حقــوق اليتــامـى فـي الإســلام
الشيـخ: حسـين شعبـان وهـدان
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
الحمد لله الكريمِ المَنَّانِ، الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، أحب من أطاعه وأعد له نعيم الجِنَانِ، وأَبْغَضَ مَنْ عصاه وَتَوَعَّدَهُ بِلَظَى النِّيرَانِ، سبحانه! له في خلقه آلاءٌ حسانٌ تدلُّ على مجامِعِ لُطْفِهِ وكريم قضائه، لو اطلعت عليها أفهام العباد ما ازدادوا بذلك إلا تسليمًا، قضاؤه الحق، وحكمه النافذ في الخلق، فله الحمد على ما جرت به أقلام قُدرته، وعلى ما وهبه لعبيده من جزيل بركته، وعلى أَلطافهِ الجَمَّةِ الشَّاهِدَةِ على قيُّوميته ووحدانيته وربوبيته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، جعل في كل مصيبة مع التسليم والرِّضا عِوَضًا، وفي كل بائقةٍ مع التوكل مخرجًا، وفي كل نقصٍ تمامًا يجبر به كل كسير، ويقوِّي به كل ضعيفٍ، ويُغيِّرُ حالَ العبادِ إلى خيرِ حالٍ، مَتَى مَا تَوَكَّلُوا عَلَى ذِي الجلالِ، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، سيد الهُداة الصادقين، وقدوة العاملين بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنَّ اليتامى في قلب المجتمع المسلم يمثلون نقطة مُضيئة بالحسنات، والأجور العاليات، من ربِّ الأرض والسموات، وذلك لمن نَظَرَ إلى الأمر بعين قلبه، وألقى سمعه إلى أمر الله -تعالى- وبيان رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وإحساسُهُ الإيمانيُّ حاضرٌ لا يغيب.
الأيتام هم رافدٌ من روافدِ السعادة في مجتمع المسلمين؛ لأنَّهم يملئون فراغًا روحيًّا صاديًا عند مَن أكرمه الله -تعالى- برقة القلب لهم، والحُنُوِّ الدائم عليهم، فهم من أسباب رقة القلوب الحاضرة، والنُّفوس الشاكرة، ويجمعون - مع ذلك - أرواحًا من شتاتها في بوتقة الإيمان؛ لصيانة سلامة المجتمع وحصاد الحسنات، تلك التي تأتلف على سَوْقِ الأفراح إلى القلوب التي يحتويها اليتم، فيتحول الأسى والحرمان إلى مُرُوج من العطاء والإكرام، بعيدًا عن الأحزان.
(2)
لهذا؛ كان الحديث عن اليتامى مُتْرَعًا بالبركات، دَرْجَ القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكيف لا، وقد أفاض الله -تعالى- الحديث عنهم في غير موضع، وفصَّل النبي الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم- حُقُوقهم، وحثَّ على الوفاء بها، بل حذَّر من المساس بأموالهم وأكلها بالباطل؟! فلا جَرْمَ أنْ أكرمَ بيوت الخلق تلك التي فيها أيتامٌ مُكْرَمُونَ.
تعريف ومدخل
فمَنِ اليتيمُ، إخوةَ الإسلام؟
اليتيم من البشر:
مَن فَقَدَ أباه وهو دون الحُلُم، ومن فَقَدَ أبويه فهو لطيم، واليتيم من الطير أو الوحش مَن فقد أُمَّه.
وأما عن اليُتْمِ في اللغة، فله معانٍ قد تتعدد منها:
• الغفلة، وذلك ببيان حال اليتيم أنَّ كافله وراعيه يَموت حين يفقد والدَه نَبْعَ الحنان والرعاية، وغطاء الأسرة الساجي، ثم يكون بعد ذلك محتاجًا إلى من يهتم به وقت ما تغافل عنه الناس، وانشغلوا كلٌّ بما يغنيه.
• ومن معاني اليتم:
الانفراد، يقول الناس في أمثالهم: هذه دُرَّة يتيمة؛ أي: إنَّها شيء منفرد، وهذا عالم يتيم في بابه؛ أي: إنَّه لا يوجد له نظير، وهذا إنسان يتيم في أخلاقه، بمعنى عَزَّ أن يوجد مثله.
• ومن معاني اليتم:
الفقد، بمعنى أنَّ اليتيم يفقد حاجيَّات يجدها غيره، يفقد ثوبًا يريد أن يسترَ به بدنَه، أو يفقد معنًى يُكسبه الشعور بالثِّقة وعدم الاضطراب، أو ربَّما يفقد مالاً يريد أن يحقق به مصلحة أو يدرك به مآرب أخرى، هذه أشهر المعاني اللغوية لليتم.
ضحايا الحضارة من الأيتام
وقد دلَّل حال النبي الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم- عليه؛ لأنَّه كان قدوة الأيتام في تحمُّل الأنكاد والآلام، ومن قبله كان نبي الله عيسى - عليه السلام - رسول الرحمة والهداية والتسامح والسَّلام، الذي تمثل اليتم فيه بأصفى صوره، فقد كان مفردًا في المعنى؛ حيث وُلدَ من أمٍّ بلا والد، وذلك من بديع قُدرة الله - عز وجل - قال الله -تعالى-: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، بيد أنَّ الذين زعموا حمل رسالته واتِّباعها وحمايتها من التَّزوير والبُهتان قد كذبوا على ربِّهم، وعلى نبيهم، وعلى أنفسهم؛ لأنَّهم على خطى الصليب ساروا، وما اتَّبعوا المسيح؛ لأنَّ رسالته تجمع في طياتها كلَّ معاني الخير، على خلاف ما اقترف مُجرمو هذا الزمان والأزمان السَّابقة - مع ادِّعاء السير على خطاه - من ويلات الذُّنوب والمعاصي والإيذاء المتتابع لغيرهم من الأمم، فأراقوا كثيرًا من الدماء النازفة، ودمَّروا العمران، وجاؤوا إلى الأمة المسلمة في حملتين صليبيَّتين من شتَّى الأجناس والملل الدينية، والعُرُوق الأوروبيَّة، منذ مئات السنين، وساعدوا الظَّالم ورجموا المظلوم، وحاولوا إذلالَ غيرهم من الأمم بشتَّى الصور، في المجال العسكري والفكري والغذائي والثَّقافي بكل وسيلة يتمكَّنون منها؛ مصداقًا لقوله -تعالى-: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217]، وما زالوا في غَيِّهم يعمهون.
وعلى أرض الواقع الآني ملاحم أحزان، وفتن كقطع الليل المظلم، صدَّرَهَا لقلب أرض الإسلامِ في بغداد وما حولها، والقُدس وما حولها، وكابول وما حولها - أدعياء الحضارة المعاصرة - بطريقة أو بأخرى - والذين خلَّفوا وراءهم في أرض الرَّشيد وحدَها مليونًا وخمسمائة ألف من الشهداء، إضافةً إلى خمسمة ملايين بين طريد وشريد، تُرَى: ما عدد اليتامى الذين تركتهم أسلحة أهل الحضارة وصُنَّاع الديمقراطية في بلاد الرَّافِدَيْن؟ وقد أربى عددُ المقتولين من الجيش الأمريكي فقط على ما يقارب خمسة آلاف مقتول في عداد الإلزاميِّين ما عدا المنتسبين، فلماذا يصدِّرون اليتم لنا ولهم؟! وما عدد اليتامى على أرض الجُرْح النَّازف في فلسطين منذ عام ثمانية وأربعين وما قبلها وحتَّى الآن؟ وما عدد اليتامى في البلقان إِثْرَ حروب الإبادة الجماعية خواتيم القرن الميلادي الماضي؟ وما عددهم أيضًا في الشيشان وكشمير والصُّومال وغيرها من بلاد الإسلام؟ ويا مَن تَرَى، ما وجهة التتار الجدد صوبَ أوطاننا المستباحة؟ وما الذي أنتج هذه الحتوف المصطنعة إلاَّ الحقد الأعمى؟! وماذا سجَّل التاريخُ لنا حينما ملكنا أعطافَ الأرض، إلاَّ أنَّنا كُنَّا أهل احترام وتقدير للحياة والأحياء، ولم نخلِّف إثر أقدامنا أرواحًا فارقت الحياة، أو أيتامًا يقاسون الحرمان؟!
لو نطق لسانُ التاريخ الصادق ما قال إلا ذلك.
مَنْ قَامَ يَهْتِفُ بِاسْمِ ذَاتِكَ قَبْلَنَا
مَنْ كَانَ يَدْعُو الْوَاحِدَ الْقَهَّارَ؟
عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ وَالنُّجُومَ جَهَالَةً
لَمْ يَبْلِغُوا مِنْ هَدْيِهَا أَنْوَارَا
هَلْ أَعْلَنَ التَّوْحِيدَ دَاعٍ قَبْلَنَا
وَهَدَى القُلُوبَ إِلَيْكَ وَالْأَنْظَارَا؟
نَدْعُو جِهَارًا لاَ إِلَهَ سِوَى الَّذِي
صَنَعَ الْوُجُودَ وَقَدَّرَ الْأَقْدَارَا
يُتْمُ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- تكريمٌ إلهي، وقد تشرَّف معنى اليتم ذاته؛ لما نسب إلى الحبيب سيدنا محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال الله -تعالى-: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ [الضحى: 6]؛ ذاك لأنَّه في حياة النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- تكريم وكمال نعمة إلهيَّة، أما في حياة الناس فهو نقص، فالشعور باليتم ينقض الظهور القويَّة، ويربك المشاعر، ويمعن في تذكير النفس بالاحتياج والضجر، وذلك بعد رحيل الوالد في بني البشر؛ حيث يفقد اليتيم بعده مصدر الحنان الفطري الدَّائم، والذي يُمثل قمة العطاء بلا حدود، فالوالد بفطرته لا يهنأ ولا يستريحُ إلا مع أولاده - غالبًا - ولا يفرح إلا لهم وبهم؛ بل يقدم إرضاءَهم -أحيانًا- على رضا نفسه.
حتَّى إنَّنا نجد من موروثنا الثَّقافي مَن كان يقول لولده:
إِذَا لَيْلَةٌ ضَاقَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ
لِسُقْمِكَ إِلاَّ سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ
كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي
طُرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنِيَ تَهْمُلُ
تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا
لَتَعْلَمُ أنَّ الْعُمْرَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ
ومن ذلك أيضًا قول حطان بن المعلى:
وَإِنَّمَا أَوْلاَدُنَا بَيْنَنَا
أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ
لَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ عَلَى بَعْضِهِمْ
لَامْتَنَعَتْ عَيْنِي عَنِ الْغَمْضِ
نعم، هذه بعض مشاعر حيَّة تعتمل دائمًا في نُفُوس الآباء نحو أولادهم، تدفعهم إلى الاهتمام الدؤوب بهم، حتى إذا فاجأ القدر الوالد والولد بمرارة الفِراق واليُتْم، تغيَّرت الأحوال، ورسمت الأحزان آثارها المضنية على النُّفوس التي تجرعت كؤوسَ الحرمان من طعمة أو كسوة، أو رعاية مادية أو نفسية، قد ضرب عليها الدَّهر صروف النسيان بعد انتقال الآباء - غالبًا - إلى الرفيق الأعلى، وقد يجد الأيتامُ بعضَ العوض من القُلُوب الرحيمة، التي يحركها رب البرايا بأسمائه الحسنى وكرمه الأسنى.
أمَّا اليتم في حياة الحبيب سيدنا محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم-:
فقد تَمَيَّز بحيازة الكمال في التربية برعاية ربِّه له، والذي خاطبه - سبحانه - في معرض المنِّ والتَّذكير بالنِّعمة في قوله -تعالى-: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ [الضحى: 6]، رَغْمَ أنه انتقل -صلَّى الله عليه وسلَّم- في أطوار الرعاية الأولى بين حنان الأم الذي لم يدُم سوى ست سنوات من عمره المبارك، وبين رعاية الجد عبدالمطلب، والتي لم تدم بعد فَقْدِ الوالدة سوى عامين، ثم كانت الكفالة من عَمِّه أبي طالب، حتَّى شبَّ عن الطوق، ودخل في سن الشباب -صلَّى الله عليه وسلَّم- وليست هذه مصادفة وقعت في قلب الأحداث، بل إنَّها من القدر السعيد المُعَدِّ لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال الله -تعالى-: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49] ، فلا يحدث في ملك الله إلا ما أراد، وشاءت إرادة العَلِي القدير أنْ ينشأ سيد الناس يتيمًا؛ ليجيره رب الناس من شدَّة اليتم وزيغ الآراء؛ طلبًا للهداية إلى طريقةٍ لإصلاح الذين يرتعون في عمايات الجاهليَّة، ثم أغناه الله -تعالى- به عن كل معين ونصير؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ [الضحى: 6 - 8]، فهذا من صور الإعداد الخاص والعناية العظمى بسيد البشر -صلَّى الله عليه وسلَّم- من قِبَلِ ربه ومولاه؛ لذا كان أدبه هو الكامل الجمَّ الذي وسع كل مؤالف ومجانف؛ لأنَّه حاز حدود مراقي العُلا في تربيته؛ لأن ربَّه - سبحانه - هو الذي تولاه؛ لهذا على كلِّ عاقل أنْ يعلمَ أنَّ تربية الرجال ناقصة والكمال لله، فلا تقل: "رباني أبي"، ولكن قل: "رباني الإسلام"، إن استطعت أن تكمِّل النواقص في تربية الآباء، والله معين.
أيتامٌ آباؤهم أحياء
وهناك أيتام يُقاسون اليتم على معنى آخر، في قلب مُجمعاتنا الكبيرة والصَّغيرة على السواء، لهم آباء ولهم أمَّهات؛ لكنهم - مع الأسف - يتجرَّعون مرارات اليتم، ويَشعرون به، ذلكم الذين يعالج آباؤهم وأمهاتهم أمورَهم من زوايا مادية أو شكلية أو مظهرية، و يهتمون فقط بملء بطونهم من جوع، أو بسترة أجسامهم من عراء، ثم لا يأبهون - بعد ذلك - بتطلعات الرُّوح وملء شآبيب القلوب رِيًًّا وحنانًا، وحشو الجنان آدابًا وأخلاقًا، وببقية أمور التربية والتعليم والإصلاح، فتنشأ أجيالٌ فاقدة لحسن الخلق، بعيدةً عن ساحات المساجد، تربيها الأيام والليالي، ولا تربيها صيحات المنابر، ولا تلاوات المحاريب؛ لأنَّ الوالدين لم يكونا أَدِلاَّءَ خيرٍٍ على طريق المسجد، فصار الوالدُ والوالدة عائقًا وسببًا في عدم إكرام الأولاد، وحسن تربيتهم في الإسلام، مع أنَّهم نشؤوا على قوة البدن، لكنَّهم في ميدان التربية الخلقيَّة والرُّوحية أيتام.
وفي ذلك قول أمير الشعراء:
لَيْسَ الْيَتِيمُ مَنِ انْتَهَى أَبَوَاهُ مِنْ
هَمِّ الْحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذَلِيلاً
فَأَصَابَ بِالدُّنْيَا الْحَكِيمَةِ مِنْهُمَا
وَبِحُسِنِ تَرْبِيَةِ الزَّمَانِ بَدِيلاَ
إِنَّ الْيَتِيمَ هُوَ الَّذِي تَلْقَى لَهُ
أُمًّا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولاَ
إِنَّ الْمُقَصِّرَ قَدْ يَحُولُ وَلَنْ تَرَى
لِجَهَالَةِ الطَّبْعِ الْغَبِيِّ مُحِيلاَ
حينما يترك الوالدُ ولدَه للشوارع والشاشات وعروضها الفاسدة، تُجَمِّلُ في المخيلة الساذجة منازعَ الحمق والفساد، وحثالة الأفكار، ورَدِيء الفلسفات، ثم يَمتطي هذا الوالد صهوة الفخر الكذوب، ويقول: أنا ربيت أولادي أفضلَ تربية وأكملها، ونحن بدورنا نؤكد ونوقن أن أولادَه يعانون اليُتْمَ من أعمق معانيه.
أو حينما يكون هذا الوالد ذاته سببًا في فساد أولاده، يشكل لهم القُدوة السيئة في أبهى حللها، كأنْ يكون كذابًا، فيتعلمون منه الكذب، أو مختالاً بطرًا يتشربون منه الكبر والخيلاء والاستطالة على عباد الله، أو يأكل الحرام، ولا يبالي من أيِّ طريق قد جمع أرزاقه، فينشأ أولاده وقد مردوا منذ أزمان على أشباه هذه المعاني يومًا بعد يوم، فيترسب في قرائحهم أنَّ هذا هو الحق، وأنَّ غيره هو عين الباطل.
وحال الوالد والولد كما قال الشاعر الحكيم:
مَشَى الطَّاوُسُ يَوْمًا بِاعْوِجَاجٍ
فَقَلَّدَ شَكْلَ مِشْيَتِهِ بَنُوهُ
فَقَالَ: عَلاَمَ تَخْتَالُونَ؟ قَالُوا:
بَدَأْتَ بِهِ وَنَحْنُ مُقَلِّدُوهُ
فَخَالِفْ سَيْرَكَ الْمُعْوَجَّ وَاعْدِلْ
فَإِنَّا إِنْ عَدَلْتَ مُعَدِّلُوهُ
أَمَا تَدْرِي أَبَانَا، كُلُّ فَرْعٍ
يُجَارِي بِالْخُطَى مِنْ أَدَّبُوهُ
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا
عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
فارحموا أولادكم يا أطهر أمة، ويا أكرم رجال، ويا أنقى أمهات، من يُتم الأخلاق، فإنَّ هذه ثلمة تربوية لا يسدها شيء ما تعاقبت الأيام إنْ بدا نقصها في أطوار التربية الأولى.
أولادنا مُحتاجون إلى مَن يُربي عقولهم وأفكارَهم وقلوبَهم وضمائرهم بعيدًا عن التشابه في تربية الدَّواب، أو تربية الأشكال - وإلاَّ فهم أشباه الأيتام - فإنَّ الإنسان يرقى أجواز العُلا بروحه لا بجسمه وصورته.
يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَشْقَى لِخِدْمَتِهِ
أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيهِ خُسْرَانُ
أَقْبِلْ عَلَى الرُّوحِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا
فَأَنْتَ بِالرُّوحِ لاَ بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ
وأعمق من ذلك في معنى اليتم العميق المؤثر، ألا وهو "يتم الشُّعوب"، عندما تعاني مجتمعات أو شعوب بكاملها من فَقْد القُدوات الحسنة أو ندرتهم، أو عندما يكون التَّافهون والسَّاقطون والسَّطحيُّون هم القُداوتِ والأمثلةَ - أو هكذا يُراد - بدفع حفنات من أسماء اللاَّعبين والمطربين والمستغربين إلى الأسماع والأبصار، في إصرارٍ إعلامي سمج مكرور، لا يهدأ ولا يستكين، فينجرفُ المزاج العام في مجال أخذ القُدوة إلى هوة سحيقة، بعد أنْ تصيبَ هذه السهام كثيرًا من أهدافها، ويغرق الخلق - تبعًا لذلك - في حمأة اليُتم الأخلاقي، وتعيش الشعوب في ميدان الأخلاق كالأيتام على موائد اللئام، فتتضاعف في قلوب الأمة معانيَ الإخلاد إلى الأرض والتبعية، ويزيد عدد أشباه الرجال ولا رجال، ويكون الاهتمام الأكبر بالكمالي من المطعوم والملبوس، وبقية المستهلكات في دوار لا ينتهي حتَّى آخر أرماق الحياة، ضاربين ستائر النسيان على معالي الأمور؛ لأنَّهم لم يعرفوها ولم يألفوها، تاركينَ قيادة الحياة بِيَدِ ظالم أو غاشم يعيثُ في الأرض بآيات الفساد، ومن صور المشهد التَّابع ليتم الشُّعوب أن أرض الواقع تذخر بتمجيد المدنس، أو المتاجرة بالمقدس، على حسب المآرب والرَّغائب، عندئذٍ يكون بطنُ الأرض خيرًا من ظاهرها، بالنِّسبة لمن حَرَمُوا أنفسَهم وغيرهم من خلق الله أنْ يتذوقوا طعم حياة الآدميِّين.
صورتان بين الإكرام والإهانة
إن الطباع الكريمة والتربية الرَّشيدة تميل بصاحبها إلى إكرام اليتامى وعدم إيذائهم، أمَّا عندما يكون حكم الجاهليَّة هو فصلَ القضاء في حياة النَّاس، فحدِّث ولا حرج عن صور العنت الذي يُحدثه بعضُ أفراد المجتمع لليتامى، كهذه الصورة القُرآنية التي تحكي واقعًا أخلاقيًّا مفرطًا في المرارة لليتيمات في قلب المجتمع العربي قبل الإسلام؛ يقول الله -تعالى-: ﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ﴾ [النساء: 127].
وبيانًا لذلك نطوف في تفسير الإمام ابن كثير -رحمه الله- لنجد أنَّه يثبت صورًا من ظُلم اليتيمات، فيقول: "والمقصود أنَّ الرجل إذا كان في حجره يتيمة يَحل له تزويجها، فتارة يرغب في أن يتزوجها، فأمره الله -عزَّ وجل- أن يمهرها أسوة أمثالها من النِّساء، فإن لم يفعل، فليعدل إلى غيرها من النِّساء، فقد وسع الله -عزَّ وجل- وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أوَّل السورة، وتارة لا يكون للرجل فيها رغبة لِدَمَامَتِهَا عنده، أو في نفس الأمر، فنهاه الله -عزَّ وجل- أن يُعضِلها عن الأزواج؛ خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها؛ كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ﴿ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ﴾ [النساء: 127] الآية، فكان الرَّجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة، فيُلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك بها، لم يقدر أحد أن يتَزَوَّجها أبدًا، فإن كانت جميلة وهويها، تَزَوَّجَها وأكل مالَها، وإن كانت دميمة، منعها الرجال أبدًا حتَّى تموت، فإذا ماتت ورثها، فَحَرَّم الله ذلك ونهى عنه"؛ (تفسير القرآن العظيم، الإمام ابن كثير، المكتبة الشاملة).
هذه صور من الإيذاء لليتيمات في مُجتمعات لم تكن تتقي الله فيهن، ولا شكَّ أن كل من يقلد أيًّا من هذه المسالك يبوء بالإثم والتَّبعة على عاتقه.
وعلى ضفاف المعنى الكريم لرعاية وكفالة اليتيمات في سابق الأزمان، نَجد أنَّ القرآن الكريم يرسم صورة رائعة لمجموعة من أهل الخير الذين يتسابقون فيما بينهم على كفالة يتيمتهم وبنت حبرهم مريم بنت عمران، والدة سيدنا عيسى - على الجميع السلام - قال الله -تعالى-: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44]، فقد كان كل واحد منهم يطمع في أن يفوز برعايتها، ولم يجدوا بدًّا من الاقتراع فيما بينهم وإلقاء أقلامهم في نهر الأردن أيهم يفوز بهذا الشرف العظيم، ألا وهو كفالة اليتيمة، حتَّى فاز بذلك نبي الله زكريا - عليه السلام.