الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية)
عبدالله بن ناصر السدحان
عبدالله بن ناصر السدحان:
* من مواليد المملكة العربية السعودية.
* حصل على درجة الماجستير في علم الاجتماع، عام 1413هـ.
* محاضر غير متفرغ في مركز التدريب والبحوث الاجتماعية بالرياض، وفي المعهد العالي للعلوم الأمنية في كلية الملك فهد الأمنية بالرياض.
* يعمل حاليا مديرا للرعاية الاجتماعية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.
* له عدة كتب منشورة منها:-
- رعاية الأيتام في المملكة العربية السعودية ....النشأة والتطور.
- المراهقون والمخدرات ....دراسة اجتماعية ميدانية (1417).
- رعاية المسنين في المملكة العربية السعودية.
- المدخل في الرعاية الاجتماعية.
بالإضافة إلى كثير من البحوث المنشورة.
تقديم : عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، وجاء التكليف الإلهي في حدود الوسع، وغاية التقوى ما يقع تحت الاستطاعة، قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم } (التغابن:16)، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، فالضرورات تبيح المحظورات، لأن التكليف والعبادة لتهذيب الإنسان والارتقاء به، وليس لتعذيبه وقهره وحرمانه، كما جعل للحياة معنى تتمحور حوله، وللإنسان هدفًا متيقنًا، وأملاً يسعى إليه ويسعد به، ويشكل حماية له من السقوط ووقاية من مصائب الدنيا، فأصبحت المتعة تتحقق في الإنجاز، وغايته تحقيق العبودية والفوز برضى الله، الذي يعني النعيم المقيم والمتع الخالدة، التي تهون عندها سائر المتع واللذائذ الموقوتة والعارضة.
والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، الذي كانت من أهداف رسالته للبشرية وضع إصرها والأغلال التي كانت عليها وتخليصها من العنت، قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } (الأعراف:157)، وقال تعالى: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } (الحجرات:7)، فكانت حلاوة الإيمان والانضباط بقيمه ومتعه فوق كل حلاوة ومتعة وراحة، وكانت عذوبته وقاية من السقوط في حمأة الغريزة، وقدرة على تحمل سائر المشاق وأنواع العذاب.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة الرابع والسبعون: (الترويح.. رؤية شرعية ) للأستاذ: عبد الله بن ناصر السدحان، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في دولة قطر، مساهمة في الكشف عن أبعاد الرؤية الحضارية الإسلامية، أو صبغة الله -بالتعبير القرآني- الذي أحسن كل شيء صبغة.. هذه الرؤية التي خضعت للكثير من التشويه والتقطيع والمسخ من غير المسلمين، كما وقعت تحت وطأة تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين، فغابت حقيقتها وطمست بعض معالمها إلى حدٍ بعيد، بسبب من المقاربات والمقارنات والارتماء على الحضارة الغالبة، أو بسبب من ردود الفعل الحضارية التي انتهت إلى الانكفاء والتجمد على الذات، وعدم القدرة على الامتداد بها من خلال منطلقاتها ونسقها الحضاري، فبرزت نماذج في حياة المسلمين لا تشكل نوافذ أمينة على الرؤية الحضارية الإسلامية، ولا تثير الاقتداء، ولا تتمكن من العطاء، لأنها أقرب إلى الحماس والانحياز العاطفي منها إلى الرؤية الدقيقة لفقه المرحلة أو الحالة، وأبعاد الدور الحضاري الذي يمكن أن يقدمه المسلم لمأساة العصر أو لمآسي الحضارة الغالبة.
وقد يكون من المفيد في المناسبة التي نتحدث فيها عن فلسفة الترويح الذي يأتي ثمرة لأوقات الفراغ أو يرتبط بها أن نشير إلى أهمية الوقت وقيمته في حياة المسلم، وكيف أن الإسلام أنقذه من العبث والضياع وشعار: اليوم خمر وغدًا أمر، الذي كان يحيط بالرؤية الجاهلية.
لقد استطاع الإنسانُ بالإسلام، أن يقدر للزمن دوره في الفعل الحضاري، وينظر إليه كقيمة، وأن يلتقط الفرصة التاريخية، ويتحقق بالتفكير الاستراتيجي، الذي يمكنه من التبصر وتقدير العواقب والمآلات، ومن حسن التعامل مع المتاح، من خلال رؤية شمولية، تستصحب الزمن بأبعاده الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.
لقد أصبح الإنسان المسلم، يستشعر قيمة الزمن، بعد أن كان قبل الإسلام كَلاًّ، مستسلمًا للنظرة الدهرية، متــخاذلاً عن التفكير بإمكانية التغيير: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } (الجاثية:24)، فجــاء الإســلام ليقرر أن الإنسان المسلم، هو الذي يغتنم ويوظف الزمن، ويملكه..
ونستطيع أن نقول: بأن الإسلام أضاف بُعدًا ممتدًا آخر للحياة والزمن، أضاف بُعدًا غيبيًّا غير منظور، تحقق من خلاله الحس بالزمن في الدنيا، واستشعار المسؤولية عنه في الآخرة، وإدراك سنة الأجل في ضوئه: {لكل أجـل كتاب } (الرعد:38)، وإيقاظ الحس المستقبلي، والإعداد له، والتفكير بالتداعيات والعواقب.. وهذا هو السبيل لبناء الحضارات.
لقد جعل الإسلام الشواهدَ على اغتنام الفرص، حواسَّ الإنسان، التي تعتبر وسائل كسبه وفعله لأنها تحس بالزمن، وتتعامل معه، وتملأه بفعل الخير، قال تعالى: {يوم تشهــد عليهــم ألسـنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين } (النور:24-25).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحـياتك قبل موتــك ) (أخرجــه الحـــاكم واللفـظ له، وابن المبارك في الزهد، بسند صحيح)
ويقول: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربعٍ: عن عُمره فيم أفناه، وعن عمله فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه ) (أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).
لقد أدخل الإسلامُ الزمنَ في حساب المسلم، من خلال ملاحظة الظواهر الكونية وحركتي الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار، وربط أداء العبادات -التي تمثل أركان الإسلام وتقيم بناءه- بالزمن.. فللصلاة زمن وحساب، وللزكاة حَوْلٌ ونِصاب، وللحج مواقيت وأَهِلَّة وأشـهر معلومات، وللصوم شهر ورؤية هلال، فأي تساهل، أو غفلة، أو تنازل عن الزمن ، يفوِّت الثواب، ويوقع بالمسؤولية.
ولم يقتصر الإسلام على توجيه الإنسان صوب المقاصد الشرعية، واغتنام الزمن في فعل الخير، وإنما شرع له ما يحميه من السقوط، وهدر الطاقات، وإضاعة الزمن، فخلص عقله من الإيمان بالـبروج والخوارق والخرافات، وَتَعَلُّق أمله أو فــألِــه بالأنــواء والظــواهر الكونية، التي لا تخــرج عن كونها من آيات الله، فالرسـول صلى الله عليه وسلم يقــول: (لا عدوى ، ولا طِيَرَة ، ولا هَامَة، ولا صَفَر ) (رواه البخاري ومسلم).. (إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللهِ، لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته ) (متفق عليه).
فكم سيكون الواقع مريرًا، والأمر خطيرًا، إذا وقع الذهول عن حكمة العبادات وآثارها في النفس، والغفلة عن قيمة الزمن، وإذا علمنا أن متوسط إنتاجية الفرد، في معظم بلاد العالم الإسلامي اليوم، قد لا يتجاوز النصف ساعة يوميًا!! وكم سيكون الحــــال رعيــــــبًا، عندما نعلم أن بعض البــــــــشر لا يمـــارس عمـــــلاً أصلاً، ولا يستثمر طاقة، بحيث يصبح، من حيث النتيجة، كالمعوَّق، الذي يستدرك حاجاته جميعًا من الآخرين، ويقبل بإلغاء نفسه!! ومع ذلك نراه يعب من المتع عبًا ويسعى وراء اللهو واللعب باسم الترويح.
إنها حالة الوَهْن الحضاري، التي أخبر عنها الصادق المصدوق، حيث يسيطر حب الدنيا، فيظهر إنسان الحق والاستهلاك، ويغيب إنسان الواجب والإنتاج، فتنتهي الأمة إلى مرحلة القَصْعَة، التي تتخاذل فيها، وتَتَكَالَب عليها الأمم، لأكل خيراتها، وتعطيل طاقاتها.
فهل من سبيل إلى إعادة تصويب معادلة الزمن في ذهن مسلم اليوم وثقافته، وإعادة استدارته، وتصحيح مسيرته، ليعود كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، فنعود للانطلاق مرة أخرى من مواقع القدوة، تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم القائل في خطبة الوداع، وهي آخر وصاياه لأمة الإسلام: (إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) (رواه البخاري).
وقد تكون الإشكالية التي لا تزال تتحكم بإنتاجنا الثقافي وفعلنا الحضاري ورؤيتنا للأشياء تتمثل في حالة الارتهان الثقافي والحضاري المتأتية من السبق والغلبة لحضارة (الآخر)، الذي ترافق مع إشاعة مصطلحاتها ومفاهيمها ومعاييرها في النظر للأشياء والحكم عليها ونزوعها إلى اكتساب صفة العالمية، الأمر الذي جعل الكثير من الحراك الثقافي الحضاري يتم في إطارها ويدور حول محورها، أو يجيء في معظم الأحوال محاكاة لها، إما مقارنة أو مقاربة.
وفي كل الأحوال، فالارتهان والتحكم الثقافي واضح وملحوظ، ويكفي القول هنا: بأن عمليات التفكير وأوعيته ومجالاته وأدواته في معظمها محكومة بثقافة (الآخر)، هذا فضلاً عن المسكونين بثقافة (الآخر)، الذين لا يرون غيرها، لعجزهم عن رؤية قدرة أو قوة القيم الإسلامية المختزنة أمام قوة الحضارة المادية الغالبة.
ولعل العجز عن الامتداد بالقيم الإسلامية إلى الآفاق المعاصرة، دون النظر في أسبابه -حيث لايتسع المجال هنا- وامتلاك القدرة على تجريدها من حدود الزمان والمكان وتوليدها في كل آن، أحدث فراغًا مذهلاً ساهم بامتداد (الآخر) وتأثيره في الثقافة الإسلامية، فجاءت نظراتها محكومة بمناخ (الآخر)، والبناء على أصوله الثقافية، وإيجاد المسوغات لتمريرها إلى الواقع الإسلامي، بمعنى أن الإنتاج لم يتم بالشكل المأمول، ضمن النسق الحضاري والثقافي الإسلامي وإن لم يفتقد الاعتزاز به..
ونحن هنا لا ننكر أو نتنكر للتبادل المعرفي والتأثر والتأثير الثقافي، ولكن المنكر الثقافي هنا أن نفكر بأدوات (الآخرين)، ونمتد ونتحرك بأوعيتهم، ولا نمتلك محددات حقيقية لقيمنا ورؤيتنا الثقافية.. ولا نذيع سرًا إذا قلنا: بأن خطر الأسر الثقافي والسياسي والاقتصادي يمتد يومًا بعد يوم ليحتل الفكر بعد أن احتل الواقع، طالما أننا لا نزال نبكي على الأطلال، وننحاز عاطفيًا للإسلام، ونعجز عن تحديد موقعنا ودورنا في الحضارة المعاصرة، وتقدير إمكاناتنا بدقة، وكيفيات الإفادة منها، وتمتد فينا حقبة الخطباء وتتراجع مساحات الخبراء والفقهاء.
والحقيقة التي نرى أنه لا بد من التأكيد عليها لتبقى' حاضرة، أو على الأصح لتصبح هاجسًا ومصدر قلق ثقافي ووسيلة شحذ حضاري، أن مفهوم الثقافة أو الثقافة هي المؤشر والموجّه لكل سلوك أو إنتاج أدبي أو مادي.. لأنها تقبع وراء الأنشطة المتنوعة الجادة والهازلة، فهذه الأنشطة جميعًا مشبعة بثقافة أهلها ومنتجيها وحاملة لبصماتها.
ولعلنا نقول: إن الثقافة هي أشبه ما تكون بالهواء الذي لا يمكن للإنسان أن ينعزل عنه، أو هي كالهواء تتسلل من أضيق الثقوب ومن أوسعها، وبذلك توجد مع الإنسان في كل أحواله، لا يحول دونها أي حائل.
وقد يكون في مقدمة معابر التسلل الثقافي وأخطرها المواد الاستهلاكية والإعلامية والترويحية والإعلانية، وعلى الأخص عندما تتحكم الغرائز بتوجيه السلوك أو عندما تشيع حالات الاسترخاء وممارسة المتع واللذائذ واللهو والاستمتاع بأوقات الفراغ.
ولعلنا بدأنا ندرك أكثر من أي وقت مضى كيف تسللت إلينا باسم صناعة السياحة والترفيه، وتحت عنوان التفتيش عن مصادر جديدة للدخل، ثقافات إباحية كسرت الموازين، وأباحت المحرمات، ووهّنت القيم، وأيقظت الغريزة، وفجّرت اللذة الآثمة.
والأمر اللافت أن محور فلسفة المتع واللهو الذي يسمونه ترويحًا في الحضارة المعاصرة هو المرأة، حيث أصبحت نوادي التعري والشذوذ ومغادرة الأسرة وإقامة العلاقات غير الشرعية هي محلات المتعة والراحة باسم حق الحرية الشخصية.
ولا غرو في ذلك فالحضارة اليونانية والرومانية التي تقوم الحضارة المعاصرة على أصولها; وفي جمهورية أفلاطون الفاضلة، هذا الفيلسوف الذي يطلق عليه المعلم الأول يرى أن من ينخرط في الجيش لا يجوز له الزواج لأن الارتباط بالزوجة والولد يولد الجبن وعدم الإقدام في الحروب، ويعوّض الإشباع الجنسي ذلك بإقامة حفلات ترفيهية ماجنة ونوادٍ ليلية يقضي فيها أفراد الجيش متعهم وشهوتهم، والآن عمت البلوى وبدأ الهروب من مسؤوليات الزواج وأصبحت هذه الأماكن تقدم المتع الجنسية الرخيصة لكل طالب.
فالترويح أو الترفيه، كقضية أصبح لها مؤسساتها ووسائلها وإعلاناتها ونفقاتها وموازناتها، تعتبر قضية معاصرة، وخاصة بالنسبة لمجتمعات المسلمين.
ويمكن القول: إنها برمتها، بشكلها ومضمونها على حد سواء، هي ثمرة لثقافة وحضارة (الآخر) الغالب.. وهذا السبق بكل ما يحمل من سلبيات أو إيجابيات -إن وجدت- يشكل ارتهانًا ثقافيًا بشكل أو بآخر، لأن هذه المفاهيم وأنماطها ووسائلها في الواقع، جاءت وامتدت كقسيم للإبداعات التكنولوجية، وما وفرته من آفاق وإمكانيات شكلت صدمة ثقافية وانفتاحًا استهلاكيًا وانبهارًا أدى إلى عمى الألوان وافتقاد التوازن، لأن موضوع الاستهلاك دائمًا أسرع دخولاً للمجتمعات المتخلفة، وإن لم يكن يشكل حاجتها الحقيقية، ذلك أن موضوع الإنتاج الذي يوظف العقل والزمن يعتبر من الأمور الصعبة على المجتمعات المتخلفة.
لذلك نقول: إن مشكلة الترويح اليوم، أو الترفيه بالمصطلح الثقافي للحضارة المعاصرة، تدور في محور المفهوم الغربي وفي إطاره، لذلك فهو يستهلك طاقات الأمم المتخلفة وأوقاتها، ويصرفها عن المواقع المجدية والضرورية لحياتها، ويحتل روح المبادرة والإبداع في حياتها على حساب النمو والنضج النفسي والثقافي الذي لا بد أن يحكم فلسفة الترويح.
فليس الترويح عملاً محصورًا في مجالات التحلل من الواجبات، والخروج من العادات، والاسترخاء عن المسؤوليات، وإيثار المتعة حتى ولو كانت حرامًا، ومحاكات الغرائز والشهوات وممارسة الشذوذ، وإسقاط الممنوعات، واستباحة الحرام، وشيوع اللهو والاستهتار، وتغييب مقاصد الحياة، وعيش اللحظة والعب منها على أنها خالدة بعيدًا عن النظر في العواقب والتداعيات، أو تغييب الحس بالعواقب والتداعيات، واسترداد الشعارات الجاهلية: اليوم خمر وغدًا أمر.
وإنما الترويح في الرؤية الإسلامية عملية بنائية، تشحذ الفاعلية، وتنشط العقل، وتثير الهمة، وتوقظ الروح، وتثير المنافسة والاستباق في الخيرات، وتدرب على العمل الجماعي وإشاعة روح الفريق واجتثاث معاني العداوة والحقد والصراع، وتشكل ميدانًا لتصعيد الغرائز، وتعالج الأثرة والتركيز على الذات، وتدرب على تأسيس وتأصيل المعاني النفسية كالحب والإيثار والعفو والرحمة والعدل والإحسان والاحتساب، والاستشعار بعذوبة تلك المعانى وحلاوتها، وممارستها بشكل عملي بعيدًا عن أساليب الوعظ والرتابة والتوتر والصرامة.
وقد تكون الإشكالية اليوم في أن الكثير من الأوعية الترويحية على الرغم من أنها مباحة من حيث الأصل إلا أنها تحولت إلى وسائل لضياع الوقت وهدر الطاقة وابتزاز المال من مثل الرياضات بمعظم أنواعها حيث المعروف أن الرياضة وسيلة تربوية مشروعة تبني الجسم وتعيد النشاط وتدرب على عمل الفريق، وتقضي على الأنانية والتعصب، وتنزع الحقد وتمكن للمنافسات الشريفة إلا أن أن الألوف بل الملايين اليوم يقضون معظم أوقاتهم في المدرجات يكتفون بالنظر بعيدًا عن المشاركة التي تورث المعاني التربوية المشار إليها حيث تغيب الكثير من الأهداف الترويحية لسوء استخدام هذه المباحات.
أما اقتحام حدود الله سبحانه وتعالى في ارتكاب المحرمات باسم الترفيه والترويح فهو البلاء العظيم الذي يؤدي إلى انحلال عزائم الأمم ويؤذن بسيطرة الغريزة وبدء السقوط الحضاري.
فالله سبحانه وتعالى يقول عند الكلام عن المحرمات: {تلك حدود الله فلا تقربوها }(البقرة:187).
ويقول عند الكلام عن المباحات: {تلك حدود الله فلا تعتدوها }(البقرة:229).
فالترويح وسيلة تربوية، بل لعله من أكثر الوسائل التربوية فاعلية، لأنه يتم بعيدًا عن التوتر والقلق والتكيف على أوضاع معينة.. إنه التربية والتعليم الذاتي، من خلال اغتنام مجالات ومساحات الراحة الجسمية والرضى النفسي وأعلى درجات القابلية للاختيار.
وبالإمكان القول الآن: إن قياس مردود التعليم، واكتساب المهارات المعرفية والسلوكية والوجدانية من خلال ابتكار وسائل لإيصالها في أوقات الترويح والنشاط الذهني، دفع القائمين على شأن التعليم إلى تكسير حواجز المدارس وقوالبها ووسائلها التقليدية، وبدأوا يفكرون بأشكال جديدة من هياكل المدارس الممتعة، التي تمنح الطالب قدرًا من التحرر من القوالب والأشكال التي قد تسبب انسدادًا وإعاقة للمعرفة، إلى درجة أصبحت معها مجالات الترويح وميادينه، ووسائل الترفيه وألعابه، هي الموقع الأهم لاكتشاف ميول الطالب ومواهبه واهتماماته، التي تعين على ترسيم مستقبله أو قراءة مستقبله من خلال الأنشطة الترويحية.
لذلك نقول: تبقى الإشكالية في فلسفة الترويح وكيفية بناء حس المتعة والسعادة، فليس دقيقًا ولا صحيحًا أن الترويح هو نوع من الساعات الضائعة، وكسر للحواجز، وانعتاق من القيم.
فقد تكون المشكلة ابتداءً في قراءة الإنسان محل الترويح وهدفه، وفي عدم القدرة أثناء التفكير بموضوع الترفيه أو الترويح على إدراك حاجات الإنسان الأصلية وقابلياته، وخصائصه وأهدافه، ووظيفته أو رسالته في الحياة.
ذلك أن القراءة المخطئة للإنسان تؤدي إلى اضطراب النسب التي تتشكل منها الكينونة البشرية، وبالتالي ينعكس ذلك على فلسفة الترويح وأدواته ووسائله وأهدافه.
فهل الإنسان كتلة من الغرائز والشهوات فقط حتى يجيء الترويح أو الترفيه إزالة للعوائق والممنوعات، وفتحًا للباب على مصراعيه أمام المتع الرخيصة والرفه الآثم، باسم الشأن الشخصي والحرية الشخصية، ولو أدى ذلك إلى الشذوذ والانحراف، التي أصبحت تعج بصورها الحضارة المادية وأصبحت إشكاليتها الحقيقية وجاءت وسائل الترويح استهدافًا للإنسان ذاته، استهداف صحته وسعادته وأسرته وعقله، وتدمير طاقاته وعلاقاته الاجتماعية ?
أم أن الإنسان عقل وعاطفة، ونفس وروح، وفطرة وغريزة، وذات ومجتمع، وأن وسائل الترويح لا بد أن تؤصل وتتأسس بحيث تكون مستجيبة لكل معطى بقدره أو مطلب يشكل حاجة أصلية للإنسان، ومن ثَمَّ: هل تحكم فلسفة الترويح وتتحكم بها ثقافة الاستهلاك والهدم والاعتداء على الذات و(الآخر) والبيئة والنظام العام، أم أن فلسفة الترويح لا بد أن تتمحور على إعادة التأهيل والاستعداد للإنتاج والبناء?
ذلك أن اختبار وتصويب الثقافة أو الفلسفة التي تتحكم بالترويح، والتي تقبع وراء إنتاج أدواته وتحديد مجالاته هو الأساس.
فليس الترويح إلا الاستجابة المادية لفلسفة الإنسان والحياة.. فكما أن الفكرة تتحول إلى كلمة وتتجسد فيها، والكلمة تنمو اجتماعيًا ومعلوماتيًا وتواصلاً وتتحول إلى علاقات وأفعال وممارسات، فكذلك يأتي الترويح بأنواعه ووسائله وأدواته وتجلياته ثمرة لفلسفة الحياة وليس دخيلاً عليها.
لذلك بالإمكان للراصد أن يرى تطور وسائل ومجالات الترويح والترفيه بشكل مواز لتطور المجتمعات وفلسفاتها، فهو يطورها وليس بالضرورة إلى الأحسن كما أنه يتطور بها.
ومن هنا نقول: لا بد أن يكون لكل أمة أو لكل فلسفة أو عقيدة أنماط ترويحها، فإذا تغيرت فلسفتها أو عقيدتها لسبب أو لآخر نرى هذا التغيير يستلحق مجالات الترفيه والترويح ووجود أنماط اجتماعية جديدة وأولويات جديدة..
فكثيرًا ما تتحول أوقات الفراغ إلى طاقات فائضة، إن لم نحسن توظيفها لتصبح عبئًا على أهلها، تصيبهم بالملل والضجر والسآمة والاكتئاب والقلق، وقد تؤدي إلى الانتحار، ويكون العلاج من ذلك كله العودة للانغماس بالعمل.
وكثير من العقائد والفلسفات فكرت كيف تحوِّل العمل وشدة العناء والجهد إلى نوع من المتعة، ويكون الفرح والترويح والتجدد واسترداد النشاط بالاستبشار بالإنجاز والإتقان بما أطلق عليه الإيمان بالعمل أو حب العمل.
بل لعلنا نقول: إن النماذج المضيئة من السلف، الذين اندفعوا إلى الاستشهاد والموت في سبيل الله وابتغاء ثوابه ورضاه، وجدوا متعتهم وراحتهم بأغلى' أنواع التضحية والفداء.. وكانت الكآبة والحزن والتأسف والانكسار في حبس بعضهم أنهم عاجزون عن الاستجابة لمثل هذه التضحيات الكبيرة.
ذلك أن الإيمان بالعمل والحب له واستشعار الثواب على إنجازه وإتقانه، يعتبر من أرقى وسائل الراحة والهدوء النفسي واستقرار اليقين في القلب الذي يهون جميع مصائب الدنيا.. فعندها يكون الإنسان حرًا رغم القيود، وطليقًا رغم الضغوط، وسعيدًا رغم المعاناة، ومستبشرًا رغم انسداد الطرق.
ولا نعني بذلك أن الإنسان في هذه الحال يقع ثمرة لأحلام اليقظة والغفلة، وإنما يكتسب بإيمانه ما يفيض عليه السكينة والهدوء.
فالذين يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، هم من خوف الموت في موت، ومن خوف الفقر في فقر، ومن خوف الذل في ذل، فالقلق يأكل قلوبهم وينغِّص حياتهم، فهم مأزومون تعيش أزمتهم بدواخلهم، لا يجدون الراحة والمتعة في أكثر الأماكن بهجة، لأن أزمتهم تحتل نفوسهم وترتحل معهم، حيثما رحلوا... إنهم يعيشون نار جهنم قبل جحيم الآخرة.
لذلك نقول: إن المشكلة تكمن في فلسفة الترويح وتشكيل الأمة الثقافي، إلى درجة وصل الأمر ببعضهم في الحضارة المادية الخاوية من الإيمان إلى التوهم بأن الراحة بالانتحار فأقاموا له أندية، أو باللجوء إلى المسكرات لإلغاء الحس، فإذا لم تعد المسكرات قادرة على إلغاء الحس التجأ البائس إلى المخدرات.. وبعضهم رأى ذلك في الإباحية الجنسية، بل والشذوذ الجنسي، سبيلاً إلى المتعة والراحة، فتحولت المجتمعات إلى حدائق حيوان أو حظائر حيوان، ومع ذلك بقي الإباحيون أكثر الناس تأزمًا وضيقًا، فاستدعت الإباحية المخدرات، والمخدرات استدعت الإباحية وهكذا، يدورون في حلقة مفرغة كما يدور الحمار برحاه.
وبعض المذاهب الوجودية رأت أن المتعة والراحة بإلغاء كل أمر ونهي، واعتبرت أن العقل هو الصورة المزيفة للإنسان الذي يأمره بالتكيف والانضباط والتخلق والالتزام والانتماء، وكلها متاعب وأعباء، وكان شعارهم الكبير: فليسقط العقل وليفعل الإنسان ما يحلو له.. فظهرت مؤلفات وتعليقات، ونماذج وأشكال وعلاقات، وأكوام من البشر تتجمع هنا وهناك، تتكدس فوق بعضها في الساحات العامة، حيث أطلق بعض الناس شعورهم وأزالها بعضهم، وظهرت أشكاله غاية في الغرابة، وعاد بعضهم إلى الطبيعة، وغادر المدارس والمجتمعات، وغادر الأسرة، وعاش متسولاً مستمتعًا بالتمرد وكسر القيود وفعل المخالف.
وهذه الإفرازات الاجتماعية والإصابات النفسية، جاءت رد فعل على الفلسفات التي سادت الأنظمة الاستبدادية والحكم الثيوقراطي، وشيوع القيم الدينية المحرفة وقيام الحروب العالمية الطاحنة والتحول إلى إهدار قيم الإنسان...!
لذلك نقول: بأن المشكلة، كل المشكلة، في تحديد أبعاد ومنطلقات وأهداف ووسائل ومجالات عملية الترويح، ورسالتها في تشكيل الأجيال، واعتبار أوقات الفراغ مساحات إضافية ومجالات إن لم نحسن التعامل معها تتحول لتصبح ألغامًا اجتماعية قابلة للانفجار في كل حين.
لذلك يبقى المطروح دائمًا: ما مواصفات الشخصية المسلمة؟
وما مدى تميزها?
وما هي رسالتها؟
ليطلق الترويح ويبرمج، ويقوم بمدى قدرته على تحقيق ذلك، أو على الأقل المساهمة بتحقيقه، أو إعادة التأهيل وبناء القابلية لوسائل تحقيقه?
ولا بد من الاعتراف اليوم بأن إشكالية مناهج الترويح ووسائله وأوعيته في مجتمعات المسلمين لا تقل خطورة وشأنًا عن غيرها من الإشكاليات المتلاحقة والمتداخلة، والتي يستدعي بعضها بعضًا، وأن استيرادنا لوسائل ومجالات الترويح ومفهوماته من (الآخرين) أو من الأغيار لا يقل خطورة عن سائر المواد الاستهلاكية الأخرى، سواء في المجال المادي أو الثقافي..
وأن الكثير من العادات والتقاليد والثقافات والأنماط الاجتماعية تتسلل أحياناً بدون رقيب أو إمكانية رقابة، وعلى الأخص أن وسائل الإعلام والإعلان المروجة، لذلك ألغت الرقيب وقفزت من فوق الحدود والسدود، وإذا لم يذهب الناس إليها فهي تجيء إليهم، وتدخل عليهم بدون استئذان، وتقتحم عليهم غرف نومهم، وتقدم لهم الأنماط والنماذج وتغريهم بها.
ولا بد من الاعتراف أيضًا أن لكل عصر وسائله التي تتعامل مع ظروفه وتطوراته ومشكلاته، ولا يمكن أن نتعامل مع كل العصور والمتغيرات بالوسائل نفسها.
كما أنه لا بد من الاعتراف بأن الشجب والرفض والانسحاب ليس وسيلة نافعة إلا إلى حين، فإذا لم نحاول أن نحول هذه المواد الترفيهية التي تقتل العزائم بدل أن تجمعها، وتهدر الأوقات بدل أن توظفها وتفيد منها، وتدمر الشخصية وتؤدي إلى انحلالها، وتطلق الغريزة بدل أن ترتقي بها وتصعدها وتنظمها... إذا لم نستطع تحويل هذه الوسائل إلى تحديات واستفزازات، فإنها تبقى تستهدف دين الأمة وثقافتها ونسيجها الاجتماعي وروابطها الأسرية..
أو بمعنى آخر إذا لم تستنفر الأمة لحماية نفسها، وتجتهد في تقديم بدائل ونماذج نضيجة وملائمة وهادفة في إطار عقيدتنا وثقافتنا، وإعادة مفهوم الثواب والاحتساب لأعمالنا ليصبح أداؤها وإتقانها متعة، وتصبح وسائل الترويح هي من ساحات العمل ولوازمه الضرورية، واستشعار الثواب في ممارسته كممارسة العمل تمامًا، تجديدًا للنفس، وإزالة للتعب والنصب، وراحة للبدن، ووسيلة لعودة أكثر نشاطًا وحيوية تحت شعار: {فإذا فرغت فانصب(7) وإلى ربك فارغب }.
فالترويح في الإسلام دين من الدين، وميدان للثواب والصدقة، وليس خروجًا على القيم ورفضًا للضوابط وتكسيرًا للموازين وانتهاكًا للحرمات.
وممارسة الرسول صلى الله عليه وسلم للترويح، وشهوده وإقراره والدعوة إليه، دليل مشروعيته وضرورته، إضافة إلى أنه يشكل نافذة على الأنموذج الذي لا بد من امتداده واستلهامه مع تطور المجتمع في أعماله وعلاقاته ومجالات ترويحه، التي لا بد أن تكون موازية لهذا التطور، بعيدًا عن التجمد عند حدود الزمان والمكان ومحاصرة خلود الإسلام والعجز عن امتداده.. إن قصور الفقه والفكر الإسلامي عن الامتداد بأوعية الترويح والإبداع فيها، وإدراك أهميتها وضرورتها وخطورتها، أحدث فراغًا سمح لـ (الآخر) بالامتداد في حياتنا ليستغرق كل جوانبها، إنتاجًا واستهلاكًا وترويحًا...
ولا شك عندي أن العبادات إذا أديت على وجهها الذي شرعه الله سبحانه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم تعتبر من أعظم الأوعية الترويحية المتجددة المجددة للشخصية المسلمة وتأتي في مقدمتها عبادة الصلاة حيث يتحرر الإنسان من كل ارتباطاته ويخلع عن نفسه كل أحمالها ويقف بين يدي الله الخالق الرازق المحيي المميت الشافي المخلص، يناجيه ويبوح له بكل ما في نفسه من الأسرار والخفايا التي لا يرضى أن يطلع عليها أحد غير الله ويسأل حاجته، يقف أمام الله متوقفًا عن كلام الناس ولغوهم ومخاطبتهم، متكلمًا بكلام الله ومناجيًا له ليس بينه حجاب مستيقنًا الإجابة.. من هنا كان قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يابلال.. أقم الصلاة، أرحنا بها) أخرجه أبو داوود.
وهنا قضية نرى أن من الأهمية بمكان الإشارة إليها وهي أن التأمل في النماذج أو الأوعية الترويحية التي أباحها الرسول صلى الله عليه وسلم وبالصورة التي مارسها المجتمع المسلم الأول يدرك أهدافها العظيمة في النفس والمجتمع كما يبصر آثارها الإيجابية في استمرار عملية البناء والإنتاج.
والكتاب الذي نقدمه اليوم، محاولة لطرح قضية الترويح والنظر إليها والتعامل معها من خلال رؤية شرعية تأصيلية، والاجتهاد في قراءة الوسائل الموجودة، والتطلع إلى آفاق في الترويح مبتكرة تنسجم مع الرؤية الإسلامية، ورصد الأخطار والسلبيات المترتبة على الوسائل الشائعة، وكيف أنها جاءت ثمرة لرؤى فلسفية للكون والإنسان والحياة، وكيف أنها مشبعة بفلسفاتها، وإن بدت أنها خروج من العمل الجاد وتعامل مع أوقات الفراغ، وهنا تكمن الخطورة -كما أسلفنا- لأنها تتسلل إلى الإنسان وتقتحم دفاعاته عندما يكون غافلاً واضعًا أسلحته وأمتعته بكل ما تفيد كلمة الأسلحة والأمتعة هنا من معنى: قال تعالى: {ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} (النساء:102).
فالباحث اجتهد في أن يضع قضية الترويح في موقعها، ويدلل على أهميتها ومكانتها ومشروعيتها وخطورة غيابها أو عدم الاهتمام بها، وما يترتب على عدم تقديرها حق قدرها من الجنوح والدمار لطاقات الفرد والمجتمع.. وليس أمر استيرادها من فلسفات أخرى بأقل خطورة من تغييبها وعدم الاهتمام بها.. ولعل الأمرين متلازمان، فعدم الاهتمام بأوقات الفراغ والاجتهاد في وضع الأوعية الترويحية، سوف يسمح بتمدد (الآخر) بكل فلسفته وثقافته.