فلو طبقنا ذلك على الدين..
قرأنا قرآن صلينا وصمنا وحججنا وزكَّينا، وحضرنا مجالس العلم، وكانت عندنا مكتبة إسلامية، والكتاب الفلاني لابن فلان، وغيره لفلان الفلاني وهكذا، والطبعة حديثة، أحاديث الكتاب مخرَّجة، هذا الكاتب رد عليه فلان هذا هو النشاط الديني، بين مطالعة وبين تأليف وبين استماع إلى أشرطة، بين حضور مجالس للعلم و بين أداء الصلوات هذا النشاط كلَّه إجمالاً، إذا لم ينتهِ بك إلى أن تتصل بالله وأن تسعد بقربه لا معنى له إطلاقاً.
فأصبح الدين اليوم لدى الكثيرين من المسلمين ثقافة على فلوكلور على تقاليد وعادات على عاطفة جوفاء وهم بذلك يخدعون أنفسهم ويوردونها الموارد الآسنة، أما حينما تتصل بالله وتقطف ثمار القرب، وتجني الأمن والطمأنينة، وتجني سعادة القرب، عندئذٍ أنت متديّن، المشكلة في الدين: أنك لن تستطيع أن تتصل بالله إلا إذا كنت مستقيماً على أمره، هذا هو بيت القصيد، لكي لا يضيّع الإنسان وقته، ولكي يتحرك العبد حركة ناجحة ولكي لا يبدد نشاطه في حركة غير ذات طائل عليه أن يدرك حقيقة علاقته بالله تعالى ثم يخلص له العبادة.
ملخص الملخص
يجب أن تعرفه وأن تستقيم على أمره حتى تسعد بقربه هذه هي العبادة فقد قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)" (سورة الذاريات).
تعرفه، تطيعه، تسعد بقربه، وانتهى الأمر إلى رضوان الله ولا شيء غير ذلك.
شيء آخر..
من لوازم هذا الاسم أدب المؤمن مع هذا الاسم أن ترتفع همَّته عن الخلائق، فمادام الله كمالُه مطلق وعطاؤه مطلق، دع الخلق إلى الخالق، دعهم، تجد الإنسان المنافق والمنحرف أرضيّاً مع الناس، ماذا تكلم فلان، لا أنا سوف أقوم بالرد عليه، أما المؤمن فهو تارك الناس، ويلتفت إلى رب الناس، هناك شيء أساسي في حياته، فالله هو الأساس والغاية.
أحياناً تدخل إلى دائرة لتقابل فلاناً المسؤولَ، وقد تجد في الممشى مائة شخص، وخمسين باباً مفتوحاً، وخمسين موظفاً جالساً لا تريد أحداً منهم، لكن تريد المدير العام فقط، هدفك واحد فقط وكل هؤلاء الذين في دربك تتجاوزهم والمؤمن كذلك هدفه الوصول إلى الله تعالى.
قيل: علاقة المؤمن بهذا الاسم:
أن ترتفع همَّته عن الخلائق مع تعلِّقه بمولاه، فمن عرف أن الله هو الواجد الماجد سمت همته إليه واعتمد عليه في كلِّ الأمور، أي أنّ المؤمن ربَّاني، والمنافق شيطاني.
الحديث القدسي:
((إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ)) (صحيح مسلم).
وأنتقل بك أيها القارىء الكريم بعد هذا إلى اسمٍ آخر قريب من هذا الاسم وهو اسم المجيد.. الماجد على وزن فاعل، أما المجيد على وزن فعيل، المجيد صيغة مبالغة، أي سامع وسميع، ماجد ومجيد، حافظ وحفيظ، وزن فعيل من أوزان صيغ المبالغة.
وإذا قلنا مبالغة في حقِّ الله عزَّ وجلَّ، فهذه المبالغة كماً وكيفاً، إذا قلنا إن الله عز وجل مجيد أي يتناهى في الرفعة في كلِّ صفاته هذا معنى المبالغة..
أما المبالغة النوعية فالله على كلّ شيء قدير مهما بدا كبيراً، وعلى الأشياء كلّها قدير مهما كثرت، مهما كثرت ومهما كبرت.
في اسم المجيد قالوا:
المجد هو الشرف كما قلت قبل قليل لكن شرف الذات إذا قارنه حسنُ الفعال سمي مجداً.
مثلاً:
إنسان درسنا نسبه ينتمي إلى أرقى أسرة لكن أفعاله سيئة لا يسمى ماجداً، إنسان آخر أعماله طيبة لكن لا نعرف أصله ولا الأسرة التي ينتمي إليها ولا ماضيه.
فهو إذاً ماجد، أسرع به عمله، ولو بطأ به نسبه.
شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمي مجداً، والمجد المروءة والسخاء والكرم وكرم الفعال.
سيدنا سعد بن عبادة كان يقول:
اللهم هب لي حمداً ومجداً لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم لا يصلحني إلا هو، ولا أصلح إلا عليه.
كلام دقيق.. إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه، وبعض الناس مقاومته هشة إذا أغناه الله يعصيه على الفور، أي أنَّه على الدخل الكبير يرتكب الموبقات، أما على الدخل المحدود مستقيم.
((وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه)) هذا حديث شريف..
إلا أن الآية الكريمة تعطيك قاعدة عامة وثابتة، قال الله تعالى:
"وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ" (سورة الشورى).
معنى ذلك أن الله عزَّ وجلَّ إذا قنن، فإنّه يقنن تقنين تأديب لا تقنين عجز، إذا وجدتَ الأمطار قد شحَّت، والموارد قلَّت، والأعمال أصبحت عسيرة، والأمور غير ميسرة، معنى ذلك أنه تقنينٌ من الله عزَّ وجلَّ، وهذا التقنين لا يمكن أن يكون تقنين عجز إلا أنه تقنين تأديب.
إذا قطعوا مرافق الماء عن بيوتنا فالسبب أن المياه غير كافية، هذا تقنين عجز، إذا قطعت الكهرباء باليوم ساعة معنى ذلك يوجد تقنين عجز، أما إذا الله عزَّ وجلَّ قنن الموارد فلا يمكن أن يكون عجزاً لأن الله عنده خزائن كل شيء: "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ" (سورة الحجر).
فإذا قنن فالتقنين تقنين تأديب، فهذا الصحابي الجليل قال داعياً: اللهم هب لي حمداً ومجداً ولا مجد إلا بفعال ولا فعال إلا بمال اللهم لا يصلحني إلا هو ولا أصلح إلا عليه.
فإذا رأيت إنساناً عظيماً وليس له عمل صالح فإن عظمته تكون فارغة، العظمة أساسها العمل العظيم، لا مجد إلا بفعال ولا فعال إلا بمال.
وبعد فإذا رجا إنسان ربّه أن يكون غنياً ليكون بهذا المال ماجداً انقلب هذا الطلب إلى عبادة، فلو أن شخصاً يبحث عن مال وهدفه إذا اغتنى أن يبني مسجداً، أو يبني معهداً شرعياً، أو يطعم الفقراء، أو يكرم الأيتام وينشئ ميتماً مثلاً، وينفق إنفاق الطامع برحمة الله ويرجو وجهه، أو يعلم الطلاب على حسابه لكي يصبحوا دعاة، فإذا كان هذا هدفه فعمله عبادة، وأي عبادة.
التقيت مرّة بإنسان
بينما كنت في زيارات إحدى المحافظات فوجدت مسجداً قد أنشيء حديثاً على الساحل فأعجبني ودخلت وصليت فيه، ثم دعاني هذا الإنسان لشرب كأس من القهوة، فقال لي: أنا الذي بنيت هذا المسجد، حدثني عن قصته فسمعت كلاماً غريباً.
قال لي:
لما أنهيت الخدمة الإلزامية من حوالي عشرين سنة، وكنت والله، لا أملك درهماً ولا ديناراً فأخذت من أُختي سوارها وبعته بثلاثمائة ليرة وسافرت إلى إحدى دول الخليج، وبينما أنا بالطائرة ما تكلمت بلساني إلا أنّهُ قد خطر في بالي خاطر: لو أن الله جبر خاطري في هذه السفرة لأُعمِّرن مسجداً، أَقسَم بالله أنه لم ينطق هذا بشفتيه، ثم قال لي: وأكرمني الله عزَّ وجلَّ إكراماً منقطع النظير ثم رجعت إلى بلدي واشتريت أرضاً مساحتها خمسة دونمات وتقدمت بطلب رخصة فلم يحصل عليها، قالوا: المنطقة غير منظمة ثم قابل مسؤولاً كبيراً هو المحافظ الذي قال له: عمِّر ولا بأس عليك ثمّ قال: وبكل بساطة عمّرنا مسجداً كبيراً ضخماً ومرتب نظيف وهو الذي صليت فيه قبل قليل، وهو على مرأى من المسافرين قبل مدينة بانياس، لونه بني لطيف، أمنيته كانت إلى الله: إذا أكرمتني يارب فإني أعَمِّرُ مسجداً.
طلب بصدق النية فالله أعطاه، فإذا طلب أحد مال من الله لكي يُعَمِّرَ مسجداً أو لينشئ معهداً شرعياً، أو ليبني داراً للأيتام، لينفق على طلاب علم ولكي ينشر الدعوة إلى الله، هذا الغنى آل أمره إلى عبادة ولم يصبح غنى مطغياً أو غنىً منسياً لأنه أدّى حقَّ الله في المال، لأن المؤمن القوي خيرً وأحبُّ إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف..
والمال قوة، لكن هذا المال يحتاج إلى نية ويحتاج إلى إيمان، والإيمان يفرز نية عالية، والنية العالية تحوّل طلب المال إلى عبادة.
أما إذا كان إنسان همه أن ينشئ هنا فيلاًّ، هناك شاليه، وأن يشتري السيارة الشبح ويستقلها زهواً، هذه لم تصبح عبادة بل أصبحت أعماله للدنيا.
فلذلك طلب المال من أجل الأفعال الصالحة يعدُّ عبادة، يقول: اللهم هب لي حمداً ومجداً، ولا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال اللهم لا يصلحني إلا هو ولا أصلح إلا عليه.
وإنّني أدعو أحياناً فأقول:
اللهمَّ صُن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالاقتدار، فنسأل عندئذٍ شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذمِّ من منع، وأنت من فوقهم وليُّ العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء.
فإذا الإنسان أتقن عمله، أتقن مصلحته، أتقن تجارته، أتقن صناعته، أتقن وظيفته، أتقن طبه، أتقن هندسته، وجاءه دخل كبير وحل مشاكل الناس به فهو في أعلى درجات العبادة، إنه مستقيم، طاهر، ورع، كسب مالاً وزوج شاباً، واشترى بيتاً لإنسان فقير آواه به، حل مشكلة إنسان، وفَّق بين زوجين، آوى إنساناً عليه دعوى إخلاء مثلاً، فتاة أمَّن لها بيتاً وبعد هذا تقدم لها شاب ليتزوجها، أحياناً تجد البنت إذا ملكت بيتاً فإنها على الفور تتزوَّج، إذا كنت ميسور الحال وعندك بنتٌ مستقيمة وطاهرة نقية وتقدم لها شاب لا بيت عنده ولا يملك ثمنه فاشتر لها بيتًا وزوجهما، فهناك آباء أعجلّ أفعالهم كثيراً.
قال لي أخ:
أنا أمّنت بيتاً لهذه البنت فإذا تقدم أحد خطبها وتزوجها فله هذا البيت ولم يمض إلا وقت قليل حتى تزوجت، وانحلت مشكلة شابين بحاجة إلى زواج، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه..
((وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) (صحيح البخاري).
فإذا أحد طلب المال من الله تعالى ليحل فيه مشاكل المسلمين نقول له: نِعم الطلب حباً وكرامة لطلبك، وهذا عملٌ من أرقى الأعمال وأرجاها عند الله تعالى.
الله عزَّ وجلَّ ذكر اسمه المجيد في القرآن الكريم، قال الله تعالى: "ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1)" (سورة ق).
فالقرآن كتابنا المقررحدِّث عنه ولا حرج، حدِّث عن نظمه، وعن إعجازه، وعن تشريعه، وعن أخباره، وعن حلاله وعن حرامه، وعن وعده، وعن وعيده، وعن صوره، وعن مشاهد يوم القيامة فيه وعن قصص أنبيائه هذا الكلام كلام الله عزَّ وجلَّ.
فالله عزَّ وجلَّ قال:
"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (سورة الأنعام).
"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ" (سورة الكهف).
الكون كله في كِفَّة والقرآن في كِفَّة وهو بين أيدينا، والله الذي لا إله إلا هو لو وقفت عند حروفه حرفاً حرفاً لوجدت العجب العُجاب، لو وقفت عند حركات الحروف لوجدت العجب العُجاب، قواعد هامة.
قال تعالى:
"وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ" (سورة: ق).
أي الشريف، فلله الشرف والمجد والعلو والعظمة في ذاته وصفاته وأفعاله، ووصف الله تعالى قرآنه بأنه مجيد لكثرة فوائده، فالمجيد في صفة الله يدل على كثرة إحسانه وأفضاله، والمجيد هو الشريف بذاته الجليل بأفعاله الجزيل بعطائه، البالغ المنتهى في الكرم، وقيل المجيد المتناهي في الشرف في ذاته وصفاته وأفعاله وهو الجليل في نعوته والجميل في ملكه وملكوته.
جاء اسم المجيد في آيات آخرى:
فالله عز وجل في سورة هود قال:
"قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)" (سورة هود)، أي أنه كثير العطاء.
"إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"
فإذا الإنسان تعرَّف إلى الله واستقام على أمره يهديه سُبُل السلام، فهناك أزمات طاحنة..
ويوجد دعاء للنبي، اللهم صلِّ عليه يقول فيه:
((اللَّهم إني أعوذ بك من فجأة نقمتك، وتحوِّل عافيتك، وجميع سخطك)).
أحياناً يقع البلاء فجأةً، ويداهم المرض العُضال فجأةً.. فاللهمّ إنا نعوذ بك من فجأة نقمتك، وتحوِّل عافيتك، وجميع سخطك.. أحياناً تكون المفاجأة في الأولاد، أو المفاجأة في الزوجة، مفاجأة عنده خمسة أولاد وعندما حلل إكتشف أنه لا ينجب، وعنده خمسة أولاد من غيره.
فجأةً وقع الخبر عليه وقعْ الصاعقة!! فمثل هذا الخبر يكون مدمّراً وهو شيء لا يُحتمل، ففي حياة الكافر والعاصي مفاجآت، وأخبار كالصواعق.
أما المؤمن فالله عزَّ وجلَّ يهديه سُبُل السلام، فهو في سلام مع نفسه، وفي سلام مع من حوله، وفي سلام مع ربُّه، وفي سلام مع مستقبله: "قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا" (سورة التوبة).
المؤمن في سلام:
فلن تجد عنده مفارقات وأخباراً صاعقة، ذات مرةٍ دُعينا من قِبَلِ أحد الإخوان لمزرعة، وقال لي: هذه مزرعة عمَّي، وبينما نحن في المزرعة دخل عمَّه ولم يسلِّم على الموجودين جميعاً وعددهم ثلاثون رجلاً، ولكنني ضقت ذرعًا من تصرُّفه هذا، فقال لي هذا الأخ: عَمّي حضر من المَشفى الآن حيث كان يقوم بتكرير دمه وغسل كليتيه.
فلا تؤاخذه على تصرُّفه فهو لم يعد يرى بعينيه من كثرة الألم، والغسيل كل أسبوع مرة، يمشِي دون أن يرى أحداً أو يحس بأحد، فالهم حجبه عن الناس كلَّهم.
فقد يُصاب الإنسان بمصيبة في جسده أو ماله أو عياله مما يجعله لا يرى شيئاً مما حوله، فإذا طمأنك الله عزَّ وجلَّ وقال لك: "فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا" (سورة الطور).
"فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا"
فلا تخف، فأنت موضع عنايتنا، فأحياناً تجد أن الله عزَّ وجلَّ يلقي بقلبك الطمأنينة وتشعر بالثقة، وتشعر بأنَّ العناية تحوطك، فاحمد الله على نعمائه فالله قال: "فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا"
فهل هذا شيء قليل أن يعتني الله بك ويدافع عنك ويطمئنك، ويُلقي السكينة بقلبك والسعادة فهل هذا قليل؟ والثمن بيدك وهو طاعتك، فأطعه وانظر متدبراً في قول القائل:
أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنـا.. فإنا منحنا بالرضى من أحبَّنا
ولُذ بحمــانا واحتــم بجنـابنــا.. لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
وعن ذكـرنا لا يشغُلنَّك شاغلٌ وأخلص لنا تلقِ المسرَّة والهنا
وسلِّم إلينا الأمر في كلِّ ما يكُن فما القرب والإبعاد إلا بأمرنا
***
الله عزَّ وجلَّ قال:
"قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"
عطاؤه لا حدود له، فالله عزَّ وجلَّ أحياناً يعطي الإنسان قليلا من الدنيا قد يختلَّ توازنه بسببه،كأن يعطيه بيتاً جميلاً، زوجةً جميلة، تجارة رابحة، فكيف إذا أعطاك الله الجنَّة..
ولندقق النظر في هذا الكلام
إذا ذهبنا إلى طرطوس، وركبنا زورقاً إلى جزيرة أرواد وأخرجت من جيبك إبرةً وقمت بغمسها في مياه البحر وسحبتها بعد ذلك فانظر مقدار ما حملته وتعلَّق بها من ماء..
يقول النبي اللهمَّ صلِّ عليه:
((ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غُمِس في مياه البحر)).
الدنيا بقصورها، بنسائها، بمركباتها، بمياهها، بأماكنها الجميلة.. ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غُمِس في مياه البحر.
((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) (صحيح البخاري).
لذلك الموت عند المؤمن تُحفته وعُرسُه، لأنَّه دخل الجنَّة وقد رأى مقامه فيها: "إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
فالله يُهيّئ لنا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إذا أكرمنا بالجنَّة فهناك كل ما لا يتصوَّره العقل، والثمن طاعته فقط.
وفي سورة البروج قال تعالى:
"وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)" (سورة البروج).
فلا إرادَةَ فوقَ إرادةِ الله أبداً، فالله هو المريد، هو القادر، هو الفعَّال، هو الحكم، هو العدل، لا رادَّ لما أمر، ولا معقِّب لحكمه، وقد وصف الله سبحانه وتعالى عرشَّه بأنَّه مجيد، ملكه ملك عظيم.
وهناك آية ثالثة قال تعالى:
"بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)" (سورة البروج).
معنى قرآن مجيد أي كثير الخير، إن قرأته، إن تعلمْت أحكام تلاوته، إن فهمته، إن طبَّقته، إن تعلَّمت منه، لا حدود لفضائل القرآن، لذلك مَنْ أُوتي القرآن ورأى أنَّ أحداً أُوتي خيراً منه فقد حقَّر ما عظَّمه الله، مَنْ تعلَّم القرآن متَّعه الله بعقله حتى يموت، أكرر مَنْ أوتي القرآن فرأى أنَّ أحداً أُوتي خيراً منه فقد حقَّر ما عظَّمه الله.
قال:
مَنْ تخلَّق باسم المجيد، ينبغي أن يكون كريماً في جميع الأحوال مع ملازمة الأدب، فمن المستحيل أن ترى مؤمناً بخيلاً.. بل تجده كريماً يعطي ولا يضنُّ بعلمه ولا بخبرته.
حدَّثني أخ.. عافاه الله من مرضه
وهذه القصَّة منذ ثلاثين عاماً.. عنده محل لصناعة الحلويات -الكاتو-، دخل عليه شخص من أقاصي الجزيرة وببساطة قال له: أتعلمني صنع الكاتو؟ فقال له: على العين، تفضَّل للداخل، وقام بعمل العيارات والأوزان المناسبة أمامه، وطبخها أمامه وبعد أن انتهى من العمل طلب منه أن يقوم بعمل مثلها أمامه..
ثم أقسم هذا الأخ..
أنَّه منذ ثلاثين سنة وإلى الآن يزوره ذاك الأخ ويحضر له هديَّة من الحسكة، فقد أسَّسَ محلاً هناك في بلده وأخذ الله بيده ولم ينس الفضل لثلاثين سنة فيحضر له كل سنة تنكة من السَّمن.
الإيمان أساسه العطاء
وقد حدَّثني طبيب متخصص في الأورام الخبيثة قال لي: جاءت امرأة شابَّة في ريعان الشباب مصابة بمرض خبيث في الحنجرة وكادت تختنق، ولا أمل في شفائها، وقد قامت مع ذويها بزيارة مشافي وعيادات عدة جامعات بما فيها الجامعة الأمريكية في لبنان والكل أجمعوا على أنه لا أمل بشفائها، قالوا لزوجها، لا أمل في شفائها..
ولكن بعد أن غادر العيادة رجع إلى الطبيب ليحاول مرةً أخرى وقال له: أنا سوف أقوم بإجراء محاولة أخيرة، ولكن الأمل ضعيفٌ جداً، وأقاموا بفندق قريب وأجرى الطبيب للمرأة جلسة أشعة يومياً، وبعد حين تحسَّنت حالها، وبعد ثمانية أشهر تقريباً بدأ شبح هذا المرض الخطير يتراجع، ثمّ أذن الله بشفائها وعافاها وأنجبت الأولاد.. وهذه القصة منذ أكثر من خمسٍ وعشرين سنة..
ويقول الطبيب لي:
كل سنة يأتي الزوج للطبيب بخروفين وصفيحة من السَّمن.
فقال له الطبيب أخيراً:
والله لقد رددت الجميل بالجميل الكثير فوفيّتْ، بل أكثرت، فيقول له الزوج: والله لئن مِتُّ أنا، فأولادي من بعدي يتابعون هذا العمل وفاءً منا لحسن صنيعك.
فقد كان ميؤوساً من شفائها ولم يتقاصَ الطبيب شيئاً على علاجها، وكان هذا الزوج فقيراً جداً وأغناه الله بعد ذلك، ونظير علاجه وخدمته طيلة ثمانية أشهر وتراجع المرض وشفاء الزوجة بفضل الله، ومَنِّهِ ولم ينس الزوج هذا الفضل، فإذا كان الفضل لإنسان فَلَمْ ينسه الزوج.
"وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ"
فكيف إذا كان الفضل لله عزَّ وجلَّ؟
قال تعالى:
"وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ" (سورة البقرة).
الماجد والمجيد اسمان من أسماء الله الحُسنى.. وبشكلٍ ملخَّص.. الشريف بذاته، الحميد بأفعاله، الغنيٌ المُغني، الذي يعطي الخير الجزيل.
أخلاق المؤمن نحو هذين الاسمين يترتّب عليه..
أن يقصد وجه الله الكريم لأنَّه المُغني وحده، وأن يُحسن للمخلوقات تأسياً بأخلاق الله، فاِتجِهْ إلى الله وحده وأكرم خلقه إن كنت آمنت بهذا الإسم الجليل.
والحمد لله رب العالمين.