الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضَى.
وبعد:
فاتَّقُوا اللهَ - عباد الله -، واعلَمُوا أن التحذيرَ مِن الهلَع، والأمرَ بمُدافعَته أو رفعِه لا يعنِي أبدًا التقليلَ مِن شأنِه، ولا أنه وهمٌ على الدوامِ.
فمِن الهلَع ما يُوجِبُ الحِيطة والحذَر، وبذلَ أسبابِ الوِقايةِ مِنه؛ لئلا يجثِم التخذيلُ مكانَه ولا الاستِسلام ولا القُعُود، أو يُصبِح عُنصرًا سلبيًّا في المُجتمع بأقصَى درجاتِ السلبيَّة المبنيَّة على احتِكار الفردِ ما يأتِيه مِن الخير، وعلى الاضطِراب والجَزَع إثرَ كل بلِيَّةٍ تحُلُّ به وإن صغُرَت، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ ..﴾ الآيات [المعارج: 19- 22].
فالله - جلَّ شأنُه - قد استَثنَى مِن آفةِ الهلَع في تلك الآية:
المُصلِّين والمُتَّصِفين بلوازِمِها في الآياتِ التي تلِيها.
فإن مُجتمعًا يُداوِمُ على الصلاةِ، ويُنفِقُ مما آتاه الله، ويُصدِّقُ باليوم الآخِر، ويُشفِقُ مِن عذابِ ربِّه، ويحفَظُ أعراضَ ذَوِيه، ويُؤدِّي أماناتِه، ويقومُ بشهاداتِه، إن مُجتمعًا كهذا لن يحِلَّ الهلَعُ به بعامَّة، ولن يكون مِن بابَتِه في وِردٍ ولا صدَر، ولن يُبدِّلَ اللهُ أمنَه خوفًا. فكيف يشقَى قومٌ أكرَمَهم الله بهذا الكِتابِ فتمسَّكُوا به؟! وكيف يقَعُ في التِّيهِ مَن اهتَدَى بهَديِه واستَنَارَ بنُورِه؟! ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9].
ألا إن الحياةَ بلا أمَلٍ قُنُوطٌ جاثِمٌ، والأملَ بلا عملٍ تمَنٍّ كاذِب، ودينُنا الحنيفُ إنما يدعُو إلى الفأْل والأمَل اللَّذَين يستَصحِبان الجِدَّ والعمَل وبذلَ الأسباب.
والحذَرَ كلَّ الحذَر مِن مُرجِفٍ يُذكِي بإرجافِه الهلَع، ويُؤصِّلُ قناعةً وهميَّةً بأن الزمانَ قد فسَدَ برُمَّته، والمُجتمعات قد هلَكَت، وخرابَ دُنياهم قابَ قَوسَين أو أدنَى، وأنه لا خيرَ باتَ يُرجَى؛ ليصدُقَ فيه قولُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قالَ الرَّجُلُ: هلَكَ الناس، فهو أهلَكُهم»؛ رواه مسلم.
ألا فاتَّقُوا الله - عباد الله -، واعمَلُوا وأمِّلُوا واستبشِرُوا بقولِ البارِي - جلَّ شأنُه -: ﴿طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: 1، 2].
إذا المرءُ جارَ على نفسِه وأسرَفَ في خوفِهِ والهلَعْ
أتــــاحَ لأنفَاسِـــهِ حَســـرَةً تُجَلجِـلُ في قَلبِهِ فانخَـلَعْ
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البريَّة، وأزكَى البشريَّة: محمدِ بن عبد الله صاحبِ الحوضِ والشفاعة؛ فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المُؤمنون -، فقال - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ صاحبِ الوجهِ الأنوَر، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائِرِ صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابِعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وكرمِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المُؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمُومين من المُسلمين، ونفِّس كَربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينِين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعَل ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقَاك، واتَّبعَ رِضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوالِ والأعمالِ يا حيُّ يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر إخوانَنا المُستضعَفين في دينهم في سائِر الأوطانِ يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا مِن القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا مِن القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا مِن القانِطين.
اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].
سُبحان ربِّنا ربِّ العزَّة عما يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.