الفصل الثالث
ما يُفعل لأهل الميت
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: صنع الطعام لأهل الميت.
المبحث الثاني: السفر لأجل التعزية.


المبحث الأول
صُنع الطعام لأهل الميت
يُسَنُّ صُنع الطعام لأهل الميت، والدليل على ذلك حديث عبدالله بن جعفر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم أمر شغلهم” (1).

قال الأمير الصنعاني (2) (ت1182هـ) -رحمه الله تعالى-:
(فيه دليل على شرعية إيناس أهل الميت بصنع الطعام لهم لما هم فيه من الشغل بالموت) (3).

وقال الإمام أبو محمد الشيرازي (ت476هـ) -رحمه الله تعالى-:
(ويُستحب لأقرباء الميت وجيرانه أن يُصلحوا لأهل الميت طعاماً) (4).
------------------------------------------
 (1) أخرجه أحمد (1/175)، وأخرجه الترمذي في كتاب الجنائز: باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت (3/314 برقم 998) وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وهذا اللفظ له، وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز: باب صنعة الطعام لأهل الميت (3/253-254 برقم 3132)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز: باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت (1/514 برقم 1610)، والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز (ص: 211).
 (2) هو محمد بن إسماعيل بن صلاح الكحلاني ثم الصنعاني المعروف بالأمير، الإمام الكبير المجتهد المطلق، صاحب التصانيف، ولد سنة (1099هـ) بكحلان، ثم انتقل مع والده إلى صنعاء وطلب العلم بها، ثم رحل إلى مكة وقرأ الحديث على أكابر علمائها وعلماء المدينة، وتفرد بعد ذلك برئاسة العلم في صنعاء، له مؤلفات كثيرة تفوق العشرين مؤلفاً، توفي سنة (1182هـ) فرحمه الله -تعالى- رحمة واسعة.
 (3) سبل السلام (2/237).
 (4) متن المهذب من شرحه المجموع (5/289).


وقال شيخ الإسلام بن تيمية (728هـ) -رحمه الله تعالى-:
(إنما المستحب إذا مات الميت أن يُصنع لأهله طعاماً، كما قال (صلى الله عليه وسلم) لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه-: “اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم") (1).

وقال ابن قدامة (ت620هـ) -رحمه الله تعالى-:
(وجملته أنه يُستحب إصلاح طعام لأهل الميت، يبعث به إليهم، إعانةً لهم، وجبراً لقلوبهم؛ فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمَنْ يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم) (2).

ثم بَيَّنَ ابن قدامة:
أنها إذا دعت الحاجة لإصلاح أهل الميت للطعام جاز لهم ذلك، قال: (وإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز؛ فإنه ربما جاءهم مَنْ يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة، ويبيت عندهم، فلا يمكنهم أن لا يضيفوه) (3).

وقال المناوي (ت1029هـ) -رحمه الله تعالى-:
(فيندب لجيران الميت وأقاربه الأباعد صُنع الطعام، ويحلفون عليهم في الأكل) (4).

وقال الشيخ أحمد البنا (ت بعد 1371هـ) -رحمه الله تعالى-:
(فصُنع الطعام لهم نوعٌ من البر بالقريب) (5).
------------------------------------------
 (1) مجموع الفتاوى (24 /316).
 (2) المغني (3 /496 رقم المسألة 387).
 (3) المغني (3 /497).
 (4) فيض القدير (1/ 687).
 (5) الفتح الرباني (8 /95).


وقال الشيخ الألباني (ت1420هـ) -رحمه الله تعالى-:
(وإنما السُّنَّةُ أن يصنع أقرباء الميت وجيرانه لأهل الميت طعاماً يُشبعهم) (1).

وقال الشيخ محمد بن عثيمين (ت1421هـ) -رحمه الله تعالى-:
(وصُنع الطعام لأهل الميت إنما هو سُنَّةٌ لِمَنْ انشغلوا عن إصلاح الطعام بما أصابهم من مصيبة لقوله (صلى الله عليه وسلم): "فقد أتاهم ما يشغلهم"، وهذا يدل على أنه ليس بسُنَّةٍ مُطلقاً) (2).
------------------------------------------
 (1) أحكام الجنائز (ص: 211).
 (2) الشرح الممتع (5/471). بتصرف يسير.



مسألة: مشروعية إطعام المحزون التَّلْبِيْنَة.
وَرَدَ عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن -إلا أهلها وخاصتها- أمرت ببُرْمَةٍ من تَلبينة فَطُبِخَتْ, ثمّ صُنِعَ ثَريدٌ فصُبَّتِ التّلْبينَةُ عليها ثم قالت: كُلْنَ منها, فإِنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يقول: "التّلبينة مَجَمَّةٌ لفؤاد المريض, تَذْهَبُ ببعضِ الحُزْنِ” (1).

وجاء في مصنف ابن أبي شيبة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “عليكم بالبغيض النافع -يعني التلبينة-، فوالذي نفسي بيده إنه ليغسل بطن أحدكم كما يغسل أحدكم وجهه من الوسخ"، وكان إذا اشتكى أحَدٌ من أهله لم تزل البُرْمَةُ على النار حتى يأتي على أحد طرفيه (2).

قال الإمام النووي (ت676هـ) -رحمه الله تعالى-:
(وفيه استحباب التلبينة للمحزون) (3).

قال ابن الأثير (ت606هـ) -رحمه الله تعالى-:
(التَّلْبِيْنَة والتلبين: حساءٌ يُعمل من دقيق ونُخالة، وربما جُعِلَ معه عسل، وسُمِّيَتْ به تشبيهاً باللبن، لبياضها ورقتها) (4).
------------------------------------------
 (1) سبق تخريجه (ص: 58).
 (2) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الطب باب: في التلبينة (5/39 برقم 23501).
 (3) شرح مسلم للنووي (14 /292).
 (4) النهاية في غريب الحديث والأثر (4 /229).



قال الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) -رحمه الله تعالى-:
(التَّلْبِيْنَة: طعامٌ يُتَّخَذُ من دقيق أو نخالة، وربما جُعِلَ فيه عسل، سُمِّيَتْ بذلك لشبهها باللبن في البياض والرِّقة، والنافع منه ما كان رقيقاً نضيجاً لا غليظاً نيئاً) (1).

وقوله (صلى الله عليه وسلم): (مَجَمَّةٌ) أي مكان الاستراحة، ورويت بضم الميم [مُجِمَّةٌ] أي مريحة (2).

وقال النووي -رحمه الله تعالى-:
(أي تريح فؤاده، وتزيل عنه الهم وتنشطه، والجمام المستريح كأهل النشاط) (3).
------------------------------------------
 (1) فتح الباري (10/690).
 (2) فتح الباري (10/690).
 (3) شرح مسلم (14/292).


المبحث الثاني
السفر لأجل التعزية
السفر لأجل التعزية والمواساة ليس فيه حرج، ولا مانع منه، لأنه لا يوجد دليل على المنع، فلم يسافر ويشد الرحل إلى بقعة معينة، إنما لأجل تعزية أشخاص، ومواساتهم.

وقد قال ابن قدامة (ت620هـ) -رحمه الله تعالى-:
(فإنه ربما جاءهم مَنْ يحضر ميتهم من القُرى والأماكن البعيدة) (1).

فكأنه لا يرى منع السفر لحضور الجنازة، وكذلك لا يوجد مانع من السفر للتعزية، ومَنْ قال بخلاف ذلك فعليه الدليل.

وقد سُئِلَ الشيخ عبدالعزيز بن باز (ت1420هـ) -رحمه الله تعالى-:
عن حكم السفر للتعزية لقريب أو صديق.

فقال:
(لا نعلم بأساً في السفر من أجل العزاء لقريب أو صديق؛ ذلك من الجبر والمواساة وتخفيف آلام المصيبة).

وقال -رحمه الله تعالى- أيضاً:
(إذا كانوا -أي أهل الميت- يحبون ذلك -أي السفر إليهم- فلا حرج، والأمر في ذلك واسع) (2).
------------------------------------------
 (1) المغني (3/497).
 (2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (13/376-377).