هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة النصف من شعبان
الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري
الحمدُ للهِ المتفضِّلِ المحمودِ، الرحيمِ الوَدودِ، المَلِكِ المعبودِ، المعروفِ بكمال الكَرَمِ والجُودِ، المحيطِ عِلْمُه بالحَدِّ والمحدُودِ، يَرَى جَرَيان الماءِ في خِلالِ العُود، ويَسمَعُ دبيبَ النملِ في ظُلَمِ الليالي السُّودِ، ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ [الإسراء: 44] وهُنَّ على رُبُوبيَّتهِ وإلاهِيَّتِهِ شُهود، أحمَدُهُ سُبحانَهُ على فَضلِهِ المَمدُودِ، وأشكُرُه وشاكِرُه بالمزيدِ موعودٌ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له على رَغْمِ أُنُوفِ ذَوِي الكُفرِ والجُحُودِ، شهادةً أدَّخِرُها وتدَّخِرُونها لِهولِ يومٍ يُشيبُ هولُه المولود، ونرجو بها النجاةَ من نارٍ شديدةِ الوَقُودِ، ونُؤمِّلُ بها من كَرَمِهِ جناتٍ تجري أنهارُها من غيرِ أُخدُودٍ، وأشهَدُ أن سيِّدنا محمداً عبدُه ورسولُه أكرمُ مَولودٍ، صاحبُ اللواءِ المعقودِ، والحوضِ المورودِ، والمقامِ المحمودِ، والشفاعةِ العُظمى في اليومِ العظيمِ الموعودِ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدكَ ورسولكَ محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ الذين بالليلِ رُهبانٌ سُجُودٌ، وبالنهارِ على أعداءِ الله ورسولِه أُسُودٌ، وسلِّم تسليماً.
أمَّا بعد:
فيا أيُّها الناسُ اتقوا الله تعالى وهُبُّوا من هذه الرَّقدةِ والمنامِ، واحذرُوا الأهواءَ فإنها تُوردُ المهالكَ والْمَذَامَّ، وارجِعُوا إلى طاعةِ الملكِ العلاَّم، واغتنموا بقيَّةَ شهر شعبان، وبادروا الاستقالةَ من المعاصي والإجرام، من قبلِ أن يأتيَ يومٌ تَشَقَّقُ فيه السماءُ بالغَمامِ، وتَظهرُ فيه الدَّواهي والأهوالُ الطَّوَام، وتُنكِّسُ فيه الظلَمَةُ رُؤُوسَها ويَعلُوهُمُ الذُّلُّ من الرُّؤُوسِ إلى الأقدامِ، ويَتجلَّى لفصلِ القَضاءِ بينَ عبادهِ حاكمُ الحُكَّامِ، ﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 69]، ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 182]، ونُوديَ أينَ الظلَمةُ وأعوانُ الظلَمةِ، فيا لَهُ من يومٍ ما أطوَلَهُ، ومن بَلاءٍ ما أهولَهُ، ومن حسابٍ ما أثقَلَهُ، ومن عذابٍ ما أعضَلَهُ، ومن جَزاءٍ ما أجزَلَهُ، ومن حاكمٍ ما أعدلَهُ.
يومٌ عظيمٌ جَمَعت القيامةُ فيه أهوالَها، وَوَضعت الحَواملُ أحمالَها، و ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ [الزلزلة: 1 - 5]، هُناكَ شابَ الوليدُ، وحَقَّ الوعيدُ، وَعَظُمَ الهولُ الشديدُ، ﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: 21، 22]، وَخَضَعتِ الرِّقابُ لربِّ الأربابِ، وذَلَّ كُلُّ فاجرٍ كذَّابٍ، ورَجَع الأشقياءُ بالخُسرانِ والتَّبابِ، فالسعيدُ من استعملَ نفسَهُ بطاعةِ الملكِ المعبودِ، وخافَ ألا ينجُو من النارِ بعدَ الوُرُود، ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71، 72].
فهذا عبادَ اللهِ شهرُ شعبان قد قاربَ على ذَهَابِ ثُلُثِهِ الأوَّل، فالرابحُ مَن تاجرَ فيه مع ربِّه الأول، شهرٌ كريمٌ بين شهرينِ كريمين قد حفَّا به فاقصِدُوا فيه سواءَ السبيل، فقد كان رسولُكم صلى الله عليه وسلم يُكثرُ من صومه طلَباً للأجرِ الجزيلِ، فعن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: (لَم يَكُنِ النبيُّ صلى الله عليهِ وسلمَ يَصُومُ شهْراً أكثرَ من شعبانَ، فإنهُ كانَ يَصُومُ شعبانَ كُلَّهُ) رواه البخاري.
فانتبهوا رحمكم الله، ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، فاشتَرُوا الآخرةَ بالدُّنيا، فكم من مُؤمِّلٍ البقاءَ ولا يَعلَمُ ما عنه يَخفى، وكم من مَغرُورٍ بأملِهِ وهو على انقراضِ أجلِهِ قد أشفى، فواللهِ ما يَعلَمُ الصحيحُ متى يَمرَضُ ولا المريضُ متى يُشفَى، وكم من رَجُلٍ نُسخَ اسمه في شهر شعبان من الموتى، فتوبوا إلى ربِّكم وأنيبوا إليه لعلكم تنالون منه كرَمَاً ولُطفاً، ولُوذُوا به وتوجَّهُوا إليه فإن قاصِدَهُ صِدقاً لا يُردُّ ولا يُجفى، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2].
جعلني الله وإياكم ووالدينا وأهلينا من الفائزين الآمنين، وجنَّبنا مَوارِدَ الظالمين، آمين، باركَ الله لي ولكم ووالدينا وأهلينا في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعَنا بالآياتِ والذكرِ الحكيمِ، إنه تعالى جَوادٌ كريمٌ مَلِكٌ بَرٌّ رَؤُوفٌ رحيمٌ.
إِنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ مُحمَّداً عبدُه ورسولُه.
أمَّا بعدُ:
فقد كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم إذا خَطبَ يقولُ: (فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرُ الهُدَى هُدَى مُحمدٍ، وشرُّ الأُمُورِ مُحدَثاتُها، وكُلُّ بدعةٍ ضلالةٌ) رواه مسلم.
أيها المسلمون:
إنَّ من الأُمور الْمُحدثة في شهر شعبان: تخصيص ليلة النصف من شعبان بالقيام أو الاحتفال أو الدعاء فيها بأدعية مخصوصة واعتقاد أن الدعاء بها مستجاب في هذه الليلة، أو تخصيص نهار ليلة النصف بالصيام، وقد رُويت أحاديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في فضل هذه الليلة، فعن عائشةَ قالت: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: («إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ»)، رواه الترمذي وقال: (سَمِعْتُ مُحَمَّدًا أي البخاري: يُضَعِّفُ هَذَا الحَدِيثَ).
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ) رواه ابن ماجه وضعَّفه البوصيري.
وقد ورد في فضل الصلاة ليلة النصف من شعبان أحاديث حكم عليها الحُفَّاظ بأنها موضوعة، قال الإمام ابن القيم: (ومنها - أي الأحاديث الموضوعة - أحاديث صلاة النصف من شعبان) انتهى.
ولذلك ذهب جمهور العلماء إلى كراهة الاجتماع في المساجد ليلة النصف من شعبان للصلاة والدعاء، فإحياء ليلة النصف من شعبان في المساجد على سبيل المداومة كل سنة، أو كل فترة بدعة محدثة في الدين.
وأما صلاة الإنسان فيها لخاصة نفسه في بيته، أو في جماعة خاصة فللعلماء فيه قولان:
الأول: أن ذلك بدعة وهو قول أكثر علماء الحجاز ومنهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقل عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم.
الثاني:
أنه لا يكره صلاة الإنسان لنفسه في بيته، أو في جماعة خاصة، في ليلة النصف من شعبان، وهو قول الأوزاعي، واختيار الحافظ ابن رجب، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
والذي يترجح عندي والله أعلم
ما ذهب إليه أصحاب القول الأول أن ذلك بدعة، لعدم وجود الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أحياها، ولا عن أحد من أصحابه رضوان الله عليهم.
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية:
(قال أهل التعديل والتجريح: ليس في فضل ليلة النصف من شعبان حديث صحيح).
وذكر ابن رجب
(أن قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز:
(وقد ورد في فضلها -ليلة النصف من شعبان- أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، وأما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم).
وأيضاً:
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن)، ليس فيه دليل على تخصيص ليلة النصف من شعبان بفضل من دون الليالي الأخرى، لأنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)، فاطلاعه سبحانه وتعالى على خلقه، وغفرانه لهم، ليس متوقف على ليلة معينة في السنة، أو ليالي معدودة.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
(كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً لم يجز للمسلم أن يُحدثه في دين الله، سواء فعله مفرداً أو في جماعة، وسواء أسرَّه أو أعلنه، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ» وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها) انتهى.
ومما تقدَّم يتضح لطالب الحقِّ أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام بدعةٌ مُنكرةٌ عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهَّر، بل هو مما حَدَثَ في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجل: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]، وما جاء في معناها من الآيات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) متفقٌ عليه، وما جاء في معناه من الأحاديث.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَختَصُّوا ليلَةَ الجُمُعةِ بقيامٍ من بينِ اللَّيَالي، ولا تَخُصُّوا يومَ الجُمُعَةِ بصيامٍ من بينِ الأيامِ، إلاَّ أن يكونَ في صَوْمٍ يَصُومُهُ أحدُكُم) رواه مسلم، فلو كان تخصيص شيء من الليالي بشيء من العبادة جائزاً، لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها، لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيرُ يومٍ طَلَعَت عليهِ الشمسُ يومُ الجُمُعَةِ) رواه مسلم، فلما حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من تخصيصها بقيام من بين الليالي، دلَّ ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة، إلاَّ بدليلٍ صحيح يدلُّ على التخصيص، فعُلم أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بدعةٌ محدثةٌ في الإسلام، وهكذا تخصيصها بشيء من العبادة بدعة منكرة، والله أعلم.
اللهم جنِّبنا ووالدينا وأهلينا المحدثات في الدين، وارزقنا التمسك بسنة سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم.