حجز المكان في المسجد
جمع وإعداد
عبد العزيز بن محمد السدحان
من باب قول النبيِّ ﷺ: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»، فإني أشكر الشيخ الكريم/ أسامة بن ناصر الصبيح الذي بذل جهدًا مشكورًا في المقابلة والتخريج من المصادر.
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه... أما بعد:
فإنّ دين الإسلام دينٌ شمولي فما من خيرٍ إلّا دلّ عليه ورتّب على فعله الأجر والثواب، وما من شرٍّ إلّا حذّر منه ورتّب على فعله الوزر والعقاب.
ومن شمولية دين الإسلام وكماله وعدله وإنصافه: عنايته بالحقوق، وأعظمها حقّ الله تعالى وهو: إفراده تعالى بالعبادة وعدم الإشراك به.
ومن الحقوق: حقّ الأنبياء، وحق الوالدين، وحقّ الجار، بل حتى الطريق جعل الإسلام له حقًّا، كما جاء في الحديث قول النبيِّ ﷺ: «... فأعطوا الطريق حقّه»، قالوا: وما حقّ الطريق؟ قال: «غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام»( ).
والمسلمون مأمورون بمراعاة هذه الحقوق والعناية بها، وعدم الإخلال والتفريط في شيء منها.
وممّا عُني به الإسلام ما يتعلق بالمساجد؛ فرغّب في عمارتها حسيًّا، فقال النبيُّ ﷺ: «مَن بنى مسجدًا ـ قال بكير: حسبتُ أنه قال ـ يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة»( )، وعمارتها معنويًّا: ﴿ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ﴾( )، وفي الحديث: «سبعةٌ يظلّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه... ـ ومنهم ـ رجلٌ قلبه معلق بالمساجد»( ).
وللمساجد شأنٌ عظيمٌ في الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
«وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد؛ فإنّ النبيَّ ﷺ أسَّس مسجده المبارك على التقوى، ففيه الصلاة والقراءة والذِّكر وتعليم العلم والخطب، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات، وتأمير الأمراء، وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمَّهم من أمر دينهم ودنياهم»( ).
ولعظيم شأن المسجد في الإسلام كثر كلام أهل العلم في مصنفاتهم المطوَّلة والمختصرة، ومن أعظمهم عنايةً المحدِّثون في مصنَّفاتهم، وأعظم وأصحّ كتب الحديث «صحيح البخاري»، وقد عُني ـ رحمه الله تعالى ـ بأحكام المساجد( ) المستنبطة من الأحاديث، والناظر في الأبواب التي ساقها في أحكام المساجد في كتاب الصلاة يرى مصداق ذلك، ومن تلك الأبواب:
باب: كفارة البزاق في المسجد.
باب: هل يقال مسجد بني فلان؟
باب: القضاء واللعان في المسجد.
باب: التيمن في دخول المسجد.
باب: نوم المرأة في المسجد.
باب: نوم الرجال في المسجد.
باب: الحدث في المسجد.
باب: بنيان المسجد.
باب: التعاون في بناء المسجد.
باب: من بنى مسجدًا.
باب: المرور في المسجد.
باب: الشِّعر في المسجد.
باب: كنس المسجد.
باب: الخدم للمسجد.
باب: الخيمة في المسجد.
باب: الخوخة والممرّ في المسجد.
باب: دخول المشرك المسجد.
باب: رفع الصوت في المسجد.
باب: الحلق والجلوس في المسجد.
وعودًا على بدء يقال:
قد أفرد كثيرٌ من أهل العلم مصنفات مستقلة في أحكام المساجد، ومنها:
«إعلام الساجد بأحكام المساجد» للزركشي (ت794هـ).
«تسهيل المقاصد لزوَّار المساجد» للأقفهسي (ت808هـ).
«تحفة الراكع والساجد بأحكام المساجد» للجراعي (ت883هـ).
«إصلاح المساجد من البدع والعوائد» للقاسمي (ت1332هـ).
ومن المسائل التي كثُر كلامهم فيها لشدّة الحاجة إليها: مسألة «حجز المكان في المسجد»، حتى أفرد بعضهم مصنَّفًا خاصًّا في هذه المسألة، منهم:
ابن فرحون المالكي (ت769هـ)( ).
وخير الدِّين بن تاج الدِّين الياس زاده (ت1130هـ) في مصنَّف سمَّاه: «قرَّة عين العابد بحكم فرش السجاجيد في المساجد».
وغير ذلك من المصنَّفات.
ومن المسائل المتعلِّقة بالمساجد التي كثر كلام أهل العلم فيها وشدَّدوا في النهي عنها، وبيَّنوا ما يترتّب عليها من المساوئ: مسألة «حجز المكان في المسجد»؛ فهذه المسألة أصبحت مألوفةً في كثير من المساجد، وبخاصة في الحرمين والمساجد التي يقصدها المصلّون لحُسن تلاوة أئمّتها، أو للصلاة على الجنائز فيها.
حتى إنّ الداخل للمسجد مبكِّرًا يعرف سلفًا أنّ هناك أماكن محجوزة بسجاجيد أو كراسي أو محامل مصاحف وغيرها، فيحرم المتقدِّم إلى المساجد بسبب فعل المتأخِّر.
ومن لطيف القول في هذا ما ذكره صاحب كتاب «قرة عين العابد» فقد قال ما نصّه:
«... وكان من جملة ذلك ما عمَّت به البلوى، وكان على قلب المؤمن أثقل من جبل رضوى! وهو حجز المساجد والأماكن الفاضلة وفرش سجاجيد وخرق بأصحابها غير آهلة، بل تتّخذ للصلاة عليها وتُهيَّأ قبل الوصول إليها، وينبني على ذلك من الأحوال ما يكون داعيةً لارتكاب الأهوال، فمنها: إدخال الحزن على قلب العبد المشتغل بعبادة ربِّه...»( ).
وصدق رحمه الله تعالى؛ فإنّ العبد يُصاب بالحزن والغبن إذا تقدَّم وحُرم الجلوس بسبب حجز تلك الأماكن، بل قد يجرُّه ذلك إلى أن يفعل كفعلهم أو يقع قبل كلِّ صلاة في مجادلة معهم عند حضورهم إلى تلك الأماكن التي احتجزوها، وكان الأولى بأولئك الذي يحجزون الأماكن أن يسارعوا أو يسابقوا إلى فعل الخيرات، كما قال تعالى: ( )، ( ).
وكما وصف الله أنبياءه ﻹ بقوله: ( ).
ومن المسارعة: المسابقة إلى الخيرات والتقدّم إلى المساجد بأبدانهم واستشعار أجر التبكير وغير ذلك من المصالح الشرعية في مثل هذه المواطن.
وفي الوقت نفسه أن يحذروا من ضرر أحد من المسلمين؛ ذلك أنّ ضرر المسلم لا يجوز في أمور دنياه، فكيف في أمور دينه؟ قال ﷺ: «لا ضرر
ولا ضرار»( ).
وقال ﷺ: «من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتُهم»( ).
فإذا كان هذا الوعيد فيمن آذى المسلمين في طرقهم، فكيف بمن آذاهم في مساجدهم وحرمهم خيرًا سبقوا إليه واستأثر هو به بدون حقّ؟!