81- اسم الله: "الرشيــد"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهمَّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحقَّ حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة الكرام...
مع الدرس الواحد والثمانين من دروس أسماء الله الحُسنى، والاسم اليوم الرشيد.
صيغة الرشيد.. فعيل، وصيغة فعيل في علم الصرف تعني المبالغة، فهناك اسم فاعل، وهناك اسم فاعلٍ مبالغٍ فيه. تقول مثلاً.. صادق، صدوق أي كثير الصدق، فاعل، فعول.. فهذا الاسم الرشيد على وزن فعيل، وماذا يعني اسم المبالغة في حقِّ ذات الله عزَّ وجلَّ؟
يعني شيئين.. فهو يعني عدداً ونوعاً..
كلُّ أفعال الله عزَّ وجلَّ رشيدة، والرشيد إذا وصف الله بهذا الوصف فهو الرُشد المطلق، الله عزَّ وجلَّ مطلق، فعلمه مطلق، قدرته مطلقة، رحمته مطلقة، يجب أن تعلم علم اليقين أنَّ الله سبحانه وتعالى في كلِّ أسمائه وصفاته مطلق.
بينما أسماء الإنسان وصفاته نسبية، قد تقول: هذا القاضي عادل إذا حكم تسعةً وتسعين حكماً من أصل مئة بشكل صحيح، وهذا الوصف نسبي، وكلُّ وصفٍ يوصف به الإنسان هو وصفٌ نسبيّ، و أوصاف الله عزَّ وجلَّ كلُّها مطلقة.
على الأرض يعيش خمسة آلاف مليون إنسان، إذا ظُلم إنسان واحد فالله سبحانه وتعالى لأنَّه مطلق يصبح ليس عادلاً، فقد قال تعالى: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)" (سورة الأنبياء).
وقال تعالى:
"الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)" (سورة غافر).
وقال تعالى أيضاً:
"وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)" (سورة النساء).
"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)" (سورة النساء).
" وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا "
" وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا "
ولا قطمير.. ولا تظلمون شيئاً.. ولا ظلم اليوم.. وما كان الله ليظلمهم.
الإنسان حينما يؤمن بالمطلق تطمئن نفسه، الإيمان أنَّ الله بيده كلُّ شيء، وأنُّه فعَّال لما يريد، وأنَّه في السماء إلهٌ وفي الأرض إله، وأنَّ كلَّ شيءٍ خلقه وهو عليه وكيل هذا الإيمان يُلقي في نفس الإنسان طُمأنينةً لا يعرفها إلا من فقدها، لأنَّه كما يقال إنَّ الله يعطي الصحَّة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنَّه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين.
إذاً اتفقنا على أنَّ الله في أسمائه وصفاته مُطلق، فمن أين يأتي الفساد؟ يأتي الفساد من إنسان أعطاه الله حريَّة الاختيار، وأمدَّه بقوةٍ فيما يبدو فتحرَّك هذا الإنسان بخلاف منهج الله، ومثل ذلك.. السكَّر مادةٌ أساسيَّة، والملح مادة أساسيَّة، والمنظفات مادة أساسيَّة في حياة كل أسرة..
الآن إذا وضعت في طعامك النفيس جداً والغالي الثمن مسحوقاً للتنظيف فستلقيه لا محالة، لأنَّه فسد، المواد التي بين أيدينا كلُّها جيِّدة ورائعة وكاملة ولكن سوء استخدام المواد سبب الفساد، الزنى فساد فالأصل الزواج، كسب المال الحرام فساد، معنى ذلك أنَّ الفساد ليس له وجود أصلي، بل وجوده طارئ ناتج عن سوء الاستخدام.
إخواننا الذين يعملون في المركبات يقولون:
لو وضع في المحرك كيلو غرام من مادة السكَّر ثمنها ثلاثين ليرة يكلِّف إصلاحه ثلاثين ألف ليرة، فالسكر ثمين والمحرك ثمين ولكن من أين طرأ الفساد؟ طرأ من سوء الاستخدام، لماذا أنت بحاجة إلى الدين؟ من أجل أن يعطيك الله الذي خلق هذه المواد أصول استخدامها.. أفعل ولا تفعل، هذا منهج الله عزَّ وجلَّ.
أنت حينما تستجيب لأمر الله هل تدري ماذا فعلت؟ أنت تملَّكت خبرة الخبير، وعلم العليم، وقدرة القدير، ورحمة الرحيم،لأنك تقبل منهج الله، ولأنك تقبل على تطبيق منهج الله دون أن تشعر تملَّكت خبرة الخبير قال تعالى: "إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)" (سورة فاطر).
" وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ "
وعندما تملَّكت قدرة القدير، ورحمة الرحيم، وحكمة الحكيم، سهل عليك أن تتحرَّك.
إنسان عظيم وعليه أن يتَّخذ قرارات هامة تجد حوله عدداً كبيراً من الخبراء بالعشرات والمئات يشيرون عليه أليس كذلك، فيجمع حوله خبراء قمم في تخصصاتهم فتجد خبراء في علم النفس، وعلم الاجتماع، والطب، والهندسة، والتاريخ، والجغرافيا، والفلك، والرياضيَّات، لو أراد أن يتخِّذ قراراً فسأل الخبير فأعطاه خلاصة العلم ماذا نقول؟ هذا الذي استعان بالخبير تملَّك كلَّ علمه.
أن تُقبل على منهج الله تملَّكت قدرة القدير وأنت لا تدري، وعلم العليم، ورحمة الرحيم، وحكمة الحكيم، فلذلك أسعد إنسان هو الذي يبحث عن منهج الله ليطبِّقه في حياته، لن يفاجأ، ولن يشعر بالإحباط إطلاقاً، خطُّه البياني صاعد صعوداً مستمراً لأنَّه يتحرَّك وفق خبرة الخبير.
إخواننا الكرام... ما في الأرض إنسانٌ على الإطلاق إلا ويتمنّى شيئين السلامة والسعادة، والسلامة والسعادة لا تكون إلا بطاعة الخبير.
فحينما يحبُّ الإنسان ذاته حباً لا حدود له ينطلق إلى طاعة الله فقد قال تعالى:
"يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)" (سورة الأحزاب).
ذكر لي أخ اليوم مفارقة أعجبتني.. قال لي: لي جار مضى على زواجه من زوجته خمسةٌ وستون عاماً وما نام ليلةً غاضباً على زوجته، وقد أنجبت سبعة عشر ولداً هم أعلامٌ في المجتمع، لأنَّ هذا الذي تزوَّج بحث عن امرأةٍ صالحة..
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) (صحيح البخاري).
ويبدو أنَّه كسب مالاً حلالاً وأنفقه في طاعة الله فرزقه الله هذه الذريَّة الصالحة.
المفارقة..
في أحد الفنادق الكبرى في دمشق، في ستَّة أشهر تمَّ فيه ستَّة عشر عقد قِران لم يبق من هذه العقود في خلال ستَّة أشهر إلا ثلاثة وهي في طريقها إلى الطلاق، وآخر عقد أقيم في هذا الفندق كلَّفته فيما سمعت أربعين مليون، وبعد أيام تمَّ الطلاق، لأنَّ هذا الزواج لم يُبنَ على منهج الله، أيُّ زواجٌ بُني على طاعة الله تولَّى الله التوفيق بين الزوجين، وأيّ زواج بني على معصية الله تولَّى الشيطان التفريق بينهما، القصد من ذلك أن يكون الإنسان رشيداً..
فالنبي قال:
((تخلَّقوا بأخلاق الله)).
قال: الرُشد هو الصلاح والاستقامة، والرشد خلاف الغَيِّ والضلال.
الاستقامة..
أن تتحرَّك تحرُّكاً صحيحاً، أن تصل إلى قصدك النبيل بأقصر الطرق، ألا تحيد يمنةً ولا يسرة، الغَيِّ.. الانحراف، والضلال.. التيه.
والرشيد كما يذكر الإمام الرازي على وجهين أحدهما فعيل بمعنى فاعل، رشيد أي راشد.. صيغة مبالغةٍ من اسم الفاعل راشد.
والراشد هو الذي له الرشد، أي يتمتَّع برؤية صحيحة.. بالمناسبة فلسفة الرشد.. الإنسان متى يكون رشيداً؟ إذا كان مبصراً، فأي إنسان لا على التعيين أعطه مصباحاً وضَّاءً وقل له: سر في غابةٍ ليلاً، فما دام معه مصباح وضَّاء فسيرى كل شيء أمامه، هل يعقل أن يقع في حفرةً بل يحيد عنها، ولا يعقل أن يدوس على أفعى تلدغه بل يبتعد عنها، انطلاقا من حبِّه لذاته يسلم، فقضيَّة الرشد أساسها الرؤيا..
بالمناسبة.. النبيُّ عليه الصلاة والسلام قال:
((عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآَنِ أَوْ تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)) (صحيح مسلم).
أنت حينما تتصل بالله تطهر نفسك من كلُّ أدرانها.. فالمصلي لا يحقد ولا يتكبر ولا يبخل ولا يظلم.. لأنَّ مكارم الأخلاق مخزونةٌ عند الله تعالى فإذا أحبَّ الله عبداً منحه خُلُقاً حسناً.
فأنت أخلاقيٌّ بقدر اتصالك بالله.
ومؤمن لأن رؤيتك صحيحة وقد ألقى الله في قلبك نوراً فرأيت الحق حقاً فسلكت طريق الحق فأصبحت رشيداً.
إذا ركب أحد مركبته متوجهاً إلى بلدة ولم يخطيء إطلاقاً فهذا دليل على قراءته للعلامات وللوحات الإرشادية الموضوعة على جوانب الطريق وهو قد قرأها واستوعبها وسار وفق توجيهاتها، فوصل إلى البلد المقصود في أقرب وقت وفي أيسر حال، إذا هو رشيد.
الرشد أن تسير مستقيماً دون أن تحيد يمنةً ولا يسرة، وأن تصل إلى هدفك بأقلِّ جهدٍ وأقصر وقتٍ.