الرسالة الثانية خلاف الزوجين:
مقدمة
الحمد لله الذي خلق فسوَّى وقَدَّر فهدى، أحمده سبحانه وهو أهل الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله النبيُّ المصطفى والعبد المجتبى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد:
فاعلم -وفقك اللّه- أن مِن أعظم نعم اللّه وآياته أن البيت هو المأوى والسَّكَن؛ في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة، والحصانة والطهر، وكريم العيش والستر.. في كَنَفه تنشأ الطفولة، ويترعرع الأحداث وتمتد وشائج القربى، وتتقوَّى أواصر التكافل.
ترتبط النفوس بالنفوس.. وتتعانق القلوب بالقلوب:
(هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [سورة البقرة، الآية: 187].
في هذه الروابط المتماسكة، والبيوتات العامرة، تنمو الخصال الكريمة، وينشأ الرجال الذين يُؤتمنون على أعظم الأمانات، ويُرَبَّى النساء اللاتي يقمن على أعرق الأصول.
من أسباب الخلاف بين الزوجين:
غير أن واقع الحياة وطبيعة البشر -كما خلقهم اللّه سبحانه، وهو أعلمُ بِمَنْ خلق- قد يكون فيها حالات لا تؤثِّر فيها التوجيهات، ولا تتأصَّل فيها المودَّة والسَّكَن، مما قد يصبح معه التمسُّك برباط الزوجية عَنَتًا ومشقةً، فلا يتحقق فيه المقصود ولا يحصل به صلاح النشء؟ وهذه الحالات من الاضطراب، وعدم التوافق، وقد تكون بواعثها داخلية أو خارجية.
فقد ينبعثُ من تَدخُّل غيرِ حكيم من أولياء الزوجين أو أقاربهما، أو تَتبع للصغير والكبير من أمورهما، وقد يصل الحال من بعض الأولياء وكُبرَاءِ الأسرة إلى فرض السَّيطرة على من يَلُونَ أمرهم، مما قد يقود إلى الترافع إلى المحاكم؛ فتفشو الأسرار وتنكشف الأستار، وما كان ذلك إلا لأمرٍ صغيرٍ أو شيء حقير؛ قاد إليه التدخُل غير المناسب، والبُعد عن الحكمة، والتعجل والتسرُّع، وتصديق الشائعات وقالة السوء.
وقد يكون منبع المشكلة:
قلة البصيرة في الدين والجهل بأحكام الشريعة السمحة، وتراكم العادات السيئة والتمسك بالآراء الكليلة.
فيظن بعض الأزواج -مثلاً- أن التهديد بالطلاق أو التلفظ به هو الحل الصحيح للخلافات الزوجية والمشكلات الأسرية، فلا يعرف في المخاطبات سوَى ألفاظ الطلاق، في مدخله ومخرجه، وفي أمره ونهيه، بل في شأنه كله، وما درى أنه بهذا قد اتَّخَذ آيات اللّه هزوًا؛ يأثم في فعله ويهدم بيته ويخسر أهله.
هل هذا هو الفقه في الدِّين أيها المسلمون؟!.
إن طلاق السُّنة الذي أباحته الشريعة لا يقصد منه قطع حبال الزوجية، بل قد يقال إنه إيقاف لهذه العلاقة.
ومرحلة تريُّثٍ وتدبر ومعالجة:
(لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [سورة الطلاق، الآيتان: 1 - 2].
هذا هو التشريع، بل إن الأمر ليس مقتصرًا على هذا، إن طلاق السُّنة هو الوسيلة الأخيرة في المعالجة وتسبق ذلك وسائل كثيرة.
من وسائل علاج الاختلاف بين الزوجين:
أخي المسلم، أختي المسلمة:
حينما تظهر أمارات الخلاف وبوادر النشوز أو الشقاق فليس الطلاق أو التهديد به هو العلاج.
إن أهم ما يُطلب في المعالجة:
الصبر والتحمُّل، ومعرفة الاختلاف في المدارك والعقول، والتفاوت في الطبـاع، مع ضرورة التسامح والتغاضي عن كثير من الأمـور، ولا تكون المصلحة والخير دائمًـا فيما يحب ويشتهي، بل قـد يكون الخير فيما لا يحب ولا يشتهي: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (14) [سورة النساء، الآية: 19].
ولكن حينما يبدو الخلل ويظهر في الأواصر تحلل، ويبدو من المرأة نشوز وتَعَالٍ على طبيعتها وتوجهٍ إلى الخروج عن وظيفتها؛ حيث تَظْهر مبادئ النفرة، ويتكشَّف التقصير في حقوق الزوج والتنكر لفضائل البعل، فعلاج هذا في الإسلام صريح، ليس فيه ذكر للطلاق لا بالتصريح ولا بالتلميح.
يقول اللّه -سبحانه- في محُكَم التنزيل:
(وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [سورة النساء، الآية: 34].
فيكون العلاج:
بالوعظ والتوجيه وبيان الخطأ، والتذكير بالحقوق، والتخويف من غضب اللّه ومَقْتِه، مع سلوك مسلك الكَياسة والأناة ترغيبًا وترهيبًا.
وقد يكون الهجر في المضجع والصدود، مقابلًا للتعالي والنشوز، ولاحظوا أنه هَجر في المضجع وليس هجرًا عن المضجع.. إنه هَجْر في المضجع وليس هجرًا في البيت.. ليس أمام الأسرة أو الأبناء أو أمام الغرباء.
الغرض هو المعالجة وليس التشهير أو الإذلال أو كشف الأسرار والأستار، ولكنه مقابلة للنشوز والتعالي بهجر وصدود يقود إلى التضامن والتساوي.
وقد تكون المعالجة بالقصد إلى شيء من القسوة والخشونة فهناك أجناس من الناس لا تغني في تقويمهم العشرة الحسنة والمناصحة اللطيفة، إنهم أجناس قد يبطرهم التلطف والحلم.. فإذا لاحت القسوة سكن الجامح وهدأ المهتاج.
نعم، قد يكون اللجوء إلى شيء من العنف دواءً ناجعًا، ولماذا لا يلجأ إليه وقد حصل التنكُّر للوظيفة والخروج عن الطبيعة؟
ومن المعلوم لدى كل عاقلٍ أن القسوة إذا كانت تعيد للبيت نظامه وتماسُكه، وتردُّ للعائلة ألفتها ومودَّتها فهو خير من الطلاق والفراق بلا مِراء؛ إنه علاج إيجابي تأديبي معنوي، ليس للتشفي ولا للانتقام؛ وإنما يستزل به ما نشز، ويقوم به ما اضطرب.
وإذا خافت الزوجة الجفوة والإعراض من زوجها فإن القرآن الكريم يرشد إلى العلاج بقوله:
(وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ) [سورة النساء، الآية: 128].
فالعلاج:
بالصلح والمصالحة، وليس بالطلاق ولا بالفسخ. وقد يكون بالتنازل عن بعض الحقوق المالية أو الشخصية محافظة على عقدة النكاح.
(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ ) (15)
الصلح خير من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق.
أخي المسلم أختي المسلمة:
هذا عرض سريع، وتذكير موجز، بجانب من جوانب، الفقه في دين اللّه والسير على أحكامه، فأين منه المسلمون؟
أين تحكيم الحَكَمَيْنِ في الشِّقَاق بين الزوجين؟ لماذا ينصرف المصلحون عن هذا العلاج؟ هل هو زهد في إصلاح ذات، أو هو رغبة في تشتيت الأسرة وتفريق الأولاد؟.
إنك لا ترى إلا سفهاً وجوراً، وبُعداً عن الخوف من الله ومراقبته، وهجراً لكثير من أحكامه وتلاعباً في حدوده..
أخرج ابن ماجه وابن حبان وغيرهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ما بال أحدكم يلعب بحدود الله وأنا بين أظهركم) (16) (17).
الوسيلة الأخيرة في معالجة الاختلاف:
عندما تفشل جميع الوسائل في علاج الاختلاف، ويصبح الإبقاء على رباط الزوجية شاقًا وعسيرًا بحيث لا تحقَّق معه الأهداف والحكم الجليلة التي أرادها اللّه -تعالى- فمن سماحة التشريع وتمام أحكامه أن جعل مخرجًا من هذه الضائقة، غير أن كثيرًا من المسلمين يجهلون طلاق السُنةَ الذي أباحته الشريعة، وصاروا يتلفَّظون بالطلاق من غير مراعاة لحِدِود اللّه وشرعه.
إن الطلاق في الحيض مُحَرَّمٌ، وطلاق الثلاث مُحَرَّمٌ والطلاق في الطُّهر الذي حصل فيه وطءٌ مُحَرَّمٌ، فكل هذه الأنواع طلاقٌ بِدْعِيٌ مُحَرَّمٌ يأثم صاحبه، ولكنه يقع طلاقاً في أصَحِّ أقوال أهل العلم.
أمَّا طلاق السُّنَّة الذي يجب أن يفقهه المسلمون فهو:
الطلاق طلقةً واحدة، في طُهر لم يحصل فيه وطءٌ، أو الطلاق أثناء الحمل.
إنَّ الطلاق على هذه الصفة علاج؛ حيث تحصل فترات يكون فيها التريُّث والمراجعة.
المُطلِّق على هذه الصفة يحتاج إلى فترة ينتظر فيها مجيء الطُّهر، ومَن يدري.. فقد تتغير النفوس، وتستيقظ القلوب، ويحدث اللّه من أمره ما شاء.
وفترة العِدَّة -سواءً كانت عِدة بالحيض أو الأشهر أو وضع الحمل- فرصة للمعاودة والمحاسبة قد يوصل معها ما انقطع من حبل المودة ورباط الزوجية.
ومما يجهله المسلمون:
أن المرأة إذا طُلقت رجعياً فعليها أن تبقى في بيت الزوج، لا تَخرج ولا تُخرج.
بل إن الله جعله بيتا لها:
(لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ) (18)، تأكيداً لحقهن في الإقامة.
فإقامتها في بيت زوجها سبيل لمراجعتها، وفتح أملٍ في استثارة عواطف المودة، وتذكير بالحياة المشتركة.
فالزوجة في هذه الحالة تبدو بعيدة في حكم الطلاق، لكنها قريبة من مَرْأَى العين.
وهل يُراد بهذا إلا تهدئة العاصفة، وتحريك الضمائر، ومراجعة المواقف، والتأني في دراسة أحوال البيت والأطفال وشؤون الأسرة: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا) (19) [سورة الطلاق، الآية: 1].
فاتقوا الله أيها المسلمون.. وحافظوا على بيوتكم، وتعرَّفوا على أحكام دينكم، وأقيموا حدود الله ولا تتجاوزوها، وأصلحوا ذات بينكم.
اللهم ارزقنا الفقه في الدين والبصيرة في الشريعة وانفعنا - اللهم - بهدي كتابك، وارزقنا السير على سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
الهوامش:
1. النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1610) ، أبـو داود الصلاة (1308) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1336).
2. حديث صحيح: رواه أحمد في "المسند" 2250 ، 436 وأبـو داود (1308) والنسائي 3205 وابن ماجـه (1336). وصححه ابن خزيمة (1148) والحاكم 1309 ووافقه الذهبي.
3. البخاري النكاح (4890) ، مسلم الرضاع (1468).
4. رواه البخاري (5186) ومسلم (1468) [59] ، [60] في صحيحيهما.
5. مسلم الرضاع (1469) ، أحمد (2/329).
6. رواه مسلم في "صحيحه " (1469). (فائدة): قال الحافظ ابن حجر - رحمه اللّه - ما حاصله: في هذا إيماء إلى التقويم برفق بحيث لا يبالغ فيه فيكسر ولا يتركه فيستمر على عوجه ، وضابط هذا: أن لا يتركها على الاعوجاج إذا تعدَّت ما طبعت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها ، أو ترك واجب ، ويتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة. انظر: "فتح. الباري " 9254.
7. الترمذي المناقب (3895) ، الدارمي النكاح (2260).
8. حديث صحيح: رواه الترمذي (3892) وابن ماجه (1977) وابن حبان في صحيحه (1312).
9. البخاري الإيمان (29) ، مسلم الكسوف (907) ، النسائي الكسوف (1493) ، أحمد (1/298) ، مالك النداء للصلاة (445).
10. أخرجه البخاري في صحيحه (5197).
11. غفران.
12. الترمذي الرضاع (1161) ، ابن ماجه النكاح (1854).
13. رواه الترمذي (1161) وحسنه ، وابن ماجه (1854) ، والحاكم 4173 ، وقال صحيح الإسناد.
14. سورة النساء آية: 19.
15. سورة النساء آية: 128.
16. النسائي الطلاق (3401).
17. سنن ابن ماجه (2017) ، صحيح ابن حبان (4265).
18. سورة الطلاق آية: 1.
19. سورة الطلاق آية: 1.
فهرس الآيات
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن
أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن
جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة
فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا
والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا
والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم
ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن
ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا
فهرس الأحاديث
أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن قيل أيكفرن بالله ؟ قال لا
أيما امرأة ماتت زوجها عنها راض دخلت الجنة
خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي
رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في
لا يفرك مؤمن مؤمنة أي لا يبغض ولا يكره إن كره منها خلقا رضي منها آخر
ما بال أحدكم يلعب بحدود الله وأنا بين أظهركم
واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه،
الفهرس:
الرسالة الأولى البيت السعيد
مقدمة
دعائم بناء الأسرة المسلمة
الإيمان باللّه وتقواه
المعاشرة بالمعروف
خاتمة
الرسالة الثانية خلاف الزوجين
مقدمة
من أسباب الخلاف بين الزوجين
من وسائل علاج الاختلاف بين الزوجين
الوسيلة الأخيرة في معالجة الاختلاف
فهرس الآيات
فهرس الأحاديث
الفهرس.