل الحمد لله أو قيل بسم الله يتناول ذاته وصفاته لا يتناول ذاتًا مجردة عن الصفات ولا صفات مجردة عن الذات وقد نص أئمة السنة - كأحمد وغيره - على أن صفاته داخلة في مسمّى أسمائه فلا يقال: إن علم الله وقدرته زائدة عليه؛ لكن من أهل الإثبات من قال: إنها زائدة على الذات.
وهذا إذا أريد به أنها زائدة على ما أثبته أهل النفي من الذات المجردة فهو صحيح فإن أولئك قصروا في الإثبات فزاد هذا عليهم وقال الرب له صفات زائدة على ما علمتموه. وإن أراد أنها زائدة على الذات الموجودة في نفس الأمر فهو كلام متناقض؛ لأنه ليس في نفس الأمر ذات مجردة حتى يقال إن الصفات زائدة عليها بل لا يمكن وجود الذات إلا بما به تصير ذاتا من الصفات ولا يمكن وجود الصفات إلا بما به تصير صفات من الذات فتخيل وجود أحدهما دون الآخر ثم زيادة الآخر عليه تخيل باطل. وأما الذين يقولون: إن (الاسم للمسمّى) كما يقوله أكثر أهل السنة فهؤلاء وافقوا الكتاب والسنة والمعقول قال الله تعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الأعراف/180، وقال: (أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الإسراء/110،. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُقَفِّى وَالْحَاشِرُ وَنَبِىُّ التَّوْبَةِ وَنَبِىُّ الرَّحْمَةِ» وكلاهما في الصحيحين (1) .
وإذا قيل لهم: أهو المسمى أم غيره؟ فصلوا؛ فقالوا: ليس هو نفس المسمى ولكن يراد به المسمى؛ وإذا قيل إنه غيره بمعنى أنه يجب أن يكون مباينا له فهذا باطل؛ فإن المخلوق قد يتكلم بأسماء نفسه فلا تكون بائنة عنه فكيف بالخالق وأسماؤه من كلامه؛ وليس كلامه بائنًا عنه ولكن قد يكون الاسم نفسه بائنًا مثل أن يسمي
__________
(1) سبق تخريجه.
(1/76)
________________________________________
الرجل غيره باسم أو يتكلم باسمه. فهذا الاسم نفسه ليس قائمًا بالمسمّى؛ لكن المقصود به المسمّى فإن الاسم مقصوده إظهار المسمّى وبيانه.
وهو مشتق من (السمو) وهو العلو كما قال النحاة البصريون وقال النحاة الكوفيون هو مشتق من (السمة) وهي العلامة وهذا صحيح في (الاشتقاق الأوسط) وهو ما يتفق فيه حروف اللفظين دون ترتيبهما فإنه في كليهما (السين والميم والواو) والمعنى صحيح فإن السمة والسيما العلامة. ومنه يقال: وسمته أسمه كقوله (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) القلم/16، ومنه التوسم كقوله (لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) الحجر/75، لكن اشتقاقه من (السمو) هو الاشتقاق الخاص الذي يتفق فيه اللفظان في الحروف وترتيبها ومعناه أخص وأتم فإنهم يقولون في تصريفه سميت ولا يقولون وسمت وفي جمعه أسماء لا أوسام وفي تصغيره سمي لا وسيم. ويقال لصاحبه مسمّى لا يقال موسوم وهذا المعنى أخص.
فإن العلو مقارن للظهور, كلما كان الشيء أعلى كان أظهر وكل واحد من العلو والظهور يتضمن المعنى الآخر ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (1) (وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ) ولم يقل فليس أظهر منك شيء؛ لأن الظهور يتضمن العلو والفوقية؛ فقال: (فليس فوقك شيء) . ومنه قوله (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ) الكهف/97، أي يعلوا عليه.
ويقال ظهر الخطيب على المنبر إذا علا عليه. ويقال للجبل العظيم عَلَم؛ لأنه لعلوه وظهوره يعلم ويعلم به غيره. قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) الشورى/32، وكذلك (الراية العالية) التي يعلم بها مكان الأمير والجيوش يقال لها علم وكذلك العلم في الثوب لظهوره كما يقال لعرف الديك وللجبال العالية أعراف لأنها لعلوها تعرف فالاسم يظهر به المسمّى ويعلو؛ فيقال للمسمّى: سمه: أي أظهره وأعله أي أعل ذكره بالاسم الذي يذكر به؛ لكن يذكر تارة بما يحمد به ويذكر تارة بما
__________
(1) رواه مسلم (7064) .
(1/77)
________________________________________
يذم به كما قال تعالى (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً) مريم/50، وقال (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) الشرح/4، وقال (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) الصافات/78-79، وقال في النوع المذموم (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ) القصص/42، وقال تعالى (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) القصص/3. فكلاهما ظهر ذكره؛ لكن هذا إمام في الخير وهذا إمام في الشر. وبعض النحاة يقول: سمي اسما لأنه علا على المسمّى؛ أو لأنه علا على قسيميه الفعل والحرف وليس المراد بالاسم هذا، بل لأنه يعلى المسمى فيظهر؛ ولهذا يقال سميته أي أعليته وأظهرته فتجعل المعلى المظهر هو المسمّى وهذا إنما يحصل بالاسم.
ووزنه فعل، وفعل وجمعه أسماء كقنو وأقناء وعضو وأعضاء. وقد يقال فيه سم وسم بحذف اللام. ويقال: سمى كما قال: والله أسماك سما مباركا. وما ليس له اسم فإنه لا يذكر ولا يظهر ولا يعلو ذكره؛ بل هو كالشيء الخفي الذي لا يعرف ولهذا يقال: الاسم دليل على المسمّى وعلم على المسمى ونحو ذلك.
ولهذا كان أهل الإسلام والسنة الذين يذكرون أسماء الله يعرفونه ويعبدونه ويحبونه ويذكرونه ويظهرون ذكره. والملاحدة: الذين ينكرون أسماءه وتعرض قلوبهم عن معرفته وعبادته ومحبته وذكره حتى ينسوا ذكره (نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ) التوبة/67 (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) الحشر/19، (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) الأعراف/205.
والاسم يتناول اللفظ والمعنى المتصور في القلب وقد يراد به مجرد اللفظ وقد يراد به مجرد المعنى فإنه من الكلام؛ (والكلام) اسم للفظ والمعنى وقد يراد به أحدهما؛ ولهذا كان من ذكر الله بقلبه أو لسانه فقد ذكره لكن ذكره بهما أتم. والله تعالى قد أمر بتسبيح اسمه وأمر بالتسبيح باسمه كما أمر بدعائه بأسمائه الحسنى؛ فيدعى بأسمائه الحسنى ويسبح اسمه وتسبيح اسمه هو تسبيح له؛ إذ المقصود بالاسم المسمّى؛ كما أن دعاء الاسم هو دعاء المسمى. قال تعالى (قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا
(1/78)
________________________________________
تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الإسراء/110. والله تعالى يأمر بذكره تارة وبذكر اسمه تارة؛ كما يأمر بتسبيحه تارة وتسبيح اسمه تارة؛ فقال: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً) الأحزاب/41، (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ) الأعراف/205 وهذا كثير. وقال: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) المزمل/8، كما قال: (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) الأنعام/118، (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) الأنعام/121، (فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) المائدة/4.
لكن هنا يقال: بسم الله؛ فيذكر نفس الاسم الذي هو (ألف سين ميم) وأما في قوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) الإنسان/25؛ فيقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله. وهذا أيضًا مما يبين فساد قول من جعل الاسم هو المسمّى. وقوله في الذبيحة (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) الأنعام/118 كقوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) العلق/1 وقوله (بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا) هود/41، فقوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) العلق/1 هو قراءة بسم الله في أول السور. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبيّن أن هذه الآية تدل على أن القارئ مأمور أن يقرأ بسم الله وأنها ليست كسائر القرآن؛ بل هي تابعة لغيرها وهنا يقول: بسم الله الرحمن الرحيم كما كتب سليمان وكما جاءت به السنة المتواترة وأجمع المسلمون عليه؛ فينطق بنفس الاسم الذي هو اسم مسمى لا يقول بالله الرحمن الرحيم؛ كما في قوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) العلق/1، فإنه يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ونحو ذلك وهنا قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) العلق/1، لم يقل: اقرأ اسم ربك وقوله (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) الإنسان/25، يقتضي أن يذكره بلسانه. وأما قوله (وَاذْكُر رَّبَّكَ) الأعراف/205 فقد يتناول ذكر القلب. وقوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) العلق/1، هو كقول الآكل باسم الله. والذابح باسم الله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ» (1) .
__________
(1) رواه البخاري (5500) ولفظه: - عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِىِّ قَالَ ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُضْحِيَّةً ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا أُنَاسٌ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَآهُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ قَدْ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ» .
(1/79)
________________________________________
وأما التسبيح فقد قال: (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) الأحزاب/42، وقال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) الأعلى/1، وقال: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الحاقة/52. وفي الدعاء: (قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الإسراء/110، فقوله (أَيّاً مَّا تَدْعُواْ) يقتضي تعدد المدعو لقوله: (أَيّاً مَّا) وقوله (فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) يقتضي أن المدعو واحد له الأسماء الحسنى وقوله (ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ) - ولم يقل ادعوا باسم الله أو باسم الرحمن - يتضمن أن المدعو هو الرب الواحد بذلك الاسم. فقد جعل الاسم تارة مدعوًا وتارة مدعوًا به في قوله: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الأعراف/180، فهو مدعو به باعتبار أن المدعو هو المسمّى وإنما يدعى باسمه. وجعل الاسم مدعوًا باعتبار أن المقصود به هو المسمى وإن كان في اللفظ هو المدعو المنادى كما قال (قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ) أي ادعوا هذا الاسم أو هذا الاسم والمراد إذا دعوته هو المسمى؛ أي الاسمين دعوت ومرادك هو المسمى: (فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) .
فمن تدبّر هذه المعاني اللطيفة تبين له بعض حكم القرآن وأسراره فتبارك الذي نزل الفرقان على عبده فإنه كتاب مبارك تنزيل من حكيم حميد لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء من ابتغى الهدى في غيره أضله الله ومن تركه من جبار قصمه الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو قرآن عجب يهدي إلى الرشد أنزله الله هدى ورحمة وشفاء وبيانًا وبصائر وتذكرة. فالحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. آخره ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(1/80)
________________________________________
الفصل الثالث
لفظ الجلالة الله (1)

الله لفظ الجلالة هو العَلَم الحقُّ على الإله الحقِّ، المعبود بحق - سبحانه وتعالى -. كان، ولم يكن شئ معه، ثم خلق كل شئ بعلمه وإرادته وقدرته - - سبحانه وتعالى - - ما شاء أن يكون كان، وما لم يشأ أن يكون لم يكن، {ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن} ، يعلم ما كان وما هو كائن، وما سوف يكون - - سبحانه وتعالى - -.
قدّر كل شئ قبل أن يوجده، وأوجد كل شئ على مقتضى ما قدرة - - سبحانه وتعالى - - (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر/49، أوجد وأفنى، وأمات وأحيا، الملكُ ملكُه، والوجودُ خَلْقُه، والأمور تدبيره، والبدء منه، والمصير إليه حسابُه عدل، وجزاؤه بميزان، وعقابه عدل، وثوابه تفضُّل وإحسان، لا يخرج شئ عن ملكه، ولا يعزب مثقال ذرة عن علمه، وكل شئ عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال - - سبحانه وتعالى - -.
ولأن هذا اللفظ الأقدس له فى القلوب والعقول أسمى السمو، وأعظم التعظيم، وأجل الإجلال، وأقدس التقديس، فقد تعددت المباحث حوله فى أمور شتى نشير إلى أهمها فى هذا الفصل.
__________
(1) انظر: رسالة شيخنا العلامة محمود مزروعة (لفظ الجلالة الله) .
(1/81)
________________________________________
المبحث الأول
معنى لفظ الجلالة الله من حيث اللغة
اختلف العلماء حول جواز البحث فيما يتصل بلفظ الجلالة الله - سبحانه وتعالى - والقول فيه اجتهادًا 0
أو حرمة ذلك ووجوب الإمساك عن كل ما يتصل بالاسم الأقدس تخشعًا وتورعًا.
فقال جماعة من العلماء: بوجوب الإمساك ورعًا وخشيةً وهيبةً وتقديسًا وإجلالًا للاسم الأعظم وتحوطًا من الخطأ فى شئ من الأبحاث التى تدور حوله، فإن البحوث اجتهادات قد تخطئ وقد تصيب وما دام احتمال الخطأ واردًا فقد وجب التوقف عن البحث حوله والإمساك عن القول فيه فإن القول فيه مع احتمال الخطأ في الرأي فيه إجازة للخطأ في بعض ما يتصل بالاسم الأشرف والعلم الأقدس، وهذا ما ينبغي التحرز عنه، والاستغفار منه.
وإلي الرأي الأول: وهو إجازة البحث - ذهب جمهرة العلماء، فأجازوا البحث حول الاسم الأقدس {الله} - سبحانه وتعالى -؛ إذ إن ذلك من دلائل الاهتمام وزيادة العلم به والعرفان، بل إن ذلك من أوجب الواجبات، إذ كيف نهمل البحث حول الاسم الأقدس، ونحن نبذل الجهد في البحث حول الأسماء العادية، والألفاظ المتداولة التى لا شأن لها بجانب لفظ الجلالة.
* لفظ الجلالة لفظ عربي:
كما اختلفوا حول الاسم الأقدس لفظ الجلالة {الله} - سبحانه وتعالى - عربيًّا أو أعجميًّا فذهب بعضهم إلي: أنه معرب عن السريانية، أو العبرانية، وأن أصله (ل اهـ ا) فحذف الألف من آخره، فأصبحت اللفظة: (لاه) ثم عوض عن الألف المحذوفة بأداة التعريف (أل) فصارت {الله} وهو العلم الحق على الإله الحق - سبحانه وتعالى -، أو عوض
(1/82)
________________________________________
عن الألف المحذوفة ألفًا في أول الكلمة، فصارت: (إله) وهى لفظة تطلق على كل إله معبود حقًا كان أو باطلًا.
والحق ما ذهب إليه جمهور العلماء من: أن الاسم الأشرف لفظ الجلالة {الله} - سبحانه وتعالى - - عربي، وأن كلمة: (لاها) التى أشاروا إلي أنها الأصل السرياني للاسم الأقدس لم يُسمع بأن أحدًا أخذها عنهم اسمًا لله - سبحانه وتعالى -.
ولو كان ذلك واقعًا لوجدناه في لغات أخرى هي أقرب إلي الأخذ عن (السريانية) من العربية.
فالمستقر والثابت أن لفظ الجلالة عربي (1) .
* لفظ الجلالة جامد أو مشتق:
كما اختلفوا - أيضًا - حول لفظ الجلالة: هل هو عَلَم مرتجل غير مشتق، أم أنه اسم مشتق من مادة سابقة؟ وإلي الرأي الأول ذهب علماء الأمة الأئمة من اللغويين كالخليل، وسيبويه، ومن الأصوليين وعلماء الكلام، كالشافعي، والخطابي، وإمام الحرمين، والرازي، فقد اجتمعت كلمتهم على أن الاسم الأعظم {الله} - سبحانه وتعالى - علم غير مشتق ولهم على ذلك أدلة كثيرة، أهمها:
أن المشتق معناه كلِّي لا يمنع مفهو مه من وقوع الشركة فيه، أي أنه -بحسب وضعه - يحتمل أن يصدق على كثيرين وهذا محال بالنسبة إلي لفظ الجلالة {الله} - سبحانه وتعالى - فهو الواحد الأحد الفرد الصمد، ولأنه لو وقعت الشركة في لفظ الجلالة، أو جاز وقوعها لانتفت كلمة التوحيد، وما كان لقولنا: (لا إله إلا الله) معنى. ولعل هذا بعض ما تشير إليه الآية الكريمة: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) مريم / 65، فالسؤال إنكاري، أي لا يوجد له سمي، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الاسم علما لا يصدق على أحد سوي {الله} الواحد المعبود بحق - سبحانه وتعالى -
__________
(1) انظر: روح المعاني (1/138) .
(1/83)
________________________________________
وخالف في ذلك بعض العلماء، حيث ذهبوا إلي أن لفظ الجلالة {الله} - سبحانه وتعالى - اسم مشتق محتجين بأمور أظهرها:
أن الاسم العَلَم في حقيقته إشارة دالة على ذات يُشار به إليها ويُدَل به عليها. وذلك يتطلَّب كون الذات معلومة قبلًا، حتى يوضع العلم دالًا عليها ومشيرًا إليها، وذلك ممتنع بالنسبة إلي الذات الأقدس - سبحانه وتعالى - من حيث إن الإشارة أمر حسى تقتضي مشارًا إليه حسيًّا.
ولا يخفي ما في ذلك من تعنت وتكلفًا، فإن الأعلام وضعت لتدل على ذواتها دون اعتبار كونها مشتملة على إشارات حسية أم لا.
والذين قالوا بأن لفظ الجلالة مشتق اختلفوا حول أصل الاشتقاق إلي آراء، أهمها:
من قال: إن الاسم الأقدس من (لَاَهَ يَليهُ) : بمعنى: (احتجب) وذلك لاحتجابه - - سبحانه وتعالى - - عن العقل والحس، فلا تراه عين ولا يحيط بذاته - تعالى - عقل، أو من (لاه يليه) ، بمعنى: (ارتفع) وذلك لرفعته - تعالى - وتساميه عن المِثْل والشيبه.
قال الشاعر:
لاهِ ابنُ عَمِّك لا أفْضَلتَ في حسب... عني ولا أنتَ دَيَّاني فَتَخْزُوني
وقيل: بل من (لاه يلوه) ، بمعنى: (اضطرب) وذلك لاضطراب الإفهام والعقول في معرفة ذاته - - سبحانه وتعالى - - وصفاته وأفعاله، أو من (لاه يلوه) ، بمعنى: (أضاء ولمع) من قولهم: (لاه البرق) إذا لمع وأضاء وذلك لإضاءة القلوب بذكره - سبحانه وتعالى - وحين تتفكر في آلائه.
وقيل: بل مادته (أُلِهَ يأْلَهُ) بمعنى: اللجوء والركون، من قولهم: (أله إليه) إذا فزع إليه والتجأ إلى حماه، وذلك لأن الخلق يفزعون إليه - سبحانه وتعالى - في كل ما يهمهم ويعجزهم، أو بمعنى: (سكن) لأن القلوب والعقول تسكن إليه - - سبحانه وتعالى - وتطمئن لذكره. أو بمعنى: (تحيّر) ، لأن القلوب والعقول تتحير في إدراك كماله وجلاله وعظمته سبحانه.
(1/84)
________________________________________
أو بمعنى (اشتاق) من قولهم: (أله الفصيل إلي أمه) ، أي إذا اشتقاق والْتَاع، لأن العباد مشتاقون إلي معرفته - سبحانه وتعالى - مولعون بالتضرع إليه، والركون إلى جنابه.
وقيل: بل مادته (ول هـ) بمعنى (طرب) ، وذلك لطرب العقول والنفوس والقلوب عند ذكره - - سبحانه وتعالى -.
وقيل: من (أَلِهَ أَلْهَة وألوهة وألوهية) بمعنى: عَبَدَ، ومنه (تأله واستأله) كما قيل: استنوق واستحجر، في الاشتقاق من الناقة والحجر (1) .
ومنه قول رؤبة بن العجاج:
لله دَرُّ الغانيات المُدَّه... سَبَّحْنَ واسترجعْنَ من تألُّهي
أي: من تعبدي.
هذا ما ذهب إليه الذين قالوا: إن لفظ الجلالة اسم مشتق، وهذه آراؤهم التى ذهبوا إليها في الأصل الذى اشتق منه الاسم الأقدس {الله} - سبحانه وتعالى -.
__________
(1) 1- الكشاف (1/37) .
(1/85)
________________________________________
المبحث الثاني
الخصائص اللفظية واللغوية للفظ الجلالة - سبحانه وتعالى - -
للفظ الجلالة {الله} - سبحانه وتعالى - خصائص في اللفظ تخرج على القواعد المتعارف عليها بالنسبة إلي الكلمات والألفاظ في العربية، وكذلك له - سبحانه وتعالى - خصائص في المعنى والخصائص والميزات والأسرار والإشارات التى تتصل بالاسم الأقدس {الله} - سبحانه وتعالى - لا يحيط بها إلا هو - - سبحانه وتعالى - ونحن لا نستطيع أن نحيط بشئ من ذلك إلا بما أذن {الله} لنا أن نعرفه من أسرار اسمه الشريف وخصائصه ومن ثم فسوف نشير إلى بعض تلك الخصائص من جانب اللفظ والرسم أولًا، ثم نتلمس ما هو من جانب المعنى.
أولا: من خصائص الرسم والكتابة:
اتفق علماء اللغة على أن يكتبوا لفظ الجلالة {الله} - سبحانه وتعالى - بلامين مخالفين بذلك القاعدة في رسم الكلمات المماثلة في التلفظ مثل: الذى، والتى، مع التماثل في اللفظ، ولزوم التعريف، وكثرة الاستعمال وذلك لأمور منها:
1- عدم الالتباس بين {الله} و (إله) فإن لفظ الجلالة {الله} لو كتب بلام واحدة لالتبس بلفظة (إله) والتفرقة بينهما واجبة للفرق الكبير بينهما من حيث المعنى.
2- التفخيم والتعظيم، فإن تفخيم لفظ الجلالة واجب في النطق والتلفظ، فكذلك لزم أن يكون في الرسم والكتابة، ووضع لامين أقرب إلى التفخيم من لام واحدة.
3- التفرد والتوحد، لأن رسم لفظ الجلالة على القواعد التى تجري على غيره من الألفاظ يدرجه ضمنها ويجعله مثلها، ولكن الخروج عن هذه القواعد بما لا يهدمها أو يفسدها، يعطي نوعًا من تفرده وتوحده، وتميزه، وهذا مطلب أصيل بجانب لفظ الجلالة - سبحانه وتعالى -.
(1/86)
________________________________________
وقد ذكر بعض العلماء أن: كتابة اللامين في لفظ الجلالة، واللام والواحدة في (الذى) و (التى) إنما هو للتفرقة بين المعرب والمبني، فالمعرب يكتبونه بلامين، وأما (الذى) و (التى) فلكونهما مبنيين فقد كتبوهما بلام واحدة. وفي هذا الكلام نظر، فإن لفظة: الليل معربة، ومع ذلك اتفق الجميع على أن الفصيح فيها أن يكتب بلام واحدة وليس بلامين، فالصحيح أن تكتب (اليل) .
كما حذفوا في كتابة لفظ الجلالة الألف الممدودة قبل الهاء في آخر الكلمة، وذلك لأربعة أمور:
1- التخفيف والتسير في الكتابة، فإن لفظ الجلالة - سبحانه وتعالى - يكثر التلفظ به، والذكر له. وذلك يقتضي التخفيف.
2- كراهة اجتماع المتماثلات الكثيرة في الخط، فإن الألف الأولى من لفظ الجلالة - سبحانه وتعالى - - ثم اللامين بعدها كلها حروف متماثلة في الرسم ممدودة ومستطيلة فإذا رُسمت الألف التي قبل الهاء صارت أربعًا ممدودة في الرسم. وهذا ثقيل في الرسم، لذلك كرهوا اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الرسم أو الكتابة كما كرهوا توالي الأمثال في النطق.
3- لئلا تشتبيه بـ (اللاة) وهى: صنم عند أهل الجاهلية، فإن لفظ الجلالة لو أثبتت فيه الألف قبل الهاء لاشتبه باللاة في الرسم والكتابة والخروج من هذا الاشتباه مقصود أصلي، للتفرقة بين الاسم الأقدس العلم الحق للمعبود بحق، والعلم الباطل للمعبود الباطل.
4- ولئلا يشتبه لفظ الجلالة باسم الفاعل من: (لهى) أي: (عقل) و (لعب) وهو: (اللاه) عز وجل.
ثانيا: من خصائص النطق:
ينطق لفظ الجلالة {الله} - سبحانه وتعالى - بتفخيم اللام بعد الفتح والضم، أي إن كان الحرف الذى قبل لفظ الجلالة مفتوحًا أو مضمومًا فخِّمت اللام في لفظ الجلالة، وكذلك إذا
(1/87)
________________________________________
ابتُدئ بلفظ الجلالة فتفخم لامه مثل (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) الشورى/19 ومثل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ) آل عمران/102، ومثل: (ُقلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) الإخلاص/1.
فالأولى: فيها ابتداء بلفظ الجلالة، وفي الثانية: الحركة قبل لفظ الجلالة ضمة، وفي الثالثة: الحركة قبل لفظ الجلالة فتحة. وفي كل هذه الحالات تُفخَّم اللام وتُغلَّظ غاية التغليظ، وإنما يكون ذلك بإطباق اللسان بالحنك، وإنما فخموا فيه ذلك التفخيم تعظيمًا للاسم الأقدس، وتفرقه بينه وبين (اللاة) و (اللاهي) والأولى اسم صنم كان لمشركي قريش، والثانية اسم فاعل من: (لها يلهو) .
أما إذا كان ما قبل لفظ الجلالة مكسورًا فإن لامة تُرقَّق، وذلك لأن الكسرة توجب السُّفل واللام المفخمة تتطلب الصعود. والانتقال من السفل إلي الصعود أمر ثقيل.
على أن هناك من أوجب تفخيم اللام في لفظ الجلالة في الحالات كلها، سواء ابتُدئ به، أو كان ما قبله مفتوحًا أو مضمومًا أو مكسورًا، وكل ذلك مقبول في لسان العرب، ما عدا ما كان قبله مكسورًا فهو مخالف، وعلى الرأي الأخير يكون التفخيم بعد الكسر أمرًا خاصًا بلفظ الجلالة وحده - سبحانه وتعالى -.
ثالثا: من خصائص (ال) في لفظ الجلالة:
ذهب البعض إلى: أن (ال) في لفظ الجلالة وُضِعت في الأصل للتعريف، حيث أصل لفظ الجلالة: (إله) ، ثم وُضِعت (ال) للتعريف، فصارت (الإلاة) ثم حُذِفت الهمزة، وأدغمت اللامان فصارت: {الله} .
والحق أن (ال) في لفظ الجلالة من مبنى الكلمة الشريفة نفسها، وليست للتعريف، فلفظ الجلالة {الله} أعرف المعارف بإطلاق، ولا يمكن أن تقع الشركة في مدلولة على الإطلاق. ولأنها ليست للتعريف فقد جعلت لمحض التعويض عن الهمزة المحذوفة من كلمة: (الإلاة) . أو أن: (ال) هى من نفس مبنى لفظ الجلالة، كما ذهب إلي ذلك جماعة من اللغويين.
وفي جميع الحالات لا يمكن أن تكون (ال) في لفظ الجلالة للتعريف.
(1/88)
________________________________________
المبحث الثالث
الخصائص المعنوية للفظ الجلالة - سبحانه وتعالى -
للفظ الجلالة - سبحانه وتعالى - خصائص وميزات معنوية بجانب خصائصه اللغوية اللفظية التي أشرنا إليها في المبحث الثاني، وموقع الخصائص المعنوية من اللغوية موقع المقاصد والغايات، فهى أهم وأسمى - وكل ما يتصل بلفظ الجلالة مهمٌّ وسامٍ.
أولًا: لفظ الجلالة هو الاسم الأعظم:
إن أسماء الله - تعالى - تسعة وتسعون، كما ورد بذلك الحديث الصحيح. فعن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . [سيأتي تخريجه باستفاضة] . وقد اتفق الجميع على أن لله - تعالى - من بين أسمائه الحسنى اسمًا هو الأعظم.
وقد ورد في السنَّة الشريفة أحاديث صحاح تتحدث عن اسم الله الأعظم ومن هذه النصوص ما يلي:
1- حديث بريدة - " - أن رسول الله < سمع رجلًا يقول: اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِأَنِّى أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِى لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. قَالَ فَقَالَ «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِى إِذَا دُعِىَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» (1) .
2- حديث أنس - " - قال: كنت جالسًا مع النبي < في المسجد ورجل يصلي فقال: اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَىُّ يَا قَيُّومُ. فَقَالَ النَّبِىُّ <
3-
__________
(1) رواه أبو داود (3812)
(1/90)
________________________________________
4- «لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِى إِذَا دُعِىَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» (1) .
5- حديث أبي أمامة أن رسول الله < قال: اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ الَّذِى إِذَا دُعِىَ بِهِ أَجَابَ فِى سُوَرٍ ثَلاَثٍ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطَهَ (2) .
6- حديث أسماء بنت بريد - ل-، قالت: قال رسول الله< فى هَذَيْنِ الآيَتَيْنِ (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ) و (الم اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ) «إِنَّ فِيهِمَا اسْمَ اللَّهِ الأَعْظَمَ» (3) .
وقد اختلف أهل العلم فى تعين الاسم الأعظم من عدمه، والقائلون بتعينه اختلفوا ونقلت عنهم أقوال كثيرة. ويرجع سبب تعدد الأقوال فى الاسم الأعظم - فى نظرى والله أعلم - إلى أمور، أذكر منها:
[أ]- أن الأشعرى، وجماعة كأبى حاتم بن حبان، وأبى بكر الباقلانى، وقالوا: إن كونه الأعظم يرجع إلى عظيم، أو أن الأعظمية الواردة، المقصود بها مزيد الثواب.
[ب] ويرى بعض العلماء تفاضل الأسماء، لكنهم يرون أن الاسم الأعظم مخفي كليلة القدر لا يعلمه الناس، أو لا يكون هناك اسم أعظم معين، بل إذا دعي بالاسم الذى يناسب الدعاء كان ذلك الاسم هو الاسم الأعظم في ذلك الدعاء.
[ج] وقد يرد عن بعض السلف بعض الآثار في تعيين الاسم الأعظم أو في فهمهم للنصوص، مثل فهم أبي حفص التنيسي لحديث أبي أمامة
__________
(1) رواه أبو داود (1497)
(2) رواه ابن ماجه (3856)
(3) رواه أحمد (6/461)
(1/91)
________________________________________
واستخراجه من النصوص الواردة فيه أن الاسم الأعظم هو (الحى القيوم) .
[د] وقد ترد أحاديث في تعين الاسم الأعظم لكنها غير صحيحة المتن والسند.
[هـ] أو أن يكون تعيين الاسم على غير منهج السلف، مثل ما ذكر الرازي عن بعض أهل الكشف أن اسم الله الأعظم: هو ضمير الغائب (هو) .
[و]- أو أن تحدد معرفة الاسم الأعظم ببعض الأشخاص، فلا يعرف الاسم الأعظم - عند من ينهج هذا النهج - إلا أشخاص معينون، ويختلفون في تعيين أولئك الأشخاص، فمنهم من يقول: إن الاسم الأعظم عند بلعام ابن باعوراء الذى قال الله فيه {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} الأعراف/175.
ومنهم من يقول: إن الاسم الأعظم عند (آصف بن برخيا) ، وهو الذى عنده علم من الكتاب، قال الله فيه: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} النمل/40.
ومنهم من يقول: إن الاسم الأعظم عند (هاروت وماروت) اللذين قال الله فيهما {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} البقرة/102.
ومنهم من يقول: إن علم الاسم الأعظم عند (جعفر الصادق) .
[ز]- أو أن يرد في بعض الآثار أسماء لها أفضلية على غيرها، أو أن ترد بعض الأدعية التى ترجي فيها الإجابة، مثل قوله < «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلاَلِ
(1/92)
________________________________________
وَالإِكْرَامِ» (1) . وقوله: «دَعْوَةُ ذِى النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِى بَطْنِ الْحُوتِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِى شَىْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ» (2) . وسأقتصر في بيان الاسم الأعظم على قولين فقط؛ لأنهما أشهر الأقوال وأقواها، فأدلتهما صحيحة، واستدلالات كلا الطرفين فيها قوة ووجاهة.
فالقول الأول: يرى أن الاسم الأعظم هو (الحى القيوم) .
والقول الثاني: يرى أن الاسم الأعظم هو {الله} .
فأصحاب القول الأول: يستدلون بحديث أبي أمامة السابق، قال الراوي: فالتمستها، فوجدت أنها (الحى القيوم) ، وممن يرى هذا القول ابن قيم الجوزية رحمه الله (3) .
وأصحاب القول الثاني: يستدلون بجميع الأدلة التى وردت في إثبات الأسماء الحسنى. وأن يتكرر فيها اسم {الله} .
وقد ورد في حديث (اللهم) ، وإنما كان الأصل فيه (يا الله) فلما حذفوا الياء من أول الحرف زادوا الميم في آخره، ليرجع المعنى الذى في (يا الله) وقال بهذا القول جماعة كثيرة من العلماء، منهم: الطحاوي وابن المبارك وابن العربي والطرطوشي وقال: "وبهذا المذهب قال معظم العلماء"، والسفاريني والمباركفوري وقال: " إن لفظ {الله} مذكور في كل الأحاديث، فيستدل بذلك على أنه الاسم الأعظم " وغيرهم من العلماء كثير.
__________
(1) رواه الترمذي (3593) .
(2) رواه الترمذي (3572) .
(3) انظر: القصيدة النونية ص33، ومختصر الصواعق المرسلة (1/101) .
(1/93)
________________________________________
والقول الراجح - إن شاء الله - هو القول الثاني، وذلك لإمكان الرد على القول الأول، وبقاء أدلة القول الثاني.
فاستخراج اسم (الحى القيوم) من حديث أبي أمامة، ليس من قول المصطفي <، بل من استخراج الراوي، وقد بيّن الإمام الطحاوي خطأ استخراج لاسمي (الحى القيوم) أنهما الاسم الأعظم ن فقد رجع الراوي في سورة طه إلى قوله تعالى (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) طه/111، وقال الطحاوي: قد يحتمل أن يكون هو ما في (طه) سوى ذلك، وهو قول الله تعالى فيها: (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) طه/7-8، فيرجع ما في (طه) إلى مثل ما رجع إليه ما في سورة (البقرة) وما في سورة آل عمران أنه الله تعالى " (1) أي أنها كلها فيها (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) .
ومن الأدلة على ترجيح القول الثاني هو: عدم ثبوت اسمي (الحي القيوم) في كل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله< في بيان الاسم الأعظم: بل الثابت في جميع الأدلة هو لفظ الجلالة.
وورد عن بعض السلف القول بأن الاسم الأعظم هو {الله} ، فقد روى الإمام الدارمي بسنده عن الشعبي قال: " اسم الله الأعظم هو الله " (2) .
وروى أيضًا بسنده عن جابر بن زيد قال:" اسم الله الأعظم هو الله، ألم تروا أنه يبدأ به قبل الأسماء كلها! " (3) .
__________
(1) مشكل الآثار (1/63) .
(2) انظر: رد الدارمي على بشر المريسي ص11.
(3) السابق نفسه.
(1/94)
________________________________________
ومن الأدلة: كثرة الخصائص التى يوردها أهل العلم لاسم {الله} على غيره من الأسماء، خلافًا لاسمي (الحى القيوم) فضلًا عن أن (الحى القيوم) اسمان وليسا إسمًا واحدًا.
وأخيرًا يجب التنبيه على أمرين مهمين:
1- أنه لا يلزم أن تجاب كل دعوة دعا بها أحد بالاسم الأعظم، لأن لإجابة الدعاء شروطًا يجب أن تتوفر، من أهمها، الإخلاص، وأكل الحلال، وموانع لابد أن تزول: كأكل الحرام، ولبس الحرام، فمن توفرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع، فهو ممن يرجا قبول دعائه.
2- لا يعني تحديد الاسم الأعظم باسم، أنه حد من رحمة الله وفضله، بل إن تخصيص الاسم الأعظم من باب زيادة الخير للعباد، والاستجابة لهم، مع أن الأدعية الأخرى التى ليس فيها الاسم الأعظم قد يستجيب الله لها، إذا توفرت الشروط، وانتفت الموانع.

ثانيا: أنه العلم الحق على المعبود بحق:
إن أسماء الله - تعالى - تسعة وتسعون، منها اسم واحد على حقيقة الاسمية وهو: لفظ الجلالة {الله} - سبحانه وتعالى -، وأما بقية الأسماء الثمانية والتسعين فهي صفات لذلك الاسم عز وجل فهي كلها تقع صفات له، وهو لا يقع صفة لشئ منها إطلاقًا، فنحن نقول: الله، ثم نأتي بالأسماء كلها صفات، فنقول: الله الخالق، الرازق، السميع البصير... إلي آخر الأسماء كلها.. يقول - تبارك وتعالى - في أواخر سورة الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الحشر/22-24، فلفظ الجلالة من بين الأسماء كلها هو الاسم على
(1/95)
________________________________________
الحقيقة، وأما بقية الأسماء فإنها في الأصل صفات وليست أسماء، ولكنها صارت أسماء لما خرجت من خصيصة الصفات التى هى الشيوع في كثيرين، وجواز الشركة في مفهومها. واكتسبت خصيصة الأسماء الأعلام، وهى قصر دلالتها على واحد بعينه، وهو الله - سبحانه وتعالى -، فهذه الصفات لما امتنع أن تصدق على كثيرين -كما هو شأن الصفة - وأضحت لا تصدق ولا تدل إلا على واحد هو الله - سبحانه وتعالى - أخذت حكم الأسماء، وهذه الأسماء تظل صفات للاسم الأقدس لفظ الجلالة {الله} - عز وجل -.

ثالثًا: اختصاصه بشهادة الإسلام:
ونعني بذلك أن الشهادة التى يعلن بها صاحبها أنه دخل الإسلام لا تعتبر إذا ذكرت فيها صفة من صفات الله - تعالى - أو اسمًا من أسمائه سوى لفظ الجلالة. فلو أن كافرًا خرج من كفره وأراد أن يدخل الإسلام، فقال: أشهد أن لا إله إلا الواحد، أو الخالق، أو قال: أشهد أن لا إله إلا الرحمن، لم تكن تلك مخرجة له من كفره ولا مدخلة إياه في الإسلام، حيث أجمعت الأمة على أن الشهادة التى تخرج صاحبها من الكفر، وتُدْخِلُه الإسلام لابد أن تكون باسم الله تعيينًا بأن يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) .

رابعًا: دلالة كل حرف من حروفه على الذات الأقدس - سبحانه وتعالى -
وهذه من الخواص العجيبة للاسم الأعظم {الله} - سبحانه وتعالى -. فلفظ الجلالة بصورته الكاملة دال على الذات الأقدس - سبحانه.
فإذا ما حذفت منه الألف، دل الباقي على الذات الأقدس - سبحانه وتعالى -، مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الفتح/4، وقوله - سبحانه وتعالى -: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} المنافقون/7، وإن حذفت اللام الأولى يصبح الباقي على صورة: (لَهُ) وهى دالة -
(1/96)
________________________________________
أيضًا - في السياق على الذات الأقدس، مثل قوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الزمر/63، فإذا حذفت اللام الباقية كانت الباقية هى الهاء الشريفة مشبَّعَةً بالواو: (هو) ، وهى - أيضًا - دالة على الذات الأقدس - سبحانه وتعالى -: مثل قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ} غافر/65، والدال على الذات الأقدس - هنا - هوحرف الهاء، أما الواو فزائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع، فتقول: هما، وهم. وهذه الخاصية للفظ الجلالة لا توجد لغيره من الأسماء.

خامسًا: أنه الجامع - فيما يدل عليه - لخصائص الألوهية الحقَّة:
وهذه خصيصة لا توجد للأسماء الأخرى تباركت أسماؤه؛ فأنت إذا دعوت الله - سبحانه وتعالى - بالغفار، فقد وصفته بالمغفرة، لكنك ما وصفته بالعلم أو القهر، وإذا دعوته بالعليم، فقد وصفته بالعلم، لكنك ما وصفته بالرحمة أو المغفرة أو الواحدية، وإذا ما دعوته بالقهار، فقد وصفته بالقهر لكنك ما وصفته بالسمع أو البصر أو الرحمة، أو غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العليا. لكنك إذا ما دعوته بلفظ الجلالة فقلت: يا ألله، فقد جمعت كل صفات الألوهية العليا، والأسماء الحسنى لله - سبحانه وتعالى - فإن الله الحق هو المعبود بحق، وهو الجامع لصفات المحامد، والمستحق للأسماء الحسنى.

سادسًا: اختصاص لفظ الجلالة بالذات الأقدس - سبحانه وتعالى -.
فإن لفظ الجلالة لم يسم به غير الذات الأقدس - سبحانه وتعالى -، وأما الأسماء الحسنى فقد يتسمَّى بها بعض الناس جوازًا، مثل: (عليٌّ) فهو اسم لرابع الخلفاء الراشدين، فاسمه (عليٌ) ، ولكن الله - سبحانه وتعالى - - هو (العليُّ) وقد يتسمَّى بعضهم ببعض الأسماء ظلمًا وعدوانًا، وذلك كالمتنبِّئ الكذاب (مسيلمة) ، فقد كان يسمي نفسه (الرحمن) .
(1/97)
________________________________________
أما لفظ الجلالة - - سبحانه وتعالى - فلم يحدث أن تسمَّى به أحد، ولم يجرؤ حتى أشد الناس كفرًا وفجورًا أن يسمي نفسه: {الله} - عز وجل -.
وقد بيّن ذلك القرآن المجيد في سورة " مريم" حيث قال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} مريم/65.

سابعًا: اختصاص لفظ الجلالة بالإله الحق سبحانه:
وتلك خاصية أخري للفظ الجلالة {الله} - عز وجل - حيث لا يطلق إلا على الإله الحق - تبارك وتعالى - ولا تتسمَّى به الآلهة الباطلة، من الأصنام أو الأوثان، أو سائر ما عُبِدَ من دون الله - تعالى: وكما أن الاسم الأقدس - - سبحانه وتعالى - - لا يسمَّى به أحد من الناس ولم يحدث أن علمنا أن أحدًا تسمَّى به، فكذلك لا يسمَّى به شئ من الآلهة الباطلة، وإنما يطلق على الآلهة الباطلة كلمة (إله) بالتنكير، ويجوز تعريفها إذا ما قيدت بوصف يفيد بطلانها.
ولأن لفظ الجلالة - سبحانه وتعالى - لا يطلق إلا على الإله الحق - جل وعلا - فإنه لا يثنى ولا يجمع، أما لفظة: (إله) فلكونها تطلق على الآلهة الباطلة، جاز تثنيتها وجمعها، فيقال: المجوس يدين


كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ    كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Emptyالإثنين 21 مارس 2011, 6:35 am

بإلهين والمشركون يعبدون آلهة. وقد ورد في التنزيل المجيد تثنية (إله) وجمعها. يقول الله عز وجل. {وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} النحل/51،
وقال تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} الأنبياء/22 ولفظة: (إله) اسم مشترك يطلق على الإله الحق كما ورد في آية سورة النحل التى ذكرناها في قوله - تعالى: {إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} وتطلق - أيضًا - على الآلهة الباطلة أما لفظ الجلالة - سبحانه وتعالى - فلا يطلق إلا على المعبود الحق - تبارك وتعالى.
(1/98)

المبحث الرابع
الصفات والأسماء

إن الله - سبحانه وتعالى - موجود، بل هو - عز وجل - عين الوجود، ومُوجِدُ كل موجود. ومن الضرورات العقلية: أن كل موجود لابد له من صفات وأسماء، ولا يخلو موجود من ذلك قلَّت هذه الصفات أو كَثُرَت، وإلَّا كان وجود الموجود وعدمه سواء.
أولًا: أهداف الأسماء والصفات ووظائفها:
للأسماء والصفات بالنسبة إلى الموجودات أهداف ووظائف، أهمها ثلاثة:
1 - أنها تشعر بالموجود وتدل عليه، فإن أي موجود لا يمكن أن يستدل على وجوده إلا باسم أو صفة. ولن يستطيع أي إنسان أن يخبر عن شئ ما موجود إلا إذا كان لذلك الموجود اسم أو صفة، وإلا فماذا تقول عنه؟ وبأي شئ تعرفه؟ وكيف تعبر عن مرادك فيه أو شعورك به؟
إن أي موجود - على فرض وجوده - لا تكون له صفة يوصف بها أو اسم يُسمَّى به فإن وجوده والعدم سواء.
2 - أنها تميزه عما عداه، وتفرزه عن غيره من الموجودات.
3 - أنها تبين عن منزلته ومكانته، والمرتبة التى يحتلها في سُلَّم الموجودات من حيث الرقي والرفعة والسمو، أو الضعة والانحطاط والتدني.
(1/99)
________________________________________
ثانيًا: كثرة الأسماء والصفات وقلتها، ودلالات ذلك:
إن الأسماء والصفات تكون من الكثرة والقلة بقدر ما للموصوف بها من رفعة المكانة وسموها، أو ضعة المنزلة وانحطاطها، فإن بعض الموجودات ليس له من الأسماء والصفات إلا القدر الذى يبين عن وجوده فقط ويميزه عن غيره، وذلك لتفاهة شأنه، وضعف تأثيره فيما حوله. وبعض الموجودات يكون له من كثرة الأسماء والصفات ما يدلُّ على المكانة السامية، والمنزلة الرفيعة، والمرتبة العالية، وما يدل على مدى تأثيره فيما حوله وسلطانه، بل وتسلطه عليه، وتأثر ما سواه به وخضوعه له.
لا غرو أن لله - عز وجل - من الأسماء ما لا يحصيه عدًّا، ولا يحيط به كمالًا إلا هو - سبحانه وتعالى - ويعجز الخلق عن الإحاطة بشئ من ذلك، ولعل هذا بعض المعاني الشريفة التى أشار إليها قول الرسول < وهو يخاطب ربه: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» (1) .
وصدق رسول الله < فما من أحد لديه المقدرة على إحصاء كمالات الله - عز وجل - كي يضع من الثناء ما يتناسب معها، ولا يحيط بذلك إلا الله - سبحانه وتعالى - وحده، فله - سبحانه - الكمال المطلق، وله من الأسماء والصفات ما يتناسب مع أصل الكمال، وأساس الجمال والجلال - سبحانه وتعالى -.

ثالثًا: مقتضي الأسماء والصفات:
__________
(1) رواه مسلم (1118)
(1/100)
________________________________________
بمقتضي الأسماء والصفات وبناءً عليها يكون موقف الموجودات الأخرى من هذا المجود الموصوف بها ويكون سلوكهم تجاهه، فقد يقبلونه أو يرفضونه، وقد يحبونه أو يبغضونه، وقد يكون له من الأسماء والصفات ما يحملهم على الرهبة منه والرغبة إليه، فيجلّونه ويقدرونه، ويدينون له ويسلمون نفوسهم وقلوبهم إليه، ويلقون إليه بكل أحمالهم وأثقالهم مؤمنين واثقين أنه - وحده - بأسمائه وصفاته هو القادر على أن يرفع عن كواهلهم الأثقال والأحمال، قائلين في ضراعة وابتهال وتوسل: (لا حول ولا قوة إلا بالله) تجردًا عن حولهم وقوتهم، وإذعانًا وثقةً في حوله وقوته - سبحانه وتعالى - وقد يحدث العكس، فيدرك الناس من صفات بعض الموجودات وأسمائها ما يحملهم على بغضه ومقته، والابتعاد عنه والاستعاذة منه، معبرين عن كل ذلك بقولهم: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) .
وخلاصة ذلك: أن الصفات والأسماء هى التى تحدد الموجود وتبين مدى ما يتسم به من خير أو شر، وما يمكن أن يحققه للناس من نفع أو ضر، ومن ثمَّ تكون صلات الناس وعلاقتهم به.

رابعًا: الأسماء والصفات تميز الحق من الباطل:
إن الأديان كثيرة، الحق منها دين واحد، والباطل منها كثير، لا يكاد يحصى على مدار التاريخ البشري، وكل ذي دين - حقًا أو باطلًا - له إله يعبده ويدين له، فالآلهة التي يدين بها الناس كثيرة، لكن إلهًا واحدًا هو الحق، والآخرون آلة لا وجود لها على الحقيقة إلا في أخيلة أصحابها.
فكيف نتعرف على الإله الحق، ونميزه عن الآلهة الكثيرة المزعومة؟ لا سبيل إلى ذلك إلا من خلال الأسماء والصفات التى يعتقدها أصحاب كل دين في الإله الذى يؤمنون به، ويدينون له.
(1/101)
________________________________________
فالبوذية لهم إله يعبدونه، والهنادكة كذلك، واليهود والنصارى وغير هؤلاء من عباد الأوثان والأصنام، كل منهم له إله يعبده، وهو لا يعبد عدمًا، بل يعبد إلهًا يعتقده موجودًا، ولا يتحقق وجوده إلا وله أسماء وصفات.
فإذا ما سألنا (البوذي) عن صفات إلهه فسنعرف أنه كان بشرًا وأنه ولد من رجل وامرأة، وعاش يأكل ويشرب ويصح ويمرض، ثم إنه مات، وهكذا عن طريق الأسماء والصفات يمكن منذ الوهلة الأولى ودون عناء كبير أن نعرف بطلان القضية كلها، وأن دعوى الألوهية في هذه الديانة دعوى زائفة باطلة، وأن إلههم الذى ظلوا عليه عاكفين هو مجرد زيف وبهتان لا وجود له إلا في مخيلاتهم وإنما أدركنا ذلك من معرفتنا بأسماء وصفات إلههم (بوذا) .
وإذا انتقلنا إلى (اليهودي) وسألناه عن إلهه ن فسيزعم أن الإله قديم لا بداية له، وهذا حق، وأنه خلق الوجود كله من العدم بكلمة (كن) أو (فليكن) وهذا حق، وأنه المحيى المميت الخالق الرازق، وهذا حق ثم يزعم أن الإله يسهو، وينسي، ويتمثل في صورة البشر ويصارعه (يعقوب) فيتغلب عليه، ولا يستطيع أن يخلص نفسه من يدي (يعقوب) حتى يتوسل إليه ويمنحه النبوة التى هى من حق أخيه (العيص) أو (عيسو) وعندما نقرأ هذا في (سفر التكوين) عندهم وهو سفر الأسفار في توراتهم التى وضعوها هم ونسبوها إلى (موسى) ÷ حين نقرأ ذلك، وننظر في تلك الصفات التي يعتقدونها في إلههم، وندرك ما عليه القوم من ضلال وبهتان، وأن إلهًا له مثل هذه الأسماء والصفات لا يمكن أن يكون موجودًا إلا في أخيلتهم المريضة وإذا وجد من له تلك الأسماء والصفات فلا يمكن أن يكون إلهًا.
وإنما أدركنا ذلك وعرفناه، ليس لأننا رأينا ذلك الإله أو تحدثنا إليه وناقشناه أو شاهدناه طولًا وعرضًا، ولكن لمجرد أننا عرفنا أسماءه وصفاته - أو بعضها - التى يعتقدها المتدينون به، ويثبتونها له.
(1/102)
________________________________________
وهكذا في كل الأديان، وبالنسبة إلى كل الآلهة التى يعبدها الناس من دون الله الحق - سبحانه وتعالى - تكون وسيلتنا لمعرفتها والحكم عليها من خلال معرفتنا بأسمائها وصفاتها التى يخلعها أصحابها عليها ويثبتونها لها.

خامسًا: حقائق الأسماء والصفات غيب:
من الأمور المسلمة أن ذات الله - تعالى - لا تدرك، وكذلك حقائق أسمائه - سبحانه، وصفاته، فنحن لا نعرف من صفاته - تعالى - إلا أسماءها فقط، لكن حقيقتها غيب عنا.
فمن صفات الله وأسمائه سبحانه: (الحي) ، ونحن نؤمن بأنه سبحانه - ليس حيًا فحسب بل نؤمن بأنه - تعالى - (الحي) ، ونحن لا ندرك من اسم الله هذا إلا الأحرف الثلاثة التى يتكون منها الاسم: الحاء والياءين: (ح ي ي) وإذن فكل ما نعرفه هو اسم الصفة، أو الألفاظ والأحرف التى يتركب منها الاسم. وأما حقيقة ذلك الاسم الشريف حقيقة (الحياة) التى يتصف بها الله - عز وجل - فلا يدركها أحد إلا الله - سبحانه وتعالى - ومثل ذلك يقال في السميع، والبصير، والعليم، والمريد والقدير... إلى آخر أسمائه - تعالى - وصفاته. فلا يمكن لأحد على الإطلاق أن يدرك كيف هى حياة الله - جل وعلا - أو كيف هو سمعه وبصره - سبحانه، أو كيف تعمل قدرته في المقدورات، فيحي ويميت ويشفي ويمرض... إلي آخر ما يقع تحت قدرة الله سبحانه ولقد أراد أحد الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - أن يعرف شيئا من حقيقتها، فلم يكشف الله - تعالى - له شيئًا سوى آثار القدرة وليس حقيقتها، ولا كنهها، ويقول الله - عز وجل - (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) البقرة/260، فكان الذى رآه أبو الأنبياء (إبراهيم) ÷ إنما هو أثر من آثار القدرة التى نراها منبثة في كل مناحي الحياة، ولم يكن هنالك
(1/103)
________________________________________
من فرق سوى أننا نرى آثار قدرة الله - تعالى- في أنفسنا وما حولنا تسير على قوانين ونواميس ثابتة مألوفة لنا، وما رآه (الخليل) ÷ كان على غير تلك القوانين والنواميس، خارقًا لها وخارجًا عليها.

سابعا: إطلاق بعض أسماء الله - سبحانه - على الخلق:
إن من صفات الله - تبارك وتعالى - الوحدانية، وهى تعنى أن الله - سبحانه وتعالى - - واحد في ذاته فلا توجد ذات تشبه ذاته، واحد في صفاته، فلا توجد صفة تشبه صفاته - - سبحانه وتعالى - واحد في أفعاله، فلا يوجد فعل يشبه فعله - - سبحانه وتعالى -.
لكن قد يشكل على ذلك أن بعض أسمائه الحسنى - سبحانه وتعالى - - قد تطلق على الخلق فيوهم ذلك نوعًا من التشبيه أو التمثيل، سواء في الذات أو في الأفعال.
أما في الذات فإن من أسمائه - - سبحانه وتعالى - - أنه (الحي) (السميع) (البصير) ، وهى من صفات المخلوقين، فأنا (حي) (سميع) ، (بصير) وفي صفات الأفعال قد يقال عن إنسان إنه (مانع) ، بل قد يزاد فيها فيقال (منَّاع) وقد يوصف بأنه (ضار) (نافع) ، ولكن هذا الإشكال يزول حين نعرف أن القدر المشترك في هذه الصفات والأسماء إنما هو ألفاظها فقط.
أما حقائقها فتختلف وتتباين تباين الخالق عن المخلوقين فليس بين الخالق والمخلوق من هذه الأسماء إلا أسماؤها فقط.
وذلك يتضح إذا نظرنا إلى صفة الحياة والسمع والبصر، فأسماء هذه الصفات تطلق على المخلوقين، وهي في حقيقتها من أسماء الله تعالى.
وحين ننظر في حياتنا فسوف نجدها (آلات وأشراط) بمعنى: أن الحياة لكي تتحقق فيَّ لابد من وجود آلات مثل الرأس والجسم وما في داخل الرأس من مخ ومراكز للإحساس والتنفس وغير ذلك، ثم ما في داخل الجسم من آلات وأجهزة
(1/104)
________________________________________
كالجهاز التنفسي بآلاته الكثيرة، والجهاز الهضمي بآلاته ومعداته، والجهاز الدوري، وغير ذلك من عشرات الآلات والأجهزة. هذا من حيث (الآلات) وأما (الأشراط) فنعني بها الشرائط التى لابد من توافرها لكي تعمل هذه الآلات والأجهزة.
فلابد من وجود الهواء بنسب معينة للغازات التى يتركب منها ولا بد من وجود الغذاء والشراب ولابد من التعاون بين هذه الأجهزة والآلات والتنسيق بينها إلى آخر آلاف الأشراط التى لابد من توافرها بجانب توافر الآلات والأجهزة حتى تعمل هذه كلها وتتحقق الحياة، على أننا يجب ألا نغفل أمرًا على جانب من الأهمية فقد تتوافر كل الآلات وشرائط عملها ثم لا تعمل. وقد تكون كلها على أحسن حالاتها من حيث العمل وتحقق الحياة، ثم يتوقف كل شئ فجأة وتنتهي الحياة ومثل ذلك يقال في السمع والبصر، فالسمع لابد له من آلات، كالأذن الخارجية، والوسطي، والداخلية، وأعصاب السمع، ومراكزه في المخ، إلى آخر هذه الآلات.
ثم لابد من وجود مصدر للصوت، وأن تكون ذبذبات الصوت على مستوى معين، فلا هي حادة جدًا، ولا هى بطيئة جدًا، فإن الذبذبات إن زادت على حد معين، أو انخفضت عن حد معين فسد الأمر كله، ولم تحقق صفة السمع فينا.
نتساءل بعد ذلك هل حياة (الله) - تعالى- كذلك؟ نعني هل هى حياة آلات وأشراط مثل حياة المخلوقين؟ وهل سمع الله - - سبحانه وتعالى - كذلك؟
- الجواب - بطبيعة الحال -:
لا، فإن (الله) - تعالى - حيٌ سميع بصير. وحقائق هذه وغيرها من أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى لا يعلمها إلا هو - سبحانه وتعالى - عما يشركون.
(1/105)
________________________________________
المبحث الخامس
أسماء الله الحسنى

أولًا: منزلة الأسماء الحسنى:
إن أسماء الله الحسنى هى أعظم الأسماء وأشرفها وأسماها وأجلها وأقدسها، لأن شرف الاسم من شرف المسمَّى، وشرف العلم من شرف المعلوم، وسمو الذكر من سمو المذكور، وليس من شك في أن الله - سبحانه وتعالى - هو أشرف مسمى، والعلم به أشرف العلوم، وذكره أسمى الأذكار وأسماؤه - - سبحانه وتعالى - - هى أعظم الأسماء، فكل اسم لله - سبحانه وتعالى - - هو شريف وعظيم، وليس ذلك لذات الاسم، كما بينا. ولكنه للمسمَّى - - سبحانه وتعالى - - الذى اكتسبت الأسماء شرفها وسموها وعظمتها من الارتباط به - سبحانه وتعالى -.
إذا عرفنا ذلك أن أسماء الله - تعالى - كلها عظيمة شريفة سامية مقدسة فهل هناك تفاوت بين الأسماء الشريفة من حيث العظمة حتى يكون من بين تلك السماء العظيمة ما يطلق عليه أنه (اسم الله الأعظم) ؟
ذهب جماعة من العلماء إلى: أن أسماء الله - - سبحانه وتعالى - - كلها عظيمة مقدسة، وأنها كلها في المنزلة العظيمة على مرتبة واحدة، ومن ثمَّ فلا يجوز أن يوصف واحد منها بأنه أعظم، لأن في ذلك تفرقة بين الأسماء، ولأن وصف بعضها بأنه أعظم فيه إشارة إلى أن غيره ناقص، جلت أسماء الله عن ذلك.
ولكن هؤلاء الذين ذهبوا إلى هذا الرأي قد خالفوا في أمر واضح، وأغفلوا بديهة شرعية، نعني بذلك الوقوف عند حدود النصوص الواردة وترك الاجتهاد والقياس وإعمال الرأي في وجود النص، فإن الثابت من كتب السنة أن رسول الله < قد أشار في بعض أحاديثه إلى اسم (الله الأعظم) وقد بيَّن في أحاديث صحاح أن الآية التى
(1/106)
________________________________________
فيها (اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) هى أعظم آية من القرآن المجيد وكل القرآن عظيم فقد روي عن أبي بن كعب " قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - <- «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أَىُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ» . قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أَىُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ» . قَالَ قُلْتُ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ. قَالَ فَضَرَبَ فِى صَدْرِى وَقَالَ «وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ» (1) .
وفي هذا دلالة على أن آية الكرسي هى أعظم آية في كتاب الله - عز وجل - وكله عظيم، ولم يقل أحد بأن النص على أن آيةً بعينها أعظم فيه إشارة إلي نقص الآيات الأخر، أو التهوين من شأنها، جلّت آيات الله عن ذلك.
وروي عن عائشة ل أنها قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ الْمُبَارَكِ الأَحَبِّ إِلَيْكَ الَّذِى إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ وَإِذَا اسْتُرْحِمْتَ بِهِ رَحِمْتَ وَإِذَا اسْتُفْرِجْتَ بِهِ فَرَّجْتَ» . قَالَتْ وَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ «يَا عَائِشَةُ هَلْ عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَلَّنِى عَلَى الاِسْمِ الَّذِى إِذَا دُعِىَ بِهِ أَجَابَ» . قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى فَعَلِّمْنِيهِ. قَالَ «إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِى لَكِ يَا عَائِشَةُ» . قَالَتْ فَتَنَحَّيْتُ وَجَلَسْتُ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِيهِ. قَالَ «إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِى لَكِ يَا عَائِشَةُ أَنْ أُعَلِّمَكِ إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِى لَكِ أَنْ تَسْأَلِى بِهِ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا» . قَالَتْ فَقُمْتُ فَتَوَضَّأْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَدْعُوكَ اللَّهَ وَأَدْعُوكَ الرَّحْمَنَ وَأَدْعُوكَ الْبَرَّ الرَّحِيمَ وَأَدْعُوكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ أَنْ تَغْفِرَ لِى وَتَرْحَمَنِى. قَالَتْ فَاسْتَضْحَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ «إِنَّهُ لَفِى الأَسْمَاءِ الَّتِى دَعَوْتِ بِهَا» (2) .
وهذا الحديث واضح الدلالة على أن أسماء الله - تعالى- من بينها اسم هو أعظمها، وأن هذا الاسم الأعظم له خصائص لا تتوافر لغيره وأظهر خصائصه
__________
(1) رواه مسلم (1921) .
(2) رواه ابن ماجه (3992) .
(1/107)
________________________________________
وألصقها باهتمامات العباد وحاجاتهم أن من دعا الله - تعالى- متوسلًا إليه بهذا الاسم أجاب الله - تعالى - دعاءه، ومن طلب من الله - سبحانه وتعالى - متوجهًا بهذا الاسم أعطاه الله - - سبحانه وتعالى - - طلبته.
ومن المعلوم - ضرورة - من قواعد الدين أن الله - - سبحانه وتعالى - - يعطي من يسأله بأي اسم من أسمائه الحسنى ويجيب من يَدْعُوه بأية صفة من صفاته العلى، فكل أسمائه الحسنى مفاتح لرحماته، ووسائل لنفحاته وفيوضاته وقد أمر الله - تعالى- المؤمنين أن يدعوه بأسمائه كلها أو ببعضها دون تقييد، فقال - تعالى- (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأعراف/180.
وهذا صريح في أن الأسماء الحسنى كلها مفاتح للدعاء والإجابة، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون لبعضها مزيد اختصاص في القبول والإجابة، كما أننا نؤمن بأن القرآن العظيم كله باب عظيم من أبواب الخير والبركة وجلب الثواب العظيم لقارئه. لكن ذلك لا يمنع أن يكون لبعض الآيات مزيد فضل وبركة وخير، كآية الكرسي وغيرها مما ورد النص على مزيد فضله في الصحيح.

ثانيًا: أسماء الله الحسنى من القرآن والسنة:
قال الله - سبحانه وتعالى - (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأعراف/180 وقال - سبحانه وتعالى -: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} الإسراء/110 ويقول تبارك وتعالى {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} الحشر /24، وقال (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى) طه/8.
(1/108)
________________________________________
هذه أربعة مواضع من كتاب الله - تعالى - ورد فيها ذكر الأسماء الحسنى وصاحب ذكرها الحض على أن ندعو الله - تعالى - بها.
أما السنة فقد وردت فيها أحاديث عديدة عن الأسماء الحسنى منها ما اكتفي بذكر مكانتها وجزاء من يحفظها، ومنها ما أضاف إلي ذلك ذكر الأسماء. فقد روي عن أبي هريرة " رِوَايَةً قَالَ «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدًا، لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهْوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» (1) .
فأسماء الله الحسنى غير محصورة بعدد معين، ولم يرد في النصوص الصحيحة ما يدل على حصرها بعدد معين. وأما حديث: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» فليس فيه ما يدل على حصر الأسماء بالعدد المذكور، وقد نقل الإمام النووي: - اتفاق العلماء على هذا، فقال:
" واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه - سبحانه وتعالى -، فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء" (2) .
فجملة " من أحصاها " مكملة للجملة الأولى، وليست استئنافية منفصلة، ونظير هذا قول العرب: إن لزيد ألف درهم أعدّها للصدقة، وهذا لا يدل على أنه ليس عنده من الدراهم أكثر من ألف درهم، وإنما دلالته أن الذي أعده زيد من الدراهم للصدقة ألف درهم (3) .
والذى يدل على صحة هذا حديث عبد الله بن مسعود " أن النبي < قال «مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّى عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ
__________
(1) رواه البخاري (6410) .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (17/5) .
(3) شأن الدعاء للخطابي ص24.
(1/109)
________________________________________
نَاصِيَتِى بِيَدِكَ مَاضٍ فِىَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِىَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِى كِتَابِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِى عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِى وَنُورَ صَدْرِى وَجَلاَءَ حُزْنِى وَذَهَابَ هَمِّى. إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً» . قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَتَعَلَّمُهَا فَقَالَ «بَلَى يَنْبَغِى لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا» (1) ، فالذى استأثر الله به في علم الغيب عنده لا نعلم ما هو، ولا كم هو، ففيه دلالة على ان أسماء الله غير محصورة.
وكذلك، فإنه لم يثبت حديث صحيح في تعيين التسعة والتسعين اسمًا وعليه، فإن الذى يجزم بتعيين هذا العدد من الأسماء من الكتاب والسنة فإن جزمه غير سليم، لأنه لم يقم على تعيينها دليل يصح القول به، والأسماء في الكتاب والسنة أكثر من هذا العدد، لأن أصح رواية سردت الأسماء من الأحاديث هى رواية الوليد بن مسلم التى رواها الترمذي وغيره، وسرد الأسماء فيها ضعيف، وفي الكتاب والسنة أسماء لله لم ترد في حديث الترمذي، مثل (الرب) ، (المنان) ، (الوتر) ، السبوح) ، (الشافي) ....إلخ.
وعلى هذا نخلص بنتيجتين:
1- أن أسماء الله الحسنى غير محصورة بعدد معين.
2- أنه لم يرد في تعيين الأسماء التسعة والتسعين حديث صحيح وغاية ما هنالك من سرد الأسماء، إنما هو من اجتهادات بعض العلماء، التى يندرج فيها الصواب والخطأ، وفي عدم تعيينها حكمة بالغة، وهى أن يتطلبها الناس ويتحرونها في كتاب الله، وسنة رسوله <، حتى يحرص العباد ويجتهدوا في عبادة الله بجميع ما يعرفون من الأسماء الحسنى.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/391) .
(1/110)
________________________________________
ولقد حاول بعض العلماء التماس الحكمة في حصر الثواب بالعدد (99) فذكر بعضهم أن هذا إشارة إلى أن أسماء الله لا تؤخذ بالقياس.
وقال بعضهم: إن هذا لا يعقل معناه، وقال بعضهم: إن معاني الأسماء موجودة في هذه التسعة والتسعين، وقال آخرون: إن هذا إشارة إلى تفرد الله بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، إذ أن الأعداد إما فرد، وإما زوج وقد حكاها ابن حجر العسقلاني -: - في (فتح الباري) (1) ، والبريكان في (القواعد الكلية في الأسماء والصفات) (2) .
والحق عندي أن هذه التأويلات فيها ضرب من التكلف، وليس عليه دليل، ولم يرد عن الأئمة المعتبرين، وتفويض العلم فيها إلى الله أسلم وأحكم.
مسألة: يجب أن يتضح أمران في عدِّ الأسماء الحسنى:
1- الأسماء المشتقة من صفة واحدة، لا تعد كلها اسمًا واحدًا، بل كل صيغة من صيغ الاسم يعد اسمًا مستقلًا، فصفة (القدرة) ، اشتق منها عدة أسماء، مثل (القادر) (القدير) (المقتدر) . وصفة (العلو) اشتق منها أسماء مثل (العلي) ، (الأعلى) ، (المتعال) ، وكذلك صفة (الكرم) اشتق منها أسماء مثل (الكريم) ، (الأكرم) إلخ فالقادر اسم، والقدير اسم، والمقتدر اسم، مع أنها كلها مشتقة من صفة واحدة، لأن بعضها يزيد بخصوصية عن الآخر، وقد وقع الاتفاق على أن اسمي (الرحمن) ، و (الرحيم) اسمان، مع كونهما مشتقين من صفة واحدة، فتغير مباني وألفاظ الأسماء يغير المعنى، وإذا تغير المعنى صار اسمًا مستقلًا بذاته.
__________
(1) انظر: (11/225) .
(2) انظر: ص76.
(1/111)
________________________________________
2- الأسماء المقترنة، التي لا يصح فيها إطلاق اسم منها دون الآخر، مثل اسمي (القابض، الباسط) ، واسمي (المقدم، المؤخر) فهذه الأسماء تعد اسمين، لأن كل اسم منها يحمل معنى غير الآخر، لكنها تكون كالاسم الواحد في المعنى، فلايصح إفراد اسم عن الآخر في الذكر، لأن الاسمين إذا ذكرا معًا دل ذلك على عموم قدرته وتدبيره، وأنه لا رب غيره وإذا ذكر أحدهما لم يكن فيه هذا المدح، والله له الأسماء الحسنى، ليس له مثل السوء قط.
ثالثًا: أسماء الله الحسنى توقيفية:
أجمع سلفنا الصالح وأهل الحق ممن تابعهم على أن أسماء {الله} الحسنى توقيفية ومعنى ذلك أنه يجب علينا أن نقف عند حدود ما ورد منها شرعًا، دون أن تزيد عليها، أو ننقص منها، أو نغير من مبنى ألفاظها.
وهذا يعنى أنه لا يجوز الاجتهاد في أسماء {الله} - سبحانه وتعالى - بان نؤلف أو نتخير نحن أسماء من عندنا نرى أنها تليق بجلال {الله} - سبحانه وتعالى - فنسميه - سبحانه - بها فذلك ممتنع شرعًا عند أهل الحق ولأن الأسماء الحسنى توقيفية فقد امتنع أن نزيد عليها من الأسماء ما لم يرد به الشرع، حتى ولو كان مصدر الاسم موجودًا في القرآن المجيد.
فلا يجوز أن نسمى {الله} ا - سبحانه وتعالى - لصانع، ونجعل ذلك من الأسماء الحسنى ورغم أن مصدر الكلمة موجود في قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} النمل /88، وقد ورد في القرآن المجيد إسناد التعليم إلى {الله} - سبحانه وتعالى - في آيات كثيرة منها قوله سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} البقرة / 31 {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} النساء / 113 {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} الكهف / 65. ومع ذلك فليس جائزًا شرعًا أن ندعو ربنا - - سبحانه وتعالى - - فنقول: يا معلم، فإن ذلك ممتنع شرعًا رغم وجود مادة التعليم مسندة إليه سبحانه..وهذا يوضح ويؤكد ما ذكرناه من وجوب الالتزام فى أسماء {الله} - سبحانه وتعالى - بما ورد منها شرعًا، وأنها توقيفية لا يحل الاجتهاد فيها، أو إعمال الرأي فى الخروج عليها زيادة أو نقصًا، أو تغييرًا فى مبانيها.
(1/112)
________________________________________
وقد اشتهرت في ذلك مناظرة بين أبي الحسن الأشعري وشيخه أبي على الجبائي عندما دخل عليهما رجل يسأل: هل يجوز أن يسمى الله تعالى عاقلًا؟ فقال أبو علي الجبائي: لا يجوز، لأن العقل مشتق من العقال وهو المانع، والمنع في حق الله محال فامتنع الإطلاق، فقال له أبو الحسن الأشعري: فعلى قياسك لا يسمى الله سبحانه حكيما، لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت ":
فنحكم بالقوافي من هجانا...:... ونضربُ حين تختلط الدماء
(1/113)
________________________________________
وقول الآخر:
أبني حنيفة حكموا سفهاءكم...:... إني أخاف عليكمُ أن أغضبا
والمعنى: نمنع بالقوافي من هجانا، وامنعوا سفهاءكم، فإذا كان اللفظ مشتقًا من المنع والمنع على الله محال؛ لزمك أن تمنع إطلاق حكيم على الله تعالى، فلم يجب الجبائي إلا أنه قال للأشعري: فلم منعت أنت أن يسمى الله عاقلًا وأجزت أن يسمى حكيمًا؟
قال الأشعري: لأن طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت حكيمًا لأن الشرع أطلقه ومنعت عاقلًا لأن الشرع منعه ولو أطلقه الشرع لأطلقته (1) .
وقال ابن حزم: (لا يجوز أن يسمى الله تعالى ولا أن يخبر عنه إلا بما سمَّى به نفسه أو أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله< أو صحَّ به إجماع جميع أهل الإسلام المتيقن ولا مزيد، وحتى وإن كان المعنى صحيحًا فلا يجوز أن يطلق عليه تعالى اللفظ وقد علمنا يقينا أن الله عز وجل بنى السماء، قال تعالى (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) الذاريات/47، ولا يجوز أن يسمى بناء، وأنه تعالى خلق أصباغ النبات والحيوان، وأنه تعالى قال: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) البقرة/138، ولا يجوز أن يسمَّى صباغًا وأنه تعالى سقانا الغيث ومياه الأرض ولا يسمى سقاءً ولا ساقيًا، وهكذا كل شيء لم يسم به نفسه) (2) .
وقد ثبت من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ " أن رَسُولَ اللهِ < قال: (لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك) (3) ، وهذا دليل على أن معرفة ما أثنى الله به على نفسه لا بد فيها من طريق سمعي منقول إلينا بالخبر الثابت الصحيح.
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى، لأبي نصر عبد الوهاب السبكي، 3/ 358.
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل، لأبي محمد بن حزم الظاهري 2/108، 3/43
(3) سبق تخريجه.
(1/114)
________________________________________
رابعًا: الإلحاد فى أسماء الله - تعالى -:
قال الله سبحانه وتعالى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الأعراف/180، والآية الكريمة اشتملت على خبر وأمر ونهى، فقد أخبرتنا أن الأسماء الحسنى لله - سبحانه وتعالى - وليست لغيره، وأمرتنا بأن ندعو {الله} - سبحانه وتعالى - بتلك الأسماء، ونهتنا عن أن نلحد فى أسماء {الله} - سبحانه وتعالى -.
والإلحاد فى اللغة: الميل عن حد الاعتدال. والإلحاد المنهى عنه فى الآية الكريمة بالنسبة إلى الأسماء الحسنى يكون على أوجه كثيرة. أهمها:
1- أن يزاد عليها، فتصير مئة أو أكثر، كما ورد عن البعض أنه أوصلها إلى ألف وقيل: بل ألفين. مخالف للشرع، وخارج على ما ورد، فهو تعدٍ لحدود (الله) - تعالى - فى أسمائه.
2- وأن ينقص منها، فتصير ثمانية وتسعين أو أقل، فلذلك فيه ما فى الأول من خروج على الشرع، وتعد لحدود الله - تعالى - فى أسمائه، وفوق ذلك فيه رفض لبعض أسماء {الله} .
3- وأن نغير من مبانى ألفاظها ومعانيها، كما فعل المشركون حين حرفوا أسماء {الله} - سبحانه وتعالى - وأطلقوها على أوثانهم، فقيل: إنهم غيروا (الله) إلى (اللات) والعزيز إلى (العزَّى) والمنَّان إلى (مناة) .
4- وأن تطلق أسماء {لله} على غير {الله} فقد كان المشركون يسمون أصنامهم (آلهة) و (أربابًا) وكان المتنبئ الكذاب (مسيلمة) - لعنه الله - يسمي نفسه (الرحمن) .
5- وأن يسمَّى {الله} - سبحانه وتعالى - بما لا يجوز تسميته به من غير هذه الأسماء الحسنى - تباركت - كقول بعض أهل البادية مناديًا الله - عز وجل - يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا سخى.
(1/115)
________________________________________
خامسًا: إحصاء الأسماء الحسنى:
إن العلم بأسماء الله - سبحانه وتعالى - وإحصاءها أصل لسائر العلوم، فمن أحصي أسماء الله كما ينبغي للمخلوق فقد أحصى جميع العلوم، إذ إحصاء أسمائه سبحانه أصل لإحصاء كل معلوم، لأن المعلومات هى مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى، ولهذا لا تجد فيها خللًا ولا تفاوتًا، لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله إما أن يكون لجهله به أو لعدم حكمته، وأما الرب تعالى فهو العليم الحكيم، فلا يلحق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت (1) . والإحصاء للأسماء الحسنى ثوابه الجنة ن كما قال المصطفى <: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
واختلفت عبارات العلماء في تحديد معنى الإحصاء، وقد حكاها الخطابي -: - في شأن الدعاء (2) ، وهى:
1- المراد بالإحصاء: العدّ حتى تُستوفى حفظًا، ثم يدعى بها.
واستدل القائلون بهذا القول بالرواية الثانية للحديث، وهى قوله<: «لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهْوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» (3) قالوا وهذا نص في الخبر بمعنى الإحصاء أنه الحفظ. ومال إلى هذا القول: الإمام الخطابي، والإمام النووي (4) .
2- المراد بالإحصاء: الإطاقة، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} المزمل /20، أي لن تطيقوه، لقوله <: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا...» (5) . أي: لن
__________
(1) بدائع الفوائد (1/163) .
(2) ص26 -30
(3) سبق تخريجه.
(4) انظر: شأن الدعاء ص26، الأذكار للنووي ص85.
(5) أخرجه ابن ماجه (277) .
(1/116)
________________________________________
تطيقوا وتبلغوا كل الاستقامة، والمعنى: أن يطيق العبد الأسماء الحسنى، ويحسن المراعاة لها، وأن يعمل بمقتضاها.
فإذا قال: (السميع، البصير) علم ان الله يسمعه ويراه، وأنه لا تخفى عليه خافية، فيخافه في سره وعلنه، ويراقبه في كافة أحواله.
3- المراد بالإحصاء: العقل والمعرفة، تقول العرب: فلان ذو حصاة، أي: ذو عقل، ومعرفة بالأمور، قال طرفة:
وَإِنَّ لِسَانَ المَرْءِ مَاَ لَمْ تَكُنْ لَه... حَصَاة عَلَى عَورَاته لَدَلِيلُ
فيكون معناه: أن من عرفها، وعقل معانيها، وآمن بها دخل الجنة،
4- المراد بالإحصاء: قراءة القرآن كاملا ن فيكون القارئ قد استوفي الأسماء كلها في أضعاف القراءة.
5- والحق في معنى الإحصاء أنه شامل لثلاثة أمور، كما يذكر المحقق العلامة ابن قيم الجوزية، وهى:
أولًا: إحصاء ألفاظها وعدها، أو الإحاطة بها لفظا.
ثانيًا: فهم معانيها ومدلولها.
ثالثًا: دعاء الله - سبحانه وتعالى - بها، والتعبد لله بمقتضاها (1) .
قال ابن بطال -: -:
" الإحصاء يقع بالقول، ويقع بالعمل، فالذى بالعمل أن لله أسماء يختص بها كالأحد والقدير، فيجب الإقرار بها والخضوع عندها، وله أسماء يستحب الاقتداء بها في معانيها، كالكريم والعفو، فيستحب للعبد أن يتحلى بمعانيها ليؤدي حق العمل بها، فبهذا يحصل الإحصاء العملي وأما الإحصاء القولي
__________
(1) بدائع الفوائد (1/64) .
(1/117)
________________________________________
فيحصل بجمعها وحفظها والسؤال بها، ولو شارك المؤمن غيره في العد والحفظ فإن المؤمن يمتاز عنه بالإيمان والعمل بها " (1) وعليه، فإنه ليس معنى إحصائها هو أن تكتب في رقاع ثم تكرر حتى تحفظ فقط، فإن هذا قد يستوي فيه البر والفاجر، والمؤمن والمنافق.
إن من قال بأن معنى الإحصاء هو الحفظ، أو الإطاقة، أو العقل والفهم إنما ذكر بعض معنى الإحصاء، واكتفى بالجزء عن الكل، أما القول الصواب فهو مجموع تلك المعاني، كما ذكره الإمام ابن القيم وابن بطال- رحمهما الله - والله أعلم.

سادسًا: فهم معاني الأسماء الحسنى والإيمان بآثارها:
إن فهم معاني أسماء الله الحسنى داخل في معنى إحصاء الأسماء الحسنى، ولا يكفي في فهمها الإيمان المجمل بأن للأسماء معاني معلومة وواضحة، وأن لكل اسم معنى يخصه غير الاسم الآخر، وأن للاسم معنى زائدًا على معنى الذات فقط، بل فهم معاني الأسماء الحسنى المتضمن إحصاءها يقتضي أن يفهم المحصي للأسماء معاني الأسماء الحسنى كلها التى أحصاها اسمًا اسمًا.
فمثلًا: يثبت المحصي للأسماء الحسنى اسم (اللطيف) ، ويفهم معناه وهو: الذى لطف علمه حتى أدرك الخفايا والخبايا، وما احتوت عليه الصدور، وما في الأراضي من خفايا البذور، ولطف بأوليائه وأصفيائه، فيسر لهم اليسرى وجنبهم العسرى، وسهل لهم كل طريق يوصل إلى مرضاته، وحفظهم من كل سبب يوصل إلى سخطه.
__________
(1) فتح الباري (13/390) .
(1/118)
________________________________________
مثال آخر: يثبت المحصي للأسماء الحسنى - كذلك - اسم (العليم) ، ويفهم معناه وهو: الذى أحاط علمه بكل شئ، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم كان لو كان كيف يكون، ويعلم الواجبات والممتنعات والجائزات، وما في أقطار العالم العلوي والسفلي، قال تعالى: {ِوَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الأنعام/59، وقال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} طه/7.
إن فهم معاني أسماء الله - سبحانه وتعالى - والتفكر فيها، ولا يعني - على أية حال - التفكر في ذات المولى - - عز وجل -، لأن هذا أمر منهي عنه، أما فهم معاني أسماء الله والتفكر فيها فهو داخل في معاني ما أخبر الله، وهو مأمور به شرعًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - عليه رحمة الله -: "الخالق - جل جلاله -، - سبحانه وتعالى - ليس له شبيه ولا نظير، فالتفكر الذى مبناه القياس ممتنع في حقه، وإنما هو معلوم بالفطرة، فيذكره العبد، وبالذكر وبما أخبر به عن نفسه: يحصل للعبد من العلم به أمور عظيمة لا تنال بمجرد التفكير والتقدير - أعني من العلم به نفسه، فإنه الذى لا تفكير فيه. فأما العلم بمعاني ما أخبر به، ونحو ذلك: فيدخل فيها التفكير والتقدير، كما جاء به الكتاب والسنة " (1) .
والأسماء الحسنى هى مما أخبر الله به عن نفسه - - سبحانه وتعالى - - في كتابه الكريم، وأخبر به رسوله < في سنته عن ربه العظيم.
ويُبرز سلطان العلماء العز بن عبد السلام -: - أهمية فهم ومعرفة أسماء الله الحسنى فيقول: " فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء، والمهابة، والمحبة والتوكل....." (2) .
إن من فهم معاني الأسماء الحسنى الإيمان بآثارها، وذلك يتضمن الإيمان بأن للأسماء الحسنى أثارًا في الخلق والأمر تقتضيها اقتضاء الأسباب لمسبباتها، بل لكل
__________
(1) مجموع الفتاوى (4/40) .
(2) شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال ص72.
(1/119)
________________________________________
اسم من أسمائه - - سبحانه وتعالى - - أثر من الآثار في الخلق والأمر لابد من ترتبه عليه، كترتب المرزوق والرزق على الرازق، وترتب المرحوم وأسباب الرحمة على الراحم وترتب المرئيات والمسموعات على السميع والبصير، ونظائر ذلك في جميع الأسماء، بل كما يقول ابن القيم عليه -: -: " من كان له نصيب من معرفة أسمائه الحسنى، واستقرأ آثاراها في الخلق والأمر، رأى الخلق والأمر منتظمين بها أكمل نظام، ورأي سريان آثارها فيهما " (1) .
ويقول في موضع آخر: " العلم بالأسماء الحسنى أصل للعلم بكل معلوم، فإن المعلومات سواه إما أن تكون خلقًا له تعالى أو أمرًا، إما علم بما كوّنه أو علم بما شرعه، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضي بمقتضيه........ (2) ".
ويقول ابن القيم -: - مبينًا أثر هذه الأسماء في الخلق والأمر: " وأنت إذا فرضت الحيوان بجملته معدومًا، فمن يرزق الرازق سبحانه؟ وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية عن العالم، فلمن يغفر؟ وعمّن يعفو؟ وعلى من يتوب ويحلم؟، وإذا فرضت الفاقات سُدَّت، والعبيد أغنياء معافون، فأين السؤال والتضرع والابتهال، والإجابة، وشهود الفضل والمنة، والتخصيص بالإنعام والإكرام؟ " (3) .
ولبيان الاسم وأثره، أقول: إن اسم (الحفيظ) يتضمن: حفظًا، وحافظًا، ومحفوظًا، وإذا تكفل الله بحفظ شئ فلا يضيع ولا يتغير ولا يتبدل، فقد وعد بحفظ كتابه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر/9، إن اسم الله (الحفيظ) متضمن حفظ الله لمخلوقاته: فهو يحفظ السماوات أن تقع على الأرض إلا بإذنه، كما
__________
(1) طريق الهجرتين ص130.
(2) بدائع الفوائد (1/163) .
(3) مدارج السالكين (1/208) .
(1/120)
________________________________________
في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} الأنبياء/32، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} الحجر/16.
وهو - سبحانه- لا يتعبه ولا يكلفه حفظ السماوات والأرض وما بينهن وما فوق السماوات، فهو- سبحانه - يحفظها بلا مشقة ولا كلفة، كما قال تعالى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة/255 ومن حفظه- سبحانه- لمخلوقاته: حفظه على العباد جميع ما عملوه، بعلمه وكتابته وأمره الكرام الكاتبين بحفظه.
ومن حفظه لعباده: حفظه - سبحانه - عباده من المكاره والشرور، وأخص من هذا: حفظه لخواص عباده - الذين حفظوا وصيته وحفظوه. بالغيب- بحفظ إيمانهم من النقص والخلل، وحفظه عليهم دينهم ودنياهم، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -
«احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ» (1) .
يتبع بمشيئة الله تعالى...




كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأربعاء 02 يونيو 2021, 2:08 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ    كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Emptyالإثنين 21 مارس 2011, 6:38 am


سابعًا: الدعاء بها، وأنواعه:
إن الله - - سبحانه وتعالى - - أمر عباده بدعائه، لعظم أمر الدعاء عنده، فقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} غافر/60، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة/ 186، بل قد جعل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الدعاء هو العبادة، فعن النعمان بن بشير - "- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ، ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} غافر/60 (2) .
__________
(1) أخرجه الترمذي (2635) .
(2) أخرجه الترمذي (3432) .
(1/121)
________________________________________
إن من أعظم ما يدعا الله به ويسأل: أن يدعا بأسمائه الحسنى، فقال سبحانه وتعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف/180.
ولذلك، من آداب الدعاء أن يدعو الداعي بأسماء الله الحسنى قبل طلبه وسؤاله، ومن تمام الإيمان بالأسماء الحسنى أن لا يدعى الله - - سبحانه وتعالى - - إلا بها.
إن الدعاء نوعان: دعاء مسألة وطلب، ودعاء عباده وثناء، لا يخرج الدعاء عن هذين النوعين ألبتة، كما يقرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -: - ودعاء الله بالأسماء الحسنى يشمل هذين النوعين.
وحقيقة دعاء المسألة هى: " طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره أو دفعه" (1) .
وأما دعاء المسألة بالنسبة للأسماء الحسنى فهو: سؤال الله في كل مطلوب بما يناسب ذلك المطلوب، والتوسل إلى الله بالأسماء في الدعاء، فيقول الداعي: اللهم اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، وتب على يا تواب، وارزقني يا رزاق... ونحو ذلك. وقد وردت النصوص من الكتاب والسنة بذلك، فمنها قوله سبحانه في مقام تعليم عباده دعاءه: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) آل عمران/8، ومنها ما ورد عن المصطفى < أنه أمر عائشة أن تدعو ربها تحريًا لليلة القدر، وتقول: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى» (2) .
وأما دعاء العبادة فهو التعبد لله - - سبحانه وتعالى - -، والثناء عليه بأسمائه الحسنى، فكل اسم يتعبد به بما يقتضيه ذلك الاسم، وقد وردت النصوص تبين أن من الدعاء دعاء العبادة، ومن هذه النصوص ما ورد صريحًا مثل قوله <: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» الذى سبق.
__________
(1) بدائع الفوائد (3/2) .
(2) أخرجه الترمذي (3580)
(1/122)
________________________________________
ومنها ما يفسر بعضها بعضًا سواء في الموضع نفسه مثل قوله تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} غافر/60، أو أن يفسر بعضها بعضًا في مواضع أخرى مثل: كل ما ورد من ذكر دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم، فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} الحج/73، وقوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} النساء/117، وقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ} فصلت/48، فالدعاء في هذه الآيات فسر في مواضع أُخر بأنه العبادة، مثل قوله تعالى {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} الشعراء/92 -93، وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} الأنبياء/98، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الكافرون/1-2.
إن دعاء العبادة يقتضي أن يتعبد العبد لله - - سبحانه وتعالى - - بمقتضي الأسماء.
إنه لا يتم إيمان العبد بالأسماء الحسنى وإحصاؤه لها إلا بأن تؤثر عليه هذه الأسماء في عبوديته الظاهرة والباطنة، فإذا علم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، يثمر له عبودية التوكل عليه باطنًا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا. وكذلك فإن علم العبد بسمع الله وعلمه وبصره، وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي.
إن الله - - سبحانه وتعالى - - يحب الاتصاف بموجب أسمائه، فهو سبحانه وتعالى (شكور) يحب الشاكر، (وعليم) يحب كل عالم، و (وتر) يحب الوتر، و (جميل) يحب الجمال، و (عفو) يحب العفو وأهله، و (بَرٌّ) يحب الأبرار، و (حليم) يحب أهل الحلم، ولمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة، والعفو والصفح: خلق من يغفر له ويتوب عليه، ويعفو عنه، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له، ليترتب عليه
(1/123)
________________________________________
المحبوب له المرضي وينبه الإمام ابن القيم -: - إلى مقام الكُمَّل من المؤمنين في باب التعبد لله بأسمائه وصفاته، فيقول:
"وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التى يطلع عليها البشر، فلا تحجبه عبوديته اسم عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه (القدير) عن التعبد باسمه (الحليم الرحيم) ، أو يحجبه عبودية اسمه (المعطي) عن عبودية اسمه (المانع) ، أو عبودية اسمه (الرحيم والعفو والغفور) عن اسمه (المنتقم) ، أو التعبد بأسماء التودد، والبر، واللطف، والإحسان، عن أسماء العدل، والجبروت، والعظمة، والكبرياء، ونحو ذلك " (1) .
إن المؤمن لا يتم إيمانه بالأسماء الحسنى حتى يجتهد في دعاء العبادة ودعاء المسألة وذلك بأن تظهر آثار الإيمان بالأسماء الحسنى كلها، في كل حالاته: في المنشط والمكره، والسراء والضراء، وسفره وإقامته، وعباداته ومعاملاته، وفي شأنه كله وكذلك بأن يتوسل إلى الله- - سبحانه وتعالى - - ويتضرع إليه دائمًا بأسمائه الحسنى، فيقدم بين يدي ما يناسب ذلك الدعاء من الأسماء، وذلك أدعى لقبوله واستجابته.

ثامنًا: دراسة الروايات والطرق التى سردت الأسماء الحسنى:
أ- طرق الحديث الذى ليس فيه سرد الأسماء:
روى أبو هريرة - " - عن المصطفى <: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
__________
(1) مدارج السالكين (1/420) .
(1/124)
________________________________________
وقد رواه عن أبي هريرة خمسة من التابعين، وهم: عبد الرحمن الأعرج، ومحمد بن سيرين، وهمام بن منبه، وأبو رافع وأبو سلمة - رضي الله عنهم أجمعين -، وتفصيل القول فيمن رواه عنهم ومن أخرج هذه الطرق كما يلي:
1- رواية الأعرج، رواها عنه: أبو الزناد، ورواها عن أبي الزناد جمع، منهم:
[أ] شعيب بن أبي حمزة (1) . ... [ب] سفيان بن عيينة (2) .
[ج] مالك بن أنس (3) . ... [د]- ورقاء بن عمر (4) .
2- رواية محمد بن سيرين، رواها عنه:
[أ] أيوب السختياني (5) . ... [ب] هشام بن حسان (6) .
[ج] عبد الله بن عون (7) . ... [د] خالد الحذَّاء (8) .
[هـ] عاصم بن سليمان (9) . ... [و] عوف بن أبي جميلة (10) .
3- ورواية همام بن منبه، رواها عنه:
[أ] أيوب السختياني (11) . ... [ب] معمر بن راشد أخرجه مسلم (2677) (12) .
__________
(1) أخرجه البخاري (7392) .
(2) أخرجه مسلم (2677) .
(3) أخرجه ابن منده في كتاب التوحيد (154) .
(4) أخرجه ابن منده في كتاب التوحيد (155) .
(5) أخرجه مسلم (2677) .
(6) أخرجه الترمذي (3573) .
(7) أخرجه أحمد (2/516) .
(8) أخرجه أحمد (2/499) .
(9) أخرجه ابن منده في كتاب التوحيد (160) .
(10) أخرجه ابن منده في كتاب التوحيد (161) .
(11) أخرجه مسلم (2677)
(12) أخرجه أحمد (2/314) .
(1/125)
________________________________________
4- ورواية أبي رافع، رواها عنه: قتادة أخرجه مسلم (2677) (1) .
5- رواية أبي سلمة، رواها عنه: محمد بن عمرو بن علقمة الليثي أخرجه مسلم (2677) (2) .
__________
(1) أخرجه الترمذي (3573) .
(2) أخرجه ابن ماجه (3860) .
(1/126)
________________________________________
ب- دراسة الروايات والطرق التى سردت الأسماء الحسنى:
ولقد وردت روايات أخرى للحديث بطرق أخرى مختلفة، تزيد على الحديث السابق بذكر أسماء من أسماء الله - - سبحانه وتعالى - -. وللحكم على هذه الأحاديث - التى ذكر فيها سرد الأسماء - بالصحة أو الضعف، لابد من النظر في أسانيد الطرق التى ورد فيها سرد الأسماء، والنظر - كذلك - في متن الحديث، حسب القواعد المعتبرة عن المحدثين.
فأما من جهة السند: فقد روي الحديث وفي آخره سرد الأسماء بثلاثة طرق:
1 - الطريق الأول:
وهو طريق عبد العزيز بن الحصين (1) عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة: الله، الرحمن، الرحيم، الإله، الرب، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الحليم، العليم، السميع، البصير، الحي، القيوم، الواسع، اللطيف، الخبير، الحنان، المنان، البديع، الودود، الغفور، الشكور، المجيد، المبدئ، المعيد، النور، البادئ، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، العفو، الغفار، الوهاب، القادر، الأحد، الصمد، الوكيل، الكافي، الباقي، الحميد، المغيث، الدائم، المتعالي، ذو الجلال والإكرام، المولى، النصير، الحق، المبين، الباعث، المجيب، المحي، المميت، الجليل، الصادق، الحافظ، المحيط، الكبير، القريب، الرقيب، الفتاح، التواب القديم، الوتر، الفاطر، الرزاق، العلام، العلي، العظيم، الغنى، المليك، المقتدر الأكرم، الرؤوف، المدبر، القدير، المالك، القاهر،
__________
(1) عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان، أبو سهل، مروزي الأصل، قال عنه البخاري: ليس بالقوي عندهم، وقال ابن معين: ضعيف، وقال مسلم: ذاهب الحديث. انظر في ترجمته: ميزان الاعتدال (2/627) ، الضعفاء (3/3/15) ، لسان الميزان (4/29) .
(1/127)
________________________________________
الهادي، الشاكر، الكريم، الرفيع، الشهيد، الواحد، ذو الطول، ذو المعارج، ذو الفضل، الخلاق، الكفيل الجميل " (1) .
2- الطريق الثاني:
وهو طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني (2) ، قال: حدثنا ابو المنذر زهير بن محمد التميمي (3) حدثنا موسى بن عقبة (4) ، حدثني عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا، إنه وتر يحب الوتر من حفظها دخل الجنة، وهى: الله، الواحد، الصمد، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الخالق، البارئ، المصور، الملك، الحق، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الرحمن، الرحيم، اللطيف، الخبير، السميع، البصير العليم، العظيم، البار، المتعال، الجليل، الجميل، الحى، القيوم، القادر، القاهر العلي، الحكيم، القريب، المجيب، الغنى، الوهاب، الودود، الشكور، الماجد، الواجد، الوالي، الراشد، العفو، الغفور، الحليم، الكريم، التواب، الرب، المجيد، الولي، الشهيد، المبين، البرهان، الرؤوف، الرحيم، المبدئ، المعيد، الباعث، الوارث، القوي، الشديد، الضار، النافع، الباقي، الواقي، الخافض الرافع، القابض، الباسط، المعز، المذل، المقسط، الرزاق، ذو القوة، المتين، القائم، الدائم، الحافظ، الوكيل، الفاطر، السامع، المعطي، المحيى،
__________
(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1/32) والحاكم في المستدرك (1/17) .
(2) عبد الملك بن محمد الحميري البرسمي، أبو الزرقاء، ويقال: أبو محمد الصنعاني، قال ابن حبان: كان يجيب فيما يسأل عنه وينفرد بالموضوعات، ولا يجوز الاحتجاج بروايته، وهو لين الحديث. انظر في ترجمته: تهذيب التهذيب (6/422) ، تقريب التهذيب (1/522) .
(3) زهير بن محمد التميمي، أبو المنذر الخرساني، المروزي، الخرقي، رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة، فضعف بسببها. قال أبوحاتم: حدث بالشام من حفظه، فكثر غلطه. توفي سنة162هـ. انظر في ترجمته: ميزان الاعتدال (2/84) ، تهذيب التهذيب (3/348) ، تقريب التهذيب (1/264) .
(4) موسى بن عقبة بن أعياش الأسدي، مولى آل الزبير، ثقة، فقيه، إمام في المغازي، توفي سنة 141هـ. انظر في ترجمته: تهذيب التهذيب (10/360) ، تقريب التهذيب (2/286) .
(1/128)
________________________________________
المميت، المانع، الجامع، الهادي، الكافي، الأبد، العالم، الصادق، النور، المنير، التام، القديم، الوتر، الأحد، الصمد، الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحدًا (1) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (3861) .
(1/129)
________________________________________
3- الطريق الثالث:
وهو طريق الوليد بن مسلم (1) قال: أخبرنا شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة غير واحدة، من أحصاها دخل الجنة. وهو الله الذى لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، القابض الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب الواسع، الحكيم، الودود، المجيد الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي المتين، الولي، الحميد، المحصى ن المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحى، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور الهادي، البديع، الوارث، الرشيد، الصبور (2) .
فالطريق الأول مداره: عبد العزيز بن الحصين، وعبد العزيز هذا ضعفه العلماء، ونقل الذهبي، تضعيف العلماء له، ومن هذه الأقوال:
قول البخاري: ليس بالقوي عندهم.
وقول مسلم: ذاهب الحديث. وضعفه ابن معين (3) .
وقال ابن عدي: الضعف على رواياته بيّن.
ثم ذكر الذهبي حديث سرد الأسماء (4) .
__________
(1) الوليد بن مسلم القرشي، مولى بني أمية، أبو العباس الدمشقي، عالم الشام، وهو ثقة لكن كان كثير تدليس التسوية. توفي سنة 96هـ. انظر في ترجمته: تهذيب التهذيب (11/151) .
(2) أخرجه الترمذي (3574) .
(3) انظر التلخيص الحبير (4/190) .
(4) انظر: ميزان الاعتدال (2/627) .
(1/130)
________________________________________
وقال البيهقي: ضعيف الحديث عند أهل النقل (1) .
وذكره العقيلي في الضعفاء، وذكر في ترجمته حديث سرد السماء، وقال: لا يتابع عليه (أي في هذا الحديث) ، لأن فيه لينًا واضطرابًا (2) .
ووثقه الحاكم في مستدركه، وتعقبه عليه الذهبي في تلخيصه المستدرك، وقال: بل ضعفوه (3) .
وقال ابن حجر عن توثيق الحاكم له: وأعجب من كل ما تقدم (أي من ذكر أقوال العلماء في تضعيفه) أن الحاكم اخرج له في المستدرك، وقال: ثقة (4) .
وبهذا تبين أن الحديث بهذا السند ضعيف، وقرينة ضعفه أن الحديث روي بالسند نفسه عن غير عبد العزيز بن الحصين، ولم يقع فيه سرد الأسماء، فقد روى مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده عن عبد الرزاق، حدثنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
وأما طريق الثاني فعمدته: عبد الملك بن محمد الصنعاني، وهو ممن لا يحتج بحديثه، فنقل ابن حجر قول ابن حبان عنه: لا يجوز الاحتجاج بروايته.
وقال الذهبي: ليس بحجة (5) .
وقال ابن حجر: لين الحديث.
__________
(1) انظر: الأسماء والصفات (1/32) .
(2) انظر: الضعفاء الكبير (3/15) .
(3) انظر: المستدرك (1/17) .
(4) انظر: لسان الميزان (4/29) .
(5) انظر: الكاشف (2/214) .
(1/131)
________________________________________
وقد ضعف البوصيري في مصباح الزجاجة هذا الحديث بهذا الطريق لضعف عبد الملك بن محمد الصنعاني (1) ، وبهذا يصبح الحديث بهذا السند ضعيفا.
وأما الطريق الثالث: فمداره: الوليد بن مسلم الدمشقي:
ويُشعر كلام بعض العلماء بتوثيق الوليد، فنقل ابن حجر أقوال بعض العلماء فيه ومنها:
قول عبد الله بن أحمد عن أبيه: ما رأيت أعقل منه.
وقول على بن المديني: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الوليد، ثم سمعت من الوليد، وما رأيت من الشامين مثله.
وقول ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث (2) .
لكن يؤخذ على الوليد أنه يدلس تدليس التسوية.
قال أبو مسهر: الوليد مدلس، وربما دلس عن الكذابين.
قال عنه الذهبي: إذا قال: (حدثنا) ، فهو حجة (3) .
وقال: كان مدلسًا، فيتقي من حديثه ما قاله فيه: (عن) (4) .
وقال ابن حجر: ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية (5) .
فالخلاصة: أنه ثقة، إذا صرح بالسماع، وهو في هذا الحديث قد صرح وأتي بلفظ (أخبرنا) . وبقية رجال السند في الحديث ثقات: فشيخ الوليد بن مسلم: شعيب ابن أبي حمزة الحافظ، وهو ثقة عابد (6) .
__________
(1) انظر: مصباح الزجاجة (4/148) .
(2) انظر: تهذيب التهذيب (11/152) .
(3) انظر: ميزان الاعتدال (4/347) .
(4) انظر: الكاشف (3/242) .
(5) انظر: تقريب التهذيب (2/336) .
(6) انظر: تقريب التهذيب (1/352) .
(1/132)
________________________________________
وأما أبوالزناد: عبد الله بن زكوان فهو: الإمام الثبت، وقال الذهبي: عمدة في الدين (1) .
وقال ابن حجر: ثقة فقيه (2) .
وأما الأعرج: عبد الرحمن بن هرمز: فهو ثقة ثبت عالم (3) .
فهذا السند رجاله ثقات، لكن قد روي عن الوليد بن مسلم بطريق أخرى، ولم يذكر الأسماء، فقد أخرج الدارمي عن هشام بن عمار الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا خليد بن دعلج عن قتادة عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (4) .
وقد روى الحديث بسند الوليد بن مسلم الأول، وهو شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، لكن عن غير الوليد بن مسلم، فقد رواه عن شعيب أبو اليمان الحكم بن نافع، ورواه الحميدي عن سفيان عن أبي الزناد به ولم يذكر في الحديث - بهذه الطرق - سرد الأسماء الحسنى.
وقد روى الحديث - أيضًا - الوليد بن مسلم بطريق ثالثة - غير الطريقين اللذين ذُكرا - وسرد فيه الأسماء، فعن الوليد بن مسلم، قال: حدثنا زهيربن محمد التميمي عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة، وهذا الطريق، هو الطريق الذى روى به عبد الملك بن محمد الصنعاني، فرواية عبد الملك هى عن زهير بن محمد التميمي عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة.
__________
(1) انظر: ميزان الاعتدال (2/420) .
(2) انظر: تقريب التهذيب (1/413) .
(3) انظر: تقريب التهذيب (1/501) .
(4) أخرجه الدارمي في رده على بشر (ص12) ، وخليد ضعيف. انظر: تقريب التهذيب (1/227) .
(1/133)
________________________________________
وزهير بن محمد التميمى: ضعيف، لأن روايته عن أهل الشام غير مستقيمة، وقال البخاري عن الإمام أحمد: كان زهير الذى يروي عنه الشاميون آخر.
وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه (1) .
ويبقى القول إن أقرب الطرق إلى الصحة هى رواية الوليد بن مسلم عن شعيب ابن أبي حمزة، كما قال ذلك ابن حجر العسقلاني (2) ، ومع ذلك فهو حديث ضعيف، كما علق الألباني على كلام الترمذى بعد إخراجه هذه الرواية، حيث قال الترمذى: هذا حديث غريب (3) .
فعلَّق عليه الألباني، وقال: أي ضعيف (4) ، وكما سيتبين - إن شاء الله - عند نقد متن الحديث، وذكر أقوال العلماء فيه.
وأما من جهة المتن: ففيه أمور قادحة - كذلك غير ما في السند من تفرد الوليد بن مسلم - بيّنها ابن حجر في الفتح، فقال رادًا على الحاكم، في تعليله عدم إخراج البخاري ومسلم لرواية سرد الأسماء بأنه لتفرد الوليد بن مسلم فقط، فقال:" وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه، والاضطراب، وتدليسه، واحتمال الإدراج" (5) .
فالعلة هنا ليست في السند فقط، بتفرد الوليد أو تدليسه، بل هناك علل أخرى في المتن أيضًا، من الاختلاف، والاضطراب، واحتمال الإدراج، وغيرها.
__________
(1) انظر: تقريب التهذيب (1/264) .
(2) انظر: الفتح (11/219) .
(3) انظر: جامع الترمذي (5/193) .
(4) مشكاة المصابيح (1/702) .
(5) الفتح (11/219) .
(1/134)
________________________________________
[أ] أما الاختلاف بين الروايات، والاضطراب بينها، فهذا حاصل بين الطرق الثلاثة التى ورد فيها سرد الأسماء، فلم تتفق روايتان على سرد موحد للأسماء لا اختلاف بينها.
وكذلك فإن الروايات عن الوليد بن مسلم - أيضًا - بينها اختلاف واضطراب، فالرواية المشهورة عن الوليد بن مسلم - والتى عول عليها غالب من شرح الأسماء الحسنى، وهى التى أخرجها الترمذي في جامعه، وقد ذكرتها عند ذكر طرق الحديث - قد خالفتها رواية أخرى أخرجها الطبراني عن أبي زرعة الدمشقي عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم.
ففي رواية الطبراني مخالفة لعدة أسماء منها: (القائم، الدائم) بدل (القابض الباسط) و (الشديد) بدل (الرشيد) ، و (الأعلى، المحيط، مالك يوم الدين) بدل (الودود، المجيد، الحكيم) .
وكذلك وقع عند ابن حبان عن الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح عن الوليد: (الرافع) بدل (المانع) .
ووقع في صحيح ابن خزيمة في رواية صفوان أيضًا مخالفة في بعض الأسماء، قال: (الحاكم) بدل (الحكيم) ، و (القريب) بدل (الرقيب) و (المولى) بدل (الوالي) ، و (الأحد) بدل (المغني) (1) .
ووقع في رواية البيهقي وابن منده من طريق موسى بن أيوب النصيبي عن الوليد (المغيث) بدل (المقيت) (2) .
وأما رواية الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد التميمي، فقد وقع فيها مخالفة في ثلاثة وعشرين اسمًا، فليس في رواية زهير: (الفتاح، القهار، الحكم، العدل، الحسيب،
__________
(1) انظر: الفتح (11/220) .
(2) انظر: الأسماء والصفات (1/29) .
(1/135)
________________________________________
الجليل، المحصي، المقتدر، المقدم، المؤخر، البر، المنتقم، المغنى، النافع، الصبور، البديع، الغفار، الحفيظ، الكبير، الواسع، الأحد، مالك الملك ذو الجلال والإكرام) ، وذكر بدلها (الرب، الفرد، الكافي، القاهر، المبين، الصادق، الجميل، البادي، القديم، البار، الوفي، البرهان، الشديد، الواقي، القدير، الحافظ، العادل، المعطي، العالم، الأحد الأبد، الوتر، ذو القوة) .
هذه هى الروايات التى وردت عن الوليد بن مسلم في سرد الأسماء وكما هو ملاحظ وجود الاختلاف، والاضطراب الواضح بين الروايات (1) .
__________
(1) قال ابن حزم في المحلى (8/382) : جاءت أحاديث في إحصاء التسعة والتسعين اسمًا مضطربة لا يصح منها شئ أصلًا. اهـ
(1/136)
________________________________________
[ب] وأما احتمال الإدراج، فهذا يتبين بأمور:
1- ورود الحديث عن الوليد بن مسلم بدون سرد الأسماء.
2- ورود الحديث بدون سرد الأسماء، بالطريق التى روى بها الوليد بن مسلم، لكن عن غير الوليد ابن مسلم.
روي عن بعض السلف أنهم حاولوا استخراج الأسماء الحسنى من القرآن الكريم من ذلك ما قاله ابن حجر:" وروينا في (فوائد تمام) من طريق أبي طاهر بن السرح عن حبان بن نافع، عن سفيان بن عيينة، حديث «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا» قال: فوعدنا سفيان أن يخرجها لنا من القرآن (1) ، فهذا فيه دلالة على أن سرد الأسماء مدرج، إذ لو ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذى عدّ الأسماء الحسنى، لما اجتهد بعض السلف في إخراجها من النصوص، وهم يعلمون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عدّها في الحديث. وتكملة النص السابق - أيضا - تفيدنا في إثبات إدراج الأسماء.
قال ابن حجر: "فوعدنا سفيان أن يخرجها لنا، فأبطأ، فأتينا أبا زيد، فأخرجها لنا، فعرضناها على سفيان، فنظر فيها أربع مرات، وقال: نعم هى هذه، ثم سرد الأسماء، وبينها اختلاف" (2) .
4- أقوال العلماء المتكاثرة التي تبين أن سرد الأسماء ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه مدرج، ومن أقوالهم ما يلي:
قال الداودي - رحمه الله -: " لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عين الأسماء " (3) . وقال البيهقي -: - في حديثه عن رواية عبد العزيز ابن الحصين: " يحتمل أن يكون التفسير وقع من بعض الرواة، كذلك في حديث الوليد ابن مسلم " (4) .
__________
(1) انظر: الفتح (11/221) .
(2) انظر: الفتح (11/221) .
(3) انظر: الفتح (11/220) .
(4) الأسماء والصفات (1/32) .
(1/137)
________________________________________
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -: -: " والحديث الذى في عدد الأسماء الحسنى.. ليس هو عند أهل المعرفة بالحديث من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هذا ذكره الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز، أو عن بعض شيوخه (1) .
وقال في موضع آخر بعد كلامه عن الروايات في سرد الأسماء الحسنى واختلافها:"وهذا كله مما يبين لك أنها (أي الأسماء في الروايات) من الموصول المدرج في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الطرق، وليس من كلامه " (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -: -:" قد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين (يعنى روايتي الترمذي عن طريق الوليد، وابن ماجه من طريق عبد الملك بن محمد) ليستا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كل منها من كلام بعض السلف " (3) .
وقال - أيضًا -: " إن التسعة والتسعين اسمًا لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذى رواه الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة، وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث، وفيها حديث ثان أضعف من هذا رواه ابن ماجه، وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف (4) .
وقال ابن كثير -: -: " الذى عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث (أي حديث الوليد عند الترمذي) مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم، وعبد الملك بن محمد الصنعاني. عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك أي أنهم جمعوها من القرآن......" (5) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (8/96) .
(2) مجموع الفتاوى (6/380) .
(3) مجموع الفتاوى (6/379) .
(4) مجموع الفتاوى (22/482) .
(5) تفسير القرآن العظيم (3/257) .
(1/138)
________________________________________
وأثبت ابن حجر -: - أن سرد الأسماء مدرج، واستدل على ذلك باختلاف الروايات (1) .
وقال أيضا -: " والتحقيق أن سردها إدراج من الرواة (2) .
وقد قرر ابن حجر-: - رجحان أن سرد الأسماء ليس مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
ويرى ابن الوزير-: - عدم صحة جميع الروايات التى سردت الأسماء الحسنى، بما فيها رواية الوليد بن مسلم، وأن من صحّح هذه الروايات، أو بعضها، فهو متساهل في التصحيح (4) .
وعلّق الصنعاني -: - على كلام ابن حجر قائلًا: "اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة (5) . وضعف الألباني -: - حديث الوليد بن مسلم الذى هو أقرب الطرق إلى الصحة (6) .
[ج] ومما يقدح في صحة المتن: بعض الأسماء التى فيها شذوذ بحيث لا يوافق على أن تكون من الأسماء الحسنى، إما لأنها ليست كاملة الحسن، وإما لعدم ورودها بصيغة الاسم.
وقد نقل ابن حجر عن ابن عطية-: - قوله: " حديث الترمذى ليس بالمتواتر، وفي بعض الأسماء التى في شذوذ (7) .
__________
(1) التلخيص الحبير (4/190) .
(2) بلوغ المرام (حديث رقم1396) .
(3) الفتح (11/221) .
(4) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (7/201- 207) .
(5) سبل السلام (4/108) .
(6) ضعيف الجامع (2/178) .
(7) التلخيص الحبير (4/190) .
(1/139)
________________________________________
ومثال ما ورد في حديث الوليد بن مسلم من الأسماء التى ليست كاملة الحسن:
(المنتقم) ، لأن صفة (الانتقام) لا تحمل معنى الكمال المطلق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -: -:" اسم (المنتقم) ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ومثال ما ورد في حديث الوليد بن مسلم من الأسماء، وهى لم ترد بصيغة الاسم في النصوص الشرعية: الباعث، الصبور.
وأخيرًا أقول: إنه لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث يحتج به في سرد الأسماء، وكل الطرق والروايات التى رويت في هذا فهي ضعيفة، إما من جهة السند، أو من جهة المتن، أو من كليهما.
__________
(1) مجموع الفتاوى (8/96) .
(1/140)
________________________________________
المبحث السادس
{الله} - سبحانه وتعالى - غيب مطلق
إن الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - هو رأس العقيدة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية تقوم على أُسس ستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر. وهذه الأسس كلها غيب، ولكن الغيب نوعان: غيب مطلق، وغيب نسبي. و {الله} - سبحانه وتعالى - غيب مطلق، والأسس الأخرى كلها غيب نسبي.
وبيان ذلك بالتفصيل فيما يلي:
أولًا: العقيدة الإسلامية:
العقيدة هى جوهر الإسلام وأصله، وهى القاسم المشترك بين الرسالات التى جاءت من قِبَل {الله} - سبحانه وتعالى -، وهى عنصر الوحدة في هذه الرسالات، والعقيدة في الإسلام تقوم على أسس ستة هى الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر.
وهذه الأسس العقدية ورد بها القرآن المجيد تارة مفصَّلة، كما في آية "البر".
يقول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} البقرة/177، فهذه الآية الكريمة أوردت الأسس الخمسة الأولى، ثم في آخر الآية نصت على {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} والصبر على هذه الأمور ليس هو الإيمان بالقدر ولكنه لازم الإيمان بالقدر. فإن المؤمن بالقدر من شأنه أن يصبر على البلاء ولا يحزن كقوله تعالى في سورة الحديد: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} الحديد/23، وهذه الأسس تأتي أخرى في في بعض الآيات مطويًّا بعضها في البعض الآخر، وذلك كما في الآية قبل
(1/141)
________________________________________
الأخيرة من سورة البقرة يقول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} البقرة/285.
فقد أوردت الآية الكريمة أربعة من أسس العقيدة الستة وضمنتها الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر. فإن المؤمن بالكتب والرسل سيجد القرآن المجيد قد نصَّ على الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر، وكذلك جرى على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مواطن لا تكاد تحصي وهذه العقيدة هى القاسم المشترك بين رسالات الله كلها فإن الله - سبحانه وتعالى - قد أنزل على الخلق دينًا واحدًا هو الإسلام وفي هذا يقول - سبحانه وتعالى - {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} آل عمران/19.
في إطار هذا الدين الواحد بعث الله - سبحانه وتعالى - رسلًا كثيرين، وأنزل عليهم كتبًا كثيرة، كل هؤلاء الرسل جاءوا مسلمين يدعون إلى الإسلام. فالإسلام هو دين الله الحق من يوم أن خلق الأرض ومن عليها حتى يرثها ومن عليها.
وجميع رسل الله الذين يعثهم الله - سبحانه وتعالى - بهذا الدين الواحد جاءوا بعقيدة واحدة، وإن اختلفت رسالاتهم في بعض فروع الشريعة، مراعاة لظروف الأقوام الذين أرسل إليهم كل منهم، ومراعاة لترقي البشرية وتطورها ما بين رسالة ورسالة، فالعقيدة واحدة عند الجميع.
ولذلك قلنا: إن العقيدة هى القاسم المشترك بين رسالات الله كلها، يقول الله - عز وجل - مشيرًا إلى وحدة الدين ووحدة العقيدة {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الشورى/13.
وأما الاختلاف بين الرسالات في بعض فروع الشريعة فيقول الله - سبحانه وتعالى - موضحا إياه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} المائدة/48.
والعقيدة الإسلامية تقوم على الإيمان بالغيب، لأن الأسس التى تقوم عليها العقيدة كلها غيب، بمعنى أنها مغيبة عن الإدراكات الحسية المادية فلا
(1/142)
________________________________________
يمكن للإنسان أن يدركها بحسه المحدود، ولا بآلة من الآلات التى تساعد الحس على إدراك بعض ما غاب عنه كمجهرات الصوت، أو مجهرات الأجسام الدقيقة أو مقربات الأجرام البعيدة.
فالإيمان بالغيب هو أساس العقيدة، والمؤمنون بالغيب لهم عند الله مغفرة وأجر كبير. يقول الله - سبحانه وتعالى - في وصف المتقين: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} البقرة/1-3.
وإذا كانت العقيدة الإسلامية تقوم على الإيمان بالغيب، فيحسن أن نتحدث عن الإيمان، ثم عن الغيب.

ثانيا الإيمان:
الإيمان هو التصديق اليقيني القطعي الثابت الذى لا يداخله الشك ولا يقبل الارتياب. وهذا الإيمان لا يعني التصديق العقلي فقط فإن التصديق العقلي لا يتوافر فيها الثابت المطلق أو اليقين، ولكنه عرضة للرد كما هو عرضه للقبول، ولذلك كان التصديق العقلي فقط لا يسمى إيمانًا. أما الإيمان فهو تصديق بالعقل والقلب جميعا، ورسوخ التصديق في القلب هو الذى يضمن له اليقين، ويوفر له الثبات، ومن ثمَّ يتحقق كونه إيمانًا وهذا يعني أن الإيمان لا يقف عند حدود العقل، كالأخبار المتصلة بمشاكل الحياة اليومية، والتي هى عرضة للرد مثلما هى عرضة للقبول. وكذلك لا يقتصر الإيمان على التصديق القلبي دونما دليل صادق من العقل، أو من بصيرة هادية من الفكر. ولكن الإيمان معنى يتضافر في تكوينه وتحقيقه العقل والقلب جميعًا، فالعقل يتلقى الخبر، ثم يمحصه ويزنه، فإذا اقتنع به، ووصل إلى مرحلة اليقين، انتقل إلى محل اليقين من القلب.
(1/143)
________________________________________
لذلك كان الإيمان في الإسلام معنى يشتمل على الإنسان بكامله، يشبع جميع طاقاته وملكاته، يستوي في ذلك جانب الإدراك الواعي وهو ما يسمَّى: بالعقل، وجانب الإدراك الباطن، وهو يشمل المشاعر والوجدان وما يسمَّى بالقلب. والحقائق الإيمانية ثابتة عقلًا وقلبًا، لكنها غير مدركة حسًّا ومادةً، فهي حاضرة في العقل والقلب، غائبة عن الحس المادي. وهذا يعني أنه ليس ثمَّ تلازم بين الإدراك العقلي والقلبي والإدراك الحسي المادي، بل بين الإدراكين انفكاك، فليس كل غائب حسًّا غائبًا عقلًا وقلبًا، كما أنه ليس كل حاضر حسًّا حاضرًا عقلًا وقلبًا فقد يكون الشئ غائبًا حسًّا ومادةً، ولكنه موجود عقلًا وقلبًا، وذلك كعالم الغيب وما فيه وأظهر الحقائق الغيبية هو الحق المبين (الله) ثم بقية الحقائق العقدية التى يقوم عليها الإيمان.
وعلى النقيض من ذلك، قد يكون الشئ حاضرًا حسًّا، لكنه غائب عقلًا وقلبًا وواقعًا، وذلك مثل حالات التوهم الكاذب والتخيل الفاسد، فكم من إدراك حسي هو خالٍ من كل حقيقة، وقد أشار الإمام (أبو حامد الغزالي) إلى شئ من ذلك حين قال: إن العين ترى الشمس مثل الدينار، وهي أكبر من الأرض في المقدار، ومثل الممرور، أعني المريض بالصفراء، فإنه يجد السكر مرًّا في فمه، وهو حلو في واقع الأمر، ومثل ما وقع من سحرة (فرعون) من سحر، فإنه في واقع الأمر تخييل وإيهام لا حقيقة له في العقل والواقع، وإن كان موجودًا في حس الذين شاهدوه. وقد قال الله - سبحانه وتعالى - في شأن موسى - عليه السلام -: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} طه/66.
يتبع إن شاء الله تعالى...



كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ    كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Emptyالإثنين 21 مارس 2011, 6:42 am

ثالثًا: الغيب:
الإيمان بالغيب هو أساس العقيدة في الإسلام، وهو أساس الدين كله، وهو كذلك بالنسبة إلى كثير من الأديان، وهو كذلك بالنسبة إلى اليهودية والنصرانية، مع شئ من التجوز. إلا أن الغيبيات في الإسلام تختلف عنها في
(1/144)
________________________________________
الأديان الأُخرى، فهى في الإسلام لا ترهق العقل ولا القلب، ولا تقلق النفس أو الضمير، فليس في الإسلام غيبيات تناقض العقل، أو تخالف المنطق، أو تحيك في الصدر أو تزعج النفس والضمير وإنما الغيبيات في الإسلام يرتاح إليها العقل والقلب جميعًا، وتسكن في رحابها النفس والضمير معًا، وتكاد الغيبيات - من اطمئنان القلب والعقل إليها وسكون النفس والضمير معها - أن تخرج من دائرة المغيبات إلى عالم الحس والمشاهدة.
أما في الأديان الأخرى، فإن الغيبيات فيها تخالف العقل، وتهزأ بالمنطق، وتمزق النفس وتصيبها بما يشبه داء (الفصام) ودونما تمثيل فإنما يكفي أن تنظر في عقائد أصحاب النِّحل لتجد عجبًا. فمن إله يبكي ويندم ويصارع عبدًا من خلقه فيصرعه العبد. إلى إله هو ثلاثة وهو واحد، ثلثه يتجسد بشرًا ثم يموت ويدفن، فلا يبقى من الإله المثلث سوى ثلثيه. إلى إله هو بقرة تخور أو قطة تموء، أو ثعبان يتلوى إلى غير ذلك، مما يشير إلى مرض لا ينفع معه طب، ولا يجدي في علاجه دواء.

رابعًا: الغيب المطلق، والغيب النسبي:
ونعني بالغيب المطلق ما كان غيبًا بالنسبة إلى جميع الخلق من جنًّ وإنسٍ ومَلَكٍ. ونعني بالغيب النسبي ما كان غيبًا بالنسبة إلى البعض وليس غيبًا إلى آخرين، ولو كان هؤلاء الآخرون متمثلين في شخص واحد، وكذلك يدخل في باب الغيب النسبي ما كان غيبًا في بعض أحواله، وليس غيبًا في أحوال أخرى، فهذا من شأنه أن تخرج به عن الغيب المطلق إلى الغيب النسبي.
والغيب المطلق واحد، هو {الله} - سبحانه وتعالى -، فالله - جل وعلا - غيبٌ مطلق بمعنى أنه - - سبحانه وتعالى - - لم يخرج عن الغيب أو يتجرد عن الخفاء فلم يدركه أو يره
(1/145)
________________________________________
- سبحانه - ملك ولا نبي، ولا إنس، ولا جن، ولا أحد من خلقه، لذا كان - سبحانه - غيبا مطلقا. يقول - تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الأنعام/103.
أما الغيب النسبي فبقية الأسس العقدية: الملائكة، والكتب، والرسل واليوم الآخر، والقدر.
1 - الملائكة غيب نسبي:
فالملائكة غيب، لكنهم ليسوا غيبًا مطلقًا، بل هم غيب نسبي، فقد رأى بعض البشر بعض الملائكة، فالأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم - رأوا (جبريل) - عليه السلام -، و (مريم) أم (المسيح) - عليه السلام - رأت (جبريل) وكلَّمته، و (لوط) - عليه السلام - رأى الملائكة الذين أرسلهم {الله} - سبحانه وتعالى - للإهلاك قومه، وكذلك رآهم (إبراهيم) - عليه السلام - ورأتهم زوج (إبراهيم) وقد ثبت بالسنة أن كثيرين من البشر رأوا بعض الملائكة عليهم السلام.
إذن فالملائكة ليسوا غيبًا مطلقًا، فإن رؤية بعض البشر بعض الملائكة يقطع هذا الإطلاق ويجعل الغيب نسبيًا بحيث يقال: عن الملائكة غيب بالنسبة إلى من لم يرهم، لكنهم ليسوا غيبًا بالنسبة إلى من رآهم، وهذه هى علة التسمية ومنطلقها.
2 - والكتب غيب نسبي:
ونحن نؤمن بكتب {الله} - سبحانه وتعالى - ما ذكر منها في القرآن الكريم وما لم يذكر، وكلها - عدا القرآن الكريم - ما بين مفقودٍ ومحرفٍ، ويبقى بين أيدينا - والحمد لله- كتاب {الله} الفرقان، لكن الكتب السابقة غيب بالنسبة إلينا وليست غيبًا بالنسبة إلى من أنزلت عليهم فقرأوها وتدارسوها، فكل قوم نزل عليهم كتاب رأوا ذلك الكتاب، فهو ليس غيبًا بالنسبة إليهم، وإن كان غيبًا
(1/146)
________________________________________
بالنسبة إلى من لم يروه أو يقرأوه؛ وبذلك تكونت الكتب غيبًا نسبيًا وليست غيبًا مطلقًا.
3 - وكذلكم الرسل غيب نسبي:
فنحن نؤمن برسل كثيرين، أخبرنا {الله} - سبحانه وتعالى - عنهم، ونحن نؤمن بجميع الرسل ما قصَّه الله - سبحانه وتعالى - علينا وما لم يقصصه وما عرفناه منهم، آمنا به تفصيلًا، وما لم نعرفه آمنا به إجمالًا.
وهؤلاء الرسل غيب بالنسبة إلينا لكنهم غيبًا بالنسبة إلى الذين عاصروهم من أقوامهم وعايشوهم وسمعوا منهم وأخذوا عنهم. فكل رسول أو نبي رآه قومه الذين أرسلوا إليهم أو بعث فيهم، فليس غيبًا بالنسبة إلى هؤلاء، وإن كان غيبًا بالنسبة إلينا، وبذلك يكونون - عليهم صلوات الله وسلامه - غيبًا نسبيًا وليسوا غيبًا مطلقًا.
4 - ومثل ذلك يُقال في اليوم الآخر:
فإن اليوم الآخر ليس ذاتًا تُدرك وتُحس وتُرى، ولكنه أحداث ووقائع، وقد اشتمل القرآن المجيد على أخبار كثيرة وأوصاف عديدة لذلك اليوم وما يدور فيه حتى كأنه واقع ملموس. وإخبار القرآن حق وصدق، أخبرنا عن البعث والحشر والحساب، ثم عن الجنة، ونقل إلينا بعض ما فيها وما أعده الله - سبحانه وتعالى - لأهلها، وكذلك عن جهنم أعاذنا الله منها، وكذلك نقل إلينا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة وقائع سوف تكون يوم القيامة، وأحداثًا سوف تكون في الآخرة، وهذه الوقائع والأحداث لم تقع بعد، ولكن الله - سبحانه وتعالى - يعلم أنها ستقع، فنقلها على هيئتها التي سوف تقع عليها إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونقلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلينا فأضحت معلومة لنا كأننا نعيش اليوم الآخر ونرى تلك الأحداث بأبصارنا، من هنا قلنا: إن اليوم الآخر غيب نسبي.
5 - والقدر غيب نسبي:
(1/147)
________________________________________
ومثل ذلك يقال في القدر: فإن الشرع الشريف كتابًا وسنة قد أخبرنا عن أقدار كثيرة هى في عالم الغيب لكن {الله} - سبحانه وتعالى - أخبرنا عنها في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرجها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.
وذلك كالعشرة المبشَّرين بالجنة، فإن {الله} - سبحانه وتعالى - قد أخبرنا عن قدره فيهم وأخطر ما في أقدار {الله} في الناس خاتمتهم، وقد أخبرنا {الله} - سبحانه وتعالى - عن خاتمة هؤلاء السعداء، وأنهم في الجنة بفضل الله - سبحانه وتعالى -، وبذلك كشف لنا عن جانب من القدر الذى هو غيب، كذلك أخبرنا القرآن عن قدر {الله} في (أبي لهب) ، وفي امرأته حمالة الحطب، وأخبرناالشرع الشريف عن قدر {الله} - سبحانه وتعالى - في شهداء المسلمين في بدر وأحدٍ وغيرهما، وكما أخبرنا عن قدره في قتلى المشركين في المعارك التى خاضوها ضد المسلمين ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
من أجل ذلك كان القدر غيبًا، لكنه ليس مطلقا حيث اخفى الله - سبحانه وتعالى - عنا ما شاء إخفاءه وكشف لنا منه ما شاء أن يكشف.
اتضح لنا مما تقدم أن العقيدة تقوم على الإيمان بالأسس الستة وأن هذه الأسس كلها غيب، لكنها ليست على درجة واحدة من الغيب فمنها الغيب المطلق، وهو الله - سبحانه وتعالى -. ومنها الغيب النسبي وهى بقية الأسس.
(1/148)
________________________________________
المبحث السابع
علاقة الله - سبحانه وتعالى - بالعالم
{الله} هو الوجود الحق، وهو - عز وجل - الحق المطلق، تستمد منه كل حقيقة وجودها. فالله - سبحانه وتعالى - هو مصدر الخلق ومصدر الرزق، ومصدر الحفظ، ومصدر الفعل إن حدث فعل، ومصدر الفناء إن حدث فناء فالله - سبحانه وتعالى - هو الخالق، ثم هو - سبحانه وتعالى - الحافظ لما خلق، فالكل محتاج إليه في وجوده، ومحتاج إليه في استمرار ذلك الوجود، وهو - سبحانه وتعالى - غني بذاته عن الخلق أجمعين.
وعلاقة {الله} - سبحانه وتعالى - بالعالم هى علاقة الخالق بالمخلوق والفاعل بالمفعول، والصانع بالمصنوع.
وخلق {الله} - سبحانه وتعالى - وفعله وصنعه لا يحتاج مادةً، ولا آلةً، ولا مكانًا ولا زمانًا، ولا شيئًا مما يكون في عالم الخلق، ولكنه يقوم على أمر واحد فقط، وهو إرادة الله - سبحانه وتعالى - ومشيئته، فإذا أراد {الله} - سبحانه وتعالى - بإيجاد شئ قال له (كُنْ) فيكون الشئ على مقتضى ما علم الله تعالى وأراد: يقول تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس/82، و {الله} - سبحانه وتعالى - كان ولم يكن شئ معه ولا قبله فهو - سبحانه وتعالى - الأول بلا ابتداء، ثم أوجد {الله} - سبحانه وتعالى - هذا العالم على مقتضى ما علم وأراد.
أولًا: علاقة {الله} - سبحانه وتعالى - بالعالم تتمثل في أمور خمسة:
1- علاقة الخلق والإيجاد:
فكل شئ كان عدمًا محضًا، ولم يكن سوى {الله} - سبحانه وتعالى -، ثم خلق {الله} - سبحانه وتعالى - كل شئ وأوجده وصنعه، يقول - سبحانه وتعالى -: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} هود/7.
2-

3-
(1/149)
________________________________________
4- علاقة الحفظ والإمساك والإبقاء:
إن {الله} - سبحانه وتعالى - حين يخلق الأشياء لا يتركها كما قد يسبق إلى الوهم، ولكن {لله} - سبحانه وتعالى - يخلق الأشياء ثم يحفظها، أي يحفظ عليها خلقها الذى خلقها عليه. فالأشياء كانت عدمًا محضًا، و {الله} - سبحانه وتعالى - أوجدها من هذا العدم، فالوجود ليس من طبيعتها ولا هو أصل فيها، فهى حين توجد تحتاج إلى من يحفظ عليها تلك الحال الطارئة التى هى الوجود.
والعالم حين يخلقه {الله} - سبحانه وتعالى - يكون بحاجة إلى أن يحفظ {الله} - سبحانه وتعالى - عليه ذلك الخلق، أي يحفظه على حاله من الوجود ن لأن العالم لا يستطيع أن يحتفظ بوجوده إلا بحفظ {الله} إياه، ولو فرض أن شيئًا أوجده {الله} - سبحانه وتعالى - ثم لم يحفظه، فإن ذلك الشئ يعود إلى أصله الذى كان عليه قبل أن يخلقه {الله} - سبحانه وتعالى - فيهوي في هوة العدم، ويذهب من حيث جاء، لأن الوجود ليس أصلًا في الأشياء، بل هى في أصلها كانت عدمًا، والوجود طارئ.
وذلك كما إذا رفع الإنسان بيده جسمًا ثقيلًا عن الأرض، إلى أعلى مترًا أو مترين، فإن ذلك الجسم الثقيل يظل مرفوعًا عن الأرض ما دامت يد الإنسان ممسكة به، حافظة إياه من السقوط، فإذا ما تركته يد حامله، فإنه يهوي إلى أصله الذي كان عليه قبل أن يرفعه حامله.
ومحال أن يظل معلقًا في الهواء دون يد تحفظه. وكذلك الموجودات، أخرجه {الله} - سبحانه وتعالى - من العدم، فهى تظل على وجودها ما دامت قدرة الله تمسك بها وتحفظها، فإذا ما سلب {الله} - سبحانه وتعالى - حفظه عنها فإنها تذهب إلى أصلها الذى كانت عليه قبل، فتفنى وكأن شيئًا لم يكن.
وهذا ما توضحه الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} فاطر/41، أي أن {الله} - سبحانه وتعالى - يمسك السماوات والأرض حتى لا تزولا وتفنيا، وإن ترك {الله} - سبحانه وتعالى - إمساكها
(1/150)
________________________________________
وسلب حفظه عنهما ما استطاع أحد غيره أن يمسكهما أو يحفظهما. ومثل ذلك قوله - سبحانه وتعالى - من سورة الحج: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} الحج/65، ومن أجل ذلك ذهب بعض العلماء إلى: أن إفناء الله - سبحانه وتعالى - الأشياء ليس فعلًا، بل هو سلب للفعل، أي أن {الله} - سبحانه وتعالى - حين يريد أن يفني شيئًا لا يصدر عنه فعل، وإنما فقط يسلب حفظه عن ذلك الشئ بنفسه. وقد خالف في ذلك الجمهور ونحن معه. ويدخل في الحفظ - أي حفظ {الله} - سبحانه وتعالى - الموجودات كل ما من شأنه تيسير الوسائل والأسباب التى بها يؤدي الإنسان ما افترضه {الله} - سبحانه وتعالى - عليه من عمارة الكون والانخراط في سلك الطاعة والعبادة.
5- تدبير الأمر وتصريف الآيات:
فالله - سبحانه وتعالى - ومدبر الأمور كلها ومصرف الشئون جميعها ليس أمر الوجود المطلق، أو الوجود في مجموعة، أو الوجود بصورة كلية كما يزعم الفلاسفة، لكن {الله} - سبحانه وتعالى - يدبر أمر كل كبيرة وصغيرة في الوجود، من أقصي المجرات وأعظم الأجرام والأفلاك، إلى أصغر بعوضة في الأحياء، أو ذرة رمل في الجمادات، كل ذلك يدبر {الله} - سبحانه وتعالى - أمره، ويصرف شأنه يقول {- سبحانه وتعالى - اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} الرعد/2.
6- إفناء كل شئ وعوده إلى {الله} - سبحانه وتعالى - المبدئ المعيد يقول {الله} - سبحانه وتعالى - {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} الرحمن/26-27.
7- إعادة ما يريد {الله} - سبحانه وتعالى - إعادته من الموجودات للحساب والجزاء مثوبة أو عقوبة.
(1/151)
________________________________________
يقول - سبحانه وتعالى -: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} البقرة/28.
(1/152)
________________________________________
ثانيًا: علاقة الله - - سبحانه وتعالى - - بالعلم مباشرة ولا تقوم على الوسائط:
الخلق والحفظ والتدبير والإفناء ثم البعث والحساب، كل ذلك فعل {الله - سبحانه وتعالى - ?} الخالص، وإبداعه المحض، دون وسائط أو معينين - جل الله عن ذلك. {الله} - سبحانه وتعالى - الذى يوجد الأشياء ويفنيها ويدبر الأمر كله بكلمة (كُنْ) لا يتصور أن يكون - سبحانه وتعالى - محتاجًا إلى وسائط، كما لا يتخيل أن يكون فعله على مراحل، إلا إذا كانت المرحلية أمرًا اقتضته إرادته - عز وجل -.
وقد ضلّ قوم من الفلاسفة ومن شايعهم، حيث زعموا أن {الله} - سبحانه وتعالى - لم يخلق الكون ولم يدبره بذاته - سبحانه وتعالى - وإنما كان ذلك عن طريق وسائط هم الذين خلقوا ويخلقون، وهم الذين دبروا ويدبرون وأن الله لا صلة له بشئ من ذلك، ولا علم له ولا إرادة في كل ما يجري بتفاصيله ودقائقه - سبحانه وتعالى - عمّا يصفون. إن {الله} - سبحانه وتعالى - هو خالق، ومدبر أمورهم، ومصرف شئونهم. وقد اقتضت حكمته - سبحانه وتعالى - أن يقيم هذا العالم على قوانين ثابتة، وأن يضع له نواميس وسننًا مستقرة، فقام نظام العالم على قوانين الأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات، كل ذلك حتى تستقيم أمور الخلق على أسس ثابتة، وقوانين منضبطة، وحتى يبنوا حياتهم، ويسيروا في أمور معاشهم على سنن وقوانين معروفة لهم ومألوفة لديهم. فإذا ما أرادوا تحقيق شئ سلكوا إليه سبيله، وأخذوا بأسبابه، وبخاصة في عمارة الكون، وخلافة الأرض التى خلقوا من أجلها وكلفوا بها. ولم يكن ممكنًا أن يحققوا الأهداف من خلافتهم في الأرض دون أن يكون لهذا الكون قوانين ونظم ثابتة مستقرة يأخذون بها ليصلوا إلى أهدافهم ويحققوا غاياتهم.
إن القوانين والسنن والنواميس التى خلق {الله} الكون عليها وسيَّره على مقتضاها هى من خلق {الله} سبحانه، ومن ثمّ فهى تخضع لمشيئة {الله} - سبحانه وتعالى - وإرادته، والموجودات تخضع لها وتسير على مقتضاها. ولأن هذه القوانين صنعه {الله} ومن خلقه، فإنها في يد {الله} - سبحانه وتعالى - يمضيها حين يشاء ويخرقها ويعطلها حين يشاء. وتعطيل هذه القوانين وخرقها هو من حكمه الله - سبحانه وتعالى - ليذكر الناس أنهم مربوبون له، خاضعون لسلطانه، ليسوا مربوبين أو خاضعين للطبيعة أو الكون. وحتى يتحقق
(1/153)
________________________________________
ذلك، فإن {الله} - سبحانه وتعالى - يخرق قوانين الطبيعة، ويعطل ما ألفه الناس من سننها ونواميسها بين حين وآخر ويأتي ذلك ممثلًا في معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ويأتي كذلك في مولود بثلاثة أرجل، أو برأسين وجسم واحد، أو جسمين برأس واحد. كما يأتي واضحًا في ظواهر الطبيعة، وفي أحداث بعينها لا يجد الناس لها تفسيرًا. وكم تنادى الناس هنا وهناك بقرب فناء الأرض على يد مذنَّب ينطق بسرعته الرهيبة ليصطدم بالأرض فيفنيها ومن عليها. وكم سمعنا بذلك من علماء وصفوا بأنهم موثوق بعلومهم، كما سمعنا بطوائف من الناس باعوا ما يملكون وأعدوا أنفسهم ليوم الفناء ثم يحول {الله} - سبحانه وتعالى - مسار ذلكم الجسم الهائل عن مساره لتنجو الأرض ومن عليها، ويخلف {الله} - سبحانه وتعالى - حسابات العلماء الموثوق بعلمهم. كل ذلك - وغيره كثير - يظهر فيه بوضوح شديد أن قوانين الكون هي بيد {الله} - سبحانه وتعالى - يصرفها كيف يشاء، وأن القوانين التى تحكم الناس يحكمها ويتحكم بها رب الكون والناس ورب العالمين سبحانه.
والناس تجاه الظواهر العجيبة في الطبيعة والإنسان أحد اثنين:
أما المؤمن، فحين يري خارقًا للقوانين يقول في إيمان واطمئنان وراحة بال: سبحان الله رب العالمين، مالك الملك ومدبر أمره.
وأما غير المؤمنين فلهم تعلَّات وفلسفات يرجعون بها إلى الطبيعة نفسها قائلين: لعل، ويحتمل، وقد يكون، وربما.
ويكدحون أذهانهم ليختلفوا تعلَّات وأسبابًا يسندون إليها ما يرونه خارقًا وخارجًا على سنن الطبيعة وقوانينها، كل ذلك في مكابرة وعناد، ناسين أو متناسين أن القوانين الطبيعية هى من صنع {الله} - سبحانه وتعالى -، وأن {الله} - سبحانه وتعالى - يجريها على نسقها، أو يجريها على نسق جديد أو يعطلها فذلك ملكه، وتلك إرادته ومشيئته ولا يجوز - هنا - أن يقال: كيف أو لماذا، فإن هذه القوانين تحكمنا ولا تحكم خالقها - سبحانه وتعالى -.
والقاعدة أنه مع مقنن القوانين لا قانون، ومع منمس النواميس لا ناموس، ومع مكيِّف الكيفيات لا يقال: كيف، ومع خالق العلل والأسباب لا يقال: لم أو لماذا فإن
(1/154)
________________________________________
{الله} - سبحانه وتعالى - خلق القوانين والنواميس ليخضع الخلق لها، لا ليخضع هو لها جل الله عن ذلك وتعالى علوًا كبيرًا.
إن {الله} - سبحانه وتعالى - قد جرت حكمته أن يسخر ما يشاء من الموجودات لما يشاء من الأحداث والأفعال، يستوي في ذلك الجماد والنبات، والحيوان، والإنس، الجن والملائكة. فقد سخر {الله} - سبحانه وتعالى - الماء وجعله مادة الحياة والأحياء. يقول - سبحانه وتعالى -: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} الأنبياء/30.
ويقول {اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} النور/45، وسخر {الله} - سبحانه وتعالى - الأرض، لتنبت الزرع، وسخر النبات، ليكون غذاء للحيوان، وسخر الإنسان، ليعمر الكون، ويكون عبدًا طائعا لله رب العالمين. يقول الله عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات/56، وقد اقتضت حكمة {الله} - سبحانه وتعالى - أن يسخر رسله ليكونوا سفراء بينه وبين الناس، يبلغونهم رسالاته وينذرونهم لقاءه كما سخر ملائكته ليكون منهم سفير الوحي بين {الله} - سبحانه وتعالى - وأنبيائه - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ويكون منهم كتبة الأعمال، وقبضة الأرواح، وخزنة الجنة وخزنة النار، ونافخ الصور، ونفخه الأرواح في الأجنة ن إلي غير ذلك من الوظائف والأعمال التى شاء {الله} - سبحانه وتعالى - أن يسخر للقيام بها بعض خلقه من الملائكة ولقد ضل أناس ظنوا أن الملائكة المسخرين بالقيام ببعض الأعمال من قبل {الله} - سبحانه وتعالى - إنما يقومون بذلك من تلقاء أنفسهم، وأنهم مطلقوا الأيدي يفعلون ما يشاءون وأنه لا سلطان لله - تعالى - فيما يفعلون - جل وعلا الله وتعالى عما يقولون - وبذلك أفضي بهم ضلالهم وذيغهم إلى القول بالوسائط الذين هم بين العالم الأرضي الذي نعيش فيه، وخالقه أصناف شتى، منهم الفلاسفة الذين يقولون بالعقول المجردات التي انبثقت عن المبدأ الأول - بزعمهم -، أو صدرت عنه كما تصدر الحرارة عن النار أو الضوء عن الشمس دون علم منه أو إرادة - جل الله- عما يقولون.
(1/155)
________________________________________
ومنهم أصحاب التصوف الفلسفي البدعي الذين يقسمون الوجود إلى أربعة أقسام، كل قسم يقوم على شأنه واحد من معبوداتهم يسمونه (القطب) ، وقد اشتهر لديهم أن العالم يسيِّره ويتحكم فيه (الأقطاب) الأربعة ونحن في هذا المجال - مجال الوساطة والوسطاء - لا ينبغي أن نغفل العوام الذين يتركون مالك الملك ومدبره، ثم يتوجهون بدعائهم وتوسلاتهم وأمانيهم في الشفاء والإنجاب وقضاء الحاجات إلى الأضرحة والمقامات.
كل هؤلاء وأولئك قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل.
(1/156)
________________________________________
الفصل الرابع
في الكلام على الرحمن الرحيم

أما الرحمن فهو فعلان من رحم، والرحيم فعيل منه. والعرب كثيرًا ما تبنى الأسماء من فعل يفعل على فعلان، كقولهم من غضب غضبان ومن سكر سكران ومن عطش عطشان فكذلك قولهم رحمن من رحم لأن (فَعِلَ) منه رحم يرحم وقيل: رحيم، وإن كانت عين فعل منها مكسورة لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء إذا كان فيها مدح أو ذم على فعيل وإن كانت عين فَعِلَ منها مكسورة أو مفتوحة، كما قالوا من علم عالم وعليم، ومن قدر قادر وقدير، وليس ذلك منها بناءً على أفعالها لأن البناء من (فَعِلَ يَفْعَل وفَعَلَ يَفْعَلُ) فاعل. فلو كان الرحمن والرحيم خارجين على بناء أفعالهما لكانت صورتهما الراحم.
فإن قال قائل: فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة فما وجه تكرير ذلك وأحدهما مؤدٍّ عن معنى الآخر؟
قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الأخرى منهما عنها.
فإن قال وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى؟
قيل: أما من جهة العربية فلا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب أن قول القائل الرحمن - عن أبنية الأسماء من فَعِلَ يَفْعَلِ- أشد عدولًا من قوله الرحيم. ولا خلاف مع ذلك بينهم أن كل اسم كان له أصل في (فَعِلَ ويَفْعَلِ) ثم كان عن أصله من فعل ويفعل أشد عدولًا أن الموصوف به مفضل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من (فَعِلَ ويَفْعَلِ) إذا كانت التسمية به مدحًا أو ذمًا. فهذا ما في قول القائل الرحمن من زيادة
(1/157)
________________________________________
المعنى على قوله الرحيم في اللغة. وأما من جهة الأثر والخبر ففيه بين أهل التأويل اختلاف:
قال الطبري: حدثني السري بن يحيى التميمي قال حدثنا عثمان بن زفر قال سمعت العرزمي يقول الرحمن الرحيم قال الرحمن بجميع الخلق. الرحيم قال بالمؤمنين.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن عيسى بن مريم قال الرحمن رحمن الآخرة والدنيا والرحيم رحيم الآخرة.
فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو رحمن وتسميته باسمه الذي هو رحيم.
واختلاف معنى الكلمتين وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق، فدل أحدهما على أن ذلك في الدنيا ودل الآخر على أنه في الآخرة.
فإن قال: فأي هذين التأويلين أولى عندك بالصحة؟ قيل: لجميعهما عندنا في الصحة مخرج فلا وجه لقول قائل أيهما أولى بالصحة.
وذلك أن المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن دون الذي في تسميته بالرحيم هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خلقه وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعض خلقه، إما في كل الأحوال وإما في بعض الأحوال. فلا شكّ إذا كان ذلك كذلك أن ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة أو فيهما جميعًا. فإذا كان صحيحًا ما قلنا من ذلك وكان الله جل ثناؤه قد خص عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم في توفيقه إياهم لطاعته والإيمان به وبرسله واتباع أمره واجتناب معاصيه مما خذل عنه من أشرك به فكفر وخالف ما أمره به وركب معاصيه، وكان مع ذلك قد جعل جل ثناؤه ما أعد في آجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين لمن آمن به وصدق رسله وعمل بطاعته خالصًا دون من أشرك وكفر به كان بيِّنًا أن الله قد خص المؤمنين من
(1/158)
________________________________________
رحمته في الدنيا والآخرة مع ما قد عمهم به والكفار في الدنيا من الإفضال والإحسان إلى جميعهم في البسط في الرزق وتسخير السحاب بالغيث وإخراج النبات من الأرض وصحة الأجسام والعقول وسائر النعم التي لا تحصى التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون.
فربنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خلقه في الدنيا والآخرة ورحيم المؤمنين خاصة في الدنيا والآخرة، فأما الذي عمّ جميعهم به في الدنيا من رحمته فكان رحمانًا لهم به فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه كما قال جل ثناؤه (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا) إبراهيم/34. وأما في الآخرة فالذي عمّ جميعهم به فيها من رحمته. فكان لهم رحمانًا. تسويته بين جميعهم جل ذكره في عدله وقضائه فلا يظلم أحدًا منهم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا وتُوفى كل نفس ما كسبت.
فذلك معنى عمومه في الآخرة جميعهم برحمته الذي كان به رحمانًا في الآخرة.
وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته الذي كان به رحيمًا لهم فيها كما قال جل ذكره (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) الأحزاب/ 43، فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم، فخصهم به دون من خذله من أهل الكفر به.
وأما ما خصهم به في الآخرة فكان به رحيما لهم دون الكافرين. فما وصفنا آنفا مما أعد لهم دون غيرهم من النعيم والكرامة التي تقصر عنها الأماني. وأما القول الآخر في تأويله فهو ما رواه الضحاك عن عبد الله بن عباس قال: الرحمن الفعلان من الرحمة وهو من كلام العرب. قال الرحمن الرحيم الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه. وكذلك أسماؤه كلها.
وهذا التأويل من ابن عباس يدل على أن الذي به ربنا رحمن هو الذي به رحيم وإن كان لقوله الرحمن من المعنى ما ليس لقوله الرحيم؛ لأنه جعل معنى الرحمن بمعنى الرقيق على من رقّ عليه، ومعنى الرحيم بمعنى الرفيق بمن رفق به.
(1/159)
________________________________________
والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكرناه عن العرزمي أشبه بتأويله من هذا القول الذي روينا عن ابن عباس وإن كان هذا القول موافقًا معناه معنى ذلك في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم وأن للرحيم تأويلًا غير تأويل الرحمن.
والقول الثالث في تأويل ذلك ما روي عن عطاء الخرساني قال: كان الرحمن فلما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيم.
والذي أراد إن شاء الله عطاء بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمى بها أحد من خلقه، فلما تسمّى به الكذّاب مسيلمة - وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه - أخبر الله جل ثناؤه أن اسمه الرحمن الرحيم ليفصل بذلك لعباده اسمه من اسم من قد تسمّى بأسمائه إذ كان لا يسمى أحد الرحمن الرحيم فيجمع له هذان الاسمان غيره جل ذكره؛ وإنما تسمى بعض خلقه إما رحيمًا، أو يتسمى رحمن، فأما رحمن رحيم فلم يجتمعا قط لأحد سواه ولا يجمعان لأحد غيره.
فكأن معنى قول عطاء هذا: أن الله جل ثناؤه إنما فصل بتكرير الرحيم على الرحمن بين اسمه واسم غيره من خلقه اختلف معناهما أو اتفقا.
والذي قال عطاء من ذلك غير فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خص نفسه بالتسمية بهما معًا مجتمعين إبانة لها من خلقه، ليعرف عباده بذكرهما مجموعين أنه المقصود بذكرهما دون من سواه من خلقه، مع ما في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما.
وقد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف الرحمن ولم يكن ذلك في لغتها؛ ولذلك قال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - (وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا) الفرقان/60 إنكارًا منهم لهذا الاسم.
كأنه كان محالًا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته أو كأنه لم يتل من كتاب الله قول الله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) يعني محمدًا (كَمَا يَعْرِفُونَ
(1/160)
________________________________________
أَبْنَاءهُمْ) البقرة/146 وهم مع ذلك به مكذبون، ولنبوته جاحدون. فيعلم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته واستحكمت لديهم معرفته. وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء:
ألا ضَرَبتْ تِلْكَ الفَتاةُ هَجِينهَا... ألا قَضَبَ الرَّحْمنُ رَبّي يَمِينَها
(1/161)
________________________________________
وقال سلامة بن جندل الطهوي:
عَجِلْتُمْ عَليْنَا عجْلتيْنا عليْكُمُ... ومَا يَشاء الرحْمنُ يَعْقِدْ ويُطْلِق
وقد زعم أيضًا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل وقلَّت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير أن الرحمن مجازه ذو الرحمة، والرحيم مجازه الراحم.
ثم قال: قد يقدرون اللفظين من لفظ والمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم. قال: وقد فعلوا مثل ذلك فقالوا ندمان ونديم. ثم استشهد بقول بُرْج بن مسهر الطائي:
ونَدْمانٍ يَزِيدُ الكأسَ طِيبًا... سقيْتُ وقَدْ تَغوَّرتِ النُّجُومُ
واستشهد بأبيات نظائر له في النديم والندمان. ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل لقوله: الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم. وإن كان قد ترك بيان تأويل معنيهما على صحته. ثم مثل ذلك باللفظين يأتيان بمعنى واحد فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ.
ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة وصحَّ أنها له صفة وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فانقضى ذلك منه، أو هو فيه. ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة كالدلالة على أنها له صفة إذا وصفه بأنه ذو الرحمة.
فأين معنى الرحمن الرحيم على تأويله من معنى الكلمتين يأتيان مقدرتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني؟ ولكن القول إذا كان غير أصل معتمد عليه كان واضح عواره. اهـ (1) .
__________
(1) جامع البيان (1/87) وما بعدها.
(1/162)
________________________________________
وهل الرحمن اسم أم نعت؟
قال ابن القيم -: -:
استبعد قوم أن يكون الرحمن نعتًا لله من قولنا: بسم الله الرحمن الرحيم وقالوا الرحمن علم، والأعلام لا ينعت بها. ثم قالوا: هو بدل من اسم الله قالوا: ويدل على هذا أن الرحمن علم مختص بالله لا يشاركه فيه غيره، فليس هي كالصفات التي هي العليم والقدير والسميع والبصير، ولهذا تجري على غيره تعالى. قالوا: ويدل عليه أيضًا وروده في القرآن غير تابع لما قبله كقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) طه / 5، (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) الرحمن / 2، (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ) الملك / 20، وهذا شأن الأسماء المحضة، لأن الصفات لا يقتصر على ذكرها دون الموصوف.
قال السهيلي: والبدل عندي فيه ممتنع، وكذلك عطف البيان لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين، فإنه أعرف المعارف كلها وأبينها. ولهذا قالوا: وما الرحمن ولم يقولوا: وما الله، ولكنه وإن جرى مجرى الإعلام فهو وصف يراد به الثناء، وكذلك الرحيم إلا أن الرحمن من أبنية المبالغة كغضبان ونحوه، وإنما دخله معنى المبالغة من حيث كان في آخره ألف ونون كالتثنية. فإن التثنية في الحقيقة تضعيف وكذلك هذه الصفة فكأن غضبان وسكران كامل لضعفين من الغضب والسكر فكان اللفظ مضارعاً للفظ التثنية لأن التثنية ضعفان في الحقيقة، ألا ترى أنهم أيضًا قد شبهوا التثنية بهذا البناء إذا كانت لشيئين متلازمين. فقالوا: الحكمان والعلمان وأعربوا النون كأنه اسم لشيء واحد. فقالوا: اشترك باب فعلان وباب التثنية. ومنه قول فاطمة: يا حسنان يا حسينان برفع النون لابنيها ولمضارعة التثنية امتنع جمعه فلا يقال غضابين، وامتنع تأنيثه فلا يقال غضبانة، وامتنع تنوينه كما لا ينون نون المثنى فجرت عليه كثير من أحكام التثنية لمضارعته إياها لفظاً ومعنى. وفائدة الجمع بين الصفتين الرحمن والرحيم الإنباء عن رحمة عاجلة وآجلة وخاصة وعامة تم كلامه.
(1/163)
________________________________________
قلت: أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت فإنها دالة على صفات كماله فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية. فالرحمن اسمه تعالى ووصفه لا تنافي اسميته وصفيته فمن حيث هو صفة جرى تابعًا على اسم الله، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع، بل ورود الاسم العلم. ولما كان هذا الاسم مختصًا به تعالى حسُن مجيئه مفردًا غير تابع كمجيء اسم الله كذلك، وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمن كاسم الله فإنه دال على صفة الألوهية ولم يجيء قط تابعًا لغيره، بل متبوعًا.
وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها، ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة. فتأمل هذه النكتة البديعة يظهر لك بها أن الرحمن اسم وصفة لا ينافي أحدهما الآخر. وجاء استعمال القرآن بالأمرين جميعًا.
وأما الجمع بين الرحمن الرحيم ففيه معنى هو أحسن من المعنيين اللذين ذكرهما، وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف، والثاني للفعل. فالأول دال على أن الرحمة صفته والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) الأحزاب /43، (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) التوبة / 117.
ولم يجىء قط رحمن بهم، فعلم أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب، وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم ينجل لك صورتها. اهـ (1)
وإن قال قائل: ولم قدم اسم الله الذي هو الله على اسمه الذي هو الرحمن واسمه الذي هو الرحمن على اسمه الذي هو الرحيم؟
قيل لأن من شأن العرب إذا أرادوا الخبر عن مخبر عنه أن يقدموا اسمه، ثم يتبعوه صفاته ونعوته. وهذا هو الواجب في الحكم: أن يكون الاسم مقدمًا قبل نعته
__________
(1) بدائع الفوائد (1/23 - 24) .
(1/164)
________________________________________
وصفته، ليعلم السامع الخبر عمن الخبر فإذا كان ذلك كذلك، وكان لله جل ذكره أسماء قد حرم على خلقه أن يتسموا بها خص بها نفسه دونهم، وذلك مثل الله والرحمن والخالق وأسماء أباح لهم أن يسمي بعضهم بعضًا بها، وذلك كالرحيم والسميع والبصير والكريم، وما أشبه ذلك من الأسماء؛ كان الواجب أن يقدم أسماءه التي هي له خاصة دون جميع خلقه، ليعرف السامع ذلك من توجه إليه الحمد والتمجيد ثم يتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره، بعد علم المخاطب أو السامع من توجه إليه ما يتلو ذلك من المعاني.
فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو الله لأن الألوهية ليست لغيره جل ثناؤه بوجه من الوجوه، لا من جهة التسمي به ولا من جهة المعنى. وذلك أنّا قد بينا أن معنى الله هو المعبود ولا معبود غيره جل جلاله، وأن التسمي به قد حرمه الله جل ثناؤه وإن قصد المتسمي به ما يقصد المتسمى بسعيد وهو شقي وبحسن وهو قبيح.
أَوَلا ترى أن الله جل جلاله قال في غير آية من كتابه: (أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ) فاستكبر ذلك من المقرّ به، وقال تعالى في خصوصية نفسه بالله وبالرحمن: (قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) الإسراء/110، ثم ثنى باسمه، الذي هو الرحمن إذ كان قد منع أيضًا خلقه التسمي به، وإن كان من خلقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه، وذلك أنه قد يجوز وصف كثير ممن هو دون الله من خلقه ببعض صفات الرحمة، وغير جائز أن يستحق بعض الألوهية أحد دونه، فلذلك جاء الرحمن ثانيًا لاسمه الذي هو الله.
وأما اسمه الذي هو الرحيم فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره، فكان إذ كان الأمر على ما وصفنا، واقعًا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هن توابعها بعد تقدم الأسماء عليها.
(1/165)
________________________________________
فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو الله على اسمه الذي هو الرحمن واسمه الذي هو الرحمن على اسمه الذي هو الرحيم (1) .
فهو سبحانه وتعالى رحمن بأهل الدنيا مؤمنهم وكافرهم، ورحيم في الآخرة بأهل الإيمان فقط، فهو لما رحم الكافر في الدنيا وأنعم عليه برحمته - سبحانه وتعالى - وعاش يتمتع بها وينعم، حجبها عنه يوم القيامة، إذ كان من المفترض أن يقابل الإحسان بالإحسان، فلما كفر زجحد، اعرض عنه سبحانه فلا رحمة له يومئذ، بل عذاب أليم.
والرحمة معنى واسع، فقد جاءت على أوجه كثيرة في القرآن الكريم، ذكرها السيوطي على النحو التالي:
* الإسلام: قال تعالى: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ) البقرة/105.
* والإيمان: قال تعالى: (وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ) هود/28.
* والجنة: قال تعالى: (فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) آل عمران/107.
* والمطر: قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الأعراف/57
* والنعمة: قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) النور/21.
* والنبوة: قال تعالى: (أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) ص/9.
* والقرآن: قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) يونس/58.
* والرزق: قال تعالى: (خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) الإسراء/100.
* والنصر والفتح: قال تعالى: (إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) الأحزاب/17.
__________
(1) جامع البيان (1/88) .
(1/166)
________________________________________
* والعافية: قال تعالى: (أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ) الزمر/38.
* والسعة: قال تعالى: (تخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) البقرة/178.
* والمودة: قال تعالى: (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) الحديد/27.
* والعصمة: قال تعالى: (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ) هود/43 (1) .
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن (1/304) .
(1/167)
________________________________________
ذكر سعة رحمة الله تعالى

قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر/53.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى» (1) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِى الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» (2) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» (3) .
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّى شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّى ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ لَقِيَنِى بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لاَ يُشْرِكُ بِى شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» (4) .
__________
(1) رواه البخاري (7404) .
(2) رواه البخاري (6000) .
(3) رواه البخاري (7501) .
(4) رواه مسلم (2675) .
(1/168)
يتبع بإذن الله تعالى...




كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأربعاء 02 يونيو 2021, 2:08 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ    كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Emptyالإثنين 21 مارس 2011, 6:46 am


وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا - وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا - فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ - وَرُبَّمَا قَالَ أَصَبْتُ - فَاغْفِرْ لِى فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِى. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ - أَوْ أَصَبْتُ - آخَرَ فَاغْفِرْهُ. فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِى، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا - وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا - قَالَ قَالَ رَبِّ أَصَبْتُ - أَوْ أَذْنَبْتُ - آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِى. فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِى - ثَلاَثًا - فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» (1) .
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضي الله عنه - حَدَّثَهُ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَهْوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ فَقَالَ «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِى ذَرٍّ» (2) .
__________
(1) رواه البخاري (7507) .
(2) رواه البخاري (1987) .
(1/169)
________________________________________
فوائد الرحمة والشفقة على الخلق (1)
كم في كتاب الله من الآيات، وكم في السنة من النصوص المحكمات التي فيها الحث على الرحمة والشفقة على الخلق، صغيرهم وكبيرهم، وغنيهم وفقيرهم، وقريبهم وبعيدهم، برهم وفاجرهم، بل وعلى جميع أجناس الحيوان، وكم فيها من الترغيب في الإحسان، وأن الراحمين يرحمهم الرحمن والمحسنين يحسن إليهم الديان، وأن الله كتب الإحسان على كل شئ حتى في إزهاق النفس من الإنسان والحيوان تبارك وتعالى، وشرع الله كل رحمة وحكمة وبر وفضل وامتنان، لقد وسعت رحمة الله كل شئ، وأمر بإيصال المنافع إلى كل حي أَمَا أمر بإعطاء المحتاجين وحث على إزالة الضرر عن المضرين، وعلى الحنو على الصغار والكبار وجميع العالمين؟ أما قال صلى - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ» (2) .
وقال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (3) .
أما ندبك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتحسن إلي من أساء إليك وقال (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت/34، أما أباح للمظلوم أن يأخذ حقه بالعدل وندبه إلي طريق الإحسان والفضل فقال (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ
__________
(1) بتصرف من (الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة) للعلامة عبد الرحمن السعدي.
(2) رواه الترمذي (2049)
(3) رواه مسلم (1955) .
(1/170)
________________________________________
مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) النحل/126، (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) الشورى/40.
أَمَا أمر الله بشكر نعمه المتنوعة، وجعل من أجلِّ شكره الإحسان إلى الخلق، قال بعد ما ذكر منته على نبيه بشرح صدره ووضع وزره ورفع ذكره (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ* وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) الضحى/9-11.
َمَا حثّ المتعاملين على أعلى المناهج فقال (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) البقرة/237، وهو البذل والسماح في المعاملة. أَمَا شرع عقوبة العاصين وقمع المجرمين المفسدين بالعقوبات المناسبة لجرائمهم رحمة بهم وبغيرهم ليبطرهم ولئلا يعودوا إلى ما يضرهم وردعًا لغيرهم، لهذا قال في عقوبة القتل الذى هو أكبر الجرائم (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) البقرة/179، وقال بعدما شرع قطع أيدي السارقين صيانة للأموال (جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ) المائدة/38، فالشريعة كلها مبنية على الرحمة في أصولها وفروعها، وفي الأمر بأداء حقوق الله وحقوق الخلق فإن الله لم يكلف نفسًا إلا وسعها وقال (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة/185، ولما ذكر أحوال الطهارة وتفاصليها قال (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) المائدة/6.
وإذا تدبرت ما شرعه في المعاملات والحقوق الزوجية وحقوق الوالدين والقرابة، وجدت ذلك كله خيرًا وبركة لتقوم مصالح العباد، وتتم الحياة الطيبة وتزول شرور كثيرة، لولا القيام بهذه الحقوق لم يكن عنها محيص، ثم من رحمة الله تعالى بالجميع أن من أخلص عمله منهم ونوى القيام بما عليه من واجبات ومستحبات كان قربة له إلى الله، وزيادة خير وأجر، وكان له ثواب ما كسب وأنفق وقام به من تلك
(1/171)
________________________________________
الحقوق، قال صلى - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِى فِى امْرَأَتِكَ» (1) .
فإذا كان هذا في القيام بمؤونة الجسد وتربيته، فما ظنك بثواب القيام بالتربية القلبية بتعليم العلوم النافعة والأخلاق العالية فهذا أعظم أجر وثواب قال صلى - صلى الله عليه وسلم - «لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» (2) .
كذلك رحم الله المعلمين والمتعلمين للعلوم النافعة الدينية وما أعان عليها، فالمعلمون جعل نفس تعليمهم أجلّ الطاعات وأفضلها، ثم ما يترتب على تعليمهم من انتفاع المتعلمين بعلمهم ثم تسلسل هذا النفع فيمن يعلمونه ويتعلم ممن علموه مباشرة أو بواسطة، فكل هذا خير وحسنات جارية للمعلمين ونفع مستمر في الحياة وبعد الممات قال صلى - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (3) . وكذلك رحم الله المتعلمين حيث قيض لهم من يعلمهم ما يحتاجونه في أمور دنياهم ودينهم، ويصبر على مشقة ذلك، ولهذا وجب عليهم أن يكافئوا المعلمين بالقيام بحقوقهم ومحبتهم واحترامهم وكثرة الدعاء لهم، وعلى الجميع أن يشكروا الله بما قيض لهم ويسر من الأسباب النافعة التي توصلهم إلى السعادة.
ومن رحمة هذه الشريعة توصيتها وحثها على الإحسان إلى اليتامى والمضطرين والبائسين والعاجزين والحنو عليهم والقيام بمهامهم وإعانتهم حسب الإمكان وأوصي الله ورسوله بمماليك من الآدميين والحيوانات أن يقام بكفايتهم ومصالحهم وأن لا يكلفوا من العمل ما لا يطيقون، ففي هذا رحمة للمماليك والبهائم، ورحمة أيضًا للملاك والسادة من وجهين: أحدهما أن قيامهم بما يملكون هو عين مصلحتهم ونفعه عائد
__________
(1) رواه البخاري (56) .
(2) رواه البخاري (2942) .
(3) رواه مسلم (4310) .
(1/172)
________________________________________
عليهم، فإنهم إذا قصروا عاد النقص والضرر الدنيوي على الملاك، ولهذا كثير من الملاك لولا هذا الوازع الطبيعى النفعي لأهملوا ملاكهم وبهائمهم، ولكن المصلحة الدنيوية وخوف الضرر على أنفسهم ألجأتهم إلى ذلك رحمةً من الله وجودًا وكرمًا.
الوجه الثاني: أن الملاك إذا احتسبوا في نفاقتهم على ما يملكون ونوي القيام بالواجب ورحمة المملوك والبهيمة، أثابهم الله وكفَّر بها عن سيئاتهم وزاد في حسناتهم وأنزل لهم البركة في هذه المماليك، فإن كل شئ دخلته النية الصالحة والتقرب إلى الله لابد أن تحل فيه البركة. كما أن من أهمل مماليكه وبهائمه وترك القيام بهم فاستحق العقاب.
وكل هذا من آثار الرحمة التي اشتملت عليها الشريعة الكاملة ولهذا نزع البركة منها، فكم حبس وقطع رزق من يملكه، قطع الله عنهم الرزق؛ من آوى إلى ظلها الظليل فهو المرحوم، ومن خرج عنها فهو الشقي المحروم.
لقد وسعت هذه الشريعة بحكمتها وعدلها العدو ولقد لجأ إلى حصنها الحصين كل موثق رشيد ولقد قامت البراهين أنها من أكبر الأدلة على أنها من عند العزيز الحميد، كيف لا يكون ذلك وأكبر من ذلك وقد شرعها البّر الرحيم العليم الكريم الرءوف الجواد ذو الفضل العظيم سبحانه وتعالى.
شرعها الذى هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل رحمة جميع الوالدين وحنانهم جزءً يسيرًا جدًا جدًا جدًا من رحمة الله التي أنزل بين عباده رحمة واحدة وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة فبها تترحم الخليقة كلها، حتى أن البهائم والسباع الضارية لتعطف على أولادها وتحنو عليهم حنوًا لا يمكن وصفه فلا يمكن للواصفين أن يعبروا عن جزء يسير جدًا من رحمة الله التي بثها ونشرها على العباد فتبًا لمن خرج عن رحمة الله التي وسعت كل شئ وزهد بشريعته واستبدل عن هذا المورد السلسبيل بالمرِّ الزُعاف والعذاب الوبيل، طوبى لمن كان حظه وافر من رحمة الله، ويا سعادة من ارتبط بكرم الله وسلك كل سبيل ووسيلة توصله إلى الله علمًا وعملًا وإرشادًا ونصحًا ودعوةً وإحسانًا إلى عباد الله فإنه تعالى لما ذكر أن رحمته وسعت
(1/173)
________________________________________
كل شئ ذكر أهل الرحمة الخاصة المتصلة بالسعادة الأبدية والنعيم السرمدي فقال {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} الأعراف/156.
(1/174)
________________________________________
الفصل الخامس
الخلاف الأصولي في قرآنية البسملة
وأثره في الأحكام (1)

المبحث الأول في: المسألة بين القطعية والظنية:
اختلف العلماء في وضع البسملة في أوائل سور القرآن الكريم، أهي من المسائل التي يشترط القطع في طريق إثباتها أو نفيها، ويجزم بخطأ المخالف فيها، ويلزمه التكفير، أم أنها من المسائل الظنية، التي يسوغ فيها الاجتهاد والنظر ولا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت، ولهم في ذلك قولان رئيسان:
القول الأول: أنّ المسألة قطعية، وممن قال بهذا: ابن أبي هريرة، وسليم الرازي من الشافعية، والقاضي الباقلاني، وابن الحاجب من المالكية.
ثم اختلفوا فيما بينهم، فقطع الشافعيان: بالإثبات، وقطع المالكيان بالنفي.
وصرح القاضي الباقلاني: بتخطئة المخالف دون تكفيره، وانتقد ابن تيمية ابن السبكي قول القاضي بالتخطئة (2) .
أمَّا التكفير: فذكر سليم الرازي: أنه يلزم على القول بأنها من الفاتحة قطعًا، تكفيرالنافي، وتفسيق التارك لها، وذلك فيما حكاه عنه بعض الشافعية (3) .
__________
(1) هذا الفصل مستفاد من بحث للدكتور/ موسى بن علي بن موسى فقيهي، بتصرف يسير.
(2) انظر: المستصفى 104 / 1، والإحكام 164 / 1، ومجموع الفتاوى 398 / 13،. 418
(3) انظر: المستصفى 103 - 102 / 1 والمجموع شرح المهذب 333 / 3، وتشنيف المسامع 310 / 1، 89 / 2، والغيث الهامع 0 101 / 1
(1/175)
________________________________________
وقال النووي: قال أبو علي بن أبي هريرة: هي آية من أول كل سورة غير براءة قطعًا (1) .اهـ
وجاء في تشنيف المسامع: أن العمراني حكى في زوائده عن صاحب الفروع: أنا إذا قلنا: إنها من الفاتحة قطعًا كفرنا نافيها، وفسقنا تاركها (2) .
قال الباقلاني: فإن قيل: فإذا قلتم: إن بسم الله الرحمن الرحيم ليست آية من الحمد، ولا من كل سورة هي في افتتاحها، فهل تكفرون من قال: إنها من الحمد؟
قيل له: لا... بل الواجب أن نقول: إن معتقد كونها من الحمد، ومن كل سورة أو آية منزلة مفردةٍ فاصلة بين السور، مخطئ ذاهب عن الحق... وكان بذلك متأولًا ضربًا من التأويل، لا يصيّره بمنزلة من ألحق بالقرآن ما قد علم ضرورة من دين الرسول، وباتفاق أمته أنه ليس من القرآن (3) .
وقال ابن تيمية: قطع بعض هؤلاء؛ كالقاضي أبي بكر بخطأ الشافعي، وغيره، ممن أثبت البسملة، آية من القرآن في غير سورة النمل؛ لزعمهم أن ما كان من موارد الاجتهاد في القرآن، فإنه يجب القطع بنفيه، والصواب: القطع بخطأ هؤلاء (4) .
وقال ابن السبكي: واعلم: أنّ ذكر هذه المسألة في الأصول فضول، وذهاب القاضي أبي بكر إلى أنها قطعية ضعيف....
وقول القاضي: أستخيرُ الله وأقطع بخطأ الشافعي، معترض: بأنا نبادر إلى القول بتخطئة القاضي من غير توقف، ولا تلعثم؛ لأنّ الإقدام على ذلك خير محض، وعبادة بتة... (5)
ثم قال بعد ذلك: وقد وقع في شرح القطب الشيرازي:" أنّ القاضي قال: إن الخطأ فيها إن لم يبلغ إلى حد التكفير، فلا أقل من التفسيق.
__________
(1) المجموع شرح المهذب. 333 / 3
(2) تشنيف المسامع 1/310
(3) الانتصار للقرآن 265 / 1، وانظر: المستصفى 0 103 - 102 / 1
(4) مجموع الفتاوى 1/ 265، وانظر: المستصفى 1/ 102 - 103
(5) رفع الحاجب. 89 / 2
(1/176)
________________________________________
وهذا مختلق على القاضي، معاذ الله أن يقول ذلك.
ولقد بحثت عن كلماته، ووقفت على كتابه (الانتصار لنقل القرآن) وهو من نفائس كتبه فوجدته قد أشبع القول فيه، ولم يتعرض لفسق، وسبحان الله القاضي أجل من ذلك! أو من طالع كلامه، وجده أشد الخلق تعظيماً للشافعي (1) قلت: وأنا لم أجد ما نسب للباقلاني؛ من القول بالتفسيق في مظان المسألة؛ من كتابه الانتصار (2) .
وقال ابن الحاجب: والقطع بأنها لم تتواتر في أوائل السور قرآ ناً، فليست بقرآن فيها قطعًا (3) .أهـ
أدلة القول الأول:
أمَّا القطع بالإثبات الذي ذهب إليه ابن أبي هريرة ومن وافقه، فلم أقف له على دليل؛ بل نقل النووي وغيره إنكار إمام الحرمين عليه، حيث قال: وضعف إمام الحرمين وغيره، قول من قال: إنها قرآن على سبيل القطع، قال الإمام: وهذه غباوة عظيمة من قائل هذا؛ لأن ادعاء العلم حيث لا قاطع محال (4) .
فإن قيل: فالأدلة الدالة على إثبات قرآنيتها حيثما وردت، كيف العمل بها؟
قلتُ: أولاً: تلك الأدلة لم تفد القطع عند المخالف.
ثانيًا: إذا سلم إفادتها القطع؛ فإنَّمَا نشأ ذلك القطع، عن خبر الواحد المحتف بالقرآن، لا من التواتر (5) .
وأمَّا ما حكي عن سليم الرازي، من لزوم التكفير للنافي، والتفسيق للتارك لها، على القول بأنها من الفاتحة قطعًا، فيمكن أن يجاب عنه بجوابين:
__________
(1) رفع الحاجب 89 / 2، وانظر: ما نسب إلى الباقلاني من قوله بتفسيق المخطئ لدى الرازي في التفسير الكبير1/200.
(2) انظر: الانتصار 0 266 - 206 / 1
(3) المختصر بشرح العضد. 19 / 2
(4) المجموع شرح المهذب. 333 / 3
(5) انظر: بيان المختصر 464 / 1، وتيسير التحرير 7 / 3، والغيث الهامع. 102 / 1
(1/177)
________________________________________
الأول: أن ما ذكره، مخالف لإجماع العلماء على عدم التكفير، لكل من النافي والمثبت، ولذا قال الزركشي بعد أن ساق كلامه: لكن المعروف الأول (1) .أهـ
أي: عدم التكفير.
الثاني: أن لازم المذهب ليس بمذهب، عند إمامه الشافعي، فلايصح التلازم (2) .
وأمَّا القطع بالنفي، الذي ذهب إليه الباقلاني، ومن وافقه فمن أدلته ما يلي:
أولاً: لو كانت البسملة، آية من القرآن الكريم، في غير سورة النمل، لوجب على رسول الله بيان ذلك ً بيانا، شافياً، كافياً، قاطعاً للشك، والاحتمال، موجبًا للعلم، قاطعًا للعذر، ر افعًا لاختلاف الأمة.
وأُجيب: بأنها لولم تكن من القرآن، في تلك المواضع لوجب عليه - صلى الله عليه وسلم - التصريح بأنها ليست منها؛ دفعاً للتوهم، ولأشاع ذلك، إشاعة تقطع الشك، كما هو الحال في التعوذ والتشهد، بل أولى.
ثانيًا: أن ما ليس من القرآن، من الكثرة بحيث لايمكن حصره، بخلاف ما كان من القرآن؛ فإنه ينحصر فوجب بيانه، والتضييق عليه.
وأجيب: بأنا إنَّمَا أوجبنا بيان ما يسبق إلى الفهم أنه من القرآن، وليس منه، وهذا محصور جدًا؛ بل هو أقل من بيان ما هو من القرآن (3) .
قال الغزالي: فإذا القاضي: يقول: لو كان من القرآن، لقطع الشك بنص متواتر، تقوم الحجة به.
ونحن نقول: لولم يكن من القرآن، لوجب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التصريح بأنه ليس من القرآن، وإشاعته، ولنفاه بنص متواتر، بعد أن أمر بكتبه بخط القرآن؛ إذ لا عذر في السكوت، عن قطع هذا التوهم.
__________
(1) تشنيف المسامع. 310 / 1
(2) انظر مجموع الفتاوى 306 / 5،. 2170 / 20
(3) انظر الدليلين وجوابهما في: الانتصار للقرآن 252 - 249 / 1، والمستصفى 103 - 102 / 1
(1/178)
________________________________________
فأمَّا عدم التصريح، بأنه من القرآن، فإنه كان اعتمادًا على قرائن الأحوال؛ إذكان يملي على الكاتب مع القرآن، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أثناء إملائه، لايكرر مع كل كلمة وآية أنها من القرآن؛ بل كان جلوسه له وقرائن أحواله تدل عليه، وكان يعرف كل ذلك قطعاً (1) .
وأمَّا ما نقل عن القاضي الباقلاني، من قوله بتخطئة مخالفه، فقد أجاب عنه الغزالي بقوله: والجواب: أنّا نقول: لا وجه لقطع القاضي بتخطئة الشافعي:؛ لأن إلحاق ما ليس بقرآن بالقرآن كفر، كما أنه من ألْحق القنوت، أو التشهد أو التعوذ بالقرآن، فقد كفر، فمن ألحق البسملة لم لا يكفر؟ (2) .
قلتُ: معنى هذا: أن الخطأ والكفر متلازمان، وقد انتفى الكفر بالإجماع، فلينتف القطع بالخطأ.
وأمَّا ما نسب للباقلاني، من القول بالتفسيق، فلم يثبت عنه ذلك، كما صرح به ابن السبكي، فيما سبق. ولم أقف عليه في الانتصار.
القول الثاني: أنّ المسألة ظنية، فهي من موارد الاجتهاد والنظر، وليست بقطعية وهذا قول جمهور العلماء، ومنهم الغزالي، والآمدي، والقرطبي، وابن تيمية، وابن السبكي (3) .
قال الغزالي: إن قيل: فالمسألة صارت نظرية، وخرجت عن أن تكون معلومة، بالتواتر علماً ً ضروريا، فهي قطعية أو ظنية؟.
قلنا: الإنصاف أنها ليست قطعية؛ بل اجتهادية (4) .
__________
(1) المستصفى 103 / 1.
(2) المستصفى. 103 / 1
(3) انظر المستصفي 1/ 104، والأحكام 1/ 164، والجانع لأحكام القرآن 1/ 132، ورفع الحاجب 1/87، ومجموع الفتاوى 13/ 399.
(4) المستصفى. 104 / 1
(1/179)
________________________________________
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وسواء قيل: بالقطع في النفي، أو الإثبات، فذلك لايمنع كونها من موارد الاجتهاد، التي لا تكفير، ولا تفسيق فيها، للنافي ولا للمثبت (1) .
وقال في موضع آخر: فالنِّزَاع فيها من مسائل الاجتهاد، فمن قال: هي من القرآن حيث كتبت، أو قال: ليست هي من القرآن، إلاَّ في سورة النمل، كان قوله من الأقوال التي ساغ فيها الاجتهاد (2) .
وقال ابن السبكي: وأمَّا كونها من أوائل السور، أو آية مستقلة، إلى غير ذلك فأمر اجتهادي (3) .
ثم قال: وذهاب القاضي أبي بكر، إلى أنها قطعية ضعيف. والإنصاف: أنها ظنية (4) .
وقال القرطبي: وهذا يدل على أنّ المسألة اجتهادية، لا قطعية، كما ظنه بعض الجهال، من المتفقهة، الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين، وليس كما ظن (5) .
ولأصحاب هذا القول أدلة، منها ما يلي:
أولاً: أنّ الاجتهاد، إنَّمَا هو في تعيين موضع هذه الآية، من القرآن الكريم، وأنه مرة واحدة فقط، أو مرات، وهذا أمر سائغ. ودليله: أنّ المثبت لم يكفر النافي، والنافي لم يكفر المثبت لها، بخلاف التعوذ، فمتى أنصفنا، وجدنا أنفسنا شاكين في مسألة البسملة، قاطعين في مسألة التعوذ، هذا ما ذكره كل من الغزالي والآمدي (6) .
__________
(1) المرجع السابق، نفس الجزء ص. 418
(2) مجموع الفتاوى. 399 / 13
(3) رفع الحاجب. 87 / 1
(4) المرجع السابق، نفس الجزء ص. 89
(5) الجامع لأحكام القرآن. 132 / 1
(6) انظر: المستصفى 104 / 1، الإحكام 164 / 1،.
(1/180)
________________________________________
وقال ابن السبكي: أنا أدعو القاضي أبا بكر إلى المباهلة، هل قطعه بأن البسملة ليست من القرآن، كقطعه بأن التعوذ ليس من القرآن؟ ! ونحن نجل مقداره عن أن يدعي ذلك (1) .
ويُمكن الجواب من قبل القاطعين بالنفي، كابن الحاجب: بأن عدم التكفير إنَّمَا هو لقوة الشبهة من الجانبين؛ جانب النفاة وجانب المثبتين (2) .
ثانيًا: وقوع الخلاف في قرآنيتها، في عصر الصحابة، حتى قال ابن عباس - رضي الله عنه - عندما ترك بعض الصحابة قراءتها في أول السورة:) سرق الشيطان من الناس آية من القرآن) (3) ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، قوله ذلك، فدل هذا على أنها اجتهادية (4) .
وأُجيب عن هذا: بأنه استدلال ظني، ولايقوى على مقابلة القطعي، وهو: أنها لو كانت قرآناً لتواترت (5) .
فإن قيل: فما الفصل في هذه المسألة، وقد اعترض كل فريق على أدلة خصمه؟.
قلتُ: هذا دليل آخر، يرجح القول بأنها ظنية، فلو كانت قطعية، لما وصل الخلاف فيها إلى هذه المنْزلة؛ بخاصة إذا علمنا أن القطع، والظن مِمَّا يختلف فيه الناس، بحسب ما يصل إليهم، من الأدلة، وبحسب قدرة كل منهم، على الاستدلال، فكون المسألة قطعية، أو ظنية، هو أمر إضافي، بحسب حال الناظر، المستدل، المعتقد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (6) .
__________
(1) رفع الحاجب. 90 / 2
(2) انظر: منتهى الوصول والأمل ص. 33
(3) الأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 50 / 2 عن عمر بن ذر عن أبيه عن ابن عباس، وهو منقطع.
(4) انظر: المستصفى 104 / 1، والإحكام 163 / 1.
(5) انظر: منتهى الوصول والأمل ص 33، وبيان المختصر 0 466 / 1
(6) مجموع الفتاوى 211 / 19 بتصرف.
(1/181)
________________________________________
وقال الإمام الرازي: والذي عندي فيه أن النقل المتواتر ثابت، بأن بسم الله الرحمن الرحيم، كلام أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - وبأنه مثبت في المصحف... إلاَّ أنه حصل فيها أحكام شرعية؛ هي من خواص القرآن؛ مثل: أنه هل يجوز للجنب قراءتها أم لا؟ وهل يجوز للمحدث مسها أم لا؟ ومعلوم أن هذه الأحكام اجتهادية، فلما رجع حاصل قولنا: إن التسمية هل هي من القرآن؟ إلى ثبوت هذه الأحكام، وعدمها، وثبت أن ثبوت هذه الأحكام، وعدمها أمور اجتهادية ظهر أن البحث اجتهادي، لا قطعي، وسقط تهويل القاضي (1) .
فإن قلت: في كلام الرازي إثبات للأصول بالفروع.
قلتُ: وإن سلم هذا فيحسن معضد لما سبق، والله أعلم.
__________
(1) التفسير الكبير. 201 / 1
(1/182)
________________________________________
المطلب الأول
تحرير محل لنزاع في المسألة
لا خلاف بين العلماء في: أن البسملة قرآن في نفسها، فهي بعض آية في سورةالنمل في قوله تعالى (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) النمل/30 باتفاق العلماء. ولا خلاف بينهم، أنها ليست آية من سورة براءة. ولا خلاف أنها قد نقلت كتابة في المصحف، نقلاً متواترًا.
وأنها قد كتبت بين كل سورتين، من سور القرآن الكريم، ما عدا سورتي الأنفال وبراءة.
واختلفوا: في قرآنيتها في كل موضع كتبت فيه بين سورتين، وإن شئت فقل في أوائل السور أهي آية من كتاب الله تعالى أم ليست بآية منه (1) .
وأقوال العلماء يأتي بيانها بعد هذا المطلب.
قال الجصاص: لا خلاف بين المسلمين، أن بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن، في قوله تعالى (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) النمل/30 ثم اختلفوا في أنها من فاتحة الكتاب... ثم اختلف في أنها آية من أوائل السور، أو ليست بآية منها (2) .
وقال ابن العربي: اتفق الناس على أنها آية من كتاب الله تعالى في سورة النمل، واختلفوا في كونها في أول كل سورة (3) .
__________
(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص 9 - 8 / 1، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 1، والمستصفى 104/1، والإحكام للآمدي 164 / 1، وهامش رقم 1 من تعليق الشيخ عبدالرزاق عفيفي، والمجموع شرح المهذب 333 / 3، والجامع لأحكام القرآن 127 / 1، وتفسير القرآن العظيم 16 / 1، والفتاوى الكبرى 182 / 2، وأصول ابن مفلح 2309 / 1، والتحبير شرح التحرير 1371 - 1368 / 3، وفواتح الرحموت. 14 / 2
(2) أحكام القرآن. 9 - 8 / 1
(3) أحكام القرآن. 2 / 1
(1/183)
________________________________________
وقال الآمدي: الاختلاف فيما نحن فيه، لم يقع في إثبات كون التسمية من القرآن الكريم، في الجملة... وإنَّمَا وقع في وضعها آية، في أوائل السور (1) .
وقال المرداوي: والبسملة بعض آية في سورة النمل إجماعاً، فهي قرآن قطعاً، وليست في أول براءة إجماعاً... وأمَّا حكم البسملة في غير ذلك؛ فالصحيح الذي عليه أكثر العلماء... أنها قرآن (2) .
__________
(1) الإحكام1/164
(2) التحبير شرح التحرير. 1371 - 1368 / 3
(1/184)
________________________________________
المطلب الثاني في: القول الأول وأدلته
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى في: حقيقة القول الأول:
القول الأول: إنها آية من القرآن الكريم، مفردة كأنها سورة قصيرة، نزلت للفصل بين سور القرآن الكريم؛ ليست من الفاتحة ولا من غيرها، وهذا هو الصحيح عن الإمامين أبي حنيفة النعمان، وأحمد بن حنبل، وجمهور أصحابهما، ونسب للإمام الشافعي، وهو خلاف المشهور عنه.
قال السرخسي: الصحيح من المذهب عندنا: أنّ التسمية آية منْزلة من القرآن، لا من أول السورة، ولا من آخرها؛ ولهذا كتبت للفصل بين السور، في المصحف بخط على حدة (1) .
وقال البخاري: قلنا: الصحيح من المذهب: إنها من القرآن الكريم؛ ولكنها ليست من كل سورة عندنا؛ بل هي آية منْزلة للفصل بين السور (2) .
وقال ابن قدامة: وروي عن أحمد: أنها ليست من الفاتحة، ولا آية من غيرها... واختلف عن أحمد فيها، فقيل عنه: هي آية مفردة، كانت تَنْزل بين سورتين، فصلاً بين السور (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما: أنها من القرآن حيث كتبت البسملة، وليست من السورة (4) .
وقال في موضع آخر بعد أن ذكر هذا القول: وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في المسألة (5) .
__________
(1) أصول السرخسي. 280 / 1
(2) كشف الأسرار. 23 / 1
(3) المغني. 152 - 151 / 2
(4) مجموع الفتاوى. 418 / 13
(5) المرجع السابق، نفس الجزء ص. 399
(1/185)
________________________________________
وقال المرداوي: قال أبو بكر الرازي الحنفي: هي آية مفردة أنزلت للفصل بين السور... قلتُ: وهذا منصوص الإمام أحمد، وعليه أصحابه (1) .
وقال الزركشي بعد أن نقل كلام الجصاص السابق بنصه: وسيأتي عن رواية الربيع عن الشافعي ما يقتضيه.
ثم قال: عن الربيع بن سليمان، سمعت الشافعي يقول: أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم، وأول البقرة آلم (2) .
قلت: أخذ الزركشي من قول الشافعي: " وأول البقرة آلم أنها للفصل بين السور وفي هذا نظر مع قوله: أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم.
فإن قيل: فما القول فيما نسب إلى الإمام أبي حنيفة، من أنها ليست آية من القرآن، إلا ما جاء في سورة النمل؟
قلت: لم أقف على هذه النسبة فيما اطلعت عليه، من كتب الحنفية، وقد نسب إليه ذلك بعض العلماء من غيرهم (3) .
وقد أجاب على هذا السؤال، صاحب شرح التلويح على التوضيح، حيث قال: وأما التسمية، فالمشهور من مذهب أبي حنيفة: على ما ذكر في كثير من كتب المتقدمين، أنها ليست من القرآن، إلا ما تواتر بعض آية من سورة النمل... إلا أن المتأخرين، ذهبوا إلى أن الصحيح من المذهب: أنها في أوائل السور، آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور (4) .
فأنت ترى: أنه قد صحح ما سبق الجزم به عنه.
__________
(1) التحرير شرح التحبير. 1374 / 3
(2) تشنيف المسامع. 309 / 1
(3) انظر: المغني في الفقه 0 15151 / 2
(4) شرح التلويح على التوضيح 0 47 / 1
(1/186)
________________________________________
المسألة الثانية في: أدلة القول الأول:
استدل للقول الأول بأدلة منها ما يلي:
أولاً: ما روي عن ابن عباس م كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لايعرف فصل السورة، حتى ينْزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم (1) .
وجه الدلالة: دلّ الأثر على أنها، آية من القرآن الكريم، حيث كتبت فيه بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ودلّ على أنها موضوعة للفصل بين السور، وأنها ليست من السور، ولا حاجة إلى أن تتكرر مع كل سورة (2) .
واعترض عليه بالآتي:
أولاً: إذا كانت قد نزلت للفصل بها بين السورة والتي قبلها، فينبغي أن يفصل بها بينهما بتلاوتها، على حسب موضوعها (3) .
وأُجيب عليه: بأن ذلك غير واجب؛ لأنّ الفصل قد عرف بمجرد نزولها، وإنَّمَا الحاجة لها في الابتداء بها، تبركاً، وقد وجد ذلك في ابتداء الصلاة، فجاز الاكتفاء به.
واعترض ثا نيًا: بأنها لو كانت للفصل فقط، لما حسن كتابتها في أول الفاتحة، ولفصل بها بين براءة والأنفال (4) .
ثالثًا: أنه يُمكن الاكتفاء بتراجم السور، في الفصل بين سورة وأخرى، كما حصل بين براءة والأنفال (5) .
__________
(1) الأثر أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: من جهر بالبسملة 499 / 1 عن ابن عباس بهذا اللفظ وسكت عنه. وأخرجه الحاكم في المست درك 232 / 1 عن ابن عباس ثم قال: " هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، وقال الذهبي في التلخيص ": 231 / 1 أمَّا هذا فثابت ". وانظر: نصب الراية. 327 / 1
(2) انظر: الدليل ووجه الدلالة منه في: أحكام القـ ـرآن 14 / 1، والإحكام في أصول الأحكام / 1 163، وكشف الأسرار 23 / 1، وتفسير القرآن العظيم 16 / 1، وفواتح الرحموت. 14 / 2
(3) الاعتراض والجواب عنه من أحكام القرآن 14 / 1 بتصرف.
(4) انظر: المجموع شرح المهذب 0 336 / 3
(5) انظر المرجع السابق نفس الموضع.
(1/187)
________________________________________
رابعًا: أنّ في إثباتها في المصحف، لمجرد الفصل وليست بقرآن، تغريرًا لايجوز ارتكابه.
ثانيًا: وهو دليل على أنها ليست من الفاتحة، ما روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِى عَبْدِى وَإِذَا قَالَ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَىَّ عَبْدِى. وَإِذَا قَالَ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) . قَالَ مَجَّدَنِى عَبْدِى فَإِذَا قَالَ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . قَالَ هَذَا بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) . قَالَ هَذَا لِعَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ» (1) .
وجه الدلالة: دلّ الحديث على أن البسملة ليست آية من الفاتحة، وإلاَّ لعدها وبدأ بها؛ فلو كانت منها لما تحقق التنصيف في القسمة؛ بل يكون ما لله تعالى أكثر مِمَّا للعبد، فآيات الثناء أربع آيات، ونصف، وآيات الدعاء آيتان ونصف، وهذا خلاف تصريح الحديث بالتنصيف.
واعترض على الاستدلال بهذا الحديث باعتراضات:
أولها: أنه معارض برواية الدارقطني والبيهقي فلفظها: يقول عبدي: إذا افتتح الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم فيذكرني عبدي (2) .
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم في كت اب: الصلاة، باب: باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة 9 / 2 عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بهذا اللفظ الموجود.
(2) انظر الاعتراض برواية الدارقطني في: المغني، 153 - 152 / 2،: والمجموع 338 / 3، ونصب الراية 1/ 139 - 140.
ثم هذه الرواية أخرجها الدارقطني في سننه، في كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة 312 / 1 ثم قال: " ابن سمعان هو: عبدالله بن سمعان بن زياد، متروك الحديث، وروى هذا الحديث جماعة من الثقات... فلم يذكر أحد منهم في حديثه بسم الله الرحمن الرحيم، واتفاقهم على خلاف ما رواه ابن سمعان أولى بالصواب ".
وفي نصب الراية ": 340 / 1 وزيادة البسملة في حديث العلاء باطلة قطعاً، زادها ابن سمعان خطأً أو عمد " ثم ذكر في نفس الموضع: أنّ الإمام مالك ويحيى بن معين وأبا داود قالوا عنه: كان من الكذابين. كما قال عنه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي: متروك الحديث.
(1/188)
________________________________________
وجه الدلالة: أن الرواية قد صرحت بذكر البسملة، فتكون آية من الفاتحة.
وأُجيب عنه: بأنه لايحتج بهذه الرواية؛ لضعف سندها؛ لأنّ فيه عبدالله بن زياد بن سمعان؛ وهو متروك الحديث صرح بهذا الدارقطني (1) .
ثانيها: إنَّمَا لم تذكر البسملة في الحديث؛ لاندراجها في الآيتين بعدها (2) .
وأُجيب بجوابين:
الأول: بمنع اندارجها فيما بعدها، مع كونها آية كاملة بنفسها، كما تقولون.
الثاني: أنّ بسم الله وإن كان فيه ثناء الله تعالى، لكنه اسم مختص به عزّوجل، لايسمى به غيره، فوجب أن يكون مذكور في القسمة، فبطل ما قلتم (3) .
ثالثها: أنّ المعنى: فإذا انتهى العبد في قراءته إلى (الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَا لَمِينَ) فتكون البسلمة حينئذٍ داخلة (4) .
قلتُ: ويُمكن الجواب على هذا: بأنه تأويل بعيد، لايقبله نص الحديث.
رابعها: أنّ المقسوم ما يختص بالفاتحة، من الآيات الكاملة، وأمَّا البسملة فغير مختصة (5) .
قلتُ: ويجاب عنه: بأنه خلاف الصحيح من مذهبكم؛ وهو: أنها آية كاملة برأسها، وليست مع ما بعدها آية.
__________
(1) انظر: سنن الدارقطني 312 / 1، والمغني 153 - 152 / 3، والمجموع شرح المهذب. 338 / 3
(2) راجع: المجموع، الموضع السابق.
(3) انظر الجوابين في: أحكام القرآن. 9 / 1
(4) المجموع 338 / 3 بتصرف يسير.
(5) المرجع السابق نفس الموضع بتصرف يسير.
(1/189)
________________________________________
خامسها: منع إرادة حقيقة التنصيف؛ بل المراد: أنّ الفاتحة قسمان، أولها لله تعالى وآخرها للعبد (1) .
قلتُ: ويُمكن الجواب: بأن فيما ذكرتم صرفًا للفظ عن حقيقته دون صارف.
سادسها: أنّ المراد بالتنصيف قسمان: الثناء، والدعاء (2) .
سابعها: لعل المراد تقسيم الفاتحة باعتبار الحروف؛ لأنها إذا قسمت باعتبار الحروف والكلمات، لاالآيات، والبسملة منها، كان التنصيف في شطريها، أقرب مِمَّا لو قسمت بحذف البسملة (3) .
قلتُ: وفي هذا وما قبله تمحل ظاهر، وليّ لعنق النص.
ثامنها: لعله - صلى الله عليه وسلم - قد قال ذلك قبل نزول البسملة، فقد كانت تنْزل عليه الآيات فيقول: ضعوها في مكان كذا وكذا (4) .
قلتُ: وهو احتمال ضعيف؛ يعارضه حديث ابن عباس م كان لايعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينْزل عليه جبريل ÷ ببسم الله الرحمن الرحيم - مع استحضار أنّ أول ما نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق) -.
الدليل الثالث: ما رواه أبو هريرة عنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ سُورَةً فِى الْقُرْآنِ ثَلاَثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ (تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ) » (5) .
__________
(1) المرجع السابق، نفس الجزء ص 339 باختصار.
(2) السابق نفسه.
(3) السابق نفسه.
(4) المجموع 338 / 3 بتصرف يسير.
(5) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: في عد الآي 119 / 2 بهذا اللفظ. والترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب: ماجاء في فضل سورة الملك 164 / 5 وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه في كتاب الأدب، باب: ثواب القرآن 1244 / 2، وكلهم عن أبي هريرة. كما أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب التفسير، باب: تفسير سورة الملك 498 - 497 / 2وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وصححه الذهبي أيضا في نفس الموضع، وانظر: التلخيص الحبير 234 / 1 فقد ذكر أن له شاهد.
(1/190)
يتبع إن شاء الله تعالى...



كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ    كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Emptyالإثنين 21 مارس 2011, 6:49 am


وجه الدلالة: دلّ الحديث على أنّ البسملة: ليست آية من أول السورة، وإلاَّ لكانت إحدى وثلاثين آية، وقد اتفق القراء وغيرهم، على أنها ثلاثون آية، غير البسملة فثبت المطلوب (1) .
واعترض على هذا الاستدلال بما يلي:
أولاً: أنّ البسملة مع ما بعدها آية، من أول كل سورة، ٍ فلا إشكال حينئذ (2) .
وأُجيب: أنّ هذا لايستقيم على الصحيح من مذهبكم؛ وهو: أنها آية مستقلة بنفسها.
ثانيًا: سلمنا ما ذكرتم، فالعد محمول على ما يخص السورة، أمَّا البسملة فغير مختصة بهذه السورة؛ بل هي كالشيء المشترك فيه بين جميع السور، ولهذا لم تعد (3) .
ثالثًا: ويحتمل أن يكون تركهم لعدها، لوضوحها وشهرتها عندهم - كما ترك ابن مسعود - رضي الله عنه - إثبات المعوذتين في مصحفه (4) لشهرتهما بخلافها في سورة النمل لأنّ ما قبلها وما بعدها تتمة لها (5) .
ويُمكن الجواب عن هذين الاعتراضين: بأنه يلزمكم أن تقولوا في الفاتحة: إنها ست آيات، لا سبع آيات، وهو باطل، فبطل ما ذكرتم من الاعتراضين (6) .
__________
(1) انظر الدليل ووجه الدلالة منه في: أحكام القرآن 11 / 1، والانتصار 1/ 263، والمغني. 153 / انظر: البرهان الكاشف عن
(2) إعجاز القرآن ص 73، والتفسير الكبير 208 / 1، والمجموع شرح المهذب 3/339.
(3) انظر: البرهان الكاشف عن اعجاز القرآن الموضع السابق 0
(4) الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده في كتاب: فضائل القرآن رقم ((10261 بلفظ: حدثنا وكيع عن ابن عون عن ابن سيرين قال: كان ابن مسعود لا يكتب المعوذتين. وأما التنصيص على أنه تركهما لشهرتهما فهذا لم أقف عليه 0 والله أعلم
(5) انظر: أحكام القرآن 11 / 1، والبرهان الكاشف عن إعجاز القرآن، الموضع السابق.
(6) انظر: أحكام القرآن، الموضع السابق.
(1/191)
________________________________________
رابعًا: يحتمل أن يكون الحديث قد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل نزول البسملة، فلما نزلت، أضيفت إلى السورة، بدليل كتابتها في المصحف.
ويؤيد هذا التأويل: أن راوي الحديث؛ وهو أبو هريرة - رضي الله عنه - يثبتها، فيكون أعلم بتأويله من غيره (1) .
ويُمكن الجواب: بأن مذهب القوم الأخذ برواية أبي هريرة، لا بفعله، كما حصل في حديث (غسل الإناء من ولوغ الكلب (فكيف العدول هنا (2) .
الدليل الرابع: ما أورده أبوبكر الرازي بسنده أن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قلتُ لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين وإلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموها في السبع الطوال، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال عثمان: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يَنْزل عليه الآيات فيدعو بعض من كان يكتب له، فيقول: ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، ويَنْزل عليه الآية والآيتان، فيقول مثل ذلك، وكانت الأنفال من أول ما نزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها، فمن هناك وضعتهما في السبع الطوال، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم (3) .
وجه الدلالة: قال الجصاص بعد أن ساق الأثر: فأخبر عثمان أن بسم الله الرحمن الرحيم لم يكن من السورة، وأنه كان يكتبها في فصل السورة بينها وبين غيرها لاغير (4) .
__________
(1) انظر: المجموع شرح المهذب. 340 / 3
(2) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي. 185 / 3
(3) الأثر أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم. 498 / 1 وأخرجه الترمذي في كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة 273 - 272 / 5 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) الدليل ووجه الدلالة منه في: أحكام القرآن. 10 / 1
(1/192)
________________________________________
الدليل الخامس: إجماع العلماء؛ من الفقهاء، وقراء الأمصار، وغيرهم على أن سورة الكوثر ثلاث آيات، وسورة الإخلاص أربع آيات، فلو كانت بسم الله الرحمن الرحيم من السورة، لكانت سورة الكوثر أر بعًا، وسورة الإخلاص خمسًا (1) .
فإن قيل: إَّنما لم يعدوا البسملة، وعدوا سواها؛ لأنه لا إشكال فيها عندهم (2) .
قلنا: لو كان الأمر كذلك، لما جاز لهم أن يقولوا: سورة الكوثر ثلاث آيات، وسورة الإخلاص أربع آيات؛ لأنّ الثلاث، والأربع بعض السورة، ويجب أيضًا على هذا أن يقولوا: إن الفاتحة ست آيات، لا سبع (3) .
الدليل السادس: لو كانت البسملة من أوائل سور القرآن، بما فيها الفاتحة، لعرف ذلك كافة الناس، ولم يحصل فيه خلاف؛ لأنّ مواضع الآيات، تجري مجرى الآيات أنفسها، في أنها لا تثبت إلاَّ بالنقل المتواتر، فلما لم ينقل ذلك بطريق التواتر، لم يجز إثبات أنها آية من أول كل سورة (4) .
واعترض على هذا: بأن جميع ما في المصحف، قد نقل إلينا على أنه القرآن، بهذا النظام والترتيب، وهذا كاف في إثبات أنها من السور، في مواضعها المذكورة في المصحف (5) .
وأُجيب: أنّ المنقول إلينا كتابتها في أوائل السور، ولم ينقل إلينا أنها من السور، والخلاف بيننا؛ إنَّمَا هو في كونها من السور المكتوبة في أوائلها، ونحن لاننكر كونها من القرآن، بل نقول هي منه في هذه المواضع، لكن ليست من نفس السورة المكتوبة معها، فإيصالها بالسورة في الكتابة، وقراءتها معها، لايوجب أن تكون منها؛ فالقرآن كله متصل بعضه، ولا يلزم من ذلك، أن يكون كله سورة واحدة (6) .
__________
(1) انظر: المرجع السابق، نفس الجزء ص 11 والانتصار 263 / 1، والمغني. 153 / 2
(2) انظر: أحكام القرآن. 11 / 1
(3) انظر: المرجع السابق، نفس الموضع.
(4) انظر: أحكام القرآن 10 / 1، والمغني. 153 / 2
(5) انظر: أحكام القرآن السابق، وتيسير التحرير. 7 / 2
(6) انظر: أحكام القرآن، الموضع السابق.
(1/193)
________________________________________
الدليل السابع: أنه قد تواتر ترك نصف القرآء قراءتها؛ لأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك قراءتها في أوائل السور، ولا وجه عند قصد قراءة سورة، أن يترك أولها، فلزم من ذلك أن لاتكون جزء منها (1) .
واعترض على هذا: بأنه مقابل بتواتر قراءة الباقي من القراء لها عنه - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على أنها من السور.
وأُجيب عنه: بالمنع؛ أي منع استلزام كون التسمية من السورة، عند قراءتها معها وإنَّمَا كان ذلك للتبرك؛ لتجويزه - صلى الله عليه وسلم - الاستفتاح، كما أجاز الاستعاذة.
فإن قيل: فكيف العمل حينئذ في التواترين؛ تواتر تركه - صلى الله عليه وسلم - قراءتها في أوائل السور، وتواتر قراءتها فيها؟.
قلتُ: قد أثار هذا السؤال صاحب تيسير التحرير من الحنفية ثم أجاب عنه: بأن ذلك جائز باعتبار الأوقات، تعليماً للجواز وعدم الجزئية (2) .
الدليل الثامن: إفرادها بسطر مستقل على حدة، بين سور القرآن الكريم، في المصحف غير موصولة بالسور، كيلا يتوهم أنها منها، يدل على أنها قد أنزلت للفصل بين السور.
كذا قاله السمرقندي من الحنفية وابن قدامة من الحنابلة (3) .
__________
(1) انظر: التقرير والتحبير 216 / 2، وتيسير التحرير 8 / 2، وفواتح الرحموت. 14 / 2
(2) تيسير التحرير 8 / 2 بتصرف.
(3) انظر: المغني 153 / 2، وميزان الأصول ص. 78
(1/194)
________________________________________
المطلب الثالث في القول الثاني وأدلته، وفيه مسألتان

المسألة الأولى: في حقيقة القول الثاني:
القول الثاني: إنها ليست من القرآن الكريم، إلَّافي سورة النمل، لا من الفاتحة، ولا من غيرها، لا للفصل بين السور، ولا للوصل، وإنَّمَا هي للتبرك فقط، هذا مذهب الإمام مالك، وأصحابه؛ ومنهم القاضي الباقلاني، وابن الحاجب.
وقد نسب هذا القول إلى الإمام أبي حنيفة، كما أنه رواية عن الإمام أحمد، لكن الصحيح عنهما الأول.
قال الباقلاني: وأما بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها عندنا ليست ثابتة من فاتحة الكتاب، ولا هي فاتحة كل سورة، وان كانت قرآنا في سورة النمل (1) .
وقال في موضع آخر: واعلموا وفقكم الله: أن الذي نختاره ونذهب إليه: أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست بآية من الحمد، ولا من سورة سوى النمل، فإنها قرآن من جملتها، وأن القطع بذلك واجب، وأنه لا حجة في شيء مما قدمناه عن القوم، قاطعة على أنها آية من القرآن مفردة، فاصلة بين السورتين، ولا على أنها من جملة كل سورة (2) .
وقال ابن الحاجب: والحق: أنها ليست من القرآن في أوائل سوره أصلاً، وإنَّمَا هي بعض آية في النمل خاصة (3) .
وقال القرطبي: وجملة مذهب مالك وأصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب، ولا غيرها... هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه (4) .
__________
(1) الانتصار 0 206 / 1
(2) المرجع السابق نفس الجزء ص220. وانظر كذلك ص249، 251 ـ 252 منه.
(3) منتهى الوصول والأمل ص. 33
(4) الجامع لأحكام القرآن. 132 / 1
(1/195)
________________________________________
وقال ابن قدامة: وروى عن أحمد أنها ليست من الفاتحة، ولا آية من غيرها، ولايجب قراءتها في الصلاة، وهي المنصورة عند أصحابه، وقول أبي حنيفة ومالك...واختلف عن أحمد فيها، فقيل عنه: هي آية مفردة... وعنه: إنَّمَا هي بعض آية من سورة النمل (1) .
وقال المرداوي: وذهب مالك وأصحابه... إلى أنها ليست بقرآن بالكلية، وقال بعض الحنفية، وروى عن أحمد، لكن قال ابن رجب...: في ثبوت هذه الرواية عن أحمد نظر (2) .
المسألة الثانية: في أدلة القول الثاني:
واستدل المالكية بأدلة منها ما يلي:
الدليل الأول: لو كانت البسملة آية من القرآن الكريم، فيما عدا سورة النمل، لبين ذلك رسولُ الله بيانا شافيًا، كافيًا، قاطعًا للشك، مزيلًا للريب، ر افعًا للاختلاف، ودخول الشبهة على أحد من الأمة، أمَّا وهي مختلف فيها، فهي كالقراءة الشاذة، ليست بقرآن (3) .
وأُجيب من قبل الشافعية على هذا الدليل بأجوبة:
__________
(1) المغني. 152 - 151 / 2
(2) التحبير شرح التحرير. 1376 - 1375 / 3 وانظر هذا القول أيضًا في كتاب الكافي في فقه أهل المدينة 201 / 1، والمستصفى 102 / 1، وبداية المجتهد 156 / 1، وأصول الفقه لابن مفلح 1/309.
(3) انظر: الانتصار 250 - 249 / 1، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 1، والمستصفى 102 / 1، والإحكام 164 / 1، والمجموع شرح المهذب 3/338.
(1/196)
________________________________________
الأول: أن عدم التصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأنها آية من القرآن، اكتفاءً بقرائن الأحوال، الدالة على قرآنيتها؛ ومنها: إملاؤها على كتابه مع القرآن، وكتابتهم لها بنفس خط القرآن، ولم يكن يكرر مع كل آية أنها من القرآن، اكتفاءً بقرائن الحال (1) .
الثاني: لولم تكن من القرآن، لوجب عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يبين ذلك، بيانًا شافيًا، كافيًا قاطعًا للشك والتوهم، كما صنع في التعوذ، بل أولى بالبيان منه (2) .
الدليل الثاني: أنّ القرآن الكريم لايثبت إلَّا بطريق قطعي متواتر، والدليل القطعي أنها لم تتواتر؛ حيث قضت العادة بتواتر تفاصيل مثل ذلك (3) .
وأُجيب عنه بما يلي:
أولًا: أنّ ثبوتها في المصحف، مع عناية الصحابة بتجريده من كل ما سواه، في معنى المتواتر.
ثانيًا: أن التواتر إنَّمَا يشترط في ثبوت القرآن القطعي، أمَّا القرآن الحكمي العملي، فلايشترط في ثبوته التواتر، ونحن نقول: إن البسملة آية فيما عدا النمل حكمًا (4) .
الدليل الثالث: لو كانت آية من القرآن الكريم، لكفر جاحدها، كما وجب الكفار جاحد آية الدين، أو غيرها، من آيات السور المعلومة من الدين بالضرورة أنها قرآن، ولايكفر جاحد كونها آية بالإجماع (5) .
وأُجيب بجوابين:
الأول: أنها لولم تكن قرآ نًا لكفر مثبتها.
الثاني: أن الكفر لايكون إلَّا بإنكار القطعي، ومسألة البسملة ظنية لا قطعية (6) .
__________
(1) انظر: المستصفى، نفس الجزء ص 103، والمجموع الموضع السابق 0
(2) انظر: المستصفى 103 / 1، والإحكام 0 164 / 1
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن 131 - 129 / 1، ومنتهى الوصول والأمل ص33.
(4) انظر: المجموع شرح المهذب. 338 / 3
(5) انظر: الانتصار 266 / 1، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 1، والمجموع. 335 / 3
(6) انظر: أحكام القرآن، نفس الموضع، والمجموع شرح المهذب. 340 / 3
(1/197)
________________________________________
الدليل الرابع: أنّ أهل العدد مجمعون، على ترك عدها آية بنفسها من كل سورة، فلو كانت آية من القرآن الكريم لعدوها (1) .
وأُجيب عنه بجوابين:
الأول: أنّ أهل العدد ليسوا جميع الأمة، لكي يكون إجماعهم حجة؛ بل هم بعض الأمة، ولم يعدوها؛ إمَّا لاعتقادهم أنها مع أول السورة آية، فتكون بعض آية، أو لأن بعضهم يجحد قرآنيتها مطلقاً، وبعضهم يراها بعض آية.
الثاني: أنّ هذا الدليل معارض بما ورد عن ابن عباس وغيره من تركها فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية (2) .
الدليل الخامس: أنّ مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة انقضت عليه العصور ومرت عليه الأزمنة والدهور، من عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عصر مالك: ولم يقرأ أحد فيه قط بسم الله الرحمن الرحيم تباعاً للسنة، فكان ذلك إجماعًا من أهل المدينة (3) .
وأُجيب: بمنع الإجماع، بل قد اختلف أهل المدينة في ذلك، بدليل قصة معاوية - رضي الله عنه - حين تركها في الصلاة، فأنكر عليه الصحابة من المهاجرين والأنصار، فرجع إلى الجهر بها (4) .
__________
(1) انظر: الضياء اللامع شرح جمع الجوامع. 33 / 2
(2) انظر الجوابين في: المجموع الموضع السابق. ولم أقف على تخريج الأثر.
(3) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1، والجامع لأحكام القرآن. 132 / 1
(4) انظر: أحكام القرآن للجصاص 15 / 1، والمجموع شرح المهذب 140 / 3، وتفسير ابن كثير1/16. وأما قصة معاوية رضي الله عنه، فقد أخرجها الحاكم في المستدرك 233 / 1 كتاب: الصلاة، باب: التأمين حديث: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ:" صلى معاوية بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، للسورة التي بعدها، حتى قضى تلك القراءة، فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار من كل مكان: يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن وكبر حين هوى ساجد". ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم؛ فقد احتج بعبد المجيد بن عبدالعزيز، وسائر الرواة متفق على عدالتهم ووافقه الذهبي.
(1/198)
________________________________________
فإن قلت: قد استدل القرطبي في تفسيره بحديث: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين..." فلِمَ لَمْ تذكره هنا.
قلتُ: قد سبق ذكره في أدلة الحنفية والحنابلة، والقرطبي لم يورده دليلًا على النفي مطلقًا؛ بل على نفي أنّ البسملة ليست آية من الفاتحة كمذهب الحنفية والحنابلة، حيث قال: فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى... أن البسملة ليست بآية منها (1) .اهـ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن. 130 / 1
(1/199)
________________________________________
المطلب الرابع في القول الثالث وأدلته
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى في: حقيقة القول الثالث:
القول الثالث: إنها آية من الفاتحة، وهذا قول الإمام الشافعي وأصحابه، لاخلاف بينهم في ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد، ذكرها ابن قدامة (1) .
والمشهور عنه القول الأول، وأمَّا ما عدا الفاتحة، فتردد مذهب الإمام الشافعي في ذلك بين قولين، واختلف أصحابه، في حمل ذلك التردد، فمنهم من حمله على أنها آية من القرآن الكريم في أول كل سورة، أو ليست بآية من القرآن.
ومنهم من حمل التردد في القولين على: أنها آية تامة برأسها في أول كل سورة، أو أنها وما بعدها آية من كل سورة، فهي بعض آية مع الجزم بأنها من القرآن.
وقد صحح الغزالي والآمدي الحمل الثاني، كما نسبه الإمام الرازي للمحققين من الشافعية.
قال الغزالي: البسملة آية من القرآن، لكن هل هي آية من أول كل سورة؟ فيه خلاف، وميل الشافعي-: - إلى أنها آية من كل سورة؛ الحمد وسائر السور،
لكنها في أول كل سورة آية برأسها، أو هي مع أول آية من سائر السور آية؟ هذا مِمَّا نقل عن الشافعي-: - فيه تردد، وهذا أصح من قول من حمل تردد قول الشافعي، على أنها هل هي آية من القرآن في أول كل سورة؛ بل الذي يصح أنها آية حيث كتبت مع القرآن، بخط القرآن فهي من القرآن (2) .
وقال مثله الآمدي في الإحكام (3) .
__________
(1) انظر: المغني. 151 / 2
(2) المستصفى. 102 / 1
(3) الأحكام. 163 / 1
(1/200)
________________________________________
وقال الإمام الرازي: ذكر بعض أصحابنا قولين للشافعي، في أنّ بسم الله الرحمن الرحيم، هل هي آية من أوائل سائر السور أم لا؟
أمَّا المحققون من الأصحاب، فقد اتفقوا على أنّ بسم الله قرآن من سائر السور، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من أول كل سورة، أو هي وما بعدها آية (1) .
قلتُ: فيتحرر أن مذهب الإمام الشافعي-: - أنّ البسملة آية من الفاتحة جزمًا، وأنها آية كاملة في أول كل سورة من سور القرآن الكريم - عدا براءة- وأن ما نسب إليه من أنها بعض آية أو آية للفصل بين السور فخلاف الصحيح عنه، وقد صرح بهذا النووي والزركشي، والعراقي.
قال النووي-: -: قد ذكرنا أن مذهبنا: أنّ البسملة آية من أول الفاتحة بلا خلاف، فكذلك هي آية كاملة من أول كل سورة، غير براءة على الصحيح من مذهبنا (2) .
وقال الزركشي-:-: هي آية من الفاتحة بلا خلاف عندنا، وكذا فيما عداها من باقي السور سوى براءة على أظهر قولي الشافعي.. وإذا قلنا: إنها آية من القرآن، فالمشهور أنها آية كاملة (3) .
وقال العراقي: وتحرير مذهب الشافعي على أنه لا خلاف في أنها آية من أول الفاتحة، وإثبات الخلاف في غيرها من السور، والصحيح: أنها آية من جميعها أيضاً، وعلى الخلاف في غير براءة... وفي غير سورة النمل (4) .
المسألة الثانية في: أدلة القول الثالث:
وقد استدل الشافعية بأدلة منها ما يلي:
__________
(1) التفسير الكبير. 208 / 1
(2) المجموع شرح المهذب. 334 / 3
(3) تشنيف المسامع 308 / 1
(4) الغيث الهامع شرح جمع الجوامع. 100 / 1
(1/201)
________________________________________
الدليل الأول: أنّ البسملة قد كتبت في أوائل السور بنفس خط المصحف، بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبنفس مِداده؛ وهو المداد الأسود، ولم ينكر أحد من الصحابة، ذلك مع شدة تحرزهم في صيانة القرآن عما ليس منه، حتى أنهم كرهوا وأنكروا على من أثبت تراجم السور، والتعاشير، والنقط، ولم يثبتوا آمين، وذلك يفيد أنها حيث كتبت مع القرآن بخطه فهي منه، وإلَّا لكان الصحابة مغررين بالناس حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآ نًا، وهذا مِمَّا لايجوز اعتقاده في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال النووي: قال أصحابنا هذا أقوى أدلتنا في إثباتها (1) .
وقال الزركشي: وهو أحسن الأدلة (2) .
واعترض على هذا الدليل من قبل ابن الحاجب: أنه دليل ظني، ولايفيد في مقابلة القطعي؛ وهو أنها لو كانت قرآ نًا لتواترت (3) .
وأجاب العضد عنه: بمنع كونه ظنيًا بل هو قطعي؛ لأن العادة تقضي في مثله بعدم الاتفاق، فكان لايكتبها بعض ولو نادر، ولاينكر على كاتبها ولو نادر (4) .
واعترض: بأن تلك العادة قد عارضتها مثلها وهي: أنّ البسملة في الشريعة شعار الفصل، وعنوان التبرك في الابتداء بها (5) .
ثم اعترض من قبل القائل بأنهاآية للفصل بـ: أنما نقل إلينا هوكتابتها في أوائل السور، ولم ينقل إلينا أنها منها، والخلاف بيننا وبينكم إنَّمَا هو في كونها من نفس السورة التي كتبت في أولها؛ ونحن نقول: إنها من القرآن لكن لايلزم أن تكون من
__________
(1) المجموع 3/. 336
(2) التشنيف. 308 / 1
(3) منتهى الوصول والأمل ص. 33
(4) راجع: شرح العضد على المختصر. 20 / 2
(5) انظر: منتهى الوصول والأمل ص. 33
(1/202)
________________________________________
نفس السورة، فإيصالها بالسورة، وقراءتها معها لايوجبان أن تكون منها؛ لأن القرآن كله متصل بعضه ببعض (1) .
الدليل الثاني: ما روى عن ابن عباس- م - أنه قال: سرق الشيطان من الناس آية من القرآن لما ترك بعضهم قراءة البسملة في أول السورة، ولم ينكر عليه أحد ذلك القول، فدل على أنها آية من القرآن الكريم، في أول كل سورة (2) .
واعترض عليه ابن الحاجب بمثل ما اعترض به على الدليل الأول؛ وهو: أنه ظني ولايقوى على مقابلة القطعي (3) .
الدليل الثالث: أنّ الاستعاذة مشروعة في أوائل السور وأوساطها عملًا بأمره عزّوجل في قوله تعالى (فَإِذَا قَرَْأتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذ بِاللهِ) النحل/ 98، ولا شك أن جبريل - عليه السلام - كان يبتدئ بها، وكانت تجري على لسانه كثير، وكذا محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي تركهم إثباتها أوائل السور، وإثبات البسملة، دليل على أنها آية في أول كل سورة.
قلتُ: ويُمكن أن يجاب عنه: بأنه لايلزم من ذلك، أن تكون آية من نفس السورة وإنَّمَا يحتمل أن تكون آية مستقلة بنفسها، فلايلزم هذا الدليل إلاَّ النافي لها مطلقًا.
الدليل الرابع: أن فواصل القرآن الكريم محصورة فيما تماثلت حروفه في المقاطع، وما تقاربت حروفه في المقاطع ولم تتماثل، مثل: (الرَّحْمَنِ لرَّحِيْمِ. مَا لِكِ يَوْمِ الدِينَ) الفاتحة / 3 و 4 ورعاية التشابه في الفواصل لازم، ومن عد الفاتحة سبع آيات مع البسملة كالإمام الشافعي قال: (صِرَاطَ الَّذِينَ َأنْعَمْتُ عَلَيْهِم) الفاتحة/ 7 إلى آخر السورة آية واحدة، فتحقق بهذا العد رعاية الفواصل؛ لأنّ فاصلة (صِرَاطَ الَّذِينَ َأنْعَمْتُ عَلَيْهِم) لاتشابه فاصلة الآيات المتقدمة عليها، بخلاف مذهب من أسقط البسملة من الفاتحة،
__________
(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص. 10 / 1
(2) انظر المستصفى 104 / 1 0
(3) انظر: البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ص. 72
(1/203)
________________________________________
وقال: آية (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ لضَّآلِّيْن) آية فلم يراع التشابه في الفواصل، فدل هذا على أنها آية من الفاتحة، كذا قاله الزركشي (1) .
قلتُ: وهو معارض بأثر ابن عباس م السابق الدال على أنها للفصل.
ثم إذا سلم له هذا الترجيح في طريقة العد، فلاينافي ذلك كونها آية؛ عملًا لا علمًا.
الدليل الخامس: ما روي عن أم سلمة ل أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم، وعدّها آية، والحمد لله رب العالمين آيتين (2) .
فالحديث يدل دلالة ظاهرة على أنها آية من كل سورة (3) .
وأُجيب عنه:
أولًا: بأنه من رأي أم سلمة لولاينكر الاختلاف في ذلك بل هو قديم (4) .
ثانيًا: أنه لاينافي القول بأنها آية للفصل بين السور.
الدليل السادس: ما روي عن ابن عباس م أنه قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. فقيل: فأين السابعة؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم (5) .
فهو يدل دلالة واضحة على أنها آية من الفاتحة. وأُجيب بجوابين:
الأول: أنّ هذا الأثر، يوهم الجزئية في الفاتحة فقط.
__________
(1) انظر: البرهان في علوم القرآن. 75 / 1
(2) الحديث أخرجه البيهقي باللفظ الذي معنا في كتاب الصلاة. 44 / 2
وأخرجه الحاكم في كتاب الصلاة 232 / 1 باللفظ الذي معنا عن عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة لثم قال عمر بن هارون أصل في السنة، ولم يخرجاه، وإنَّمَا أخرجته شاهد. وقال الذهبي في التلخيص نفس الموضع السابق من المستدرك: أجمعوا على ضعفه، وقال النسائي: متروك وفي نصب الراية: 351 / 1 وهو مجروح، تكلم فيه غير واحد من الأئمة، قال أحمد بن حنبل: لا أروي عنه شيئا، وقال ابن معين: ليس بشيء، وكذبه ابن المبارك. وانظر أيضا: التلخيص الحبير 232 / 1، والجوهر النقي. 45 / 2
(3) انظر الدليل ووجه الدلالة منه في: الإتقان في علوم القرآن. 78 / 1
(4) انظر: المغني 0 153 / 2
(5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 45 / 2
(1/204)
________________________________________
ثانيًا: أنه معارض بالقاطع؛ وهو عدم تواتر الجزئية الدال على عدمها، فلايقوى ذلك الظن على مقابلة هذا (1) .
__________
(1) انظر الجوابين في: فواتح الرحموت. 15 / 2
(1/205)
________________________________________
الدليل السابع: ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قرأتم (الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَا لَمِينَ) فاقرؤوا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ؛ فإنها أم الكتاب والسبع المثانى وآية منها (1) .
فهو صريح الدلالة على أنها آية من الفاتحة (2) .
وأُجيب عنه: بأنه موقوف على أبي هريرة س ورفعه إنَّمَا كان وهمًا، كذا قاله الجصاص وتابعه ابن قدامة (3) ، وهو قول جمهور أهل الحديث (4) .
وقد أجاب ابن العربي، والقرطبي من المالكية عن هذه الأحاديث وما في معناها:
بأنها محمولة على النفل، أو السعة في ذلك، فيستحب عندهم قراءة البسملة في النفل (5) .
وقال الأنصاري من الحنفية- بعد أن ذكر معارضة الأخبار بالقاطع-: وهذا هو الجواب عن أخبار الآحاد التي توهم الجزئية، بل يجب أن تكون هذه الأخبار مقطوع السهو، وإلاَّ لتواترت، ولذا لم توجد في المعتبرات؛ كالصحيحين فافهم (6) .
قلتُ: قد أورد السيوطي خمسة عشر أثرًا، منها الثلاثة السابقة، ثم قال: فهذه الأحاديث تعطي التواتر المعنوي، بكونها قرآ نًا منْزلًا في أوائل السور (7) .
__________
(1) الحديث أخرجه الدارقطني في سننه بهذا اللفظ في كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم 312 / 1 عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ثم قال: قال أبو بكر الحنفي: ثم لقيت نوحاً فحدثني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بمثله ولم يرفعه.
وقال في نصب الراية: 343 / 1 الصواب فيه الوقف.
وقال ابن حجر في التلخيص: 233 / 1 وصحح غير واحد من الأئمة وقفه على رفعه، وأعله ابن القطان بهذا التردد. يعني بين الرفع والوقف.
(2) انظر الدليل ووجه الدلالة منه في: الإتقان في علوم القرآن. 79 / 1
(3) انظر: أحكام القرآن للجصاص 11 / 1، والمغني. 153 / 2
(4) انظر: التلخيص الحبير 0 233 / 1
(5) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1، والجامع لأحكام القرآن. 132 / 1
(6) فواتح الرحموت. 15 / 2
(7) الإتقان في علوم القرآن. 79 / 1
(1/206)
________________________________________
فإن قيل: فما المخرج؟
قلتُ: يُمكن الجمع؛ بأنها وإن أفادت أنها قرآن منَزّلٌ، لكن لم تفد بطريق التواتر أنها آية من كل سورة، فيرتفع الخلاف بذلك، والله أعلم.
(1/207)
________________________________________
المطلب الخامس في المسألة، وفيه ثلاث مسا ئل
المسألة الأولى في: حقيقة القول الرابع ومناقشته:
القول الرابع: إنها ليست آية من القرآن الكريم فيما عدا الفاتحة، وقد نسبه الزركشي للإمام الشافعي حيث قال: البسملة من أول الفاتحة بلا خلاف عندنا، وفيما عداها من السور، سوى براءة للشافعي أقوال... والثالث: ليست من القرآن بالكلية.
قلتُ: قد سبق تحرير مذهب الإمام الشافعي؛ في المسألة الأولى من المطلب الرابع فلايلتفت إلى ما حكي عنه هنا.
المسألة الثانية في: حقيقة القول الخامس ومناقشته:
القول الخامس: إنها آية من أول كل سورة قطعاً، وهو قول بعض الشافعية، كماقال النووي وغيره، لكن خلاف الصحيح من المذهب عندهم (1) .
قال النووي: والمذهب: أنها قرآن في أوائل السور غير براءة، ثم هل هي في الفاتحة وغيرها قرآن، على سبيل القطع؛ كسائر القرآن؟ أم على سبيل الحكم؟
فيه وجهان مشهوران لأصحابنا... والصحيح: أنها ليست على سبيل القطع (2) .
فيفهم من كلامه هذا، أن هناك قول غير الصحيح يقول: هي آية على سبيل القطع.
وقال العطار: البسملة أول الفاتحة قرآن عندنا بلا خلاف... وهل هي في أوائل بقية السور قطعًا، أو حكمًا لا قطعًا؟ الجمهور... على الثاني... وظاهر كلام المتن
__________
(1) انظر: المجموع شرح المهذب 333 / 3، وحاشية العطار على شرح الجلال على جمع الجوامع1 295 /
(2) المجموع، الموضع السابق.
(1/208)
________________________________________
والشرح (1) الأول؛ وهو أنها أوائل السور قرآن قطعاً؛ لقول المصنف فيما بعد: لا ما نقل آحاد، ولاقتصار الشارح هنا على ما يفيد القطع؛ وهو إجماع الصحابة (2) إلخ.
قلتُ: أولًا: هذا القول خلاف الصحيح عند الشافعية.
ثانيًا: ما استظهره العطار من كلام ابن السبكي، يخالف ما صرح به في رفع الحاجب حيث قال: ولايظن ظانّ أنا ندعي تواتر ما ذكرناه الآن، فإنا نحن لم نثبت البسملة، إنَّمَا المثبت لها إمامنا الشافعي، فلعلها تواترت عنده، ورب متواتر عند قوم دون آخرين، وفي وقت دون آخر (3) .
ثم قال: والحاصل: أنّ البسملة من القرآن قطعًا، ومن كل سورة ظنًا (4) .
وأمَّا اقتصار الجلال المحلي في شرحه على الاستدلال بما يفيد القطع فقط، وهو إجماع الصحابة على كتابتها، وتجريد القرآن من كل ما سواه.. إلخ، فلايلزم منه الذهاب إلى هذا القول؛ إذ ليس من عادته استقصاء أدلة كل قول في هذا الكتاب.
وإذا سلم ذلك جدلاً، فقد سبق مناقشة هذا الدليل، فلتراجع هناك (5) .
المسألة الثالثة في: حقيقة القول السادس ومناقشته:
القول السادس: أنّ البسملة آية في بعض القراءات؛ وهي قراءة من يفصل بها بين السور، وليست آية في قراءة من يصل بين السور، ولايفصل بها، وهذا القول حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة التفسير، عن بعض العلماء ولم يسمهم، واعتبره
__________
(1) المراد بالمتن: جمع الجوامع لابن السبكي، وبالشرح شرح الجلال المحلى عليه.
(2) حاشية العطار على شرح الجلال. 295 / 1
(3) رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب. 86 / 2
(4) المرجع السابق، نفس الجزء ص. 88
(5) تراجع الاعتراضات الواردة على الدليل الأول من أدلة القول الثالث.
(1/209)
________________________________________
صاحب نشر البنود، كما استحسنه الشيخ محمد الأمين، لما فيه من الجمع بين الأقوال (1) .
ويظهر لي -والله أعلم- ما يلي:
أولًا: أنّ هذا القول لايخرج عن الأقوال الثلاثة الرئيسة في المسألة، وقد سبق استدلال القائلين بأنها ليست آية من أول كل سورة، بفعل من ترك الفصل بها من القراء بين السورتين، وأجاب مخالفوهم بفعل الفريق الثاني من القراء؛ وهو من يفصل بها بين السورتين (2) .
ثانيًا: أنّ في إيراد هذا القول، ضمن أقوال علماء الأصول نظر، وإن ذكره بعض الأجلاء منهم في كتبهم، فمسألة التلاوة غير مسألة القرآنية- وإن وجد بينهما تلازم ولهذا أفردها الشوكاني عن مسألة القرآنية حيث قال: وقد اختلفوا هل هي آية من الفاتحة فقط، أو من كل سورة، أو ليست بآية؟ (3) .
ثم قال: وأمَّا التلاوة فلا خلاف بين القراء السبعة، في أول فاتحة الكتاب، وفي أول كل سورة، إذا ابتدأ بها القارئ ما خلا التوبة.
وأمَّا في أوائل السور، مع الوصل بسورة قبلها، فأثبتها... وحذفها (4) .
ثم سمى من أثبتها من القرآء ومن حذفها.
فأنت ترى، أنه قد انتقل من ذكر خلاف العلماء في قرآنيتها؛ وهي موضوع هذا البحث، إلى ذكر خلاف القراء في تلاوتها، حيث قال: وأمَّا التلاوة....
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 399 / 13، ونشر البنود 103 / 1، والمذكرة في أصول الفقه للشنقيطي ص82 0
(2) راجع الدليل السابع من أدلة القول الأول والاعتراض الوارد عليه.
(3) نيل الأوطار 3/35.
(4) المرجع السابق، نفس الجزء ص. 36
(1/210)
________________________________________
المطلب السادس في سبب الخلاف في المسألة
سبب الخلاف في المسألة هو: الخلاف في اشتراط تواتر ما هو من القرآن، بحسب محله، ووضعه، وترتيبه.
فمن قال: باشتراط ذلك؛ لقضاء العادة بتواتر تفاصيل مثله؛ وهم المالكية، قال: ليست البسملة آية من القرآن الكريم، فيما عدا النمل (1) .
ومن لم يشترط ذلك، وجوز الاكتفاء بتواتر مثله، في محل ووضع وترتيب ما، كما تواتر كون البسملة بعض آية في سورة النمل.
أو جوز الاكتفاء بتواتر النقل، كتابة في المصحف، وتلاوة على الألسن، في ذلك المحل، قال: البسملة آية من القرآن الكريم، فيما عدا النمل؛ وهم جمهور أصحاب المذاهب الثلاثة: الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
قال السيوطي: لاخلاف في أنّ كل ما هو من القرآن، يجب أن يكون متواترًا في أصله وأجزائه، وأمَّا في محله ووضعه وترتيبه، فكذلك عند محققي أهل السنة؛ للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله...
وذهب كثير من الأصوليين، إلى أن التواتر شرط في ثبوت ما هو من القرآن، بحسب أصله، وليس بشرط في محله، ووضعه وترتيبه؛ بل يكثر فيها نقل الآحاد قيل: وهو الذي يقتضيه صنيع الشافعي، في إثبات البسملة من كل سورة...
وقد بنى المالكية وغيرهم ممن قال: بإنكار البسملة قولهم على هذا الأصل، وقروره: بأنها لم تتواتر في أوائل السور، وما لم يتواتر فليس بقرآن (2) .
__________
(1) انظر في سبب الخلاف: المستصفى 104 / 1، والإحكام 164 / 1، ومنتهى الوصول والأمل ص33 وشرح العضد 20 / 2، ورفع الحاجب 87 / 2، وتشنيف المسامع 312 / 1، وتقرير الشربيني على جمع الجوامع مع حاشية العطار. 296 / 1
(2) الإتقان في علوم القرآن. 78 / 1
(1/211)
________________________________________
المطلب السابع في القول المختار
من المقرر عند جماهير العلماء: أنه متى أمكن الجمع بين المتعارضين، تعين المصير إليه، لما فيه من إعمال المتعارضين جميعاً، ولو من وجه، فهو أولى من إهمال أحدهما بترجيح الآخر عليه.
لهذا فالمختار لديّ: أنّ البسملة، آية مستقلة، من القرآن الكريم، كسورة قصيرة جاءت للفصل بين سور القرآن، ليست من أول الفاتحة، ولا من غيرها، وهي مع ذلك آية عملًا، لا علمًا؛ أي حكمًا لا قطعًا، وذلك لما يلي:
أولًا: أنّ القول الأول والثالث قد اتفقا على أنها آية، خلافًا للثاني - قول المالكية - القائل بأنها ليست آية مطلقًا، وإمَّا هي للتبرك، وقد سبقت أدلة كل فريق للدلالة على قوله.
فإذا حملنا القولين الأول والثالث على أنها آية عملًا لا علمًا، وهو ما صرح به المحققون من الشافعية، ولم يصرح أصحاب القول الأول بخلافه.
وحملنا قول المالكية وأدلتهم الدالة على النفي؛ على نفي كونها آية علم وقطعًا، كان ذلك ممكنًا، وفيه إعمال لأدلة القوم جميعًا، وخلصنا إلى أنها آية عملًا، لا علمًا فبهذا يزول الإشكال، وتزول شبهة التكفير من الجانبين، كما قال الزركشي (1) .
ثانيًا: وإذا نظرنا إلى ما سبق؛ وهو: أنها آية عند الجميع عملًا، لا علمًا، فهل هي مع ذلك آية واحدة للفصل بين السور، أم أنها آية في أول كل سورة؟.
الذي اجتمعت عليه الأدلة كما قال الزيلعي: أنها آية للفصل بين السور، وهو قول المحققين من أهل العلم (2) ، بل أعدل الأقوال، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (3) .
__________
(1) انظر: تشنيف المسامع 310 / 1.
(2) انظر: نصب الراية 327 / 1.
(3) انظر مجموع الفتاوي 0 418 / 13
(1/212)
________________________________________
وإذا سلمنا عدم إمكان الجمع بين أدلة الفريقين، فأدلة القول الأول أكثر، وأصح سندًا وحكمًا، من أدلة القول الثالث، وأوضح دلالة، على ما سيقت له، والله أعلم.
فإن قيل: فهل معنى هذا الجمع بين الأقوال، ارتفاع الخلاف في المسألة جملة، وأنه صار خلافاً لفظياً، لا ثمرة له تتعلق بالأحكام الفقهية؟.
قلتُ: ليس الأمر كذلك، فهذا الجمع إنَّمَا يرفع شبهة التكفير من النافي للمثبت، والعكس، كما سبق ذكر ذلك عن الزركشي. أمَّا فيما يتعلق بالفروع الفقهية، فالخلاف باق بين العلماء، كما يفهم من كلام النووي والزركشي (1) ، وصرح به التفتازاني، وتابعه العبادي (2) ، وسيأتي تفصيله في التطبيق.
__________
(1) انظر: المجموع شرح المهذب 333 / 3، وتشنيف المسامع. 310 / 1
(2) انظر: الآيات البينات. 399 / 1
(1/213)
يتبع بمشيئة الله رب العالمين...



كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ    كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Emptyالإثنين 21 مارس 2011, 6:53 am


المطلب الثامن في الفروع المبنية على الخلاف في المسألة
لقد بني على خلاف العلماء في قرآنية البسملة خلاف في مسائل:
المسألة الأولى: في إثبات قرآنيتها بخبر الواحد:
على القول أنّ البسملة، آية من القرآن الكريم، حكمًا لا علمًا؛ أي عملًا لا بقطعًا- وهو المختار- يقبل في إثباتها خبر الواحد؛ كسائر الأحكام الشرعية.
وعلى القول بأنها آية، علمًا وقطعاً؛ لايقبل في إثباتها خبر الواحد، كسائر القرآن الكريم، وقد صرح بهذا البناء كل من النووي، والزركشي من الشافعية (1) .
قال الزركشي: وبنوا على هذا الخلاف: أنه هل يقبل في إثباتها خبر الواحد؟ إن قلنا: آية حكماً فنعم، كسائر الأحكام، وإن قلنا: قطعاً، فلا كسائر القرآن (2) .
المسألة الثانية في: حكم الصلاة دون قراءتها:
للعلماء قولان في صحة الصلاة دون قراءة البسملة:
الأئمة الثلاثة: تصح الصلاة دون قراءتها؛ أمَّا عند الإمامين أبي حنيفة وأحمد فإنها وإن كانت آية من القرآن، لكنها آية مستقلة بنفسها، لا من الفاتحة ولا من غيرها.
وأمَّا عند الإمام مالك وأصحابه، فلأنها ليست آية من القرآن مطلقاً، وإنَّمَا للتبرك ولا تصح الصلاة إلاَّ بقراءتها في أول الفاتحة، عند الإمام الشافعي؛ لأنها آية من الفاتحة كباقي آيات السورة، ولاتصح الصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (3) .
المسألة الثالثة في: مشروعية قراءتها في الصلاة:
للعلماء في المسألة ثلاثة أقوال بناءً على أقوالهم في قرآنيتها:
فعند الإمامين أبي حنيفة وأحمد: يجوز له أن يقرأ بها في الصلاة، ولكن سرًا لا جهرًا، باعتبارها ليست آية من الفاتحة.
__________
(1) انظر: المجموع شرح المهذب 333 / 3، وتشنيف المسامع 310 / 1.
(2) التشنيف، الموضع السابق.
(3) انظر: الأم 107 / 1، وأحكام القرآن لابن العربي 5 / 1، والمجموع شرح المهذب 333 / 3، والجامع لأحكام القرآن 132 / 1
(1/214)
________________________________________
وعند الإمام مالك: لاتقرأ في الصلاة المكتوبة مطلقًا؛ لا جهرًا، ولا سرًا.
وأمَّا النافلة، فله أن يقرأ بها، وألا يقرأ بها.
وأمَّا عند الإمام الشافعي، فيجب أن يقرأ بها؛ لأنها من الفاتحة (1) .
وبهذا يتبين أن قراءتها في الفريضة مشروعة عند الأئمة الثلاثة، خلافاً لمالك.
قال الإمام الرازي: القائلون بأن التسمية آية من الفاتحة، وأن الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة، لاشك أنهم يوجبون قراءة التسمية.
وأمَّا الذين لايقولون به، فقد اختلفوا، فقال أبو حنيفة وأتباعه:... يقرأ التسمية سرًا.
وقال مالك: لاينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سرًّا ولا جهراً.
وأمَّا في النافلة، فإن شاء قرأها وإن شاء ترك (2) .
المسألة الرابعة في: تأدي فرض القرآن بها في الركعة:
المشهور عند الحنفية: عدم تعين قراءة الفاتحة لصحة الصلاة، بل تصح بقراءة ما تيسر من القرآن، وبناء عليه فالمنقول لهم في هذه المسألة قولان:
الأول: يتأدى بها فرض القراءة في الركعة، وتصح الصلاة فيما لو اكتفى المصلي بقراءتها، ونسبه التمرتاشي.
قلتُ: وهو قياس قوله فيها. للإمام أبي حنيفة.
قال البخاري في كشف الأسرار: وأمَّا عدم جواز الصلاة، فقد ذكر التمرتاشي في شرح الجامع الصغير: أنه لو اكتفى بها يجوز الصلاة، عند أبي حنيفة (3) .
__________
(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص 15 / 1، وأصول السرخسي 281 / 1، وبداية المجتهد 156 / 1، وتفسير الفخر الرازي 213 / 1، والمجموع 333 / 3، والمغني. 149 / 2
(2) تفسير الفخر الرازي الموضع السابق.
(3) كشف الأسرار عن أصول البزدوي. 23 / 1
(1/215)
________________________________________
الثاني: لايتأدى فرض القراءة في الركعة بها، ولاتصح الصلاة فيما لو اقتصر عليها وهذا ما نسبه جمهور الحنفية - ومنهم السرخسي والبخاري - للإمام أبي حنيفة، خلافاً لما قاله التمرتاشي (1) .
قال السرخسي: ولكن لايتأدى بها فرض القراءة في الركعة، عند أبي حنيفة؛ لاشتباه الآثار واختلاف العلماء... وما كان فرضاً مقطوعاً به لايتأدى بما فيه شبهة، ولسنا نعني الشبهة في كونها من القرآن؛ بل في كونها آية تامة (2) .
قلتُ: الصحيح من مذهب أبي حنيفة: أنها آية تامة مستقلة بنفسها.
وقد ذكر صاحب فواتح الرحموت تعقب بعض شراح أصول البزدوي لهذا الكلام، حيث قال: وتعقب عليه الشيخ الهداد في شرح أصول الإمام البزدوي؛ بأنه حينئذٍ ينبغي أن لاتجزئ بقراءة الحمد لله رب العالمين؛ إذ قد خولف في كونه آية تامة.
ثم قرر أصل الكلام: بأنه قد خولف في قرآنية البسملة، مع كون القراءة فرضاً بالإجماع، فلم تجز بها ً احتياطا، وعلى هذا ينبغي أن لاتجزئ في كل مختلف فيه، فلاتصح من غير قراءة الفاتحة؛ إذ لا فرق عند التحديق (3) .
ثم إنه لا معنى للاحتياط عند من يقطع بالقرآنية، وكونها آية تامة؛ لأن برق الحقيقة قاطع للشبهات فافهم (4) .
قلتُ: وهذا كلام في غاية الإلزام، لمن قال بعدم تعين قراءة الفاتحة.
أمَّا على قول الأئمة الثلاثة بتعيين قراءة الفاتحة لصحة الصلاة، وعدم الاكتفاء بما تيسر من القرآن سواها، فلا إشكال في القول بعدم تأدي فرض القراءة في الركعة بالبسملة (5) ، لكن المأخذ مختلف، والله أعلم.
__________
(1) انظر: أصول السرخسي 281 / 1، وكشف الأسرار، الموضع السابق.
(2) أصول السرخسي، الموضع السابق، وانظر: شرح التلويح على التوضيح. 47 / 1
(3) هكذا جاء اللفظ بمثناة فوقية، ثم حاء، ثم دال، والمراد به: شدة النظر، كما في القاموس المحيط، مادة: ح د ق 226 / 3، ومختار الصحاح، نفس المادة ص. 126
(4) فواتح الرحموت. 15 - 14 / 2
(5) انظر: الأم 107 / 1، وبداية المجتهد 159 / 1، والمغني. 146 / 2
(1/216)
________________________________________
المسألة الخامسة: في حكم قراءتها للجنب والحائض:
للعلماء قولان في حكم قراءتهما لها، مبنيان على الخلاف في المسألة.
فعلى القول بأنها آية من القرآن الكريم؛ وهو قول الأئمة الثلاثة؛ أبي حنيفة والشافعي وأحمد: يجوز لهما قراءتها، إذا قصدا بها التبرك، باعتبارها بعض الأذكار، لا على أنها قرآن.
وأمَّا إن قصدا بها القرآن فلايجوز لهما تلاوتها.
وأمَّا على قول الإمام مالك: فيجوز لهما قراءتها مطلقاً؛ أي سواء أقصدا بها الذكر أم لا.
قال السرخسي: وعلى هذا يكره للجنب والحائض، قراءة التسمية على قصد قراءة القرآن؛ لأنّ من ضرورة كونها آية من القرآن، حرمة القراءة على الحائض والجنب (1) .
وقال نحوه البخاري في كشف الأسرار (2) .
وقال الزركشي: قال النووي: إذا قال: (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) مريم/12 وهو جنب، وقصد غير القرآن جاز له؛ وله أن يقول (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَاكُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) الزخرف/ 13، وقال إمام الحرمين: إذا قصد القرآن بهذه الآيات عصى، وإن قصد الذكر ولم يقصد شيئًا لم يعص (3) اهـ.
فإن قيل: كيف هذا مع قول الإمام الرازي: اختلفوا في أنه هل يجوز للحائض والجنب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ والصحيح عندنا: أنه لا يجوز (4) .
__________
(1) أصول السرخسي. 281 / 1
(2) انظر: كشف الأسرار. 23 / 1
(3) البرهان في علوم القرآن. 482 / 1
(4) تفسير الفخر الرازي. 213 / 1
(1/217)
________________________________________
قلتُ: يُمكن أن يحمل كلامه هذا، على ما إذا قصد كل منهما بذلك القرآن، لا الذكر.
المسألة السادسة في: حكم مسها للمحدث:
لقد سوى الإمام الرازي بين هذه المسألة والتي قبلها في الحكم، وكذلك العبادي قاس هذه على تلك (1) ، ومعنى هذا: أن الخلاف في حكم مسها للمحدث حد ثاً أصغرا مبني على الخلاف في قرآنيتها، ويكون الكلام في هذه كالكلام في السابقة، وصورة هذه المسألة ـ والله أعلم ـ:
أن توجد قطعة من المصحف مكتوب عليها (بسم الله الرحمن الرحيم) فقط وليست من سورة النمل، أو تكتب بسم الله الرحمن الرحيم على ورقة منفردة، فيحرم مسها للمحدث عند الأئمة الثلاثة؛ أبي حنيفة والشافعي وأحمد على قصد القرآن، لا الذكر، ولايحرم عند الإمام مالك مطلقاً.
قال العبادي: لكن قضية تمثيلهم بها لأذكار القرآن، التي تحل للجنب، لابقصد قرآن، وحرمتها عليه بقصد القرآن، كغيرها من القرآن، وقياس ذلك حرمة مسها على المحدث.
المسألة السابعة: في الاعتداد بكمال السورة دونها:
هل يعتد بكمال السورة من القرآن الكريم، دون البسملة، أم لاتعتبر السورة تامة إلاَّ إذا تُليت معها البسملة؟.
مثال ذلك: من نذر أن يقرأ سورة كاملة من القرآن، وترك قراءة البسملة، فهل يعتبر صنيعه وفاءً بنذره، أم لايعتبر حتى يقرأ البسملة، مع السورة؟
قولان للعلماء مبنيان على الخلاف في مسألة البسملة.
__________
(1) انظر: تفسير الفخر الرازي 201 / 1، والآيات البينات 398 / 1.
(1/218)
________________________________________
فعلى قول الأئمة الثلاثة؛ أبي حنيفة، وأحمد، ومالك، تعتبر السورة من القرآن الكريم تامة، دون تلاوة البسملة في أولها؛ وذلك لأنها عند الإمامين؛ أبي حنيفة وأحمد، ليست من السورة، بل آية مستقلة، وعند الإمام مالك، ليست من القرآن مطلقاً.
أمَّا عند الإمام الشافعي: فلاتعتبر السورة كاملة إلَّا بالبسملة (1) .
قال النووي: لايكون قار ئًا لسورة غيرها - أي الفاتحة - بكمالها إلَّا إذا ابتدأها بالبسملة.
المسألة الثامنة في: عدد آياتها:
للعلماء أقوال في عدد آيات البسملة في القرآن الكريم:
فهي عند الإمامين؛ أبي حنيفة وأحمد: آية واحدة فقط.
وعند الإمام الشافعي وأصحابه: ثلاث عشرة آية ومائة آية (2) .
وقياس مذهب الإمام مالك أنها ليست بآية ولاتعد.
قال التفتازاني: فإن قيل: فعلى ما اختاره المتأخرون هل يبقى اختلاف بين الفريقين؟.
قلنا: نعم؛ هي عند الشافعية: مائة وثلاث عشرة آية من السور، كما أن قوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان) الرحمن / 13 عدة آيات من سورة الرحمن.
وعند الحنفية: آية واحدة من القرآن، كررت للفصل والتبرك، وليست بشيء من السور (3) . وقد تابع العبادي من الشافعية التفتازاني فيما ذهب إليه (4) .
__________
(1) انظر المسألة في: أحكام القرآن للجصاص 13 / 1، والمجموع شرح المهذب 333 / 3، والبحر المحيط1 / 472، والبرهان في علوم القرآن. 460 / 1
(2) انظر: شرح التلويح على التوضيح 47 / 1، والآيات البينات 499 / 1.
(3) شرح التلويح، الموضع السابق، وانظر أيضًا: فواتح الرحموت 14/2
(4) الآيات البينات. 399 / 1
(1/219)
________________________________________
قلتُ: وفي هذا البناء الذي ذكره التفتازاني، والعبادي، نظر إذا قورن بما ذكره بعض العلماء من الإجماع، على ترك عدها آية من كل سورة (1) .
المسألة التاسعة: في الجهر بها في الصلاة:
للعلماء قولان في الجهر بالبسملة بناهما، البعض على الخلاف في قرآنيتها:
القول الأول: لايجهر بها في الصلاة، وهو قول: الحنفية، والإمام أحمد، كما صرح به الجصاص، وابن قدامة.
قال الأول: وأمَّا الجهر بها فإن أصحابنا قالوا: لا يجهر بها (2) .
وقال ابن قدامة: ولاتختلف الرواية عن أحمد أنّ الجهر بها غير مسنون (3) .
القول الثاني: يجهر بها في الصلاة الجهرية، وهو قول الإمام الشافعي وأصحابه.
قال النووي: قال الشافعي والأصحاب يسن الجهر بها (4) .
فإن قيل: فهل بناء الخلاف في الجهر بالبسملة على الخلاف في قرآنيتها، قول واحد للعلماء أم هو محل خلاف أيضًا؟.
قلتُ: نازع النووي في هذا البناء، وممن ذهب إلى صحة هذا البناء من الشافعية الرافعي، وابن كثير.
قال الرافعي - بعد أن ذكر الأقوال في قرآنيتها -: وإذا عرفت ذلك؛ فعندنا يجهر بالتسمية في الصلاة الجهرية في الفاتحة وفي السورة بعدها؛ خلافًا لمالك، حيث قال: لايقرأها أصلًا... ولأبي حنيفة، حيث قال: يسر بها، وبه قال أحمد (5) .
__________
(1) انظر: الضياء اللامع شرح جمع الجوامع 33 /2.
(2) أحكام القرآن للجصاص. 15 / 1
(3) المغني. 149 / 2
(4) المجموع شرح المهذب. 333 / 3
(5) فتح العزيز. 321 / 3
(1/220)
________________________________________
وأمَّا ابن كثير فقال: فأمَّا الجهر بها ففرع على هذا؛ فمن رأى أنها ليست من الفاتحة، فلايجهر بها... وأمَّا من قال بأنها من أوائل السور، فاختلفوا، فذهب الشافعي/ إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة، ومع السورة... والحجة في ذلك: أنها بعض الفاتحة فيجهر بها كسائر أبعاضها...وذهب آخرون إلى: أنه لايجهر بالبسملة في الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد (1) .
وأمَّا النووي فعلى خلاف ذلك، حيث صرح بمنع بناء مسألة الجهر بها على الخلاف في قرآنيتها، فقال: واعلم: أنّ مسألة الجهر، ليست مبنية على مسألة إثبات البسملة؛ لأنّ جماعة ممن يرى الإسرار بها لايعتقدونها قرآ ناً؛ بل يرونها من سنته، كالتعوذ والتأمين.
__________
(1) تفسير ابن كثير. 16 / 1
(1/221)
________________________________________
وجماعة ممن يرى الإسرار بها، يعتقدونها قرآ ناً، وإنَّمَا أسروا بها وجهر أولئك؛ لما ترجح عند كل فريق من الأخبار والآثار (1) .
قلتُ - والله أعلم -: المتأمل في تعليل الفريقين يظهر له أن بناء الجهر على إثبات القرآنية غير ممتنع، كما أنه لايمتنع أن يكون الخلاف في الجهر والإسرار قد بني على الخلاف في الأخبار والآثار، فيجوز أن يكون للخلاف في المسألة أكثر من سبب.
وقد أعرضت عن ذكر فروع ذكرها الإمام الرازي حيث لم يظهر لي صحة بنائها على المسألة فليراجعها من أحب (2) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب. 343 - 342 / 3
(2) انظر: تفسير الفخر الرازي. 214 - 213 / 1
(1/222)
________________________________________
الفصل السادس
في مواطن شرعت فيها البسملة

شُرعتْ البسملة وحُث عليها في مواطن كثيرة، رغبةً في الأجر والثواب، ولما لها من بركة في المسمَّى عليه، ومن هذه المواطن:
1-عند ابتداء الطعام:
عَنْ عُمَرَ بْنَ أَبِى سَلَمَةَ قَال: كُنْتُ غُلاَمًا فِى حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ يَدِى تَطِيشُ فِى الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» . فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِى بَعْدُ (1) .
وعَنْ وَحْشِىُّ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ. قَالَ «فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ» . قَالُوا نَعَمْ. قَالَ «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» (2) .
وأكد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذكر الله فقال: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ نَسِىَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِى أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» (3) .
وفي رواية: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْكُلُ طَعَامًا فِى سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَالَ بِسْمِ
__________
(1) رواه البخاري (5376) ومسلم (1184) .
(2) رواه أبو داود (3766)
(3) رواه أبو داود (3767) .
(1/223)
________________________________________
اللَّهِ لَكَفَاكُمْ فَإِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنْ نَسِىَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ فِى أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ فِى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ» (1) .
2-... وشرعت التسمية على الذبيحة:
قال تعالى: (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) الأنعام/118
وعَنْ عَبَايَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لَنَا مُدًى. فَقَالَ «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ» (2) .
فقد علق الحديث حِل الذبيحة على أمرين، هما:
1-إنهار الدم، أي: إسالته.
2-التسمية.
ومن المعروف أن الأمر المعلق على أمرين لا يكتفي فيه إلا باجتماهما، وينتفي بانتفاء أحدهما فلا بد من وجود الإنهار والتسمية معًا على الذبيحة حتى تكون حلالًا.
أما بالنسبة للذبيحة المستوردة من بلاد الكفار- وإن كانوا يكتبون عليها: ذُبح حسب الشريعة الإسلامية- فمن باب الإحتياط والأخذ بالأحوط أن نسمي عليها عند الأكل.
وعَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِىِّ قَالَ ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُضْحِيَّةً ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا أُنَاسٌ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَآهُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ قَدْ ذَبَحُوا
__________
(1) رواه ابن ماجه (3388) .
(2) رواه البخاري (5503) ومسلم (1968) .
(1/224)
________________________________________
قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ» (1) .
3- وشرعت التسمية عندما يرسل المسلم كلب الصيد أو القوس إلى الصيد:
عَنْ أَبِى ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىِّ قَالَ قُلْتُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَفَنَأْكُلُ فِى آنِيَتِهِمْ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِى وَبِكَلْبِى الَّذِى لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، وَبِكَلْبِى الْمُعَلَّمِ، فَمَا يَصْلُحُ لِى قَالَ «أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلاَ تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ» (2) .
ويلحق بالكلب: الباز والصقر وأنواع الطيور الأخرى المعلمة.
وفي الحديث دليل على جواز اقتناء كلب الصيد، ويكون مستثنى من الحديث الذي حرم اقتناء الكلاب من غير حاجة؛ فعن ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ، نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ» (3) .
4- وتشرع التسمية عندما يركب المسلم الإبل:
__________
(1) رواه البخاري (5500)
(2) رواه البخاري (5478) ومسلم (1929) .
(3) رواه البخاري (5480) .
(1/225)
________________________________________
عَنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ أَخْبَرَنِى مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «عَلَى ظَهْرِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ فَإِذَا رَكِبْتُمُوهَا فَسَمُّوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ لاَ تُقَصِّرُوا عَنْ حَاجَاتِكُمْ» (1) .
5- والتسمية ليست خاصة بالإبل، بل تشرع التسمية عندما يركب المسلم أيّ دابة:
عَنْ عَلِىِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ شَهِدْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - وَأُتِىَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِى الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ (سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَكَ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ» (2) .
6- وتشرع التسمية في الصباح والمساء، فالله عز وجل يحفظ بها:
عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضى الله عنه يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِى صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِى لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَىْءٌ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَيَضُرُّهُ شَىْءٌ» (3) .
7- وتشرع التسمية عند دخول البيت:
عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ مَا مِنْ مَبِيتٍ وَلاَ عَشَاءٍ هَا هُنَا وَإِذَا دَخَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ
__________
(1) رواه أحمد (3/494) والدارمي (2/285) ، وذكره الهيثمي في المجمع (10/131) قال: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح غير محمد بن حمزة وهو ثقة.
(2) رواه أبو داود (2604) والحاكم (2/98) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(3) رواه أبو داود (5088) وأحمد (10/62) .
(1/226)
________________________________________
اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَإِذَا دَخَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» (1) .
8- وتشرع التسمية عند الخروج من البيت:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» . قَالَ «يُقَالُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِىَ وَكُفِىَ وَوُقِىَ» (2) .
9- وتشرع التسمية عندما يستيقظ المؤمن من نومه خائفًا من شئ رآه في نومه:
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - ع - يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ نَقُولُهُنَّ عِنْدَ النَّوْمِ مِنَ الْفَزَعِ «بِسْمِ اللَّهِ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونَ» . قَالَ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ أَنْ يَقُولَهَا عِنْدَ نَوْمِهِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيراً لاَ يَعْقِلُ أَنْ يَحْفَظَهَا كَتَبَهَا لَهُ فَعَلَّقَهَا فِى عُنُقِهِ (3) .
10- وتشرع التسمية عند إغلاق الأبواب وتغطية الأواني:
عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ - أَوْ أَمْسَيْتُمْ - فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ، فَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا،
__________
(1) رواه أحمد (3/383) ورجال إسناده ثقات.
(2) رواه أبو داود (5097) والترمذي (3427) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3) رواه أحمد (6865)
(1/227)
________________________________________
وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَطْفِئُوا، مَصَابِيحَكُمْ» (1) .
ومعنى أوكوا: أي شدوا القرب بالوكاء حتى لا يدخلها حيوان أو يقترب منها شيطان.
ومعنى خمروا: أي غطوا الآنية إن كان لها غطاء، فإن لم يكن لها غطاء فضعوا عودًا أو أي شئ عليها.
11- وتشرع التسمية عند الجماع:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَقُضِىَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ» (2) .
12- وتشرع التسمية عند الرقية:
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ إِذَا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَقَاهُ جِبْرِيلُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ يُبْرِيكَ وَمِنْ كُلِّ دَاءٍ يَشْفِيكَ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ وَشَرِّ كُلِّ ذِى عَيْنٍ (3) .
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اشْتَكَى الإِنْسَانُ الشَّىْءَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جَرْحٌ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَهَا «بِاسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا» (4) .
__________
(1) رواه البخاري (5623) ومسلم (2012) .
(2) رواه البخاري (141) ومسلم (1434) .
(3) رواه مسلم (2185) .
(4) رواه مسلم (2193) .
(1/228)
________________________________________
ويشرع للمسلم أن يرقي نفسه، مبتدئًا باسم الله، فعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِى الْعَاصِ الثَّقَفِىِّ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعًا يَجِدُهُ فِى جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِى تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ. ثَلاَثًا. وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» (1) .
13- وتشرع التسمية عند الوقوع من على الدابة:
عَنْ أَبِى الْمَلِيحِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَثَرَتْ دَابَّتُهُ فَقُلْتُ تَعِسَ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ «لاَ تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَعَاظَمَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ وَيَقُولَ بِقُوَّتِى وَلَكِنْ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَصَاغَرَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ» (2) .
14- وتشرع التسمية في صدور المكاتبات والرسائل:
قَالَ أَبو سُفْيَانَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِى بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى...الحديث (3) .
15- وتشرع عند دخول المسجد والخروج منه:
عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ «بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذُنُوبِى وَافْتَحْ لِى أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ» . وَإِذَا خَرَجَ قَالَ «بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذُنُوبِى وَافْتَحْ لِى أَبْوَابَ فَضْلِكَ» (4) .
__________
(1) رواه مسلم (2202) وابن ماجه (3523) .
(2) رواه أبو داود (4984) وأحمد (5/59) .
(3) رواه البخاري (7) ومسلم (1773) .
(4) رواه ابن ماجه (820) .
(1/229)
________________________________________
16- وتشرع عند وضع الميت في لحده:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِى الْقَبْرِ فَقُولُوا بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّه» (1) .
وأما التسمية على الوضوء، فقد أفردتُ لها الفصل القادم لأهمية هذه المسألة.
__________
(1) رواه أحمد (2/40، 59) ورجال إسناده ثقات.
(1/230)
________________________________________
الفصل السابع
في ثبوت التسمية على الوضوء (1)

أولًا الكلام على الأحاديث الواردة في الباب:
اعلم - وفقني الله وإياك إلي طاعته - أن الحديث ورد عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر الصديق، وعلى ابن أبى طالب، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وأنس ابن مالك، وسعيد بن زيد، وسهل بن سعد، وعائشة، وأبو سبرة، وأم سبرة، رضى الله تعالى عنهم جميعًا، وحشرنا الله في زمرتهم، وأماتنا على حبهم وسيرتهم.
1- حديث على ابن أبي طالب، رضى الله تعالى عنه:
أخرجه ابن عدي في (الكامل) (5 / 1883) من طريق عيسى بن عبد الله عن أبيه، عن جده، عن علي رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» .
قال ابن عدي: هذا الإسناد ليس بمستقيم.
__________
(1) هذا الفصل عبارة عن رسالة الشيخ الفاضل أبي إسحاق الحويني (كشف المخبوء بثبوت حديث التسمية عند الوضوء) وهي عبارة عن رد علمي على أحد طلبة العلم المعاصرين، بتصرف واختصار.
(1/231)
________________________________________
قلتُ: عيسى بن عبد الله متروك كما قال الدارقطني وقال ابن حبان في (المجروحين) (2/ 121 - 122)
" يروي عن أبيه، عن آبائه أشياء موضوعة، لا يحل الاحتجاج به، وكأنه كان بهم ويخطئ، حتى كان يجيئ بالأشياء الموضوعة على اسلافه، فبطل الاحتجاج بما يرويه لما وصفت " اهـ.
2- حديث أبي بكر الصديق رضى الله تعالى عنه:
أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 3) وأبو عبيد في (كتاب الطهور) - كما في (التلخيص) (0 1 / 76) من طريق خلف بن خليفة، عن حسين بن عمار، عن أبي بكر موقوفًا فذكره بنحو حديث ابن مسعود الآتي. وفي سنده عمار، عن أبي بكر موقوفا فذكره بنحو ابن مسعود الآتي وفي سنده ليث بن أبي سليم وفيه مقال، ثم هو موقوف.
3- حديث أبي سعيد الخدري رضى الله تعالى عنه:
أخرجه ابن أبي شيبة (1 /2-3) ، وابن ماجة (397) ، وابن السكن في " صحيحه "، والبزار - كما في " التخليص" (1 / 73) ، والدارمي (1 /141) وأحمد (3 / 41) ، وأبو يعلي في (مسنده) (2 / 324، 424) وابن السني في (اليوم والليلة) (26) والطبراني في (الدعاء) (ق 46 / 2-1) ، وابن عدي في (الكامل) (3 / 1034) ، والدارقطني (1/ 71) ، والحاكم (1/ 147) ، (1/ 43) والحافظ في (النتائج) (1/230) من طريق كثير بن زيد، ثنا ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» .
قلتُ: وهذا سند صالح.
(1/232)
________________________________________
أما كثير بن زيد، فقد وثقه ابن حبان، وابن عمار الموصلي وقال أحمد وابن معين وابن عدي (لا بأس به) .
وقال أبو زرعة: (صدوق فيه لين) .
وقال أبو حاتم: (صالح، ليس بالقوي، يكتب حديثه) .
وضعفه النسائي وابن معين في رواية والطبري.
وخلطه ابن حزم بـ (كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف) فلم يُصب.
قلتُ: والحاصل أن كثير بن زيد إلى القوة أقرب منه إلى الضعف. وها هنا قاعدة جليلة في الرواة المختلف فيهم - ذلك أننا نعتبر الجرح والتعديل فيه فحيث يستويان، فحديثه يكون حسنًا في الشواهد، وإن غلب جانب الجارحين ضُعِّفَ، وإن غلب المعدلين مع عدم تفسير الجرح كان أقرب إلى القوة وكذلك الحال في (كثير بن زيد (.
أما رُبيح بن عبد الرحمن - بضم الراء وفتح الموحدة - فوثقه ابن حبان وقال ابن عدي:
(أرجو أنه لا بأس به) .
وقال أبو زرعة:
(شيخ) . كما في (الجرح والتعديل) (1 / 2 / 519)
قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (1 / 1/ 37) :
" وإذا قيل في الراوي: شيخ فهو بالمنزلة الثالثة يكتب حديثه، وينظر فيه " اهـ
(1/233)
________________________________________
أما قول أحمد:
(ربيح رجل ليس بالمعروف)
فمن عرف حجة على من لم يعرف، وقد عرفه غيره أما البخاري، فنقل عنه الترمذي في (العلل) انه قال فيه: (منكر الحديث) .
ويغلب على ظني - والله أعلم - أن حكم البخاري رحمه الله له اعتبار آخر بخلاف حال ربيح في نفسه، فقد يكون روي شيئًا رآه البخاري منكرًا فألصق التبعة بـ (ربيح) أو نحو ذلك.
وبالجملة فقول أبي زرعة رحمه الله تلخيصُ جيد لحال ربيح بن عبد الرحمن فيكتب حديثه وينظر فيه.
وقد زعم ابن عدي - رحمه الله تعالى - أن زيد بن حباب تفرد بالحديث عن كثير بن زيد. وليس كما قال بل تابعه أبو أحمد الزبيري، وأبو عامر العقدي وغيرهما.
وقال أحمد بن حفص:
" سُئل أحمد بن حنبل - يعنى وهو حاضر - عن التسمية في الوضوء؟ فقال: لا أعلم فيه حديثًا يثبت أقوى شئ فيه حديث كثير بن زيد، عن ربيح. وربيح رجل ليس بالمعروف ".
رواه ابن عدي في (الكامل) (3 / 1034 - 6 / 2087)
وقال أبو بكر الأثرم أحمد بن محمد بن هانئ: " قلتُ لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: التسمية في الوضوء؟ فقال أحسن شئ فيه حديث ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبي سعيد الخدري ".
(1/234)
________________________________________
رواه العقيلي في " الضعفاء " (1 / 177) ، والحاكم (1 / 147) .
وقال إسحق بن راهويه:
(هو أصح ما في الباب) .
وقال الحافظ في " نتائج الأفكار " (1/ 231) : (حديث حسن) حديث أبي هريرة. رضى الله تعالى عنه:
أخرجه أبو داو د (101) واللفظ له، وابن ماجة (399) ، وأحمد (2 / 418) ، والترمذي في " العلل "، وابن السكن في " صحيحه " - كما في " التلخيص " (1 / 72) - والطبراني في " الدعاء "، وعنه الحافظ في " نتائج الأفكار " (1 / 225) والدراقطني (1 / 72، 79) ، والحاكم (1 / 146) ، والبيهقي (1 / 43) ، والبغوي في " شرح السنة " (1 / 409) من طريق يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبى هريرة مرفوعًا:
«لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالىَ عَلَيْهِ» .
قال الحاكم:
" صحيح الإسناد، فقد احتج مسلم بيعقوب بن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة: دينار ".
قلتُ: قد وهم الحاكم رحمه الله تعالى من وجهين:
الأول: أن يعقوب ليس هو ابن أبي سلمة الماجشون.
قال ابن الصلاح: " انقلب إسناده على الحاكم "
(1/235)
________________________________________
وكذا قال النووي في " المجموع " (1 / 344) .
وقال الحافظ: " ادعى الحاكم أنه الماجشون!، والصواب أنه الليثي ".
وسبقه إلى ذلك الذهبي.
وقال ابن دقيق العيد:
" لو سلم للحاكم انه يعقوب بن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة: دينار فيحتاج إلى معرفة حال أبي سلمة، وليس له ذكر في شئ من كتب الرجال، فلا يكون أيضًا صحيحًا ".
الثاني: قال البخاري في " الكبير " (2 / 76) :
(لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة، ولا ليعقوب من أبيه) أهـ.
قال صاحبنا فيما تقدم:
" إسناده ليس بصحيح لجهالة يعقوب بن سلمة وأبيه ".
قلتُ: كذا قال، وسأجيبك بجواب يلزمك - وإن كنت لا أقول به - ذلك أنك زعمت لي قبل أن الجهالة ليست جرحًا، فكان يلزمك ألا تُعلَّ الحديث بالجهالة.!!
قال الشوكاني:
" ليس في إسناده ما يسقطه عن درجة الاعتبار ".
وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه.
1 - محمد بن سيرين، عنه مرفوعًا:
(1/236)
________________________________________
" يا أبا هريرة إذا توضأت فقل: بسم الله، والحمد لله فإن حفظتك لا تستريح، وتكتب لك الحسنات حتى تُحدث من ذلك الوضوء "
أخرجه الطبراني " الصغير " (1 / 73) من طريق عمرو بن أبي سلمة، حدثنا إبراهيم بن محمد البصري، عن على بن ثابت، عن محمد بن سيرين به.
وقال:
" لم يروه عن على بن ثابت [أخو ابن أخي] عزرة بن ثابت، إبراهيم بن محمد البصري ن تفرد به عمرو بن أبي سلمة ".
قال الحافظ الهيثمي في " المجمع" (1/220) :
(إسناده حسن) !!.
قلت: وهو عجبٌ! وإبراهيم هو ابن محمد بن ثابت الأنصاري المترجم في " اللسان " (1 / 98) وثقه ابن حبان وقال ابن عدي في " الكامل "
(1 / 260، 261) : " روي عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره مناكير... ثم قال: وأحاديثه صالحة محتملة، ولعله أُتى ممن قد رواه عنه "! !
قلت: وهذا الترجي من ابن عدي فيه نظر، فإنه ساق له أحاديث، الراوي عنه فيها هو أبو مصعب الزهري، وعمرو بن أبي سلمة وكلاهما ثقة، فلا تكون المناكير إلا من إبراهيم.
وقد أشار الحافظ في " اللسان " في ترجمة إبراهيم هذا إلى الحديث ثم قال: " وهو منكر ". وقال في "النتائج " (1/ 228) : (على بن ثابت مجهولا، والراوي عنه ضعيفٌ) .
(1/237)
________________________________________
وقد أورده ابن الجوزي في " الموضوعات " (3 / 185 - 186) من طريق عمرو بن أبي سلمة به، مع طريق أخرى ثم قال:
" هذا حديث له أصل وفي إسناده جماعة مجاهيل لا يعرفون أصلا.... "
2- أبو سلمة، عنه:
أخرجه الدراقطني (1 / 71) ، والبيهقي (1 / 44) والحافظ في "النتائج " (1/ 6 22) ، من طريق محمود بن محمد أبو يزيد الظفري، ثنا بن النجار، عن يحي بن أبي، كثير عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا.
(ما توضأ من لم يذكر اسم الله عليه، وما صلى من لم يتوضأ) .
قال الحافظ في "النتائج ":
" هذا حديث غريب تفرد به الظفري، ورواته من أيوب فصاعدا مخرجٌ لهم في الصحيح، لكن قال الدراقطني في الظفري: ليس بقوي. وقال يحيى بن معين: سمعت أيوب بن النجار يقول: لم أسمع من يحيى بن أبي كثير سوي حديث واحد، وهو حديث: احتج آدم وموسى، فعلى هذا يكون في السند انقطاع، إن لم يكن الظفري دخل عليه إسناد في إسناد " اهـ.
وسبق البيهقي إلى حكاية هذا عن يحيى بن معين.
3- مجاهد، عنه:
أخرجه الدارقطني (1 / 74) ومن طريقه البيهقي (1 / 45) والحافظ في " نتائج الأفكار " (1 / 227) من طريق مرداس بن محمد، ثنا محمد بن أبان، ثنا أيوب بن عائد، عن مجاهد، عن أبي هريرة مرفوعًا: (
(1/238)
يتبع بتوفيق الله تعالى...



كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ    كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  Emptyالإثنين 21 مارس 2011, 6:56 am

من توضأ فذكر اسم الله تطهر جسده كله، ومن توضأ فلم يذكر اسم الله لم يطهر سوى مواضع الوضوء) .
قال الحافظ:
" هذا حديث غريب، تفرد به مرداس وهو من ولد أبي موسى الأشعري ضعفه جماعة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يغرب وينفرد، وبقية رجاله ثقات " أهـ.
فمثله يصلح في الاعتبار. والله أعلم.
5- حديث سعيد بن زيد، رضى الله تعالى عنه:
وقد اختلف فيه على ألوان مع زيادة في متنه أحيانًا.
* الأول: يرويه عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي ثفال المري، عن رباح بن عبد الرحمن، عن جدته، عن أبيها سعيد بن زيد مرفوعًا: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) .
وقد رواه على هذا الوجه جماعة عن عبد الرحمن بن حرملة، منهم:
1- بشر بن المفضل.
أخرجه الترمذي (25) ، والدارقطني (1 / 73) والطبراني في " الدعاء " (ق 45 / 2 - 46 / 1) .
2- وهيب بن خالد.
(1/239)
________________________________________
أخرجه ابن أبي شيبة (1 / 3) ، وأحمد (6 / 382) ، وابن المنذر في " الأوسط " (ج1 / رقم 344) ، والعقيلي في " الضعفاء " (1 /177) والطحاوي في " شرح الآثار " (1 / 26 - 27) ،
والدارقطني (1 / 73) والبيهقي (1 / 43) ، والطبراني في " الدعاء " (ق 46 / 1) .
3- ابن أبي قديك.
أخرجه الدارقطني (1 / 72 - 73) ، والبيهقي (1 / 43) .
4- يعقوب بن عبد الرحمن.
أخرجه الدارقطني (1 / 73) .
5- يزيد بن عياض.
أخرجه ابن ماجة (398) ، وأحمد (4 / 70) ، وابن شاهين في " الترغيب " (ق 18 / 1) ، والطبراني في " الدعاء " (ق 45 / 2)
6- سليمان بن بلال.
أخرجه الطحاوي (1 / 27) ، والحاكم (4 / 60) .
7- الحسن بن أبي جعفر.
أخرجه الطيالسي (242، 243) .
وخالفهم جماعة وهو:
(1/240)
________________________________________
* اللون الثاني: فرووه عن عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي ثفال، عن رباح ابن عبد الرحمن، عن جدته، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. فلم يذكروا أباها.
قال الحافظ في" التلخيص " (1 / 74) نقلًا عن الدارقطني:
"وقال حفص بن ميسرة، وأبو معشر، وإسحق بن حازم:
عن ابن حرملة...... ولم يذكروا (أباها) ".
قلتُ: الذى وقفت عليه من حديث حفص بن ميسرة وأبي معشر، أنه ذكر سعيد بن زيد في روايته، فوافق بشر بن المفضل ومن معه.
أخرجه أحمد (4 / 70 و 5 / 381 - 382 و 6 / 382 - 337) والطبراني في "الدعاء " (ق 46 / 1) وابن الجوزي في " الواهيات " (1 - 336 - 337) من طريق الهيثم بن خارجة، ثنا حفص بن ميسرة، عن ابن حرملة عن أبي ثفال المري، عن رباح بن عبد الرحمن، عن جدته عن أبيها به.
وما أشار إليه الدارقطني رحمه الله تعالى من مخالفة بن ميسرة لم أقف عليه حتى ننظر حال الراوي فيه حفص، فإن كان أوثق من خارجة بن الهيثم، ترجحت روايته، وإلا فالعكس.
وإن تساووا في الحفظ فيكون حفص رواه على الوجهين. والله أعلم.
ثم وقفتُ على " علل الدارقطني " (ج1 / ق 130 / 2) فرأيته رواه من طريق سويد بن سعيد، عن حفص بن ميسرة به، ولم يذكر:
" سعيد بن زيد ".
(1/241)
________________________________________
والهيثم بن خارجة أوثق من سويد، لأن هذا تكلم فيه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم.
* أما رواية أبي معشر.
فأخرجها الطبراني في " الدعاء " (ق 46 / 1) قال:
حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي ثنا أبو معشر البراء، ثنا ابن حرملة، وأنه سمع أبا ثفال يقول: سمعت رباح أو رياح - شك المقدمي - ابن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب يقول: حدثني جدتي، أنها سمعت أباها يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِى وَلاَ يُؤْمِنُ بِى مَنْ لَمْ يُحِبَّ الأَنْصَارَ» .
قلت: هكذا روي أبو معشر، فواق بشر بن المفضل في ذكره (سعيد ابن زيد)
قلت: هكذا روي أبو معشر بن المفضل في ذكره " سعيد ابن زيد ".
ولكن اختلف في سنده.
فأخرجه أحمد (6 / 382) قال: حدثنا، ثنا أبو معشر، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن أبى ثفال المري، عن رباح بن عبد الرحمن ابن حويطب، عن جدته، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: فذكرته بمثله مع تقديم وتأخير.
فسقط ذكر: " سعيد بن زيد ".
(1/242)
________________________________________
قلت: ويظهر أن هذا الاختلاف من أبي معشر، واسمه يوسف بن زيد، وذلك لثقة من روي عنه.
أما يوسف، فقد ضعفه ابن معين، وقال أبو داود:
(ليس بذاك) .
وقال أبو حاتم:
(يكتب حديثه) .
ووثقه محمد بن أبي بكر المقدمي، وابن حبان.
وأما رواية إسحق بن حازم، فلم اقف عليها، وعلى كل حال، فهي مرجوحة كما يأتي إن شاء الله تعالى.
* اللون الثالث:
أن الدراورديَّ، عبد العزيز بن محمد، رواه عن أبي ثفال، عن رباح بن عبد الرحمن عن ابن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا.
هكذا ذكر الدراقطني في " العلل " كما في " التلخيص " (1 / 74) فاختلف الدراوردي مع عبد الرحمن بن حرملة في إسناده.
ولكن اختلف على الدراوردي فيه.
فأخرجه الطبراني في " الدعاء " (ق 46 / 1) من طريقين عن الدراوردي، عن أبى ثفال المري، قال سمعت رباح بن عبد الرحمن بن حويطب، يحدث عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة مرفوعًا.
(1/243)
________________________________________
«لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» .
قلت: فلو كان ذكر أبي هريرة محفوظًا، لكان اختلافًا قادحًا في رواية الدراوردي. ولكن الشأن فيمن روي عن الدراوردي الرواية المرسلة.
ثم رأيت الحديث في " شرح معاني الآثار " (1 / 27) للطحاوي. فرواه من طريق الدراوردي، عن ابن حرملة، عن أبي ثفال، عن رباح بن عبد الرحمن، عن ابن ثوبان، عن أبي هريرة مرفوعًا به فلا أدري، هل هذا من خطأ النسخة، أم هو اختلاف آخر على الدراوردي في سنده؟ !
ذلك أن شيخ الدراوردي في سند الطحاوي هو عبد الرحمن بن حرملة، بينما شيخه عند الطبراني هو (أبو ثفال المري) . فالله اعلم بحقيقة الحال.
* اللون الرابع:
رواه حماد بن سلمة، عن صدقه مولي آل الزبير، عن أبي ثفال، عن أبي بكر بن حويطب مرسلًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أخرجه الدولابي في " الكني " (1 / 120) وذكره البيهقي (1 / 44) عن الترمذي. قال: " وهو حديث مرسل ".
وصدقة مولى آل الزبير جهّله الدراقطني كما نقله ابن الجوزي في " الواهيات " (1 / 338) عنه.
قلت: والراجح من هذا الاختلاف هو الوجه الأول، الذى رواه بشر بن المفضل ووهيب ومن معهما كما قال الدراقطني رحمه الله.
وإذا قد رجحنا الوجه الأول، فلننظر فيه: قال الترمذي: " قال أحمد بن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثا له إسناد جيد ".
(1/244)
________________________________________
وقال البخاري:
" أحسن شئ في هذا الباب حديث رباح بن عبد الرحمن ".
وقال العقيلي:
" الأسانيد في هذا الباب فيها لين ".
وقال ابن أبي حاتم في " العلل " (1 / 52 / 129) :
" سمعت أبي، وأبا زرعة، وذكرت لهما حديثًا رواه عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي ثفال..... فذكره فقالا: ليس عندنا بذاك الصحيح. وأبو ثفال مجهولًا ورباح مجهولًا ".
وقال البيهقي:
" أبو ثفال، ليس بالمعروف جدا!!
قلتُ: أما أبو ثفال، فقد قال البخاري: " في حديثه نظر " قال الحافظ في " التلخيص " (1 / 74) : وهذه عادته فيمن يضعفه.
وقد فرّق الشيخ العلامة ذهبيُّ المعلمي اليماني رحمه الله تعالى بين قول البخاري: " فيه نظر "، وبين: " في حديثه نظر ".
قال رحمه الله تعالى في " التنكيل " (1 / 205) :
" فقوله: (فيه نظر) تقتضي الطعن في صدقه، وقوله: (في حديثه نظر) تشعر بأنه صالح في نفسه، وإنما الخلل في حديثه لغفلة أو لسوء حفظ".
(1/245)
________________________________________
قلتُ: وقول الشيخ رحمه الله تعالى في تفسير قوله: " فيه نظر " بأن ذلك يقتضي الطعن في صدقه، فيه نظر فقد قال البخاري في عبد الرحمن بن هاني النخعي كما في "التهذيب " (6 / 290) : فيه نظر، وهو في الأصل. صدوق ".
فهذا يبين أن المقتضي لا يدوم غنما يقال في العبارة يحتمل الطعن في الصدق إلا أن يقال: من قال فيه البخاري هذه العبارة مطلقة فالأصل أنها لا تشمل صدقه، إلا ان يردفها بالقرينة التى تقيد هذا الإطلاق كما في المثال الذى ذكرته. وفيه بُعْدٌ عندي. فهذا يحتاج إلى نص من الإمام، أو استقراء تتابع عليه جماعة حتى يوثق بفهمهم، ومع أننا وجدنا أن البخاري أطلق هذه العبارة في جماعة ثقات لا يشك أحد في صدقهم مثل راشد بن داود الصنعاني، وسليمان ابن داود الخولاني، وعبد الرحمن بن سليمان الرُّعيني وغيرهم والصواب ألا يُطَّرد هذا الفهم وأيضًا فتفسير اليماني رحمه الله لقول البخاري: " في حديثه نظر " تفسير حسن رايقٌ، ويضاف إليه أن البخاري قد يقول هذه العبارة ولا يقصد بها الروي أصلًا، إنما يقصد أنه حديثه لا يصحُّ، وتكون الآفة ممن دونه. والله اعلم.
وأبو ثفال هذا ذكره ابن حبان في " الثقات " إلا أنه قال: " ليس بالمعتمد على ما تفرد به ".
قال الحافظ:
" فكأنه لم يوثقه ".
وأما قول البزّار: " أبو ثفال مشهور " فهذا لا يخرجه عند حد الجهالة لا سيما أنه قال عقب الخبر:
" رباح وجدته لا نعلمها رويا إلا هذا الحديث، ولا حدث عن رباح إ لا أبو ثفال. فالخبر من جهة النقل لا يثبت ".
(1/246)
________________________________________
فهذا بخصوص أبي ثفال.
أما رباح فمجهولٌ كما قال أبو حاتم وأبو زرعة. والله أعلم
وفي (نصب الراية 9 (1 / 4) :
" وأعله ابن القطان في (كتاب الوهم والإيهام) وقال: فيه ثلاثة مجاهيل الأحوال: جدة رباح لا يعرف لها اسم ولا حال، ولا تعرف بغير هذا عز وجل ورباح أيضا مجهولا الحال ن وأبو ثفال مجهولا الحال أيضا مع أنه أشهرهم لرواية جماعة عنه منهم الدراوردي " أهـ
وتعقبه الحافظ في " التلخيص " (1 / 74 9) فيما يتعلق بـ " جدة رباح " فقال:
" كذا قال! فأما هى فقد عرف اسمها من رواية الحاكم، ورواه البيهقي أيضًا مصرحًا باسمها. وأما حالها فقد ذكرت في الصحابة، وإن لم يثبت لها صحبة فمثلها لا يسئل عن حالها " أهـ
وعليه فيعلم ما في قول الشيخ أبي الأشبال رحمه الله تعالى، إذ قال في شرح الترمذى (1 / 38 9) : إسناده جيد حسن!!
وقال ابن القطان رحمه الله تعالى:
" الحديث ضعيف جدا "!
قلتُ: بل هو ضعيف فقط، ويصلح للاعتبار. والاختلاف في إسناده لا يضر مع قيام وجه الترجيح، وقد تحقق هنا والله أعلم.
6- حديث أنس رضى الله تعالى عنه:
(1/247)
________________________________________
قال الحافظ في " التلخيص " (1 / 75) :
رواه عبد الملك بن حبيب الأندلسي، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا: «لاَ إِيْمَانَ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِى، وَلاَ صَلاةَ إِلا بِوُضوءٍ، وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَم اللَّهَ» .
وعبد الملك شديد الضعف.
ويأتي حديث آخر لأنس إن شاء الله تعالي.
7 - حديث سهل بن سعد رضى الله تعالى عنه:
أخرجه ابن ماجة (400) ، والدراقطني (1 / 355) مقتصرًا على الفقرة الثالثة منه، والحاكم (1 / 269) ، والبيهقي (2 / 379) من طريق عبد المهيمن ابن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:
«لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يُصَلِّى عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يُحِبُّ الأَنْصَارَ» .
قلتُ: وهذا خبر منكر، وسنده ضعيف جدًا، وعلَّتُهُ عبد المهيمن هذا، فهو متروك.
قال الحاكم:
" لم يخرج هذا الحديث على شرطهما، لأنهما لم يخرجا عبد المهيمن ".
قال الذهبي: " عبد المهيمن واه ".
(1/248)
________________________________________
وقال الدارقطني عقبه: " عبد المهيمن ليس بالقوي ".
لكنه لم يتفرد بمحل الشاهد.
فقد تابعه أبي بن العباس، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» .
ولم يذكر الفقرتين الأخيرتين.
أخرجه الطبراني في الكبير (ح6 / رقم 5698) ، وفي (الدعاء) (ق 46 / 2) ، ومن طريقه الحافظ في (النتائج) (1 / 234) .
ولم يتكلم عليه المناوي بشئ في (الفيض) . (6 / 440) .
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار) (1 / 160) :
" أُبىٌّ مختلف فيه ".
وقال الحافظ عقب تخريجه:
" عبد المهيمن ضعيف، وأخوه أُبىٌّ الذى سقته من روايته أقوى منه ".
قلتُ: ولا يفهم من قول الحافظ هذا، أنه يقوي أُبىٌّ بن العباس إنما ساق مقالته مساق المقارنة، إذا الراجح في أُبىٌّ أنه ضعيف، وأخوه عبد المهيمن متروك. فالضعيف أقوى من المتروك بلا ريب.
وقد نازعني بعض الناس في حال (أُبىٌّ بن العباس) هذا، وزعم أنه ممن يحتج بحديثه!!
فأقول: كيف هذا؟ !.
(1/249)
________________________________________
وقد ضعّفه ابن معين، والساجي، وأبو العرب القيرواني فيما نقله عنه مغلطاي.
وقال أحمد: (منكر الحديث) .
وقال البخاري: (ليس بالقوي) .
وترجمه ابن أبي حاتم (1 / 1 / 290) ولم يحك فيه جرحًا ولا تعديلًا. وقال النسائي في " الضعفاء " (23) : (ليس بالقوي) .
وقال العقيلي: (له أحاديث لا يتابع على شئ منها) .
وقال الذهبي في " المغنى في الضعفاء " (1 / 32) : (وُثق، وقد ضعّفه ابن معين وقال أحمد: منكر الحديث) .
فهو يشير بقوله: (وثق) إلى ضعف جهة التوثيق.
فهذا جانب من جرّحه.
أما من اثنى عليه ممن وقفت على نصوصهم فهم:
1- ابن حبان: ذكره في " الثقات " (4 / 51) .
2- الدارقطني. قوي أمره.
3- ابن عدي. قال: " يكتب حديثه، وهو فرد المتون والأسانيد ".
4- الذهبي. قال في " الميزان ": (أُبىٌّ، وإن لم يكن بالثبت، فهو حسن الحديث، وأخوه عبد المهيمن واهٍ) .
(1/250)
________________________________________
قلتُ: أما بالنسبة لابن حبان رحمه الله تعالى، ففي ذكره أُبىًّا في (الثقات) نظر. وأرى فرقًا بين من يوثقه ابن حبان نصًا، وبين من يذكره في الثقات بغير تنصيص على حاله. فهذا أقلُّ منزلة من الأول بلا شك. وفي الحالة الثانية يدخل كثير من الخلل، لا سيما إن كان الراوي من المقلين، وكان أُبىٌّ مقلًا في روايته كما قال الذهبي في " من تكلم فيه وهو موثق " رقم (12) .
وحتى لو صرح ابن حبان بتوثيقه، فلا يقبل قوله عند معارضته من هو أمكن منه في العلم، لا سيما إن كانوا جماعة.
وأما بالنسبة للدارقطني، فلم أقف على نص له في تقوية أمره، غير أنه روى له حديثًا في " سننه " (1 / 56) وهو: (حجران للصفحتين، وحجر للمسرية) ، ثم قال: (إسناده حسن) .
فهذا تقويته له فيما وقفت عليه.
ولكن الدراقطني ضعّفه مرة في (الإلزامات) ، فقال: (أُبىٌّ هذا ضعيف) .
وفي " سؤلات الحاكم له " (ص 186) قال: تكلموا فيه.
ورأيه هذا يوافق رأي الجماعة مع أن قوله: (إسناده حسن) لا ينفي أن يكون (لغيره) ، فحيئنذ يكون في الأصل ضعيفا، لكنه تقوي في الشواهد. هذا، مع أن الحديث الذى حسن الدارقطني إسناده، ضعيف كما قال العقيلي وغيره. والله أعلم.
أما قول ابن عدي فيفهم منه أنه ليس لابن عباس إلا القليل من الحديث ويكتب حديثه على سبيل الاعتبار، وهذا يلتقي مع تمشية الدارقطني لأمره.
(1/251)
________________________________________
أما الذهبي، فيظهر لي أنه قوى حاله لما قارنه بأخيه (عبد المهيمن) كما فعل الحافظ ابن حجر، فقال في " النتائج " (1 / 235) : (عبد المهيمن ضعيف، وأخوه أُبىٌّ اقوي منه) .
وهذا لايعطي قوة لأُبي كما ذكرتُ من قبل، لأن الحافظ رحمه الله تسامح في تضعيفه لعبد المهيمن، بل هو ضعيف جدًا.
وهذا كقول ابن معين في (عبد المهيمن) :
(أبي، وعبد المهيمن أخوان، وأبي أقومهما) .
مع أنه ضعّف أُبيًّا كما تقدم. وإنما قصد أنه أحفظهما ضعفًا. والله أعلم.
فخلاصة القول أن الذين قووا أمره، إنَّما في المتابعات، أما تفرده فلا يحتمل.
ولا يشك عارف أن جانب الجارحين أقوى لأمرين:
الأول: أنهم كثرة.
الثاني: أنهم أمكن في العلم ممن أثنوا عليه.
والله تعالى أعلم.
8-حديث عائشة رضى الله تعالى عنها:
أخرجه ابن أبي شيبة (1 / 3) وإسحق بن راهويه في " مسنده "، وأبو يعلى (119 - زوائده) ، والبزار (ج1 / 261) ، والطبراني في " الدعاء " (ق 46 / 2) ، وابن عدي في (الكامل) (2 / 616) ، والدارقطني (1 / 72) من طريق حارثة بن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة، قالت:
(1/252)
________________________________________
(كَاَنَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُومُ إِلَى الْوُضوء، فَيُسَمِّي حَتّى يَكْفِئ الإِنَاء عَلَى يَدْيِه، ثُمَّ يَتَوضأَ فَيُسْبِغَ الْوُضوء) .
وهو عند بعضهم مختصرًا.
قلت: وهذا سندٌ ضعيفٌ.
وآفته حارثة هذا، وهو ابن محمد بن عبد الرحمن.
وكان أحمد - رحمه الله - يُضعِّفه ولا يعتدُّ به.
وقال البخاري وأبو حاتم:
(منكر الحديث) .
وزاد الأخير:
(ضعيف الحديث) .
وتركه النسائي.
وكان الإمام أحمد - رحمه الله - ينتقد على إسحق بن راهويه أنه أخرج هذا الحديث في (مسنده) !
قال الحربي:
" قال أحمد: هذا يزعم أنه اختار أصح شئ في الباب، وهذا أضعف حديث فيه) !!.
وقال ابن عدي:
(1/253)
________________________________________
" بلغني عن أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه نظر في (جامع إسحق بن راهويه) ، فإذا أول حديث أخرجه في جامعه هذا الحديث، فأنكره جدًا وقال: (أول حديث في الجامع يكون عن حارثة) ؟ !! ".
9-حديث أبي سبرة، رضى الله تعالى عنه:
أخرجه الدولاني في (الكنى) (1 / 36) ، وأبو القاسم البغوي في (الصحابة) - كما في 0 نتائج الأفكار) (1 / 236) ، والطبراني في الأوسط) (ج2 / رقم 1119) ن وفي (الدعاء) (ق46 / 2) وعند الحافظ في (النتائج) (1 / 236) من طريق عيسى بن سبرة ن عن أبيه، عن جده، وأثني عليه ن ثم قال:
«أّيُّها النَّاس! لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِوُضُوءٍ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلَم يُؤْمِنُ بِاللَّهِ مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِى وَلَم يُؤْمِنُ بِى مَنْ لَم يَعْرِفْ حَقَّ الأَنْصَارَ» .
قال الطبراني:
(لا يروي هذا الحديث عن ابن سبرة، إلا بهذا الإسناد) .
قال الحافظ:
(وأخرجه أبو موسى في " المعرفة " وقال: - كما في (الإصابة)
8/ 237) ، في إسناد حديثها نظر) .
قلتُ: عيسى بن سبرة. قال أبو القاسم البغوي: (منكر الحديث) .
ذكره الحافظ في " النتائج " (1 / 236) .
وضعفه الشوكاني في " النيل " (1/ 160) .
وأبوه مجهول الحال. والله أعلم.
(1/254)
________________________________________
قال الهيثمي - رحمه الله - في (المجمع) (1 / 228) (عيسى بن سبرة، وأبوه، عيسى بن يزيد لم أر من ذكر أحدًا منهم) اهـ.
وفيما تقدم استدراكٌ على بعض ما قال. والله أعلم
قال الحافظ في (النتائج) : (هذا حديث غريب) .
10 - حديث ابن مسعود، رضى الله تعالى عنه.
أخرجه الدراقطني (1 / 74) ، والبيهقي (1 / 44) ، وأبو الحسين الصيداوي في (معجمه) (291 - 292) من طريق يحيى بن هاشم، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله ابن مسعود مرفوعًا:
«إِذَا تَطَهَّرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُطَهِّرُ جَسَدَهُ كُلَّهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فِي طُهُورِهِ لَمْ يَطْهُرْ مِنْهُ إِلاَّ مَا مَرَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طُهُورِهِ فَلْيَشْهَدْ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» .
قال الدارقطني: (يحيى بن هاشم ضعيف) .
وقال البيهقي: (هذا ضعيف، لا أعلمه رواه عن الأعمش غير يحيى بن هاشم، ويحيى بن هاشم متروك الحديث) .
وقال بنحو ذلك في " النتائج " و" التلخيص " (1 / 75) .
11- حديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما:
أخرجه الدراقطني (1 / 74 - 75) ، والبيهقي (1 / 44) من طريق عبد الله بن حكيم، أبي الداهري، عن عاصم بن محمد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا:
«مَنْ تَوَضَّأَ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَىه كَانَ طُهُورًا لِجَسَدِهِ وَمَنْ تَوَضَّأَ فَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَىه» .
قال البيهقي:
(1/255)
________________________________________
" وهذا أيضا ضعيف. وأبو بكر الداهري غير ثقة عند أهل العلم بالحديث ".
وقال الحافظ في " نتائج الأفكار " (1 / 237) :
" تفرد به أبو بكر الداهري، واسمه عبد الله بن حكيم، وهو متروك الحديث ".
فالحاصل أن الحديث حسنٌ على أقل أحواله بمثل هذه الشواهد، وأقصد بها حديث أبى سعيد الخدري، وبعض الطرق من حديث أبي هريرة، وسعيد بن زيد وسهل بن سعد، وما عدا ذلك، فضعفه لا يحتمل، وإنما ذكرته أولًا لتعلقه بالباب، وثانيًا لأنبه عليه.
ومما يشهد للحديث ويزيده قوة ما:
أخرجه النسائي (1 - 62) ، وأحمد (3 / 165) ، وابن خزيمة (1 / 74) ، وابن السني في (اليوم والليلة) (27) ، والدراقطني (1 / 71) والبيهقي (1 / 43) من طريق معمر، عن ثابت وقتادة، عن أنس قال:
نَظَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَضُوءاً فَلَمْ يَجِدُوا. قَالَ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- «هَا هُنَا مَاءٌ» . قَالَ فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَضَعَ يَدَهُ فِى الإِنَاءِ الَّذِى فِيهِ الْمَاءُ ثُمَّ قَالَ «تَوَضَّئُوا بِسْمِ اللَّهِ» . فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَفُورُ يَعْنِى بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَالْقَوْمُ يَتَوَضَّئُونَ حَتَّى تَوَضَّئُوا عَنْ آخِرِهِمْ. قَالَ ثَابِتٌ فَقُلْتُ لأَنَسٍ كَمْ تُرَاهُمْ كَانُوا قَالَ نَحْواً مِنْ سَبْعِينَ.
قلت: وأصله في الصحيحين دون قوله: (توضئوا، بسم الله) .
وقد بوَّب هؤلاء الأئمة جميعًا - عدا أحمد كما هو ظاهر - على هذا الحديث بقولهم: (باب التسمية على وضوء) وتختلف عبارتهم، والمعنى واحد.
(1/256)
________________________________________
قال البيهقي:
(هذا أصح ما ورد في التسمية) .
وكذا قال العيني في " العمدة " (2 / 267) .
وأخرج البخاري (1 / 242 - فتح) حديث ابن عباس مرفوعًا:
«لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَقُضِىَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ» .
قلتُ: روى البخاري هذا الحديث في كتاب الطهارة مع كونه غير متعلق به وبوّب عليه بقوله: (باب التسمية على كل حال، وعند الوقاع) .
قال العيني في (عمدة القارئ) (2 / 266) :
"لما كان حال الوقاع أبعد حال من ذكر الله تعالي، ومع ذلك تسن التسمية ففي سائر الأحوال بطريق الأولي، فذلك أورده البخاري في هذا الباب للتنبيه على مشروعية التسمية عند الوضوء ".
وقريب منه قول الحافظ في (الفتح) (1 / 242) .
(1/257)
________________________________________
(ذِكْرُ مَنْ ثَبَّتَ الحَدِيْثُ مِنَ الحُفَّاظِ، وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ ضَعَّفَهُ)
أما العلماء الذين ثبَّتوا الحديث فهم كثير، منهم:
1- إسحق بن راهويه:
قال: (أصح شئ فيه حديث كثير بن زيد) .
2- البخاري:
قال: (حديث سعيد بن زيد أحسن شئ في هذا الباب) .
3- أبو بكر بن أبي شيبة:
قال:
(ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله) .
4- المنذري:
قال في الترغيب: (1 / 100) :
" وفي الباب أحاديث كثيرة، لا يسلم شئ منها عن مقالٍ، وقد ذهب الحسن وإسحق بن راهويه، وأهل الظاهر إلى وجوب التسمية في الوضوء حتى إنه إذا تعمد تركها أعاد الوضوء، وهو رواية عن الإمام أحمد.
ولا شك أن الأحاديث التى وردت فيها وإن كان لا يسلم شئ منها عن مقال، فإنها تتعاضد بكثرة طرقها، وتكتسب قوة. والله أعلم) أهـ
5- ابن الصلاح أبو عمرو:
نقل عنه الحافظ في (نتائج الأفكار) (1 / 237) قوله:
(ثبت بمجموعها ما يثبت به الحديث الحسن، والله أعلم) أهـ
6- أبو الفتح اليعمري، ابن سيد الناس:
(1/258)
________________________________________
قال: (أحاديث الباب إما صريحٌ غير صحيح، وإما صحيح غير صريح) .
7- الحافظ العراقي:
نقل في " المغني " (1 / 133) قول البخاري السابق وأقره.
8- ابن القيم:
قال في " المنار " (45) :
(أحاديث التسمية على الوضوء، أحاديث حسان) .
وقال في (الزاد) (1 / 195) .
(وكل حديث في أذكار الوضوء الذى يقال عليه فكذب مختلق، لم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا منه، ولا علمه لأمنه ن ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله) أهـ
9- الحافظ ابن حجر:
قال في (التلخيص) (1 / 75) :
(والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة، تدل على أن له أصلا.)
10 - الحافظ ابن كثير:
قال الشوكاني في (السيل الجرار) (1 / 73) :
" وقال ابن كثير في (الإرشاد) : طرقه يشد بعضها بعضا، فهو حديث حسن أو صحيح " أهـ
قلت: وقد صرح في (تفسيره) (1 / 34) - طبع الشعب) بأنه (حديث حسن) .
11- الصنعاني في (سبل السلام) (1 / 80) .
(1/259)
________________________________________
12- الشوكاني في (نيل الأوطار) ، (1 / 160) وفي (السبيل الجرار) (1 / 77) .
13 - مبارك كفوري في (التحفة) (1 / 116) قال نحو مقالة الحافظ في (التلخيص) .
14 - الشيخ أبو الأشبال أحمد شاكر:
قال في (شرح الترمذي) (1 / 38) : (جيد حسن) .
15- شيخنا ن محدث العصر، ناصر الدين الألباني:
قال في (صحيح الجامع) (7573) : (صحيح) .
قلتُ: فهؤلاء الذين ذكرتهم قووا الحديث، ما بين مصحح، ومحسن له ولننظر الآن في قول الإمام أحمد رحمه الله، وطيب ثراه.
قال صاحبنا:
(والمسألة ليست إيجاد مخرج من تضارب النقل في قولي الإمام أحمد، فإن هذا يوحي أن النقلين صحيحان، وهذا ما لا يستقيم إلا إذا استقام ذنب الضب) أهـ.
قلتُ: فظاهر من قوله أن أحد النقلين عن الإمام أحمد ضعيف لا يصح، وهو بالطبع يعنى القول الآخر والذى يفهم منه أنه يقوي الحديث. والواقع أن النقلين صحيحان عن أحمد، وهذا ما لم يتحققه صاحبنا، حتى دفعه ذلك إلى إحالة الصحة لهما عن الإمام، بقوله: (وهذا ما لا يستقيم.... إلخ) .
أما قول الإمام:
" لا يثبت فيه حديث صحيح " أو " لا يثبت فيه شئ " فهو مذكور في (مسائل أبي داود) (ص6) ، و (مسائل إسحق بن هانئ) (1 / 3) ، و (مسائل عبد الله) ، (ص25) .
وعند ابن عدي في (الكامل) (3 / 1034 - 6 / 2087) :
(1/260)
________________________________________
" قال أحمد بن حفص السعدي: سئل الإمام أحمد عن التسمية في الوضوء؟ فقال: لا أعلم فيه حديثًا يثبت ".
ونقل الخلال في (العلل) عن أبي بكر المروزي، عن أحمد: (ليس فيه شئ يثبت) .
ونقل الترمذي عن أحمد:
(لا أعلم في هذا الباب حديثًا له إسناد جيد) .
وكذا نقله ابن العربي في (عارضة الأحوذي) (1 / 43) وأقره. ونقله البيهقي والنووي وغيرهما عن أحمد فهو ثابت عنه يقينًا.
وقد أجاب الحافظ في (نتائج الأفكار) (1 / 223) عن قول الإمام أحمد فقال:
" لا يلزم من نفي العلم، ثبوت العدم. وعلى التنزُل: لا يلزم من نفي الثبوت، وثبوت الضعف، ولاحتمال أن يراد بالثبوت: ثبوت الصحة، فلا ينتفي الحكم بـ (الحسن) .. وعلى التنزل: لا يلزم من نفي الثبوت عن كل فرد نفيه عن المجموع"أهـ.
قلتُ: وهذا تحقيق بديع للغاية رحمه الله.، وما أظن منصفًا يأباه. والله أعلم.
وقد جاء عن أحمد أنه قوى حديث أبي سعيد الخدري:
أخرجه الحاكم (1 / 147) ، والعقيلي في (الضعفاء) (1 / 177) من طريقين عن أبي بكر الأثرم أحمد بن محمد بن هانئ قال: (قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل التسمية في الوضوء؟ فقال: أحسن شئ فيه حديث كثير بن زيد) .
هذا لفظ الحاكم.
وهذا ثابت عن أحمد أيضًا.
(1/261)
________________________________________
مع أنه لا يلزم من قوله: (أحسن شئ في هذا الباب) أو: (أصح شئ في الباب) أو نحو هذه العبارات، لا يلزم منها صحة الحديث.
قال النووي في (الأذكار) (ص158) :
" لا يلزم من هذه العبارة أن يكون الحديث صحيحًا، فإنهم يقولون: هذا أصح ما جاء في الباب، وإن كان ضعيفًا، ومرادهم أرجحه ن أو أقله ضعفا.. " أهـ
وروى أبو داود حديثًا في (كتاب الطلاق) (2208) فقال: (هذا اصح من حديث ابن جريح............) .
فقال المنذري:
(قال أبو داود: حديث نافع بن عجير حديث صحيح، وفيما قاله نظر.... الخ) .
فتعقبه ابن القيم في (تهذيب سنن أبي داود) (6/292) :
" وفيما قاله المنذري نظر، فإن أبا داود لم يحكم بصحته، وإنما قال بعد روايته: هذا أصح من حديث ابن جريج: (أنه طلق امرأته ثلاثًا) لأنهم أهل بيته. وأعلم بقضيتهم وحديثهم. وهذا لا يدل على أن الحديث عنده صحيحٌ، فإن ابن جريج ضعيف، وهذا أيضًا ضعيف، فهو أصح الضعيفين، وهو كثير في كلام المتقدمين ولو لم يكن اصطلاحًا لهم، لم تدل اللغة على إطلاق الصحة عليه، فإنك تقول لأحد المريضين: هذا أصح من هذا. ولا يدل على أنه صحيح مطلقًا.) أهـ
قلتُ: فإن اعترض معترض بما ذكرنا على من زعم أن أحمد حسن الحديث، أو قواه.
فيقال له: لم نقل أن أحمد قال: "حسنٌ"، أو: "قويٌ" وإنما الذي قلناه: إن أحمد رضى حديث أبي سعيد الخدري، وهذا بالقياس إلى بقية أحاديث الباب.
(1/262)
________________________________________
وإن قلنا كما تقدم: حديث أبي سعيد أقل الأحاديث ضعفًا تم المراد لنا من كلام أحمد. وذلك أنه خفيف الضعف، فإذا اعتضد بما ذكرناه صار حسنًا بلا ريب، لا سيما وحديث سعيد بن زيد قال البخاري: (هو أحسن شئ في هذا الباب) فهذا إذا انضم لحديث أبي سعيد، مع بعض الطرق من حديث أبي هريرة، وإحدى الطرق من حديث سهل بن سعد، تقوى الحديث يقينًا.
وأرى أن الإمام أحمد نفى صحة هذه الأحاديث لأنه كان يرى استحباب التسمية، وليس وجوبها، وقد نقل عنه بعض أصحاب مذهبه الوجوب ولكن دعوى الاستحباب أرجح عنده.
فقد قال أبو زرعة الدمشقي في (تاريخه) (1 / 631) :
قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل، فما وجه قوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ؟ ! قال: فيه أحاديث ليست بذاك، وقد قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ........الآية} المائدة/6 فلا أوجب عليه، وهذا التنزيل، ولم تثبت سنة. أهـ.
قلتُ: فهذا النص عن أحمد يبين أن التسمية في أول الوضوء ليست بركن ولا شرط عنده.
وعلى كل حال، فإن لم يلق ما ذكرته قبولًا، وأن الإمام أحمد ضعّف الحديث بغير تردد، فالجواب أن الذين قووا الحديث كثرة، وفيهم أقران لأحمد، فجانبهم أقوى بغير شك، فكيف إذا كان يمكن حمل كلام الإمام أحمد على ما يفيد قولهم؟ !!
فهو أولى، والله أعلم.
أما بالنسبة لحكم التسمية، فالغالب على استجابتها، واحتج البيهقي على عدم وجوب التسمية بحديث رافع بن رفاعة قال:
بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ وَنَحْنُ حَوْلَهُ - شَكَّ هَمَّامٌ - إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَصَلَّى، فَلَمَّا قَضَى
(1/263)
________________________________________
الصَّلاَةَ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَى الْقَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَعَلَيْكَ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» .
فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى، وَجَعَلْنَا نَرْمُقُ صَلاَتَهُ لاَ نَدْرِى مَا يَعِيبُ مِنْهَا، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَى الْقَوْمِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَعَلَيْكَ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . قَالَ هَمَّامٌ: فَلاَ أَدْرِى أَمَرَهُ بِذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً. قَالَ الرَّجُلُ: مَا أَلَوْتُ، فَلاَ أَدْرِى مَا عِبْتَ عَلَىَّ مِنْ صَلاَتِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهَا لاَ تَتِمُّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَيَمْسَحُ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ.....» .
أخرجه أصحاب السنن، والدرامي (1 / 305 - 306 9، وأحمد (4 / 340) ، والبخاري في (جزء القراءة) (ص11- 12) ، وفي (الكبير) (2 / 1 / 319 - 320) إشارة، والطبراني في الكبير (ج5 / رقم 4520 - 4530) والطحاوي في (مشكل الآثار) (4 / 386 9 وغيرهم ذكرتهم في (غوث المكدود) (194) .
وهو حديث صحيح.
والحجة فيه أنه لم يذكر التسمية فيه، بل ذكر غسل الوجه وغيره، ولو كانت واجبة لذكرها.
وقد سبق عن أحمد انه تلا آية المائدة واحتج بها على عدم وجوب التسمية.
ويجاب عن ذلك بأن قوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) الأصل في النفي هنا نفي الصحة، وليس نفي الكمال ولا يعكر عليه ما ذكره البيهقي، فإن هذا الحديث فيه زيادة على حديث رافع بن رفاعة، فلا يحل تركها، وإنما أنكر أحمد الوجوب لتضعيفه للحديث، أما وقد ثبت، فينبغي العمل بمقتضاه. وهو وجه عند الحنابلة، فذكر صاحب الإنصاف (1 / 128) عن أحمد أن التسمية واجبة، وهى المذهب.
(1/264)
________________________________________
وقال صاحب (الهداية) ، وكذا (النهاية) و (الخلاصة) و (مجمع البحرين) والمجد في (شرحه) وغيرهم: " والتسمية واجبة في أصح الروايتين في طهارة الحدث، معها الوضوء والغسل والتيمم ن واختارها الخلال وغيره ".
وهو الذى انفصل عليه الشوكاني في " نيل الأوطار " (1 / 135 - 136) وفي " السيل الجرار " (1 / 76 - 79) وهو الحق الذى يظهر لي، والله تعالى أعلم.
(1/265)
________________________________________
المحتويات
- مقدمة المؤلف.............................................. ... ص7
- الفصل الأول: في معاني الباء................................ ... ص10
- الفصل الثاني: في اسم...................................... ص50-120
- المبحث الأول: تعريف الاسم وإثباته لله سبحانه وتعالى
- المبحث الثاني: كراهة الخوض في الاسم والمسمى
- المبحث الثالث: أقوال الناس في الاسم والمسمى
- المبحث الرابع: سياق ما فسر من كتاب الله تعالى وماروي عن رسول الله وورد من لغة العرب على أن: الاسم والمسمى واحد، وأنه هو هو لا غير.
- المبحث الخامس: قاعدة في الاسم والمسمى لشيخ الاسلام.
- الفصل الثالث: لفظ الجلالة الله............................ ص121-231
- المبحث الأول: معنى لفظ الجلالة من حيث اللغة
- المبحث الثاني: الخصائص اللفظية واللغوية للفظ الجلالة
- المبحث الثالث: الخصائص المعنوية للفظ الجلالة
- المبحث الرابع: الصفات والأسماء
- المبحث الخامس: أسماء الله الحسنى
- المبحث السادس: الله غيب مطلق
- المبحث السابع: علاقة الله بالعالم.
- الفصل الرابع: في الكلام على الرحمن الرحيم.............. ص232 -256
- الفصل الخامس: الخلاف الأصولي في قرآنية البسملة وأثره في الأحكام.. ص257 -331
- المطلب الأول: تحرير محل النزاع في المسألة
- المطلب الثاني: في القول الأول وأدلته
-
-
(1/266)
________________________________________
- المطلب الثالث: في القول الثاني وأدلته
- المطلب الرابع: في القول الثالث وأدلته
- المطلب الخامس: في المسألة، وفيه ثلاث مسائل
- المطلب السادس: في سبب الخلاف في المسألة
- المطلب السابع: في القول المختار
- المطلب الثامن: في الفروع المبنية على الخلاف في المسألة
- الفصل السادس: في مواطن شرعت فيها البسملة..............332 - 341
- الفصل السابع: في ثبوت التسمية على الوضوء............. ص342 -385
(1/267)
انتهى الكتاب بحول الله تعالى.



كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
كتاب رَفعُ الأَسْتَار المُسّبِلَةُ عَنْ مَبَاحِثِ البَسّمَلَةِ
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: كتابات في القرآن-
انتقل الى: