والدليل قوي وهو قول الله تعالى:
"إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)" (سورة المعارج).
أصل جبلَّته هلوع.. فما معنى هلوع؟
الله قد فسَّرها لنا فقال:
"إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا".
أي شديد الجزع أي كثير الخوف.
"وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا".
يخاف مرَّتين، يخاف من خطرٍ، ويخاف على ما في يديه، يخاف من خطرٍ داهم، ويخاف على ما في يده، الخوف من خطرٍ داهم يجعله جزوعاً، والخوف على ما في يديه يجعله بخيلاً حريصاً: "إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)" (سورة المعارج).
المُصَلِّي ليس جزوعاً وليس هلوعاً وليس منوعاً، هذا هو الحال، معنى الحال، أي أنت غير علمك وتصوُّراتك الصحيحة عن الكون وغير ثقافتك الإسلاميَّة، وغير معرفتك لمنهج الله هناك شيء آخر، قلبك ممتليء محبَّةً لله، قلبك ممتليء طمأنينة، قلبك ممتليء سعادة، قلبك ممتلئ رضا، قلبك ممتليء رحمة، قلبك ممتلئ إنصاف، إنَّ مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى فإذا أحبَّ الله عبداً منحه خُلقاً حسناً.
إذاً الوجد في المصطلح:
هو الإنسان الذي أصابه الوجد، أي ما يجده من أحوال في قلبه، فأنتم بربكُم أحياناً يشعر الإنسان بإنقباض، أو يحسَّ بكآبة، أو بإنطلاق، أو يحسَّ بالغنى الحقيقي، يكون إنسان عادي ودخله محدود وهو من عامَّة الناس، يشعر أنَّه غنيّ وأنَّ الله سبحانه وتعالى تفضَّل عليه بالمعرفة، وتفضَّل عليه بالقرب، وأمدَّه بالتوفيق، هذا الشعور بالغنى والشعور بالطمأنينة، والشعور بالرضا، والشعور بالأمن.
قال الله عزَّ وجلَّ:
"وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)" (سورة الأنعام).
أيُّها الإخوة..
الآن خطر في بالي لو أنَّ الإنسان تتبَّع الآيات التي تشير إلى الحال.. فمثلاً المشرك قال الله تعالى عنه: "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)" (سورة آل عمران).
"وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)" (سورة الأحزاب).
معنى ذلك:
أنَّ المُشركَ باللهِ يقذف اللهُ عزَّ وجلَّ في قلبه الرُّعْبَ، أما المؤمن فيقذف اللهُ في قلبه الأمن.
قال تعالى:
"وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)" (سورة الأنعام).
الآن الضيق.. قال تعالى:
"وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)" (سورة التوبة).
هناك ضيق.. إذاً فقد قال تعالى:
"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)" (سورة آل عمران).
وقال تعالى أيضاً:
"وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)" (سورة آل عمران).
أحوال القلب...
القلب يضعف، يقوى يذلّ، يعتزّ، يتضعضع، يتماسك، ينهار، يصمد، يُحب ن يكره، ينقبض، ينشرح، هذه هي الأحوال، والحقيقة أنَّ أحد أكبر ثمرات الإيمان عند المؤمن هذا الحال الذي في قلبه.. شعور الغنى.. المؤمن لا يخاف إذا خاف الناس وهذا أكيد، لا يقلق إذا قلق الناس، لا يستخزي إذا إستخزى الناس، لا يذِل إذا ذلَّ الناس، لأنَّه مع الله والله هو العزيز هو القوي.
اجعــــل لربِّك كلَّ عِزَّك يستقـــرُّ ويثبتُ
فإذا اعتززت بمَنْ يموتُ فإنَّ عزَّك ميِّتُ
***
قال بعضهم:
"الوجد.. مكاشفة الأسرار ومشاهدة المحبوب".
هناك شيء في الدين فوق الصلاة والصيام والحجِّ والزكاة، وفوق غضِّ البصر والتزام الأمر والنهي، هذا هو الإشراق، هذا القرب من الله.. هذا هو الدين.. مكاشفة الأسرار، مشاهدة المحبوب، ألم يقل لله: يا ربُّ لقد عصيتك فلم تعاقبني!! فوقع في قلبه: أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ، ألم أحرمك لذَّة مُناجاتي.
بربِّكم... إستقامتكم، وإخلاصكم، وإلتزامكم، وخوفكم من أن تعصوا الله عزَّ وجلَّ، هذا الحرص على طاعته ألا يُلقي في قلبكم الأمن والطمأنينة، والبِشْرَ والسعادة، هذا هو الوجد الذي تحدَّث عنه بعضهم.
أيُّها الإخوة... يقول الإمام الرازي رحمه الله تعالى:
الواجد إما أن يكون بمعنى الغنى، كما في الحديث الشريف:
((ليُّ الواجد ظلمٌ))، أي مماطلة الغنيُّ ظلمٌ.. ليُّ أي المماطلة، الواجد أي الغني.. ظلمٌ.
او بمعنى العلم.. كما في الآية الكريمة:
"وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) "(سورة النور).
وجدتُّ العلم نافعاً.. أي علمت العلم نافعاً، أو بمعنى الحزن.. وجد فلانٌ على فلان.. أي غضب منه وحزن منه.
بعض العارفين يقول:
الواجد هو الذي لا يحتاج إلى شيء، مُنَزَّهٌ عن أن يحتاج إلى شيء لأنَّه يجد كلَّ شيء، ليس بحاجة إلى شيء مَنْ افتقد شيئاً احتاجه، لكنَّ الله سبحانه وتعالى لا يفتقد شيئاً، إذاً هو الواجد، كلُّ الكمالات موجودٌ له.
فأحياناً يقولون لك:
فلان ذو علم ولكنَّه غضوب، حليم ولكنَّه جاهل، يفتقد إلى أشياء كثيرة.
قال:
"الواجد نافذُ المُراد"، جميع أحكامه لا نقص لها، فكما قال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)" (سورة الرعد).
الواجد.. هو الله وحده، وما سوى الله عزَّ وجلَّ لا يكون واجداً إنَّما يُسمَّى فاقداً، فالله واجد وما سواه فاقد، الله عزَّ وجلَّ لا يحتاج إلى شيء لأنَّه يجد كلَّ شيء، والإنسان يحتاج إلى كلِّ شيء لأنَّه فاقدٌ إلى كلِّ شيء، هذه حقيقة الإنسان وهذا حجمه الحقيقي.
إن وجد في الإنسان بعض الكمالات، فهو فاقدٌ لأكثرها، إذا فهو يغلب عليه أنَّه فاقد، وحينما توجد فيه بعض هذه الكمالات الله وحده الذي اوجدها فيه.. إنَّ مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى فإذا أحبَّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً، حتى الصفات الأخلاقيَّة في الإنسان هي من الله عزَّ وجلَّ.
قال:
متى أشرق على قلبك نور اسم الواجد.. فهذه الأسماء الحسنى إذا اقترب الإنسان من الله عزَّ وجلَّ يشتقُّ منها بعض الكمال.. إذا أشرق على نفسك نور اسم الواجد وجدَّت جميع الكمالات موجودةٌ لله تعالى مفقودةٌ لغيره.
لذلك المؤمن لا يرى الكمال إلا في الله، لذلك لا يحبُّ إلا الله، وما سوى الله يُحسن إليهم يفي بعهدهم يُنجز وعده معهم ويفعل كلَّ شيءٍ معهم، أما قلبه مُعَلُّقٌ بالله عزَّ وجلَّ.
قالوا:
الواجد.. هو الغني الواجد كلَّ ما يطلب، المدرك كلَّ ما يُريد، القادر على تنفيذ مراده.. يعلم كلَّ شيء.. من العلم.. ويقدر على كلِّ شيء، ولا يفوته شيء، ولا يستعصي عليه مطلوب، رفيع القدر، عظيم الشرف، كامل القدرة، واسع الجود والعطاء.
هذا اسم الواجد..
لكن هناك وجود بمعنى علم، ووجود بمعنى غنى، الوجود بمعنى العلم.. أحياناً أنت من خلال الحواس تجد، تضع هذا الطعام على لسانك تقول طعام مالح، وجدَّت ملوحته حينما تذوَّقته، فوجدانك لطعم ملوحته عن طريق لسانك.. لمسته فرأيته ناعم الملمس هذا الوجدان عن طريق الحسّ، نظرت إليه فرأيته جميلاً، فهذا الوجدان بمعنى العلم عن طريق الحواس.. وجدَّت طعمه بلساني، وجدّتُ خشونته ببناني، أو أحياناً الإنسان يجد بقوَّة الشهوة.. يأكل فيشبع، يجد الشبع لأنَّه يشتهي الطعام.
أحياناً يجد بقوَّة الغضب.. فيوجد عنده طبع نفسي معيَّن يتألَّم، أو يُسر، فإذا وجد الألم بسبب قوَّة الغضب أو بقوَّة الرِضا، وأحياناً يجد عن طريق عقله.. يقول لك: فكَّرت فوجدت.
فهناك وجدان حسّي، ووجدان غضبي، ووجدان شهواني، ووجدان عقلي.. لكنَّ الله سبحانه وتعالى اسمه الواجد منزَّهٌ عن أن يجد بأداة، أو بوسيلة، الله جلَّ جلاله منزَّهٌ عن الوسيلة، لأنَّ الوسيلة تُعبِّر عن ضعف.. أنا ضعيف لذلك أستعين بوسيلة، فالإنسان الذي يستخدم المنظار، لماذا يستخدمه؟ لأنَّ عينه لا تكفي لرؤية المسافات البعيدة فيستخدم المنظار.. إذا ضعفه تجسَّد في استعانته بالمنظار.. هذا هو الضعف، فالله سبحانه وتعالى واجد، لكنَّ هذا الإسم من أسمائه الحُسنى لا يليقُ به أن يكون عن طريق آلةٍ أو أداةٍ أو جارحةٍ أو ما شاكل ذلك.
أيُّها الإخوة الكرام...
الله سبحانه وتعالى وحده الواجد وما سواه فاقد..
لذلك قال بعضهم:
الموجودات ثلاثة أضرُب..
موجودٌ لا مبدأُ له ولا منتهى:
وهو الله وحده وليس ذلك إلا للباري تعالى.
وموجودٌ له مبدأٌ ومنتهى:
كالناس في النشأة الدنيا.
وموجودٌ له مبدأٌ وليس له منتهى:
كالناس في النشأة الآخرة، في جنَّات الخُلد إلى أبد الآبدين.
بالمناسبة..
اسم الواجد لم يرِد في القرآن الكريم وقد ورد في الحديث الصحيح، إلا أنَّه ورد في القرآن الكريم مادَّة الوجد.
قال الله تعالى:
"وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (43)" (سورة ص).
أي إنَّا عَلِمْنَاهُ صَابراً..
"نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ".
وقال تعالى:
"أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)" (سورة الضحى).
الآن..
لكي يكون المؤمن موصولاً بنفحات اسم الواجد ينبغي أن يكون واجداً لكلِّ ما يُراد منه.. أي تحرَّى ليجد كلَّ ما أراده الله تعالى منه، فالإنسان إذا سعى وإذا طلب...
قال تعالى:
"وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)" (سورة الإسراء).
أيُّها الإخوة الكرام...
اسم الواجد من أسماء الله الحُسنى، الواجد هو الغني، والواجد هو العالم، والواجد هو المستغني عن كلِّ شيء، والواجد هو الذي لا يفوته شيء، وكلَّما تعمَّقنا في فهم أسماء الله الحُسنى كنَّا أقرب إلى الله، وكنَّا أكثر استفادة من معرفة الله لأنَّ هذه المعرفة تنعكس علينا قرباً، وسعادةً وتوفيقاً.
والحمد لله ربِّ العالمين.