منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) Empty
مُساهمةموضوع: الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية)   الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) Emptyالخميس 04 نوفمبر 2010, 6:13 am

الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية)
عبدالله بن ناصر السدحان

عبدالله بن ناصر السدحان:

* من مواليد المملكة العربية السعودية.
* حصل على درجة الماجستير في علم الاجتماع، عام 1413هـ.
* محاضر غير متفرغ في مركز التدريب والبحوث الاجتماعية بالرياض، وفي المعهد العالي للعلوم الأمنية في كلية الملك فهد الأمنية بالرياض.
* يعمل حاليا مديرا للرعاية الاجتماعية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.

* له عدة كتب منشورة منها:-
- رعاية الأيتام في المملكة العربية السعودية ....النشأة والتطور.
- المراهقون والمخدرات ....دراسة اجتماعية ميدانية (1417).
- رعاية المسنين في المملكة العربية السعودية.
- المدخل في الرعاية الاجتماعية.
بالإضافة إلى كثير من البحوث المنشورة.

تقديم : عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، وجاء التكليف الإلهي في حدود الوسع، وغاية التقوى ما يقع تحت الاستطاعة، قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم } (التغابن:16)، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، فالضرورات تبيح المحظورات، لأن التكليف والعبادة لتهذيب الإنسان والارتقاء به، وليس لتعذيبه وقهره وحرمانه، كما جعل للحياة معنى تتمحور حوله، وللإنسان هدفًا متيقنًا، وأملاً يسعى إليه ويسعد به، ويشكل حماية له من السقوط ووقاية من مصائب الدنيا، فأصبحت المتعة تتحقق في الإنجاز، وغايته تحقيق العبودية والفوز برضى الله، الذي يعني النعيم المقيم والمتع الخالدة، التي تهون عندها سائر المتع واللذائذ الموقوتة والعارضة.

والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، الذي كانت من أهداف رسالته للبشرية وضع إصرها والأغلال التي كانت عليها وتخليصها من العنت، قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } (الأعراف:157)، وقال تعالى: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } (الحجرات:7)، فكانت حلاوة الإيمان والانضباط بقيمه ومتعه فوق كل حلاوة ومتعة وراحة، وكانت عذوبته وقاية من السقوط في حمأة الغريزة، وقدرة على تحمل سائر المشاق وأنواع العذاب.

وبعد:

فهذا كتاب الأمة الرابع والسبعون: (الترويح.. رؤية شرعية ) للأستاذ: عبد الله بن ناصر السدحان، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في دولة قطر، مساهمة في الكشف عن أبعاد الرؤية الحضارية الإسلامية، أو صبغة الله -بالتعبير القرآني- الذي أحسن كل شيء صبغة.. هذه الرؤية التي خضعت للكثير من التشويه والتقطيع والمسخ من غير المسلمين، كما وقعت تحت وطأة تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين، فغابت حقيقتها وطمست بعض معالمها إلى حدٍ بعيد، بسبب من المقاربات والمقارنات والارتماء على الحضارة الغالبة، أو بسبب من ردود الفعل الحضارية التي انتهت إلى الانكفاء والتجمد على الذات، وعدم القدرة على الامتداد بها من خلال منطلقاتها ونسقها الحضاري، فبرزت نماذج في حياة المسلمين لا تشكل نوافذ أمينة على الرؤية الحضارية الإسلامية، ولا تثير الاقتداء، ولا تتمكن من العطاء، لأنها أقرب إلى الحماس والانحياز العاطفي منها إلى الرؤية الدقيقة لفقه المرحلة أو الحالة، وأبعاد الدور الحضاري الذي يمكن أن يقدمه المسلم لمأساة العصر أو لمآسي الحضارة الغالبة.

وقد يكون من المفيد في المناسبة التي نتحدث فيها عن فلسفة الترويح الذي يأتي ثمرة لأوقات الفراغ أو يرتبط بها أن نشير إلى أهمية الوقت وقيمته في حياة المسلم، وكيف أن الإسلام أنقذه من العبث والضياع وشعار: اليوم خمر وغدًا أمر، الذي كان يحيط بالرؤية الجاهلية.

لقد استطاع الإنسانُ بالإسلام، أن يقدر للزمن دوره في الفعل الحضاري، وينظر إليه كقيمة، وأن يلتقط الفرصة التاريخية، ويتحقق بالتفكير الاستراتيجي، الذي يمكنه من التبصر وتقدير العواقب والمآلات، ومن حسن التعامل مع المتاح، من خلال رؤية شمولية، تستصحب الزمن بأبعاده الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.

لقد أصبح الإنسان المسلم، يستشعر قيمة الزمن، بعد أن كان قبل الإسلام كَلاًّ، مستسلمًا للنظرة الدهرية، متــخاذلاً عن التفكير بإمكانية التغيير: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } (الجاثية:24)، فجــاء الإســلام ليقرر أن الإنسان المسلم، هو الذي يغتنم ويوظف الزمن، ويملكه..

ونستطيع أن نقول: بأن الإسلام أضاف بُعدًا ممتدًا آخر للحياة والزمن، أضاف بُعدًا غيبيًّا غير منظور، تحقق من خلاله الحس بالزمن في الدنيا، واستشعار المسؤولية عنه في الآخرة، وإدراك سنة الأجل في ضوئه: {لكل أجـل كتاب } (الرعد:38)، وإيقاظ الحس المستقبلي، والإعداد له، والتفكير بالتداعيات والعواقب.. وهذا هو السبيل لبناء الحضارات.

لقد جعل الإسلام الشواهدَ على اغتنام الفرص، حواسَّ الإنسان، التي تعتبر وسائل كسبه وفعله لأنها تحس بالزمن، وتتعامل معه، وتملأه بفعل الخير، قال تعالى: {يوم تشهــد عليهــم ألسـنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين } (النور:24-25).

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحـياتك قبل موتــك ) (أخرجــه الحـــاكم واللفـظ له، وابن المبارك في الزهد، بسند صحيح)
ويقول: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربعٍ: عن عُمره فيم أفناه، وعن عمله فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه ) (أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).

لقد أدخل الإسلامُ الزمنَ في حساب المسلم، من خلال ملاحظة الظواهر الكونية وحركتي الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار، وربط أداء العبادات -التي تمثل أركان الإسلام وتقيم بناءه- بالزمن.. فللصلاة زمن وحساب، وللزكاة حَوْلٌ ونِصاب، وللحج مواقيت وأَهِلَّة وأشـهر معلومات، وللصوم شهر ورؤية هلال، فأي تساهل، أو غفلة، أو تنازل عن الزمن ، يفوِّت الثواب، ويوقع بالمسؤولية.

ولم يقتصر الإسلام على توجيه الإنسان صوب المقاصد الشرعية، واغتنام الزمن في فعل الخير، وإنما شرع له ما يحميه من السقوط، وهدر الطاقات، وإضاعة الزمن، فخلص عقله من الإيمان بالـبروج والخوارق والخرافات، وَتَعَلُّق أمله أو فــألِــه بالأنــواء والظــواهر الكونية، التي لا تخــرج عن كونها من آيات الله، فالرسـول صلى الله عليه وسلم يقــول: (لا عدوى ، ولا طِيَرَة ، ولا هَامَة، ولا صَفَر ) (رواه البخاري ومسلم).. (إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللهِ، لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته ) (متفق عليه).

فكم سيكون الواقع مريرًا، والأمر خطيرًا، إذا وقع الذهول عن حكمة العبادات وآثارها في النفس، والغفلة عن قيمة الزمن، وإذا علمنا أن متوسط إنتاجية الفرد، في معظم بلاد العالم الإسلامي اليوم، قد لا يتجاوز النصف ساعة يوميًا!! وكم سيكون الحــــال رعيــــــبًا، عندما نعلم أن بعض البــــــــشر لا يمـــارس عمـــــلاً أصلاً، ولا يستثمر طاقة، بحيث يصبح، من حيث النتيجة، كالمعوَّق، الذي يستدرك حاجاته جميعًا من الآخرين، ويقبل بإلغاء نفسه!! ومع ذلك نراه يعب من المتع عبًا ويسعى وراء اللهو واللعب باسم الترويح.

إنها حالة الوَهْن الحضاري، التي أخبر عنها الصادق المصدوق، حيث يسيطر حب الدنيا، فيظهر إنسان الحق والاستهلاك، ويغيب إنسان الواجب والإنتاج، فتنتهي الأمة إلى مرحلة القَصْعَة، التي تتخاذل فيها، وتَتَكَالَب عليها الأمم، لأكل خيراتها، وتعطيل طاقاتها.

فهل من سبيل إلى إعادة تصويب معادلة الزمن في ذهن مسلم اليوم وثقافته، وإعادة استدارته، وتصحيح مسيرته، ليعود كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، فنعود للانطلاق مرة أخرى من مواقع القدوة، تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم القائل في خطبة الوداع، وهي آخر وصاياه لأمة الإسلام: (إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) (رواه البخاري).

وقد تكون الإشكالية التي لا تزال تتحكم بإنتاجنا الثقافي وفعلنا الحضاري ورؤيتنا للأشياء تتمثل في حالة الارتهان الثقافي والحضاري المتأتية من السبق والغلبة لحضارة (الآخر)، الذي ترافق مع إشاعة مصطلحاتها ومفاهيمها ومعاييرها في النظر للأشياء والحكم عليها ونزوعها إلى اكتساب صفة العالمية، الأمر الذي جعل الكثير من الحراك الثقافي الحضاري يتم في إطارها ويدور حول محورها، أو يجيء في معظم الأحوال محاكاة لها، إما مقارنة أو مقاربة.

وفي كل الأحوال، فالارتهان والتحكم الثقافي واضح وملحوظ، ويكفي القول هنا: بأن عمليات التفكير وأوعيته ومجالاته وأدواته في معظمها محكومة بثقافة (الآخر)، هذا فضلاً عن المسكونين بثقافة (الآخر)، الذين لا يرون غيرها، لعجزهم عن رؤية قدرة أو قوة القيم الإسلامية المختزنة أمام قوة الحضارة المادية الغالبة.

ولعل العجز عن الامتداد بالقيم الإسلامية إلى الآفاق المعاصرة، دون النظر في أسبابه -حيث لايتسع المجال هنا- وامتلاك القدرة على تجريدها من حدود الزمان والمكان وتوليدها في كل آن، أحدث فراغًا مذهلاً ساهم بامتداد (الآخر) وتأثيره في الثقافة الإسلامية، فجاءت نظراتها محكومة بمناخ (الآخر)، والبناء على أصوله الثقافية، وإيجاد المسوغات لتمريرها إلى الواقع الإسلامي، بمعنى أن الإنتاج لم يتم بالشكل المأمول، ضمن النسق الحضاري والثقافي الإسلامي وإن لم يفتقد الاعتزاز به..

ونحن هنا لا ننكر أو نتنكر للتبادل المعرفي والتأثر والتأثير الثقافي، ولكن المنكر الثقافي هنا أن نفكر بأدوات (الآخرين)، ونمتد ونتحرك بأوعيتهم، ولا نمتلك محددات حقيقية لقيمنا ورؤيتنا الثقافية.. ولا نذيع سرًا إذا قلنا: بأن خطر الأسر الثقافي والسياسي والاقتصادي يمتد يومًا بعد يوم ليحتل الفكر بعد أن احتل الواقع، طالما أننا لا نزال نبكي على الأطلال، وننحاز عاطفيًا للإسلام، ونعجز عن تحديد موقعنا ودورنا في الحضارة المعاصرة، وتقدير إمكاناتنا بدقة، وكيفيات الإفادة منها، وتمتد فينا حقبة الخطباء وتتراجع مساحات الخبراء والفقهاء.

والحقيقة التي نرى أنه لا بد من التأكيد عليها لتبقى' حاضرة، أو على الأصح لتصبح هاجسًا ومصدر قلق ثقافي ووسيلة شحذ حضاري، أن مفهوم الثقافة أو الثقافة هي المؤشر والموجّه لكل سلوك أو إنتاج أدبي أو مادي.. لأنها تقبع وراء الأنشطة المتنوعة الجادة والهازلة، فهذه الأنشطة جميعًا مشبعة بثقافة أهلها ومنتجيها وحاملة لبصماتها.

ولعلنا نقول: إن الثقافة هي أشبه ما تكون بالهواء الذي لا يمكن للإنسان أن ينعزل عنه، أو هي كالهواء تتسلل من أضيق الثقوب ومن أوسعها، وبذلك توجد مع الإنسان في كل أحواله، لا يحول دونها أي حائل.

وقد يكون في مقدمة معابر التسلل الثقافي وأخطرها المواد الاستهلاكية والإعلامية والترويحية والإعلانية، وعلى الأخص عندما تتحكم الغرائز بتوجيه السلوك أو عندما تشيع حالات الاسترخاء وممارسة المتع واللذائذ واللهو والاستمتاع بأوقات الفراغ.

ولعلنا بدأنا ندرك أكثر من أي وقت مضى كيف تسللت إلينا باسم صناعة السياحة والترفيه، وتحت عنوان التفتيش عن مصادر جديدة للدخل، ثقافات إباحية كسرت الموازين، وأباحت المحرمات، ووهّنت القيم، وأيقظت الغريزة، وفجّرت اللذة الآثمة.

والأمر اللافت أن محور فلسفة المتع واللهو الذي يسمونه ترويحًا في الحضارة المعاصرة هو المرأة، حيث أصبحت نوادي التعري والشذوذ ومغادرة الأسرة وإقامة العلاقات غير الشرعية هي محلات المتعة والراحة باسم حق الحرية الشخصية.

ولا غرو في ذلك فالحضارة اليونانية والرومانية التي تقوم الحضارة المعاصرة على أصولها; وفي جمهورية أفلاطون الفاضلة، هذا الفيلسوف الذي يطلق عليه المعلم الأول يرى أن من ينخرط في الجيش لا يجوز له الزواج لأن الارتباط بالزوجة والولد يولد الجبن وعدم الإقدام في الحروب، ويعوّض الإشباع الجنسي ذلك بإقامة حفلات ترفيهية ماجنة ونوادٍ ليلية يقضي فيها أفراد الجيش متعهم وشهوتهم، والآن عمت البلوى وبدأ الهروب من مسؤوليات الزواج وأصبحت هذه الأماكن تقدم المتع الجنسية الرخيصة لكل طالب.

فالترويح أو الترفيه، كقضية أصبح لها مؤسساتها ووسائلها وإعلاناتها ونفقاتها وموازناتها، تعتبر قضية معاصرة، وخاصة بالنسبة لمجتمعات المسلمين.

ويمكن القول: إنها برمتها، بشكلها ومضمونها على حد سواء، هي ثمرة لثقافة وحضارة (الآخر) الغالب.. وهذا السبق بكل ما يحمل من سلبيات أو إيجابيات -إن وجدت- يشكل ارتهانًا ثقافيًا بشكل أو بآخر، لأن هذه المفاهيم وأنماطها ووسائلها في الواقع، جاءت وامتدت كقسيم للإبداعات التكنولوجية، وما وفرته من آفاق وإمكانيات شكلت صدمة ثقافية وانفتاحًا استهلاكيًا وانبهارًا أدى إلى عمى الألوان وافتقاد التوازن، لأن موضوع الاستهلاك دائمًا أسرع دخولاً للمجتمعات المتخلفة، وإن لم يكن يشكل حاجتها الحقيقية، ذلك أن موضوع الإنتاج الذي يوظف العقل والزمن يعتبر من الأمور الصعبة على المجتمعات المتخلفة.

لذلك نقول: إن مشكلة الترويح اليوم، أو الترفيه بالمصطلح الثقافي للحضارة المعاصرة، تدور في محور المفهوم الغربي وفي إطاره، لذلك فهو يستهلك طاقات الأمم المتخلفة وأوقاتها، ويصرفها عن المواقع المجدية والضرورية لحياتها، ويحتل روح المبادرة والإبداع في حياتها على حساب النمو والنضج النفسي والثقافي الذي لا بد أن يحكم فلسفة الترويح.

فليس الترويح عملاً محصورًا في مجالات التحلل من الواجبات، والخروج من العادات، والاسترخاء عن المسؤوليات، وإيثار المتعة حتى ولو كانت حرامًا، ومحاكات الغرائز والشهوات وممارسة الشذوذ، وإسقاط الممنوعات، واستباحة الحرام، وشيوع اللهو والاستهتار، وتغييب مقاصد الحياة، وعيش اللحظة والعب منها على أنها خالدة بعيدًا عن النظر في العواقب والتداعيات، أو تغييب الحس بالعواقب والتداعيات، واسترداد الشعارات الجاهلية: اليوم خمر وغدًا أمر.

وإنما الترويح في الرؤية الإسلامية عملية بنائية، تشحذ الفاعلية، وتنشط العقل، وتثير الهمة، وتوقظ الروح، وتثير المنافسة والاستباق في الخيرات، وتدرب على العمل الجماعي وإشاعة روح الفريق واجتثاث معاني العداوة والحقد والصراع، وتشكل ميدانًا لتصعيد الغرائز، وتعالج الأثرة والتركيز على الذات، وتدرب على تأسيس وتأصيل المعاني النفسية كالحب والإيثار والعفو والرحمة والعدل والإحسان والاحتساب، والاستشعار بعذوبة تلك المعانى وحلاوتها، وممارستها بشكل عملي بعيدًا عن أساليب الوعظ والرتابة والتوتر والصرامة.

وقد تكون الإشكالية اليوم في أن الكثير من الأوعية الترويحية على الرغم من أنها مباحة من حيث الأصل إلا أنها تحولت إلى وسائل لضياع الوقت وهدر الطاقة وابتزاز المال من مثل الرياضات بمعظم أنواعها حيث المعروف أن الرياضة وسيلة تربوية مشروعة تبني الجسم وتعيد النشاط وتدرب على عمل الفريق، وتقضي على الأنانية والتعصب، وتنزع الحقد وتمكن للمنافسات الشريفة إلا أن أن الألوف بل الملايين اليوم يقضون معظم أوقاتهم في المدرجات يكتفون بالنظر بعيدًا عن المشاركة التي تورث المعاني التربوية المشار إليها حيث تغيب الكثير من الأهداف الترويحية لسوء استخدام هذه المباحات.

أما اقتحام حدود الله سبحانه وتعالى في ارتكاب المحرمات باسم الترفيه والترويح فهو البلاء العظيم الذي يؤدي إلى انحلال عزائم الأمم ويؤذن بسيطرة الغريزة وبدء السقوط الحضاري.

فالله سبحانه وتعالى يقول عند الكلام عن المحرمات: {تلك حدود الله فلا تقربوها }(البقرة:187).
ويقول عند الكلام عن المباحات: {تلك حدود الله فلا تعتدوها }(البقرة:229).

فالترويح وسيلة تربوية، بل لعله من أكثر الوسائل التربوية فاعلية، لأنه يتم بعيدًا عن التوتر والقلق والتكيف على أوضاع معينة.. إنه التربية والتعليم الذاتي، من خلال اغتنام مجالات ومساحات الراحة الجسمية والرضى النفسي وأعلى درجات القابلية للاختيار.

وبالإمكان القول الآن: إن قياس مردود التعليم، واكتساب المهارات المعرفية والسلوكية والوجدانية من خلال ابتكار وسائل لإيصالها في أوقات الترويح والنشاط الذهني، دفع القائمين على شأن التعليم إلى تكسير حواجز المدارس وقوالبها ووسائلها التقليدية، وبدأوا يفكرون بأشكال جديدة من هياكل المدارس الممتعة، التي تمنح الطالب قدرًا من التحرر من القوالب والأشكال التي قد تسبب انسدادًا وإعاقة للمعرفة، إلى درجة أصبحت معها مجالات الترويح وميادينه، ووسائل الترفيه وألعابه، هي الموقع الأهم لاكتشاف ميول الطالب ومواهبه واهتماماته، التي تعين على ترسيم مستقبله أو قراءة مستقبله من خلال الأنشطة الترويحية.

لذلك نقول: تبقى الإشكالية في فلسفة الترويح وكيفية بناء حس المتعة والسعادة، فليس دقيقًا ولا صحيحًا أن الترويح هو نوع من الساعات الضائعة، وكسر للحواجز، وانعتاق من القيم.

فقد تكون المشكلة ابتداءً في قراءة الإنسان محل الترويح وهدفه، وفي عدم القدرة أثناء التفكير بموضوع الترفيه أو الترويح على إدراك حاجات الإنسان الأصلية وقابلياته، وخصائصه وأهدافه، ووظيفته أو رسالته في الحياة.

ذلك أن القراءة المخطئة للإنسان تؤدي إلى اضطراب النسب التي تتشكل منها الكينونة البشرية، وبالتالي ينعكس ذلك على فلسفة الترويح وأدواته ووسائله وأهدافه.

فهل الإنسان كتلة من الغرائز والشهوات فقط حتى يجيء الترويح أو الترفيه إزالة للعوائق والممنوعات، وفتحًا للباب على مصراعيه أمام المتع الرخيصة والرفه الآثم، باسم الشأن الشخصي والحرية الشخصية، ولو أدى ذلك إلى الشذوذ والانحراف، التي أصبحت تعج بصورها الحضارة المادية وأصبحت إشكاليتها الحقيقية وجاءت وسائل الترويح استهدافًا للإنسان ذاته، استهداف صحته وسعادته وأسرته وعقله، وتدمير طاقاته وعلاقاته الاجتماعية ?

أم أن الإنسان عقل وعاطفة، ونفس وروح، وفطرة وغريزة، وذات ومجتمع، وأن وسائل الترويح لا بد أن تؤصل وتتأسس بحيث تكون مستجيبة لكل معطى بقدره أو مطلب يشكل حاجة أصلية للإنسان، ومن ثَمَّ: هل تحكم فلسفة الترويح وتتحكم بها ثقافة الاستهلاك والهدم والاعتداء على الذات و(الآخر) والبيئة والنظام العام، أم أن فلسفة الترويح لا بد أن تتمحور على إعادة التأهيل والاستعداد للإنتاج والبناء?

ذلك أن اختبار وتصويب الثقافة أو الفلسفة التي تتحكم بالترويح، والتي تقبع وراء إنتاج أدواته وتحديد مجالاته هو الأساس.

فليس الترويح إلا الاستجابة المادية لفلسفة الإنسان والحياة.. فكما أن الفكرة تتحول إلى كلمة وتتجسد فيها، والكلمة تنمو اجتماعيًا ومعلوماتيًا وتواصلاً وتتحول إلى علاقات وأفعال وممارسات، فكذلك يأتي الترويح بأنواعه ووسائله وأدواته وتجلياته ثمرة لفلسفة الحياة وليس دخيلاً عليها.

لذلك بالإمكان للراصد أن يرى تطور وسائل ومجالات الترويح والترفيه بشكل مواز لتطور المجتمعات وفلسفاتها، فهو يطورها وليس بالضرورة إلى الأحسن كما أنه يتطور بها.

ومن هنا نقول: لا بد أن يكون لكل أمة أو لكل فلسفة أو عقيدة أنماط ترويحها، فإذا تغيرت فلسفتها أو عقيدتها لسبب أو لآخر نرى هذا التغيير يستلحق مجالات الترفيه والترويح ووجود أنماط اجتماعية جديدة وأولويات جديدة..

فكثيرًا ما تتحول أوقات الفراغ إلى طاقات فائضة، إن لم نحسن توظيفها لتصبح عبئًا على أهلها، تصيبهم بالملل والضجر والسآمة والاكتئاب والقلق، وقد تؤدي إلى الانتحار، ويكون العلاج من ذلك كله العودة للانغماس بالعمل.

وكثير من العقائد والفلسفات فكرت كيف تحوِّل العمل وشدة العناء والجهد إلى نوع من المتعة، ويكون الفرح والترويح والتجدد واسترداد النشاط بالاستبشار بالإنجاز والإتقان بما أطلق عليه الإيمان بالعمل أو حب العمل.

بل لعلنا نقول: إن النماذج المضيئة من السلف، الذين اندفعوا إلى الاستشهاد والموت في سبيل الله وابتغاء ثوابه ورضاه، وجدوا متعتهم وراحتهم بأغلى' أنواع التضحية والفداء.. وكانت الكآبة والحزن والتأسف والانكسار في حبس بعضهم أنهم عاجزون عن الاستجابة لمثل هذه التضحيات الكبيرة.

ذلك أن الإيمان بالعمل والحب له واستشعار الثواب على إنجازه وإتقانه، يعتبر من أرقى وسائل الراحة والهدوء النفسي واستقرار اليقين في القلب الذي يهون جميع مصائب الدنيا.. فعندها يكون الإنسان حرًا رغم القيود، وطليقًا رغم الضغوط، وسعيدًا رغم المعاناة، ومستبشرًا رغم انسداد الطرق.

ولا نعني بذلك أن الإنسان في هذه الحال يقع ثمرة لأحلام اليقظة والغفلة، وإنما يكتسب بإيمانه ما يفيض عليه السكينة والهدوء.

فالذين يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، هم من خوف الموت في موت، ومن خوف الفقر في فقر، ومن خوف الذل في ذل، فالقلق يأكل قلوبهم وينغِّص حياتهم، فهم مأزومون تعيش أزمتهم بدواخلهم، لا يجدون الراحة والمتعة في أكثر الأماكن بهجة، لأن أزمتهم تحتل نفوسهم وترتحل معهم، حيثما رحلوا... إنهم يعيشون نار جهنم قبل جحيم الآخرة.

لذلك نقول: إن المشكلة تكمن في فلسفة الترويح وتشكيل الأمة الثقافي، إلى درجة وصل الأمر ببعضهم في الحضارة المادية الخاوية من الإيمان إلى التوهم بأن الراحة بالانتحار فأقاموا له أندية، أو باللجوء إلى المسكرات لإلغاء الحس، فإذا لم تعد المسكرات قادرة على إلغاء الحس التجأ البائس إلى المخدرات.. وبعضهم رأى ذلك في الإباحية الجنسية، بل والشذوذ الجنسي، سبيلاً إلى المتعة والراحة، فتحولت المجتمعات إلى حدائق حيوان أو حظائر حيوان، ومع ذلك بقي الإباحيون أكثر الناس تأزمًا وضيقًا، فاستدعت الإباحية المخدرات، والمخدرات استدعت الإباحية وهكذا، يدورون في حلقة مفرغة كما يدور الحمار برحاه.

وبعض المذاهب الوجودية رأت أن المتعة والراحة بإلغاء كل أمر ونهي، واعتبرت أن العقل هو الصورة المزيفة للإنسان الذي يأمره بالتكيف والانضباط والتخلق والالتزام والانتماء، وكلها متاعب وأعباء، وكان شعارهم الكبير: فليسقط العقل وليفعل الإنسان ما يحلو له.. فظهرت مؤلفات وتعليقات، ونماذج وأشكال وعلاقات، وأكوام من البشر تتجمع هنا وهناك، تتكدس فوق بعضها في الساحات العامة، حيث أطلق بعض الناس شعورهم وأزالها بعضهم، وظهرت أشكاله غاية في الغرابة، وعاد بعضهم إلى الطبيعة، وغادر المدارس والمجتمعات، وغادر الأسرة، وعاش متسولاً مستمتعًا بالتمرد وكسر القيود وفعل المخالف.

وهذه الإفرازات الاجتماعية والإصابات النفسية، جاءت رد فعل على الفلسفات التي سادت الأنظمة الاستبدادية والحكم الثيوقراطي، وشيوع القيم الدينية المحرفة وقيام الحروب العالمية الطاحنة والتحول إلى إهدار قيم الإنسان...!

لذلك نقول: بأن المشكلة، كل المشكلة، في تحديد أبعاد ومنطلقات وأهداف ووسائل ومجالات عملية الترويح، ورسالتها في تشكيل الأجيال، واعتبار أوقات الفراغ مساحات إضافية ومجالات إن لم نحسن التعامل معها تتحول لتصبح ألغامًا اجتماعية قابلة للانفجار في كل حين.

لذلك يبقى المطروح دائمًا: ما مواصفات الشخصية المسلمة؟
وما مدى تميزها?
وما هي رسالتها؟
ليطلق الترويح ويبرمج، ويقوم بمدى قدرته على تحقيق ذلك، أو على الأقل المساهمة بتحقيقه، أو إعادة التأهيل وبناء القابلية لوسائل تحقيقه?

ولا بد من الاعتراف اليوم بأن إشكالية مناهج الترويح ووسائله وأوعيته في مجتمعات المسلمين لا تقل خطورة وشأنًا عن غيرها من الإشكاليات المتلاحقة والمتداخلة، والتي يستدعي بعضها بعضًا، وأن استيرادنا لوسائل ومجالات الترويح ومفهوماته من (الآخرين) أو من الأغيار لا يقل خطورة عن سائر المواد الاستهلاكية الأخرى، سواء في المجال المادي أو الثقافي..

وأن الكثير من العادات والتقاليد والثقافات والأنماط الاجتماعية تتسلل أحياناً بدون رقيب أو إمكانية رقابة، وعلى الأخص أن وسائل الإعلام والإعلان المروجة، لذلك ألغت الرقيب وقفزت من فوق الحدود والسدود، وإذا لم يذهب الناس إليها فهي تجيء إليهم، وتدخل عليهم بدون استئذان، وتقتحم عليهم غرف نومهم، وتقدم لهم الأنماط والنماذج وتغريهم بها.

ولا بد من الاعتراف أيضًا أن لكل عصر وسائله التي تتعامل مع ظروفه وتطوراته ومشكلاته، ولا يمكن أن نتعامل مع كل العصور والمتغيرات بالوسائل نفسها.

كما أنه لا بد من الاعتراف بأن الشجب والرفض والانسحاب ليس وسيلة نافعة إلا إلى حين، فإذا لم نحاول أن نحول هذه المواد الترفيهية التي تقتل العزائم بدل أن تجمعها، وتهدر الأوقات بدل أن توظفها وتفيد منها، وتدمر الشخصية وتؤدي إلى انحلالها، وتطلق الغريزة بدل أن ترتقي بها وتصعدها وتنظمها... إذا لم نستطع تحويل هذه الوسائل إلى تحديات واستفزازات، فإنها تبقى تستهدف دين الأمة وثقافتها ونسيجها الاجتماعي وروابطها الأسرية..

أو بمعنى آخر إذا لم تستنفر الأمة لحماية نفسها، وتجتهد في تقديم بدائل ونماذج نضيجة وملائمة وهادفة في إطار عقيدتنا وثقافتنا، وإعادة مفهوم الثواب والاحتساب لأعمالنا ليصبح أداؤها وإتقانها متعة، وتصبح وسائل الترويح هي من ساحات العمل ولوازمه الضرورية، واستشعار الثواب في ممارسته كممارسة العمل تمامًا، تجديدًا للنفس، وإزالة للتعب والنصب، وراحة للبدن، ووسيلة لعودة أكثر نشاطًا وحيوية تحت شعار: {فإذا فرغت فانصب(7) وإلى ربك فارغب }.

فالترويح في الإسلام دين من الدين، وميدان للثواب والصدقة، وليس خروجًا على القيم ورفضًا للضوابط وتكسيرًا للموازين وانتهاكًا للحرمات.

وممارسة الرسول صلى الله عليه وسلم للترويح، وشهوده وإقراره والدعوة إليه، دليل مشروعيته وضرورته، إضافة إلى أنه يشكل نافذة على الأنموذج الذي لا بد من امتداده واستلهامه مع تطور المجتمع في أعماله وعلاقاته ومجالات ترويحه، التي لا بد أن تكون موازية لهذا التطور، بعيدًا عن التجمد عند حدود الزمان والمكان ومحاصرة خلود الإسلام والعجز عن امتداده.. إن قصور الفقه والفكر الإسلامي عن الامتداد بأوعية الترويح والإبداع فيها، وإدراك أهميتها وضرورتها وخطورتها، أحدث فراغًا سمح لـ (الآخر) بالامتداد في حياتنا ليستغرق كل جوانبها، إنتاجًا واستهلاكًا وترويحًا...

ولا شك عندي أن العبادات إذا أديت على وجهها الذي شرعه الله سبحانه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم تعتبر من أعظم الأوعية الترويحية المتجددة المجددة للشخصية المسلمة وتأتي في مقدمتها عبادة الصلاة حيث يتحرر الإنسان من كل ارتباطاته ويخلع عن نفسه كل أحمالها ويقف بين يدي الله الخالق الرازق المحيي المميت الشافي المخلص، يناجيه ويبوح له بكل ما في نفسه من الأسرار والخفايا التي لا يرضى أن يطلع عليها أحد غير الله ويسأل حاجته، يقف أمام الله متوقفًا عن كلام الناس ولغوهم ومخاطبتهم، متكلمًا بكلام الله ومناجيًا له ليس بينه حجاب مستيقنًا الإجابة.. من هنا كان قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يابلال.. أقم الصلاة، أرحنا بها) أخرجه أبو داوود.

وهنا قضية نرى أن من الأهمية بمكان الإشارة إليها وهي أن التأمل في النماذج أو الأوعية الترويحية التي أباحها الرسول صلى الله عليه وسلم وبالصورة التي مارسها المجتمع المسلم الأول يدرك أهدافها العظيمة في النفس والمجتمع كما يبصر آثارها الإيجابية في استمرار عملية البناء والإنتاج.

والكتاب الذي نقدمه اليوم، محاولة لطرح قضية الترويح والنظر إليها والتعامل معها من خلال رؤية شرعية تأصيلية، والاجتهاد في قراءة الوسائل الموجودة، والتطلع إلى آفاق في الترويح مبتكرة تنسجم مع الرؤية الإسلامية، ورصد الأخطار والسلبيات المترتبة على الوسائل الشائعة، وكيف أنها جاءت ثمرة لرؤى فلسفية للكون والإنسان والحياة، وكيف أنها مشبعة بفلسفاتها، وإن بدت أنها خروج من العمل الجاد وتعامل مع أوقات الفراغ، وهنا تكمن الخطورة -كما أسلفنا- لأنها تتسلل إلى الإنسان وتقتحم دفاعاته عندما يكون غافلاً واضعًا أسلحته وأمتعته بكل ما تفيد كلمة الأسلحة والأمتعة هنا من معنى: قال تعالى: {ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} (النساء:102).

فالباحث اجتهد في أن يضع قضية الترويح في موقعها، ويدلل على أهميتها ومكانتها ومشروعيتها وخطورة غيابها أو عدم الاهتمام بها، وما يترتب على عدم تقديرها حق قدرها من الجنوح والدمار لطاقات الفرد والمجتمع.. وليس أمر استيرادها من فلسفات أخرى بأقل خطورة من تغييبها وعدم الاهتمام بها.. ولعل الأمرين متلازمان، فعدم الاهتمام بأوقات الفراغ والاجتهاد في وضع الأوعية الترويحية، سوف يسمح بتمدد (الآخر) بكل فلسفته وثقافته.


الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) Empty
مُساهمةموضوع: رد: الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية)   الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) Emptyالخميس 04 نوفمبر 2010, 6:26 am

مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
إن مما يميز العصر الذي نعيشه نشوء ظاهرة وقت الفراغ في حياة الأفراد والمجتمعات بشكل يستدعي الوقوف عندها، ودراستها، ورصد متغيراتها، ومدى تأثيرها على مستوى الأفراد والمجتمعات على حد سواء.

ولقد صاحب هذه الظاهرة تزايد وتطور الوسائل الترويحية، واستحداث وسائل جديدة لشغله، فأصبح لدى المجتمعات سيل منهمر من الوسائل الترويحية، انطلق معها الإنسان بحثًا عن الراحة والمتعة، وتخفيفًا من العناء الذي يصيبه في هذه الحياة الدنيا.

وكثيرًا ما يمارس بعض المسلمين الأنشطة الترويحية بمعزل عن الضوابط الشرعية التي ينبغي أن يراعيها المسلم أثناء ممارساته الترويحية، وفي غيابٍ عن الأهداف التي ينبغي أن يحرص المسلم على تحقيقها من الترويح، وبخاصة مع ما استجد من وسائل ترويحية في حياتنا المعاصرة.

وعلى الرغم مما كان من وجود للعملية الترويحية في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن من يطلع على المؤلفات، والكتب، والأبحاث التي تعنى بموضوع الترويح يجدها تخلو أو تكاد من ذكر الترويح في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان يمارسه هو وصحابته رضوان الله عليهم، وكأن عصرهم خلا من هذه الممارسات الترويحية رغم كثرتها وتنوعها، وممارسته صلى الله عليه وسلم لها هو وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.

إن هذا العزوف الذي نلحظه عن بيان منهجه صلى الله عليه وسلم في الترويح، ليؤكد ضرورة دراسة ذلك المنهج في حياته صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم، ونشره، للتعرف على هديه صلى الله عليه وسلم في ممارسة الترويح، فهو خير من يُقتدى' بهديه ويستن بسنته في ذلك الجانب المهم من حياة المسلم، وبخاصة في وقتنا الحاضر، حيث أصبح الترويح جزءًا أساسًا في حياة الأفراد والمجتمعات على حد سواء.

وتأتي هذه الدراسة محاولة لتسليط بعض الضوء على مفهوم الترويح، وحكمه، وأسلوب مزاولته في العصر النبوي، وبيان الضوابط الشرعية التي ينبغي مراعاتها حين ممارسته، بالإضافة إلى التعرف على أهداف الترويح، والكيفية التي يمكن بواستطها أن نضمن تحقيق تلك الأهداف.

كما تشتمل الدراسة على مبحث حول العلاقة التي أكدها كثير من الباحثين وعلماء الاجتماع بين أوقات الفراغ والانحراف، خاصة لدى الأحداث، والاتجاهات العلمية المفسرة لذلك.

ولقد قسمت الدراسة إلى المباحث التالية:
المبحث الأول: أهمية الوقت.
المبحث الثاني: نظرة الإسلام إلى وقت الفراغ.
المبحث الثالث: مفهوم الترويح وآثاره.
المبحث الرابع: حكم الترويح في الإسلام.
المبحث الخامس: ضوابط ممارسة الترويح في المجتمع المسلم.
المبحث السادس: الترويح في العصر النبوي، ويشمل:
أولاً: أهداف الترويح في العصر النبوي.
ثانيًا: نماذج من الترويح في العصر النبوي.
المبحث السابع: الفراغ طريق الانحراف، ويشمل:
الاتجاهات والعوامل الاجتماعية المفسرة للانحراف.

والله أسأل أن تكون هذه الدراسة نواة لدراسات أشمل وأوسع عن الترويح في المجتمع المسلم في حياتنا المعاصرة، تستمد أصولها من المنهج الإسلامي للترويح، وتحدد ما ينبغي للمسلم التزامه من الضوابط الشرعية حين ممارسته للترويح.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل...

المبحث الأول : أهمـيـة الـوقـت

لقد صدق من قال: إن الوقت هو الحياة، وإنهما وجهان لعملة واحدة، فما الأيام إلا صفحات تقلب في كتاب حياتنا، وما الساعات في تلك الأيام إلا كالأسطر في صفحاتها، التي سرعان ما تختم الصفحة لننتقل إلى صفحة أخرى... وهكذا تباعًا حتى تنتهي صفحات كتاب العمر.. وبقدر ما نحسن تقليب صفحات أيامنا تلك نحسن الاستفادة من كتاب حياتنا.. وبقدر استغلالنا لأوقاتنا نحقق ذواتنا ونعيش حياتنا كاملة غير منقوصة.

ولا شك أن إدراك الإنسان لقيمة وقته ليس إلا إدراكًا لوجوده وإنسانيته ووظيفته في هذه الحياة الدنيا، وهذا لا يتحقق إلا باستشعاره للغاية التي من أجلها خلــقه الله عــز وجل وإدراكه لها. ومــن المعلــوم أن الله قد خــلق الإنسـان لعبادته، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون(56)، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون(57)، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } ( الذاريات:56-58).

والمقصود بالعبادة هنا هو معناها الشامل الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين عرّف العبادة بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة(1). لذلك كان الوقت أغلى ما يملكه الإنسان، فهو كنزه، ورأس ماله الحقيقي في هذه الدنيا، ذلك أنه وعاء كل شيء يمارسه الإنسان في حياته.

ويكفي الوقت شرفًا وأهمية أن الله عز وجل قد أقسم به في كتابه العزيز، وأقسم ببعض أجزائه في مواطن عديدة، قال تعالى:
- { والليل إذا عسعس(17)، والصبح إذا تنفس } ( التكوير:17-18).
- { والفجر(1)، وليال عشر } ( الفجر:1-2).
- { والشمس وضحاها(1)، والقمر إذا تلاها } ( الشمس:1-2).
- { والضحى(1)، والليل إذا سجى } ( الضحى:1-2).
- { والعصر(1)، إن الإنسان لفي خسر } ( العصر:1-2).

كما ذكر عدد من المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآيات أن إقسام الله ببعض المخلوقات دليل على أنها من عظيم آياته(2). ومن هنا فالله عز وجل يقسم بتلك المخلوقات ليبين لعباده أهميتها، وليلفت أنظارهم إليها، ويؤكد على عظيم نفعها، وضرورة الانتفاع بها، وعدم تركها تضيع سدى دونما فائدة ترجى في الدنيا أو الآخرة.

ولقد برزت أهمية الوقت والحث على الاستفادة منه وعدم تركه يضيع سدى في السنة النبوية، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك )(3). وهذا الحديث وإن تنوعت ألفاظه وتعبيراته، إلا أنها أصل في الحث على اغتنام الفراغ في الحياة قبل ورود المشغلات، كالمرض، والهرم، والفقر، إذ أن الغالب في هذه الأمور أنها تلهي الإنسان وتمنعه من الاستفادة من أوقاته، فالمريض يهتم بأسباب عودة صحته واسترداد عافيته، وكذلك الهرم وهو الذي بلغ أقصى مراحل الكبر من العمر، حيث يكون الضعف العام للجسم وبطء الحركة، بعكس من كان في مرحلة الفتوة والقوة والشباب.

وقد روى البخارى في صحيحه أن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ )(4). وهذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وهو في غاية الوضوح، حيث يرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن الفراغ مغنم ومكسب، ولكن لا يعرف قدر هذه الغنيمة إلا من عرف غايته في الوجود، وأحسن التعامل مع الوقت والاستفادة منه.

ولعل مما يحفز على ضرورة الاستفادة من الوقت حرص الفرد أن يكون من القلة التي عناها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه السابق، فظاهر الحديث أن الذين يستفيدون من الوقت هم القلة من الناس، وإلا فالكثير منهم مغبون وخاسر لهذه النعمة بسبب تفريطه في وقته وإضاعته له في غير فائدة، وعدم استغلاله الاستغلال الأمثل.

وقد يكون الإنسان صحيحًا في بدنه ولا يكون متفرغًا، لانشغاله بمعاشه.. وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا.. فإذا اجتمعا -الصحة والفراغ- وغلب عليه الكسل عن طاعة الله فهو المغبون، أما إن وفق إلى طاعة الله فهو المغبوط(5).
ومسؤولية الإنسان عن وقته شاملة لجميع عمره، وهذا الوقت مما يُسأل عنه يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه )(6).

ومما ينبغي الإشارة إليه هو أن تأكيد الإسلام على إعطاء النفس حقها من الراحة والسعة دليل على قيمة الوقت وأهميته في الإسلام، قال تعالى: { وجعلنا نومكم سباتًا، وجعلنا الليل لباسًا، وجعلنا النهار معاشا } ( النبــأ:9-11). قــال ابـــن كثــير في تفسير قوله تعالى: { وجعلنا نومكم سباتا }: أي قطعًا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار(7). وكأن النوم راحة إجبارية يتقوى بها الإنسان.

كما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ( يا عبد الله: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ? قال: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا )(8).

ولكن هذا الحق من النوم والراحة للجسد والبدن مشروط، أي ينبغي أن يتقوى به الإنسان لما بعده، ويحتسبه للعمل، فهو يرتاح ليتقوى على العمل، وليست الراحة لمجرد البطالة.

المبحث الثاني : نظرة الإسلام إلى وقت الفراغ

لقد عرف الوقت بأنه: مقدارٌ من الزمن، أما كلمة ( الفراغ ) فتكاد تجمع المعاجم اللغوية على أن معناها: الخلو من الشغل، فلقد ورد في لسان العرب لابن منظور أنه: الخلاء، وذكره الجوهري في الصحاح بما يقرب من هذا المعنى، فيقال: فرغت من الشغل، وتفرغت لكذا.. وذكر الراغب الأصفهاني: أن الفراغ خلاف الشغل، وقد فرغ فراغًا وفروغًا وهو فارغ(1).

ومن هنا فوقت الفراغ لغويًا يعني: الزمن الذي يخلو فيه الإنسان من الشغل أو العمل.

وقد ذكرت كلمة الفراغ وبعض مشتقاتها في القرآن الكريم، مــن ذلك قولـه تعـالى: { فاذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب } (الانشراح:7)، وذكر عامة المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآية: { فإذا فرغت فانصب } أن المقصود إذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك.

ومن المعلوم أن الأصل في حياة المسلم أنه لا يوجد فيها وقت فراغ -بمعنى عدم العمل، لا للدنيا ولا للآخرة- ذلك أن الوقت أو العمر في حياة المسلم ملك لله، والإنسان مسؤول عنه، فحياة المسلم كلها عبادة(2)، فهو مطالب بملء الوقت كله في عبادة الله، بمعناها الشمولي العام لجميع جوانب الحياة -ولعل أبلغ من عرّف العبادة بمعناها الشامل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة- لا بمعناها الضيق، أو كما يفهمه بعض الناس بقصرها على أداء بعض العبادات، كالصلوات والصيام والزكاة والحج والعمرة، ونحو ذلك من الأفعال التعبدية الظاهرة فقط.
ومن هنا تصبح جميع جوانب حياة المسلم تعبدية إذا اقترنت بالنية الصالحة، في العمل، أو الفكر، أو السكون، أوالحركة، أو الجــد، أو المــرح، أو القتال، أو اللــهو، أو الأكــل، أو الشرب، أو النوم، أو العلم، أو غيرها من الأعمال، حتى في الجمـــاع مع الــزوجـــة، فـلقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ? فقال: أرأيتم لو وضعها في الحرام كان يكون عليه وزر ? قالوا: بلى'، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال له الأجر)(3).

وهذا ما عبر عنه ابن القيم رحمه الله في معرض حديثه عن كيفية عمارة المسلم لوقته، فقال: ( إن عمارة الوقت تكون بالاشتغال في جميع آناء الوقت بما يقرب إلى الله، أو يعين على ذلك من مأكل، أو مشرب، أو منكح، أو منام، أو راحة، فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه، كانت من عمارة الوقت، وإن كان له فيها أتم لذة، فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات )(4).

فكل أفعال الإنسان المسلم ونشاطاته عبـارة عن أشكال تدور حول حقيقة واحدة، هي: العبادة، والاختلاف بينها إنما هو في الهيئة ليس إلا، وفي المظهر وليس الجوهر. إذ لا يوجد في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبــق عليه معـنى العبادة، أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف، فالمنهج الإسلامي غايته تحقيق العبودية لله أولاً وآخرًا(5).

لذا نجد أن مفهوم وقت الفراغ المتداول الآن مرادف لمفهوم البطالة، أي ( لا عمل)، وهذا ما يراه الاتجاه الغربي المادي، ومن هنا يمكننا طرح سؤال مهم، وهو: هل يمكن وجود وقت فراغ في حياة المسلم ?

لا شك أن ذلك غير ممكن بأي حال من الأحوال، فإن العمر -كما أسلفنا- ملك لله، وما الإنسان إلا مسؤول عنه ومستأمن عليه في هذه الدنيا التي حدد الله عز وجل فيها دوره بوضوح ودقـة متناهية وذلك في قوله تعالى: {وما خلقت الجن إلا ليعبدون } ( الذاريات:65).

وبناءً على ذلك لا يصح تصور وجود وقت مستقطع من حياة الإنسان المسلم يكون فارغًا فيه، ويسمى وقت فراغ.. فراغ من أي شيء، طالما أن حياته كلها عبادة لله، حتى في ترويحه وسروره وأنسه وجميع مناشط حياته ? فهو في كل أوقاته إما مأمور بأمر، أو منهي عن أمر، وبالتالي لا يمكن تصور وجود وقت في حياة المسلم يحق له أن يتصرف فيه كيفما يشاء حسب ما تنص عليه بعض تعريفات علماء الغرب لوقت الفراغ.. ومن هنا يقرر بعض الباحثين أن كلمة الفراغ الواردة في الأحاديث النبوية إنما يراد بها: سلامة القلب، والنفس، والفكر من كل ما يلهي عن الخير والعبادة(6).

وهذا ما جعل الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، يقول: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي .. وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه، يقول: إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو، ليكون أقوى لي على الحق .

ولا شك أن ما ذكر آنفًا يمثل حقيقة مهمة في التصور الإسلامي الصحيح لوقت الفراغ في حياة الفرد المسلم من الناحية النظرية التي ينبغي وجودها وشعور المسلم بها، إلا أن واقع المسلمين بشكل عام يشهد بضد ذلك، فما زال التصور الإسلامي الصحيح لوقت الفراغ بعيدًا عن أذهان بعض عامة المسلمين وأفرادهم، فكل متأمل لواقع الأمة المسلمة يرى الفراغ في كثير من أفراد المجتمع الإسلامي الحديث أصبح عمرًا مهدرًا، بل وعبئًا على حركة المجتمع نحو التقدم... فهو يمثل طاقة استهلاكية، أو يغذيها، أو يمهد لها سبلها دون أن يقابلها دفعة إنتاجية، أو تنمية ماهرة، أو إبداع فكري جديد.

ومن يرغب التأكد مما ذكر من أن أوقات الفراغ في حياة الكثير من المسلمين أصبحت زمنًا ضائعًا لديهم، ومعوقة لسير المجتمع نحو النهضة الإسلامية الشاملة، عليه أن ينظر إلى البرامج والأنشطة الترفيهية التي يمارسها كثير من أفراد المجتمع المسلم، حيث تحولت هذه البرامج والأنشطة إلى هدر للطاقات وتسطيح للمفاهيم والأفكار، بل وأحيانًا للهدم، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي.

وهذا الواقع يؤكد ضرورة العمل على تصحيح مفهوم وقت الفراغ في تصورات أفراد المسلمين، وإبراز حقيقة مهمة في حياة الفرد المسلم وهي أنه لا يمكن وجود وقت خال في حياة المسلم ليس فيه وظيفة للدنيا أو للآخرة، وحتى إن كانت للدنيا فهي للتزود والتقوي بها على أمور الآخرة.. كما ينبغي ضرورة تبصير المسلمين أنه لا يمكن تصور وجود وقت زائد عن حاجة المسلم، يكون فيه متحررًا من القيود أو التكاليف الشرعية.

المبحث الثالث : مفهوم الترويح وآثاره

الآثار الإيجابية المترتبة على الترويح *

* الآثار السلبية المترتبة على الترويح

عوامل التباين في ممارسة الترويح

يدور معنى كلمة الترويح في أصلها اللغوي على السعة والانبساط، وإزالة التعب، ورجوع النشاط إلى الإنسان، وإدخال السرور على النفس بعد العناء، ويقال: رجل أريحي، أي واسع الخلق نشيط.. وأراح الرجل، أي: رجعت له نفسه بعد الإعياء(1). وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها )(2).

وتتعدد تعريفات المختصين للترويح وتتابين باختلاف نظرة من يقوم بتعريفه.. ومن هذه التعاريف أن الترويح هو:
- إعادة إنعاش الروح وإحياء القوة بعد تعب.
- إدخال السرور على النفس.
- نشاط ذو فائدة ما، يمارس اختياريًا أثناء وقت الفراغ، بدافع ذاتي من الرضا الشخصي الذي ينتج عنه.
- النشاط الذي يختاره الفرد ليمارسه في وقت فراغه.
- مزاولة أي نشاط في وقت الفراغ، بهدف إدخال السرور على النفس، دون انتظار أي مكافأة(3).
ويمكننا تحديد مفهوم أدق لمصطلح الترويح من المنظور الشرعي بأنه: ( نشاط هادف وممتع للإنسان، يمارسه اختياريًا وبرغبة ذاتية، وبوسائل وأشكال عديدة مباحة شرعًا، ويتم في أوقات الفراغ).

من آثار الترويح

يكتسب الترويح أهميته من الآثار المترتبة عليه، فمن الآثار التي ينتجــها الترويــح تكــون الدوافــع لدراسته والاهتمام به، ومما يلاحظ في معظم الدراسات أنها تربط دائمًا بين الانحراف والترويح، وكأن الترويح لا يولّد إلا انحرافًا، أو كأنما الانحراف نتيجة لازمة من نتائج الترويح، وخاصية أساس من خصائصه، وليس ذلك بصحيح، فبقدر ما يحمل الترويح من آثار سلبية، فهو في الوقت نفسه ينتج لنا آثارًا إيجابية، بل إن إيجابياته أكبر وأسهل تحصيلاً لمن يوفقه الله إلى ذلك، وبخاصة إذا تعاملنا معه وفق النظرة الشرعية بضوابطها وأهدافها التي سترد لاحقًا.

أولاً: الآثار الإيجابية المترتبة على الترويح:

هناك العديد من الآثار الإيجابية المصاحبة للعملية الترويحية بشتى صورها وأشكالها، إلا أننا نجد أن لكل شكل من الأشكال، ولكل منشط من المناشط الترويحية المختلفة التي يمارسها الإنسان فوائد محددة، ومن ذلك:
1) إشباع الحاجات الجسمية للفرد: ويتم ذلك بممارسة الرياضة البدنية وليس بمشاهدتها فقط، كما يحدث بين نسبة كبيرة من أفراد المجتمع، حيث تؤدى ممارسة الرياضة البدنية بشتى أنواعها غالبًا إلى إزالة التوترات العضلية وتنشيط الدورة الدموية، وتحسين أداء الأجهزة الرئيسة بالجسم، كالجهاز التنفسي والهضمي، إضافة إلى اكتساب قوام معتدل.

2) إشباع الحاجات الاجتماعية للفرد: فمن المعلوم أن معظم الأنشطة الترويحية تتم بشكل جماعي، وهذا يساعد الفرد حين ممارستها على اكتساب الروح الجماعية والتعاون والانسجام والقدرة على التكيف مع الآخرين، وهذا يؤدي إلى تكون علاقات اجتماعية ناجحة مع الآخرين وإلى نمو اجتماعي متوازن.

3) إشباع الحاجات العلمية والعقلية للفرد: وهذا يتأتى من خلال الأنشطة الترويحية الابتكارية التي يمارسها الفرد في حياته اليومية، فهذه الأنشطة تؤدي في الغالب إلى تنمية القدرات العقــلية والتفاعل الإيجابي مع المواقف المختلفة، كما تساعد هذه الأنشطة الترويحية الابتكارية على تطوير القدرة الإدراكية والاستيعابية للمواقف المختلفة.

4) قد تكون الأنشطة الترويحية عاملاً مساعدًا في رسم مهنة المستقبل للفرد، من خلال تنمية مهاراته وقدراته التي غالبًا ما تبدأ بهواية يمارسها الفرد في حياته اليومية، ثم ينميها ويطورها، حتى تنتهي بمهنة يحترفها في المستقبل.

5) تساعد الأنشطة الترويحية على اكتشاف العديد من السجايا والأخلاق والطباع التي يحملها الأفراد، إذ غالبًا ما يكون الفرد على سجيته ودون تصنع أو تكلف في أثناء ممارسته للترويح.

6) الأنشطة الترويحية قد تكون منشطة للحركة الاقتصادية في المجتمع، من خلال جعل الأنشطة والبرامج الترويحية موارد استثمارية، وبخاصة إذا تم التعامل معها وفقًا للنظرة الشرعية للترويح، وإلا أصبحت ذات آثار سلبية.

7) تساعد الأنشطة الترويحية على إحداث مزيد من الترابط الأسري بين أفراد الأسرة الواحدة حين ممارستها بشكل جماعي، وبشرط أن تكون تلك الأنشطة ذات صبغة إيجابية تفاعلية، أما إذا كانت البرامج الترويحية سلبية أو استقبالية محضة، مثل: مشاهدة التلفزيون فقط، فهذه الممارسات الترويحية قد تؤدي إلى عكس النتائج الإيجابية المتوقعة، فكلما ارتفعت نسبة المشاركة بين أفراد الأسرة في الأنشطة الترويحية أدى ذلك إلى مزيد من التماسك الأسري(4).

تؤدي الأنشطة الترويحية -إذا أحسن الإنسان استثمارها وممارستـها بشكــل إيجــابي- إلى زيــادة الإنتاجيـة لديــه، إذ تعد هذه الأوقات فرصة لالتقاط الأنفاس، والترويح فيها، مما ينعكس بأثره الإيجابي على فعاليات الفرد ونشاطه وحيويته حال عودته للعمل.

ثانيًا: الآثار السلبية المترتبة على الترويح:

1) يرى كثير من الباحثين أن الترويح عامل رئيس في انحراف الأحداث، ويؤدي دورًا لا يستهان به في حياتهم، ويستندون في ذلك إلى العديد من الدراسات والأبحاث التي تربط بين الانحراف من جانب ومتغيرات الترويح، وهذه المتغيرات يقصد بها مكان الترويح، وزمانه، والمشاركين فيه(5).

2) يؤدي الترويح إذا تم استغلاله بشكل سلبي إلى وجود حالة من الملل في حياة الفرد، إذ لا يُتصور حياة لا يمارس فيها عمل، لا للدنيا ولا للآخرة، وهذا الملل ينقل الفرد إلى حالة من القلق.

3) ممــارسـة الأفــراد أو المجتمـعات للتــرويح بشكل كبـيـر قد يدفع بالمجتمع إلى وضع استهلاكي ضار، إذ تنصرف نسبة كبيرة من موارده إلى جوانب كمالية زائدة عن حاجته، إذ ممارسه الترويح في الغالب تنصبغ بالصفة الاستهلاكية غير المنضبطة ماديًا.

4) بعض الأنشطة الترويحية تؤدي إلى تغيرات اجتماعية ذات صبغة سالبة، فمنها على سبيل المثال ما أحدثه التلفاز في أنماط الاجتماعات العائلية والأسرية، فلم تعد تجمعات الناس مع وجود التلفاز ذات طبيعة جماعية كما كانت ســابقًا، فهو يوحدهم شكليًا ولكنه من الناحية السيكولوجية يفرق ويقــطـع الصـلات بينـــهم، وهذا التجــمع المــادي الجســدي لا يكفي لتحقيق التقارب الاجتماعي.

وتلـك الآثار المتــرتــبة على التــرويــح، سـواء الإيجابي منها أو السلبي، تتضافر عدة جهات في صنعها في حياة الأفراد، فلكل من الأسرة، والمدرسة، والمجتمع بشكل عام دور في هذه الآثار، فنجد أن من مهام الأسرة التربوية لأفرادها تعليم أبنائها كيفية الاستفادة من الترويح، والعمل على استثماره الاستثمار الصحيح، واستغلاله في ممارسة الأنشطة الإيجابية الابتكارية، بالإضافة إلى تهيئة الوسائل الترويحية المناسبة لهم من الناحية العمرية والشرعية والتربوية، ومشاركة الأبوين للأبناء في الترويح. وبذلك نستطيع أن نضمن وجود الآثار الإيجابية له وتجاوز آثاره السلبية، وبخاصة أن العديد من الدراسات تؤكد أنه كلما زادت ممارسات أفراد الأسرة الواحدة مع بعضهم البعض للأنشطة الترويحية كان ذلك محدثًا لمزيد من الترابط الأسري بين أفرادها(6).

أما المدرسة فدورها لا يمكن إغفاله في تربية الطلاب على حسن التعامل الأمثل مع الترويح وتحقيق الآثار الإيجابية من خلال ممارسة الأنشطة الترويحية الإيجابية والابتكارية، وتهيئة الظروف المكانية والزمانية المناسبة لتحقيق ذلك للطلاب.

أما المجتمع بشكل عام، فدوره في صنع تلك الآثار الإيجابية للترويح يتحقق من خلال إيجاد المناخ الترويحي السليم، بتهيئة وسائل الترويح الإيجابية المتمشية مع نظم المجتمع وقواعده، وإيجاد الأماكن الترويحية المأمونة التي تعمل على جذب أفراد المجتمع لها، وكل ذلك يتأتى بمراعاة الضوابط الشرعية عند تهيئة تلك الوسائل الترويحية والأماكن الخاصة بها، أو حين استجلاب أي نوع مستحدث من الممارسات الترويحية.

العوامل المؤدية إلى التباين في ممارسة الترويح:

تختلف الأنشطة الترويحية التي يمارسها الأفراد بتأثير من متغيرات عدة، كما أن دوافع ممارسة الترويح وأسبابه تختلف من فرد إلى آخر، وأبرز تلك العوامل المسببة لذلك التباين ما يلي:

أ- الجنس: تختلف الأنشطة الترويحية باختلاف الجنس، فالذكر له أنشطة ترويحية تناسبه، كما أن للأنثى، أنشطة أخرى تناسبها، فالذكور يميلون إلى الأنشطة ذات الطابع البدني التنافسي، في حين تقبل الإناث على النشاطات الترويحية الهادئة التي تمارس غالبًا في المنزل أو مع الصديقات. ومنشأ هذا التباين في الأنشطة الترويحية طبيعة كل منهما، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي وواضح في المجتمعات المسلمة التي تراعي ذلك الأمر.

ب- العمر: يؤثر العمر في تحديد نوع النشاط الترويحي، فالأطفال لهم أنشطتهم الخاصة، وفي الغالب أنها ذات طابع حركي مستمر ومتواصل، في حين تكثر الأنشطة الثقافية والقراءة والرحلات بين البالغين، بينما تمتاز أنشطة فئة الشباب بالتنوع، إلا أن الجانب الرياضي والرحلات البرية تطغى عليها.

جـ- المستوى التعليمي: يتدخل المستوى التعليمي بشكل كبير في تحديد النشاط الترويحي الذي يمارسه الأفراد خلال أوقات فراغهم، فالقرءاة مثلاً سنجدها تكثر بين ذوي المستويات التعليمية المرتفعة.

د- المستوى الاقتصادي للأفراد: يؤثر هذا العامل من خلال القدرة على تهيئة وتوفير الوسائل والأدوات التي من خلالها يمارس الفرد الأنشطة الترويحية، فالرحلات الخارجية والسفر والسياحة قد لا تتحقق لأصحاب الدخول المنخفضة.

هـ- مقدار وقت الفراغ: وهذا العامل يؤثر بشكل كبير وأساس في تحديد نوعية النشاط الترويحي، إذ هناك من الناس من ينصرف عن ممارسة نشاط معين لأنه يحتاج إلى وقت فراغ كبير قد لا يتوفر له.

و- مكان الترويح ونوعية المشاركين: إذ غالبًا ما يتأثر الفرد بمن حوله ويندمج معهم في ممارسة النشاط الترويحي لمجرد أنه يشاهد غيره يمارسه.

ز- المستوى الاقتصادي والمادي للمجتمع: لكل مرحلة من مراحل نمو المجتمع الاقتصادية ما يناسبها من الأنشطة الترويحية، فإن كان المجتمع يمر بمرحلة تدهور اقتصادي فهذا الوضع الاقتصادي المتردي سيجعله يمارس أنشطة ترويحية تختلف عن الأنشطة الترويحية التي سيمارسها حين ظهور تحسن اقتصادي ورخاء مادي، فمقدار الدخل السنوي للأفراد، ومستوى المعيشة للمجتمع بشكل عام، له أثره في بروز أنشطة ترويحية والتركيز عليها دون غيرها.

حـ- خصوصية المجتمع العقدية والثقافية: إن طبيعة المجتمع وخصائصه العقدية والثقافية التي تميزه عن المجتمعات الأخرى، لها دور كبير ومهم في تحديد نوعية الأنشطة الترويحية التي يمارسها أفراده، ولا يمكن إغفال دورها في ظهـور أنشطـة ترويحية تتـناسب وطبيـعة ذلك المجتــمع، كما تؤدي هذه الخصوصية للمجتمع إلى اختفاء أنشطة ترويحية أخرى، وسيرد الحديث مفصلاً عن هذا الجانب المهم في مبحث مستقل بإذن الله تعالـى.

المبحث الثاني : نظرة الإسلام إلى وقت الفراغ

لقد عرف الوقت بأنه: مقدارٌ من الزمن، أما كلمة ( الفراغ ) فتكاد تجمع المعاجم اللغوية على أن معناها: الخلو من الشغل، فلقد ورد في لسان العرب لابن منظور أنه: الخلاء، وذكره الجوهري في الصحاح بما يقرب من هذا المعنى، فيقال: فرغت من الشغل، وتفرغت لكذا.. وذكر الراغب الأصفهاني: أن الفراغ خلاف الشغل، وقد فرغ فراغًا وفروغًا وهو فارغ(1).

ومن هنا فوقت الفراغ لغويًا يعني: الزمن الذي يخلو فيه الإنسان من الشغل أو العمل.

وقد ذكرت كلمة الفراغ وبعض مشتقاتها في القرآن الكريم، مــن ذلك قولـه تعـالى:
{ فاذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب } (الانشراح:7)، وذكر عامة المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآية: { فإذا فرغت فانصب } أن المقصود إذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك.

ومن المعلوم أن الأصل في حياة المسلم أنه لا يوجد فيها وقت فراغ -بمعنى عدم العمل، لا للدنيا ولا للآخرة- ذلك أن الوقت أو العمر في حياة المسلم ملك لله، والإنسان مسؤول عنه، فحياة المسلم كلها عبادة(2)، فهو مطالب بملء الوقت كله في عبادة الله، بمعناها الشمولي العام لجميع جوانب الحياة -ولعل أبلغ من عرّف العبادة بمعناها الشامل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة- لا بمعناها الضيق، أو كما يفهمه بعض الناس بقصرها على أداء بعض العبادات، كالصلوات والصيام والزكاة والحج والعمرة، ونحو ذلك من الأفعال التعبدية الظاهرة فقط.

ومن هنا تصبح جميع جوانب حياة المسلم تعبدية إذا اقترنت بالنية الصالحة، في العمل، أو الفكر، أو السكون، أوالحركة، أو الجــد، أو المــرح، أو القتال، أو اللــهو، أو الأكــل، أو الشرب، أو النوم، أو العلم، أو غيرها من الأعمال، حتى في الجمـــاع مع الــزوجـــة، فـلقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ? فقال: أرأيتم لو وضعها في الحرام كان يكون عليه وزر ? قالوا: بلى'، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال له الأجر)(3).

وهذا ما عبر عنه ابن القيم رحمه الله في معرض حديثه عن كيفية عمارة المسلم لوقته، فقال: ( إن عمارة الوقت تكون بالاشتغال في جميع آناء الوقت بما يقرب إلى الله، أو يعين على ذلك من مأكل، أو مشرب، أو منكح، أو منام، أو راحة، فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه، كانت من عمارة الوقت، وإن كان له فيها أتم لذة، فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات )(4).

فكل أفعال الإنسان المسلم ونشاطاته عبـارة عن أشكال تدور حول حقيقة واحدة، هي: العبادة، والاختلاف بينها إنما هو في الهيئة ليس إلا، وفي المظهر وليس الجوهر. إذ لا يوجد في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبــق عليه معـنى العبادة، أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف، فالمنهج الإسلامي غايته تحقيق العبودية لله أولاً وآخرًا(5).

لذا نجد أن مفهوم وقت الفراغ المتداول الآن مرادف لمفهوم البطالة، أي ( لا عمل)، وهذا ما يراه الاتجاه الغربي المادي، ومن هنا يمكننا طرح سؤال مهم، وهو: هل يمكن وجود وقت فراغ في حياة المسلم?

لا شك أن ذلك غير ممكن بأي حال من الأحوال، فإن العمر -كما أسلفنا- ملك لله، وما الإنسان إلا مسؤول عنه ومستأمن عليه في هذه الدنيا التي حدد الله عز وجل فيها دوره بوضوح ودقـة متناهية وذلك في قوله تعالى: {وما خلقت الجن إلا ليعبدون } ( الذاريات:65).

وبناءً على ذلك لا يصح تصور وجود وقت مستقطع من حياة الإنسان المسلم يكون فارغًا فيه، ويسمى وقت فراغ.. فراغ من أي شيء، طالما أن حياته كلها عبادة لله، حتى في ترويحه وسروره وأنسه وجميع مناشط حياته ? فهو في كل أوقاته إما مأمور بأمر، أو منهي عن أمر، وبالتالي لا يمكن تصور وجود وقت في حياة المسلم يحق له أن يتصرف فيه كيفما يشاء حسب ما تنص عليه بعض تعريفات علماء الغرب لوقت الفراغ.. ومن هنا يقرر بعض الباحثين أن كلمة الفراغ الواردة في الأحاديث النبوية إنما يراد بها: سلامة القلب، والنفس، والفكر من كل ما يلهي عن الخير والعبادة(6).

وهذا ما جعل الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، يقول: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي .. وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه، يقول: إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو، ليكون أقوى لي على الحق.

ولا شك أن ما ذكر آنفًا يمثل حقيقة مهمة في التصور الإسلامي الصحيح لوقت الفراغ في حياة الفرد المسلم من الناحية النظرية التي ينبغي وجودها وشعور المسلم بها، إلا أن واقع المسلمين بشكل عام يشهد بضد ذلك، فما زال التصور الإسلامي الصحيح لوقت الفراغ بعيدًا عن أذهان بعض عامة المسلمين وأفرادهم، فكل متأمل لواقع الأمة المسلمة يرى الفراغ في كثير من أفراد المجتمع الإسلامي الحديث أصبح عمرًا مهدرًا، بل وعبئًا على حركة المجتمع نحو التقدم... فهو يمثل طاقة استهلاكية، أو يغذيها، أو يمهد لها سبلها دون أن يقابلها دفعة إنتاجية، أو تنمية ماهرة، أو إبداع فكري جديد.

ومن يرغب التأكد مما ذكر من أن أوقات الفراغ في حياة الكثير من المسلمين أصبحت زمنًا ضائعًا لديهم، ومعوقة لسير المجتمع نحو النهضة الإسلامية الشاملة، عليه أن ينظر إلى البرامج والأنشطة الترفيهية التي يمارسها كثير من أفراد المجتمع المسلم، حيث تحولت هذه البرامج والأنشطة إلى هدر للطاقات وتسطيح للمفاهيم والأفكار، بل وأحيانًا للهدم، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي.

وهذا الواقع يؤكد ضرورة العمل على تصحيح مفهوم وقت الفراغ في تصورات أفراد المسلمين، وإبراز حقيقة مهمة في حياة الفرد المسلم وهي أنه لا يمكن وجود وقت خال في حياة المسلم ليس فيه وظيفة للدنيا أو للآخرة، وحتى إن كانت للدنيا فهي للتزود والتقوي بها على أمور الآخرة.. كما ينبغي ضرورة تبصير المسلمين أنه لا يمكن تصور وجود وقت زائد عن حاجة المسلم، يكون فيه متحررًا من القيود أو التكاليف الشرعية.

المبحث الثالث : مفهوم الترويح وآثاره

الآثار الإيجابية المترتبة على الترويح *

* الآثار السلبية المترتبة على الترويح

* عوامل التباين في ممارسة الترويح

يدور معنى كلمة الترويح في أصلها اللغوي على السعة والانبساط، وإزالة التعب، ورجوع النشاط إلى الإنسان، وإدخال السرور على النفس بعد العناء، ويقال: رجل أريحي، أي واسع الخلق نشيط.. وأراح الرجل، أي: رجعت له نفسه بعد الإعياء(1). وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها )(2).

وتتعدد تعريفات المختصين للترويح وتتباين باختلاف نظرة من يقوم بتعريفه.. ومن هذه التعاريف أن الترويح هو:
- إعادة إنعاش الروح وإحياء القوة بعد تعب.
- إدخال السرور على النفس.
- نشاط ذو فائدة ما، يمارس اختياريًا أثناء وقت الفراغ، بدافع ذاتي من الرضا الشخصي الذي ينتج عنه.
- النشاط الذي يختاره الفرد ليمارسه في وقت فراغه.
- مزاولة أي نشاط في وقت الفراغ، بهدف إدخال السرور على النفس، دون انتظار أي مكافأة(3).
ويمكننا تحديد مفهوم أدق لمصطلح الترويح من المنظور الشرعي بأنه: ( نشاط هادف وممتع للإنسان، يمارسه اختياريًا وبرغبة ذاتية، وبوسائل وأشكال عديدة مباحة شرعًا، ويتم في أوقات الفراغ).

من آثار الترويح

يكتسب الترويح أهميته من الآثار المترتبة عليه، فمن الآثار التي ينتجــها الترويــح تكــون الدوافــع لدراسته والاهتمام به، ومما يلاحظ في معظم الدراسات أنها تربط دائمًا بين الانحراف والترويح، وكأن الترويح لا يولّد إلا انحرافًا، أو كأنما الانحراف نتيجة لازمة من نتائج الترويح، وخاصية أساس من خصائصه، وليس ذلك بصحيح، فبقدر ما يحمل الترويح من آثار سلبية، فهو في الوقت نفسه ينتج لنا آثارًا إيجابية، بل إن إيجابياته أكبر وأسهل تحصيلاً لمن يوفقه الله إلى ذلك، وبخاصة إذا تعاملنا معه وفق النظرة الشرعية بضوابطها وأهدافها التي سترد لاحقًا.

أولاً: الآثار الإيجابية المترتبة على الترويح:

هناك العديد من الآثار الإيجابية المصاحبة للعملية الترويحية بشتى صورها وأشكالها، إلا أننا نجد أن لكل شكل من الأشكال، ولكل منشط من المناشط الترويحية المختلفة التي يمارسها الإنسان فوائد محددة، ومن ذلك:

1) إشباع الحاجات الجسمية للفرد: ويتم ذلك بممارسة الرياضة البدنية وليس بمشاهدتها فقط، كما يحدث بين نسبة كبيرة من أفراد المجتمع، حيث تؤدى ممارسة الرياضة البدنية بشتى أنواعها غالبًا إلى إزالة التوترات العضلية وتنشيط الدورة الدموية، وتحسين أداء الأجهزة الرئيسة بالجسم، كالجهاز التنفسي والهضمي، إضافة إلى اكتساب قوام معتدل.

2) إشباع الحاجات الاجتماعية للفرد: فمن المعلوم أن معظم الأنشطة الترويحية تتم بشكل جماعي، وهذا يساعد الفرد حين ممارستها على اكتساب الروح الجماعية والتعاون والانسجام والقدرة على التكيف مع الآخرين، وهذا يؤدي إلى تكون علاقات اجتماعية ناجحة مع الآخرين وإلى نمو اجتماعي متوازن.

3) إشباع الحاجات العلمية والعقلية للفرد: وهذا يتأتى من خلال الأنشطة الترويحية الابتكارية التي يمارسها الفرد في حياته اليومية، فهذه الأنشطة تؤدي في الغالب إلى تنمية القدرات العقــلية والتفاعل الإيجابي مع المواقف المختلفة، كما تساعد هذه الأنشطة الترويحية الابتكارية على تطوير القدرة الإدراكية والاستيعابية للمواقف المختلفة.

4) قد تكون الأنشطة الترويحية عاملاً مساعدًا في رسم مهنة المستقبل للفرد، من خلال تنمية مهاراته وقدراته التي غالبًا ما تبدأ بهواية يمارسها الفرد في حياته اليومية، ثم ينميها ويطورها، حتى تنتهي بمهنة يحترفها في المستقبل.

5) تساعد الأنشطة الترويحية على اكتشاف العديد من السجايا والأخلاق والطباع التي يحملها الأفراد، إذ غالبًا ما يكون الفرد على سجيته ودون تصنع أو تكلف في أثناء ممارسته للترويح.

6) الأنشطة الترويحية قد تكون منشطة للحركة الاقتصادية في المجتمع، من خلال جعل الأنشطة والبرامج الترويحية موارد استثمارية، وبخاصة إذا تم التعامل معها وفقًا للنظرة الشرعية للترويح، وإلا أصبحت ذات آثار سلبية.

7) تساعد الأنشطة الترويحية على إحداث مزيد من الترابط الأسري بين أفراد الأسرة الواحدة حين ممارستها بشكل جماعي، وبشرط أن تكون تلك الأنشطة ذات صبغة إيجابية تفاعلية، أما إذا كانت البرامج الترويحية سلبية أو استقبالية محضة، مثل: مشاهدة التلفزيون فقط، فهذه الممارسات الترويحية قد تؤدي إلى عكس النتائج الإيجابية المتوقعة، فكلما ارتفعت نسبة المشاركة بين أفراد الأسرة في الأنشطة الترويحية أدى ذلك إلى مزيد من التماسك الأسري(4).

تؤدي الأنشطة الترويحية -إذا أحسن الإنسان استثمارها وممارستـها بشكــل إيجــابي- إلى زيــادة الإنتاجيـة لديــه، إذ تعد هذه الأوقات فرصة لالتقاط الأنفاس، والترويح فيها، مما ينعكس بأثره الإيجابي على فعاليات الفرد ونشاطه وحيويته حال عودته للعمل.

ثانيًا: الآثار السلبية المترتبة على الترويح:

1) يرى كثير من الباحثين أن الترويح عامل رئيس في انحراف الأحداث، ويؤدي دورًا لا يستهان به في حياتهم، ويستندون في ذلك إلى العديد من الدراسات والأبحاث التي تربط بين الانحراف من جانب ومتغيرات الترويح، وهذه المتغيرات يقصد بها مكان الترويح، وزمانه، والمشاركين فيه(5).

2) يؤدي الترويح إذا تم استغلاله بشكل سلبي إلى وجود حالة من الملل في حياة الفرد، إذ لا يُتصور حياة لا يمارس فيها عمل، لا للدنيا ولا للآخرة، وهذا الملل ينقل الفرد إلى حالة من القلق.

3) ممــارسـة الأفــراد أو المجتمـعات للتــرويح بشكل كبـيـر قد يدفع بالمجتمع إلى وضع استهلاكي ضار، إذ تنصرف نسبة كبيرة من موارده إلى جوانب كمالية زائدة عن حاجته، إذ ممارسه الترويح في الغالب تنصبغ بالصفة الاستهلاكية غير المنضبطة ماديًا.

4) بعض الأنشطة الترويحية تؤدي إلى تغيرات اجتماعية ذات صبغة سالبة، فمنها على سبيل المثال ما أحدثه التلفاز في أنماط الاجتماعات العائلية والأسرية، فلم تعد تجمعات الناس مع وجود التلفاز ذات طبيعة جماعية كما كانت ســابقًا، فهو يوحدهم شكليًا ولكنه من الناحية السيكولوجية يفرق ويقــطـع الصـلات بينـــهم، وهذا التجــمع المــادي الجســدي لا يكفي لتحقيق التقارب الاجتماعي.

وتلـك الآثار المتــرتــبة على التــرويــح، سـواء الإيجابي منها أو السلبي، تتضافر عدة جهات في صنعها في حياة الأفراد، فلكل من الأسرة، والمدرسة، والمجتمع بشكل عام دور في هذه الآثار، فنجد أن من مهام الأسرة التربوية لأفرادها تعليم أبنائها كيفية الاستفادة من الترويح، والعمل على استثماره الاستثمار الصحيح، واستغلاله في ممارسة الأنشطة الإيجابية الابتكارية، بالإضافة إلى تهيئة الوسائل الترويحية المناسبة لهم من الناحية العمرية والشرعية والتربوية، ومشاركة الأبوين للأبناء في الترويح. وبذلك نستطيع أن نضمن وجود الآثار الإيجابية له وتجاوز آثاره السلبية، وبخاصة أن العديد من الدراسات تؤكد أنه كلما زادت ممارسات أفراد الأسرة الواحدة مع بعضهم البعض للأنشطة الترويحية كان ذلك محدثًا لمزيد من الترابط الأسري بين أفرادها(6).

أما المدرسة فدورها لا يمكن إغفاله في تربية الطلاب على حسن التعامل الأمثل مع الترويح وتحقيق الآثار الإيجابية من خلال ممارسة الأنشطة الترويحية الإيجابية والابتكارية، وتهيئة الظروف المكانية والزمانية المناسبة لتحقيق ذلك للطلاب.

أما المجتمع بشكل عام، فدوره في صنع تلك الآثار الإيجابية للترويح يتحقق من خلال إيجاد المناخ الترويحي السليم، بتهيئة وسائل الترويح الإيجابية المتمشية مع نظم المجتمع وقواعده، وإيجاد الأماكن الترويحية المأمونة التي تعمل على جذب أفراد المجتمع لها، وكل ذلك يتأتى بمراعاة الضوابط الشرعية عند تهيئة تلك الوسائل الترويحية والأماكن الخاصة بها، أو حين استجلاب أي نوع مستحدث من الممارسات الترويحية.

العوامل المؤدية إلى التباين في ممارسة الترويح:

تختلف الأنشطة الترويحية التي يمارسها الأفراد بتأثير من متغيرات عدة، كما أن دوافع ممارسة الترويح وأسبابه تختلف من فرد إلى آخر، وأبرز تلك العوامل المسببة لذلك التباين ما يلي:

أ- الجنس: تختلف الأنشطة الترويحية باختلاف الجنس، فالذكر له أنشطة ترويحية تناسبه، كما أن للأنثى، أنشطة أخرى تناسبها، فالذكور يميلون إلى الأنشطة ذات الطابع البدني التنافسي، في حين تقبل الإناث على النشاطات الترويحية الهادئة التي تمارس غالبًا في المنزل أو مع الصديقات. ومنشأ هذا التباين في الأنشطة الترويحية طبيعة كل منهما، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي وواضح في المجتمعات المسلمة التي تراعي ذلك الأمر.

ب- العمر: يؤثر العمر في تحديد نوع النشاط الترويحي، فالأطفال لهم أنشطتهم الخاصة، وفي الغالب أنها ذات طابع حركي مستمر ومتواصل، في حين تكثر الأنشطة الثقافية والقراءة والرحلات بين البالغين، بينما تمتاز أنشطة فئة الشباب بالتنوع، إلا أن الجانب الرياضي والرحلات البرية تطغى عليها.

جـ- المستوى التعليمي: يتدخل المستوى التعليمي بشكل كبير في تحديد النشاط الترويحي الذي يمارسه الأفراد خلال أوقات فراغهم، فالقرءاة مثلاً سنجدها تكثر بين ذوي المستويات التعليمية المرتفعة.

د- المستوى الاقتصادي للأفراد: يؤثر هذا العامل من خلال القدرة على تهيئة وتوفير الوسائل والأدوات التي من خلالها يمارس الفرد الأنشطة الترويحية، فالرحلات الخارجية والسفر والسياحة قد لا تتحقق لأصحاب الدخول المنخفضة.
هـ- مقدار وقت الفراغ: وهذا العامل يؤثر بشكل كبير وأساس في تحديد نوعية النشاط الترويحي، إذ هناك من الناس من ينصرف عن ممارسة نشاط معين لأنه يحتاج إلى وقت فراغ كبير قد لا يتوفر له.

و- مكان الترويح ونوعية المشاركين: إذ غالبًا ما يتأثر الفرد بمن حوله ويندمج معهم في ممارسة النشاط الترويحي لمجرد أنه يشاهد غيره يمارسه.

ز- المستوى الاقتصادي والمادي للمجتمع: لكل مرحلة من مراحل نمو المجتمع الاقتصادية ما يناسبها من الأنشطة الترويحية، فإن كان المجتمع يمر بمرحلة تدهور اقتصادي فهذا الوضع الاقتصادي المتردي سيجعله يمارس أنشطة ترويحية تختلف عن الأنشطة الترويحية التي سيمارسها حين ظهور تحسن اقتصادي ورخاء مادي، فمقدار الدخل السنوي للأفراد، ومستوى المعيشة للمجتمع بشكل عام، له أثره في بروز أنشطة ترويحية والتركيز عليها دون غيرها.

حـ- خصوصية المجتمع العقدية والثقافية: إن طبيعة المجتمع وخصائصه العقدية والثقافية التي تميزه عن المجتمعات الأخرى، لها دور كبير ومهم في تحديد نوعية الأنشطة الترويحية التي يمارسها أفراده، ولا يمكن إغفال دورها في ظهـور أنشطـة ترويحية تتـناسب وطبيـعة ذلك المجتــمع، كما تؤدي هذه الخصوصية للمجتمع إلى اختفاء أنشطة ترويحية أخرى، وسيرد الحديث مفصلاً عن هذا الجانب المهم في مبحث مستقل بإذن الله تعالـى.


الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) Empty
مُساهمةموضوع: رد: الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية)   الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) Emptyالخميس 04 نوفمبر 2010, 6:52 am

المبحث الرابع : الترويح في الإسلام

يعد الترويح في الإسلام أمرًا مشروعًا، بل ومطلوبًا، طالما أنه في إطاره الشرعي السليم المنضبط بحدود الشرع التي لا تخرجه -أي الترويح- عن حجمه الطبيعي في قائمة حاجات النفس البشرية.. فالإسلام دين الفطرة، ولا يُتصور أن يتصادم مع الفطرة، أو الغرائز البشرية في حالتها السوية.

ومن هنا فقد أجاز الإسلام النشاط الترويحي الذي يعين الفــرد المســلم على تحمــل مشــاق الحيـاة وصعــابــها، شــريــطــة ألا تتعارض تلك الأنشطة مع شيء من شرائع الإسلام، أو يكون فيها إشغال عن عبادة مفروضة، والأصل في ذلك الحديث الذي يرويه حنظلة رضي الله عنه حيث يقول: ( لقيني أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: كيف أنت يا حنظلة ? قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول ? قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى وكأنّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، قال أبوبكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلـقت أنا وأبـو بكر الصديق حتى دخلنا علـى رســول الله صلى الله عليه وسلم، قلــت: نافــق حنظــلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك ? قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسيــنا كــثيـرًا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده أن لو تَدُومُون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طُرِقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات )(1).

ولا شك أن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لتأثر نفس حنظلة رضي الله عنه المؤمنة وتقلبها بين مجالات الجد وأنماط العبادات من جهة، وبين متطلبات النفس من مرح وانبساط من جهة أخرى، هو اعتراف ودليل سماوي على اعتبار الترويح والترفيه، وأنه من كمالات النفس ولوازمها الأساسية لأداء حقوق الخالق والمخلوق(2).

كما أكدت السنة مبدأ الترويح في الإسلام، ومن ذلك ما ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ? قال: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا )(3).

وكذلك مما يؤكد على مراعاة الإسلام لمبدأ الترويح في حياة المسلم، الأثر الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: ( روحوا القلوب ساعة وساعة )(4).

ومن الآثار المؤكدة لمبدأ الترويح في الإسلام ما يروى عن علي رضي الله عنه: ( أجموا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكــمة، فــإنها تمــل كمــا تمــل الأبــدان )(5)، ومــا يــروى عــن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( أريحوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمي ). وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياتهم العادية، فيعطون أنفسهم حقوقها من الراحة والترفيه، ففي الأثر الذي يرويه البخاري: ( كان أصحابه صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال )(6).

وفي هذه الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم، دلالة على مراعاة الإسلام لحق النفس في الراحة، وإعطائها حقها من ذلك، طالما أنه ضمن الإطار الشرعي، وداخل الحدود المقبولة اجتماعيًا.

والإســلام حـين يــقر الجانب الترويحي في حيـــاة المسلم، فهو ينطلق من مراعاته للفـطرة البشــرية، والغرائز التي أودعها الله في النفس البشرية، ويتعامل مع واقع الإنسان وظروفه، وليس معنى ذلك الرضا بواقع الإنسان أيًا كان، بل هو يراعي طبيعة الإنسان الضعيفة، وحقيقة واقعها اليومي والحياتي الذي تعيشه.

والمنطلق الآخر الذي تنطلق منه مشروعية الترويح في الإسلام هو: شمولية هذا الدين بتشريعاته لجميع جوانب حياة الإنسان: الجسمية، والروحية، والعقلية، والنفسية، والاجتماعية، والغريزية، فالشمول أحد خصائص هذا الدين العظيم وميزاته.

ومن هنا اعترف الإسلام، انطلاقًا من واقعيته وشموليته، بحق البدن في أخذ نصيبه من الراحة والاستجمام، كما اعترف بحق الروح في أن تنال حظها من الترويح والترفيه، ليقوي كل منهما الآخر على تحقيق العبودية لله بمعناها الشامل.

ومما لا شك فيه أن الأصل في الترويح أن يتلازم مع وقت الفراغ ويمارس فيه، كما يجب أن يكونا متعادلين في الكمية، فلا يطغى أحدهما على الآخر.. فزيادة وقت الفراغ في حياة الإنسان وتركه دون استغلال يحوله إلى مشكلة، وزيادة الترويح على أوقات الفراغ يحوله إلى لهو ولعب.

لذا نجد أن ( الإسلام يُقوِّم عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا بأنه أسمى وأغــلى من أن تضيع فقــراته بين لـهو عابث سخيف لا قيمة له، ولعب باطل لا يأتي من ورائه بمنفعة دنيوية عظيمة ولا أخروية نبيلة، فهو مسؤولية في عنق المسلم يحاسب عليه يوم القيامة )(7).

وهذا ما جعل الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.. وكذا ما ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه في قوله: إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو، ليكون أقوى لي على الحق. وهذا يعني أن الترويح يمكن أن يكون له بعد تعبدي إذا احتسبه الإنسان قربة لله، أو ليتقوى به على الطاعة.

وعلى ذلك تصبح جميع حياة المسلم تعبدية ما دامت مقترنة بالنية الصالحة، حتى في الجماع مع الزوجة، فلقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( ... وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ? فقال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس كان يكون عليه وزر ? قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال له الأجر )(8).

المبحث الخامس : ضوابط الترويح في المجتمع المسلم

يتصف كل مجتمع بخاصية تميزه عن غيره من المجتمعات الأخرى، وتنبع تلك الخاصية من روافد عدة، أهمها وأبرزها الدين الذي يعتنقه ذلك المجتمع، وغالبًا ما تتشكل بناءً عليه العديد من العادات والتقاليد والأعراف التي تتكون على آماد طويلة، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من كيان المجتمع ونسيجه الخاص به، وبالتالي يقوم أفراد المجتمع بممارستها وتبنيها والدفاع عنها.

ولهذا فإنه من الخطأ أن ننظر للمجتمع بمعزل عن هذه الخصوصية التي يتميز بها، كما لا يمكن تجاهلها حين التعامل مع الظواهر الاجتماعية التي يزخر بها. وغالبًا ما يكون لعقيدة المجتمع دور في تحديد خصوصيته، فهناك عملية تفاعل متبادلة بين عقيدة المجتمع، وبين الأنشطة الترويحية التي تمارس فيه.

وتعد الأنشطة الترويحية التي يمارسها أفراد المجتمع ظاهرة اجتماعية تتأثر -كغيرها من الظواهر الاجتماعية الأخرى- بقيم المجتمع العقدية والثقافية، والأفكار، والعادات، والتقاليد، وغالبًا ما تكــون الأنــشـطة الترويـحــية الســائدة في المجتـمع نابعة منها أو متأثرة بها(1).

وعلى ذلك فإن الترويح إذا لم يستمد وسائله من البيئة التي يوجد بها فإنه يصبح عاجزًا عن العطاء، وعاجزًا عن تحقيق الأهداف التي يسعى إليها..
ويقصد بالوسائل هنا:

* الوسائل المادية، مثل الموارد المتاحة من البيئة الطبيعية، ومن الواقع المحلي.
* الوسائل غير المادية المتأثرة بالبعد العقائدي، والثقافي، والفكري للمجتمع(2).
ومن هنا فلا يمكننا أن نتعامل مع الأنشطة الترويحية التي يمارسها الإنسان خلال وقت الفراغ في أي مجتمع من المجتمعات بمعزل عن تلك الخصوصية التي يتميز بها المجتـمع، وبخــاصة عند وضــع الخطــط للمناشــط الترويحية فيه، أورسـم برامجها، أو تصميم المنشآت التي يمارس فيها أفراد المجتمع الأنشطة الترويحية التي يرغبها، لأجل ذلك نجد أن العديد من الدراسات تؤكد على ضرورة مراعاة خصوصية كل مجتمع وعدم التصادم معها عند التخطيط.

إننا عندما نراعي قيم المجتمع الذي نخطط برامجه الترويحية، ونضع ذلك في اعتبارنا حين تصميم منشآت البرامج والأنشطة الترويحية، ونأخذ بالاعتبار أيضًا أعراف هذا المجتمع، وعاداته وتقاليده، فإننا نضمن النجاح التام بإذن الله، بالإضافة إلى تحقيق أقصى فاعلية في الإنتاجية الاستثمارية للبرامج الترويــحيـة التي نقــدمها لـذلك المجتــمع. وبغير ذلك فــإن الأمر لا يعدو أن يكون هدرًا ماليًا وبشريًا على حساب المجتمع.

لذلك لا عجب أن نرى فشل العديد من البرامج والأنشطة الترويحية التي نخطط لها في عالمنا المعاصر، وما ذلك إلا بسبب النقل الحرفي لأنماط غريبة عن مجتمعاتنا الإسلامية، ودونما مرعاة لخصوصية المجتــمعات التي نقلت منها هذه البرامج الترويحية، أو التي نقلت إليها هذه البرامج، فقد يفشل البرنامج الترويحي نفسه الذي نجح نجاحًا كبيرًا في مجتمع آخر والعكس صحيح، وهذا يعود إلى التباين في المنطلقات العقدية، والخلفيات الثقافية للمجتمعات المنقول منها أوالمنقول إليها.
ومما لا شك فيه أن المجتمع المسلم المعاصر يواجه سيلاً من الأشكال والأساليب الترويحية وهي على قسمين:
أحدها: وفد إليها من خارج أرضها، وفي بعضها ما يخالف قيم المجتمع المسلم وأعرافه وتقاليده.
والآخر: نابع من داخل المجتمع ومنطبع بقيمه وتقاليده وأعرافه.
وتتزايد تلك الأشكال والأساليب الترويحية يومًا بعد يوم، مما يحتم وضع قواعد عامة وضوابط محددة تقاس عليها تلك المناشط والبرامج لمعرفة مدى مناسبتها للمجتمع من عدمه.

وحتى يحقق الترويح دوره كاملاً في المجتمع المسلم، ينبغي مراعاة عدد من الضوابط الشرعية والأخلاقية العامة، التي يمكن إجمالها فيما يلي:
أولاً: ضوابط تتعلق بالنشاط الترويحي ذاته
قبل ممارسة النشاط الترويحي لا بد من التعرف على الحكم الشرعي فيه، إذ توجد بعض الأنشطة الترويحية محرمة في الإسلام ابتداءً، ومن ذلك:
أ- النـــشــاط التــرويحي الذي يصاحبه أو يكون فيه سخريـــة بالآخــرين، أو لمزهم، أو ترويع لهم. قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } ( الحجرات:11). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها )(3)، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: ( لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا )(4).

ب- النشاط الترويحي الذي يصاحبه أذية بقول أو فعل للآخرين، أو ضرر بدني أو معنوي للآخرين. قال تعالى: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينا } ( الأحــزاب:58)، وللحــــديث المتــفق عليــه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )(5).

جـ- النشاط الترويحي المحتوي على الكذب والافتراء، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ويل للذي يحدث فيكذب ليُضحك به القوم، ويل له، ويل له )(6).

د- المناشط الترويحية القائمة على المعازف أوالموسيقى المحرمة، لورود الأدلة على عدم جوازها، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف )(7). وفي الحديث أن كل ما ذكره صلى الله عليه وسلم حرام، إلا أن قومًا من أمته يستحلونها وهي محرمة، ومن ذلك المعازف(8).

هـ- المسابقات القائمة على اتخاذ الحيوانات غرضًا يرمى، للحديث المتفق عليه الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا )(9).

و- الترويح القائم على التحريش بين البهائم، كما يحدث في بعض المجتمعات عند تنظيم مسابقات المناطحة بين البهائم، أو المناقرة بين الديوك، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن رسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التحريش بين البهائم )(10). والتحريش هو: إغراء وتحريض البعض على الآخر.

ز- المسابقات التي يستخدم فيها أدوات ورد النص الصريح بتحريمها مثل النرد، لما رواه سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لعب بالنردشير(11)فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه )(12). وفي الموطأ أن عائشة رضي الله عنها بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانًا فيها وعندهم نرد، فأرسلت إليهم لئن لم تخرجوها لأخرجنكم من داري، وأنكرت ذلك عليهم...).. كما روى مالك رحمه الله في الموطأ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه إذا وجد أحدًا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها)(13).

ثانيًا: ضوابط تتعلق بالمشاركين في الترويح

من المعلوم أن معظم الأنشطة الترويحية التي يمارسها الفرد تكون بشكل جماعي، وهذا يؤكد أهمية وضع عدد من الضوابط التي تتعلق بجماعة الترويح المشاركة للفرد في الأنشطة الترويحية، ومنها:
أ- التأكد من خيرية تلك الجماعة، فالرفقة السيئة لها دورها السلبي الذي لا ينكر على الفرد، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل )(14).

ب- عدم الاختلاط بين الجنسين، لقول الله عز وجل: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن... } ( الــنـــــور:30-31)، وللحديث الذي يرويه أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء )(15).

ولا يخفى على اللبيب ما يؤدي إليه الاختلاط بين الرجال والنساء من مفاسد سلوكية وأخلاقية تئن منها المجتمعات التي عاشت الاختلاط، إضافة إلى أن ما يناسب الذكور من الترويح في الغالب لا يناسب الإناث.

ثالثاً: ضوابط تتعلق بوقت الترويح

ومن تلك الضوابط ما يلي:

أ- يجب ألا يكون الترويح في الوقت المخصص لحقوق الله، أو حقوق الناس، فلا ترويح في أوقات الصلاة مثلاً، لما فيه مــن اعتـداء عــلى حقـوق الله، لقــوله عز وجل:
{ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } ( البقرة:238)
ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه: ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال أفضل? قال: الصلاة لوقتها وبر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله ) (16).
وكذلك لا ترويح في أوقات العمل، إذ فيه اعتداء على حقوق الناس.

ب- عدم الإفراط في تخصيص معظم الأوقات المباحة للترويح، فالاعتدال والتوسط من خصائص هذا الدين وسمة أساسية من سماته.

رابعًا: ضوابط تتعلق بمكان الترويح

من أبرز الضوابط التي يلزم مراعتها فيما يتعلق بمكان الترويح ما يلي:
أ- عدم إلحاق الأذى بذات المكان أو منشآته، فأمكنة الترويح حق مشترك بين جميع الناس، فمن أفسد على الناس مكان ترويحهم فقد اعتدى عليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله ? قال: الذي يتخلّى' في طريق الناس أو في ظلهم )(17).

ب- عدم مضايقة المقيمين، أو العابرين، أو المستفيدين من أمكنة الترويح، وهذا ينطبق على البراري، والمتنزهات السياحية، والساحات العامة، لقوله تعالى: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا } ( الأحزاب:58)، ولحديث: ( فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناسِّ الذي يُحبُّ أن يُؤتى' إليه... )(18).

جـ- اختيار المكان المناسب للترويح حسب نوع الترويح، فما يصلح في الساحات العامة قد لا يصلح في المنزل.

خامسًا: ضوابط تتعلق بزي الترويح

ويقصد بذلك الالتزام باللباس الشرعي وفق ما حدده الشرع، سواء للذكر أو للأنثى، فعورة الرجل من السرة إلى الركبة، للحديث الذي يرويه محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر على معمر رضي الله عنه، وهو جالس عند داره بالسوق وفخذاه مكشوفتان، فقال صلى الله عليه وسلم: ( يا معمر غط فخذيك فإن الفخذين عورة )(19). والمرأة كلها عورة بحضرة رجال غير محارم لها، إلا أن تكون من القواعد من النساء لقوله صلى الله عليه وسلم: ( المرأة عورة وأنها إذا خرجت استشرفها الشيطان، وأنها أقرب ما تكون إلى الله وهي في قعر بيتها )(20).

سادسًا: ضوابط عامة

أ- مراعاة الأخلاق العامة، مثل تجنب الغضب، والكلام البذيء، والغش، ومثيرات العداوة والبغضاء، والتعدي على الآخرين.

ب- مراعاة التنوع في الترويح، فلا يركز على أحد الجوانب الترويحية دون الجوانب الأخر.

جـ- مراعاة الصحة العامة والنظافة بشكل عام في جميع الممارسات الترويحية.

د- منع الصرف الزائد على الجوانب الترويحية، وإعطاء كل ذي حق حقه في الصرف.

هـ- عدم التبعية وتقليد الآخرين في استجلاب أنماط ترويحيــة لا تتوافق وقيم المجتمع المسلم، فإن ما يصلح لغير المسلمين من أنماط ترويحية متسقة ومستمدة من قيمهم ودينهم لا يصلح للمسلمين، لحـديث ابن عــمر أن رســول الله صلى الله عليه وسلم قــال: ( من تشبه بقوم فهو منهم )(21).

والمطالبة بعدم التقليد والتبعية لا تعني عدم الاستفادة من الآخرين، بل تعني ضبط هذه الاستفادة وإخضاعها للمراقبة والتقويم، وتكييف الأنشطة الترويحية المجلوبة مع قيم المجتمع وثقافته.

ومما لا شك فيه أن المجتمع المسلم في حالة أخذه بتلك الضوابط فإنه يعمل بشكل مباشر على إنجاح برامجه الترويحية، لأنه أخذ في الاعتبار الخصوصية التي يتميز بها عن غيره من المجتمعات على سطح الأرض، وهذا بدوره يؤدي إلى تحقيق النتائج المتوقعة من البرامج الترويحية، وليس هذا فحسب، بل ستكون في أقصى درجات الإيجابية على الفرد وعلى المجتمع بصفة عامة، فضلاً عن تحقيق التوازن في حياة الفرد، والمجتمع المسلم في أوضح صوره ومعانيه، إضافة إلى الاقتراب من التكامل في حياة المجتمع المسلم، وتحقيق المقاصد المستهدفة من التواصي بالحق والتواصي بالصبر.

ولقد غفل عن هذا المبدأ المهم في عملية التخطيط للبرامج الترويحية -وهو مبدأ الأخذ بعين الاعتبار خصوصية المجتمع- بعض من كتب في الأنشطة الترويحية وأوقات الفراغ، إضافة إلى إهمالهم بعض الضوابط السابقة، مما يجعلنا نحكم بفشل تلك البرامــج وعــدم منــــاسبتها بشــكـلها المـطــروح دونمــا تعديل..

ومما يؤسف له أن معظم كتب الترويــح العــربـية تــورد أنشــطــة لا تتناسب والمجتمع المسلم، فقلما نجد كتابًا من الكتب المذكورة يخلو من الحث أو التشجيع على ممارسة الموسيقى والعزف، والغناء والرقص، وإقامة نواد لها، بل واعتبارها جانبًا مهمًا في العملية الترويحية، على الرغم من ورود الأدلة العديدة والصريحة في تحريمها.

كما تقوم بعض هذه الكتب بالحث على ممارسة المراسلة بين الجنسين، وكذلك الدعوة إلى أنشطة سلبية وضارة وبعيدة كل البعد عن الفائدة والابتكار، بل هي تبعية وتقليد محض، وذلك مثل الحث على جمع الأزارير، أو إقامة حفلات أعياد الميلاد، والحفلات التنكرية، وحفلات الأزياء.
وبالجملة ينبغي أن تراعى بعض القواعد الرئيسة حين التخطيط للأنشطة الترويحية، والبرامج الترفيهية، في المجتمع المسلم، ومن هذه القواعد والأسس ما يلي:

1) يجب أن تكون الأنشطــة الترويــحيــة مباحة في الإسلام، وألا تتعارض مع قواعده العامة.

2) أن تعمل الأنشطة الترويحية على تحقيق الأهداف العليا للأمة الإسلامية.

3) أن تكون تلك الأنشطة الترويحية محققة للمصلحة العامة للأفراد والمجتمع بشكل عام(22).

ففي ظل هذه الأسس والقواعد العامة، التي تكون إطارًا عامًا تدور حول محوره الأنشطة الترويحية والبرامج الترفيـهية التي يتم تخطيطيها وتقديمها في المجتمع المسلم ولأفراده، نضمن -بإذن الله تعالى- النجاح لهذه البرامج الترويحية وتحقيقها لأهدافها، وحسن استغلال الوقت بصفته ثروة تمتلكها الأمة ضمن ما تمتلكه من ثروات.

أما بغير ذلك فإننا من المؤكد سنجد أنفسنا في تخبطات يمارسها المخططون لبرامج ترويحية وترفيهية، تعجز عن تلبية حاجيات المجتمع المسلم وأفراده، فضلاً عن الآثار السلبية التي سيجنيها المجتمع اجتماعيًا، واقتصاديًا.

المبحث السادس : الترويح في العصر النبوي

أولا : أهداف الترويح في العصر النبوي

ثانيا: نماذج من الترويح في العصر النبوي

أولاً: أهداف الترويح في العصر النبوي

إن مما ينبغي ملاحظته في المناشط الترويحية التي كانت تزاول في المجتمع الإسلامي الأول، أنها كانت تستهدف في غايتها النهائية عددًا من المقاصد الأخروية والأهداف الدنيوية، ولم تكن هذه الممارسات الترويحية بهدف الترويح فحسب، بل يصاحب ذلك أهداف سامية أخرى، ومن ذلك:

تربية أفراد المجتمع المسلم على الجد، وتهيئتهم لخدمة الإسلام من خلال ممارسة المناشط الترويحية، مثل: التدرب على المنازلة في الحرب، والرمي، وركوب الخيل، وهذا واضح في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بالخيل التي قد أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع. وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وكان ابن عمر فيمن سابق بها)(1).

وكذلك في الحديث الذي يرويه مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو على المنبر- يقول: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ).

قال النووي رحمه الله: ( وفي الحديث فضيلة الرمي والمناضلة، والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله تعالى، والمراد بهذا كله التمرن على القتال والتدرب والتحذق فيه، ورياضة الأعضاء )(2).

ب) التودد إلى أفراد المجتمع المسلم، وتحبيبهم في الإسلام، كما في مشاركته صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه رضي الله عنهم في الرمي بالنبال، ففي الحديث الذي يرويه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق، فقال: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا، وأنا مع بني فلان -لأحد الفريقين- فأمسكوا بأيديهم، فقال: ما لهم? قالوا: وكيف نرمي وأنت مع بني فلان? قال: ارموا وأنا معكم كلكم)(3).

جـ) العمل على تحقيق الترابط الأسري وتقويته، والتحبب إلى الزوجة، ومصداق ذلك ما ورد في مسابقته صلى الله عليه وسلم لزوجه عائشة رضي الله عنها.. فعنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً، فقال لها: تعالي حتى أسابقك، قالت: فسابقته فسبقته. وخرجت معه بعد ذلك في سفر آخر فنزلنا منزلاً، فقال: تعالي حتى أسابقك، قالت: فسبقني، فضرب بين كتفي، وقال: هذه بتيك )(4).
وفي الحديث الذي أخرجه الدارمي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق )(5).

د) إعداد الإنسان المؤمن القوي بدنيًا ونفسيًا واجتماعيًا، وذلك تحقيقًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير... )(6).

هـ) إظهار الفسحة في الدين، وإبراز محاسن الإسلام وسماحته وتيسيره في مراعاة النفس واستعداداتها، ففي الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند، أن عائشة رضي الله عنها، قالت: إنها كانت تلعب بالبنات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بصواحبي يلعبن معي، وقالت رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بعثت بحنيفية سمحة )(7).

و) إزالة ما قد يعتري المسلم من هم في هذه الحياة الدنيا، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما على أحدكم إذا ألح به همه أن يتقلد قوسه فينفي به همه )(8).
والحديث يفيد اتخاذ ما يزيل الهم بوسيلة من وسائل الترويح المشروعة كتقلد القوس.

ومما يــؤكد خيـريــة الهــدف من وراء مـزاولة الترويح في عــصر الصحابة رضي الله عنهم، أنه لم ينــقل وقــوع اختــلاف أو تشاحن بينهم أثناء الممــارسات الترويحيــة التي كانوا يقومون بها أو بعدها.

ومن هنا ينبغي للمسلم استحضار هذه الأهداف عند العزم على ممارسة أي جانب من جوانب الترويح، أو حين ممارسته للترويح بشتى أنواعه المشروعة، ولا بد من استصحاب النية الصالحة التي من خلالها يطلب الاقتداء بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام عليهم رضوان الله، لينال بذلك الأجر في الآخرة والمنفعة الدنيوية، ففي الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى... )(9).

ثانيًا: نماذج من الترويح في العصر النبوي

تقدم الحديث عن أن معظم الكتب التي تناولت الترويح في وقتنا المعاصر لم تعن بذكر الأنشطة الترويحية التي كان يمارسها أفراد المجتمع المسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن مجتمع الصحابة خال من الممارسات الترويحية، في حين تشير العديد من المواقف والحوادث إلى وجود مثل هذه الممارسات الترويحية في المجتمع الإسلامي الأول.

وليس هذا فحسب، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمارس بعض الأنشطة الترويحية مع زوجه، ومع الأطفال، ومع عامة الصحابة رضوان الله عليهم، كما كان يحث على ممارسة بعضها الآخر، وينظم بعض الأنشطة الترويحية بنفسه.. ونعرض هنا نماذج من الممارسات الترويحية التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم يزاولونها في حياتهم اليومية.

وما ذكرت هنا إلا ليعلم وجودها من جانب، وليعلم أن هذا الإسلام شامل بتعاليمه كافة جوانب الإنسان المسلم، فلقد تعددت المناشط الترويحية التي كانت تمارس في المجتمع الأول، ومنها ما يلي:

أ- المسابقة بالأقدام:

وهي رياضة بدنية منشطة للجسم بشكل عام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسابق بعض أصحابه، كما سابق زوجه عائشة رضي الله عنها، وشجع على ممارسة هذا النشاط الترويحي بين الصحابة، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً، فقال: تعالي حتى أسابقك... إلخ الحديث(10).

ولقد كان صلى الله عليه وسلم ينظم مثل هذه المسابقة بالأقدام بين الأطفال، ففي الحديث أن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرًا من بني العباس، ثم يقول: من سبق إليّ فله كذا وكذا، قال: فيتسابقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره، فيقبلهم ويلزمُهُم )(11).

وكانت المسابقـة بالأقــدام أمــرًا معتادًا بين الصحابة رضي الله عنهم، فعندما قفل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غزوة تبوك، قالت الأنصار: السباق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئتم (12).
فكأن الأنصار يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في المسابقة فيما بينهم، وأذن لهم كما جاء في حديث سلمة بن الأكوع في قصة رجوعهم أنه قال: ( ... وكــان رجــل من الأنصــار لا يُســبق شدًّا، قال: فجعل يقــول: ألا مسابق إلى المدينة? هل من مسابق? فجعل يعيد ذلك، قال: فلما سمعت كلامه قــلت: أما تُكْــرِم كــريمًا ولا تَهابُ شريفًا، قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ذرني فلأسابق الرجل، قال: إن شئت، قال: قلت: اذْهَبْ إليك، وثنيتُ ِرجْلَيَّ فَطَفَرْتُ فعدوت... فسبقته إلى المدينة ) (13).

وعند البيهقي رحمه الله أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قال: سابقني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسبقته، فقلت: سبقتك ورب الكعبة، ثم سبقني فقــال: وسبقــتك ورب الكعبة... )(14).

ب- الفروسية والمسابقة بالإبل:

ومن ذلك عقد السباق بين الخيل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينظم ذلك بنفسه، فلقـد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بالخيل التي أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع -والمسافة بينها من ستة إلى سبعة أميال- وسابق بين الخيل التي لم تُضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق -وكانت بينها ميلاً أو نحوه- وكان ابن عمر فيمن سابق بها(15)، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي السابق في مثل هذه المسابقات جائزة على فوزه، ففي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ( سبّق النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل وأعطى السابق )(16). كما سابق الرسول صلى الله عليه وسلم على الإبل، فعند البخاري أن أنسًا رضي الله عنه قال: ( كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العَضْباء لا تُسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق على المسلمين، فلما رأى ما في وجوههم، قالوا: يا رسول الله سُبقت العضباء، قال: إن حقًا على الله أن لا يرتفع من الدنيا شيء إلا وضعه )(17).

وفي ذلك التصرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم التواضع الجم، والأدب الرفيع، ولا غرو في ذلك فهو القدوة في الأخلاق والسلوك عليه الصلاة والسلام.

وهذه المسابقات على الخيل والإبل مما شاع وكثرت ممارسته في عهده صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة رضـــوان الله عليــهم، فــقد روى ابن أبي شــيبة أنهم كــانوا يســابقون على الخيــل والـركــاب وعلى أقدامهم(18).

جـ- المصارعة:

وهي من أشهر أنواع الرياضة البدنية في الإسلام، ولقد كانت تمارس من قبل أفراد المجتمع في الجاهلية، وكانت حلبة المصارعة تحتل جانبًا من جوانب سوق عكاظ، الذي كانت قبائل العرب تقيمه كل عام، ويعد أكبر سوق يتجمعون فيه سنويًا.
ولقد بلغ ولوع العرب بالمصارعة أن كانوا يتجمعون لمشاهدتها في أسواقهم السنوية، وكان من أشهر المصارعين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل إسلامه(19).. فجاء الإسلام وأقر هذه الممارسة الترويحية بين أفراد المجتمع، بعد أن هذب أساليبها واستبعد منها ما لا يليق.

فلم تكن المصارعة فيما سبق على الصورة الحالية وما تحمله من وحشية وتجاوز أخلاقي وسلوكي.
ولقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرياضة، ففي سنن أبي داود ( أن رُكانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم )(20). وكان ذلك الموقف سببًا في إسلام ركانة رضي الله عنه(21).

ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صارع أفرادًا آخرين غير ركانة منهم: أبوالأسود الجمحي، وكان شديدًا قويًا.. كما كان صغار الصحابة رضوان الله عليهم يتصارعون فيما بينهم، فقد صارع الحسنُ الحسينَ رضي الله عنهما بمرأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم(22).

د- الرمي:

ويكون بالسهام، وهذا الأمر يعد من أكثر الألعاب التي كان شباب الصحابة وشيوخهم يمارسونها، ويحثون على تعلمها، وكيف لا يكون ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم مارسها وحث على تعلمها، بل وحذر مَنْ تعلّمها ونَسِيَها بالإثم، ففي الحديث الذي يرويه سلمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق، فقال: ارموا بني إسماعيل... إلخ الحديــث(23)، وفي الحديــث الآخـــر أن رســول الــله صلى الله عليه وسلم قــال: ( من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا )(24).

وكتب عمر الفــاروق رضي الله عنه إلى أبي عبيـــدة عـامر ابن الجراح رضي الله عنه: ( أن علموا غلمانكم العوم، ومقاتلتكم الرمي )(25)، وروى الهيثمي ( أن أنسًا كان يجلس ويطرح له فراش ويجلس عليه، ويرمي ولدُه بين يديه، فخرج يومًا وهم يرمون، فقال: يا بني بئس ما ترمون، ثم أخذ القوس فرمى فما أخطأ القرطاس )(26). وقال مصعب بن سعــد رضــي الله عنه: كان سعد بن أبي وقاص يقول: ( عليكم بالرمي فإنه خير لهوكم )(27).

هـ- السباحة:

وهذا نوع آخر من الممارسات الترويحية، التي كانت موجودة في العصر الإسلامي الأول، ولقد بلغت العناية بها لدى عامة المسلمين مبلغًا كبيرًا، وورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كل شيء ليس من ذكر فهو لغو ولهو أو سهو، إلا من أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلم السباحة )(28).
وهذا الفاروق يوصي عماله بتعليم أولادهم السباحة ( العوم)، فكتب إلى أمير الشام ( ... وعلموا صبيانكم الكتابة والسباحة ).

وكانت العرب في الجاهلية وأول الإسلام تطلق لقب ( الكامل ) على من يحسن الكتابة والعوم والرمي.
وقد اجتمعت هذه الخصال في أسيد بن حضير وسعد بن عبادة رضي الله عنهما.

ولقد ألف السيوطي رحمه الله، وهو من علماء القرن التاسع الهجري، كتابًا في فضل السباحة جمع فيه الآثار التي وردت في فضل السباحة والحث عليها.

كما أورد السيوطي رحمه الله حديثين يؤكد فيهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم سبح بنفسه، فيذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل هو وأصحابه غديرًا فقال: ( ليسبح كل رجل إلى صاحبه، فسبح كل رجل منهم إلى صاحبه، حتى بقي رسول الله وأبو بكر فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر حتى اعتنقه، وقال: لو كنت متخذًا خليلاً حتى ألقى الله لاتخـــذت أبا بكر خليــلاً، ولكن صاحبي )(29).
والحديث الآخر الذي يــرويه السيــوطي قوله صلى الله عليه وسلم: ( ... ههـنا نزلت بي أمي، وأحسنت العــوم في بئر بـني عدي بن النجار )(30).
و- حمل الأثقال:

وهذه الرياضة لها دور كبير في تقوية عضلات الساقين واليدين والفخذين والبطن، ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من يمارس هذا المنشط الترويحي لما فيه من جوانب ترويحية وإجمام للنفس، إضافة إلى دورها في تقوية البدن لملاقاة الأعداء ومنازلتهم.
ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبابًا يرفعون حجرًا ليروا الأشد منهم، فلم ينكر عليهم(31).
ومن المعلوم -أن عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم- عليهم فيه إقرار على ما كانوا يفعلونه، ولو كان في ذلك محذور شرعي لنهاهم عليه الصلاة والسلام.

كما ورد في الخبر أن ابن عباس رضي الله عنهما مر بقوم يرفعون حجرًا ولم ينكر عليهم، فبعد أن مر بهم قال: ما شأنهم? فقيل له: ينظرون أيهم أقوى، فقال ابن عباس: عمال الله أقوى من هؤلاء (32).

ز- وسائل ترويحية أُخَر:

وهي عديدة مثل: اللعب بالرماح والحراب، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنــظر إلى الحبـــشة يلعبـــون في المســـجد حتى أكون أنا الذي أســـأم، فاقدروا قدر الجــارية الحــديثــة السـن، الحريصة على اللهو )(33).

ومن الوسائل الترويحية كذلك: الصيد بالرماح والسهام، والصيد بالطيور والكلاب المعلمة وهذه للكبار خاصة.

حـ- ألعاب خاصة بالأطفال:

مثل المراجيح، فعند الإمام أحمد في المسـند أن عـائشة رضي الله عنها قالت: ( تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة، قبل مخرجه إلى المدينة بسنتين أو ثلاث وأنا بنت سبع سنين، فلما قدمنا المدينة جاءتني نسوة وأنا ألعب في أرجوحة وأنا مجممة، فـذهـبن بي فهيأنني وصنعـنني، ثم أتين بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبنى' بي وأنا بنت تسع سنين )(34).

ومن ألعاب الأطفال كذلك اللعب بالبنات ( العرائس ) فعن عائشة أنها قالت: ( كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله إذا دخل يَتَقَمَّعن منه، فيُسرِّبُهن إليّ فيلعبن معي )(35).

وعند أبي داود أن عائشة قالت: ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة ( لُعَب )، فقال: ما هذا يا عائشة? قالت: بناتي.. ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقــال: ما هذا الذي أرى وسطهن? قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عــليــه? قـالت: جنـاحــان، قال: فرس له جنــاحــان! قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة، قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه )(36).

ومن الألعاب الخاصة بالأطفال كذلك: المطاردة، التدبيج، القفز، الراية، الزحلوقة، الكرة، وفيها أنواع عديدة منها ما يشبه كرة القدم، الغميضاء(37).

ولا شك أن ما ذكر من مناشط ترويحية تعد أصولاً للترويح، ويمكن أن ينبثق من كل منشط العشرات من الألعاب والمسابقات بأشكال وأنواع مختلفة تتناسب والوسائل الحديثة في وقتـنا المعـاصر، طـالمــا كانت منضـبطة بالضـوابط الشرعية التي تقدمت الإشارة إليها. وهذا ما تم بالفعل، حيث واصل المسلمون تطوير الكثير من هذه الممارسات الترويحية وفق تطور كل عصر يعيشونه.

المبحث السابع : الفراغ.. طريق الانحراف

الاتجاهات والعوامل الاجتماعية المفسرة للانحراف

بعد أن استعرضنا في المباحث السابقة جوانب من أهمية الوقت، ونظرة الإسلام إلى وقت الفراغ، والترويح وضوابطه في المجتمع المسلم، يمكننا القول:
إن أوقات الفراغ إذا لم يُخطط لها بشكل صحيح، بحيث يكون عطاؤها إيجابيًا، يضمن سلامة الفرد والمجتمع، فسوف تنتهي إلى مسالك الانحراف التي يدمر الإنسان فيها ذاته ومجتمعه، لذلك فالعلاقة قد تكون تلازمية بين أوقات الفراغ وما قد تنتهي إليه من الضياع الذي يؤدي إلى الانحراف.

وقد عزت بعض الأدبيات التي تناولت الانحراف بشكل عام وانحراف الأحداث بشكل خاص، أسباب ذلك إلى البيئة الأسرية وما يكون فيها من تفكك أسري، أو سوء تنشئة.. إلى غير ذلك. وهناك من عزاها إلى جماعة الرفاق وأثرها على الحدث، وما ينتج عنها من مخالطة واكتساب لقيم ومعايير تلك الجماعة، ومدى تقمص الحدث لتلك المعايير، ومن ثم ترجمتها إلى سلوك عملي.. في حين أرجعت أدبيات أخرى أسباب الانحراف إلى الظروف الاقتصادية لأسر الأحداث، بينما أكد آخرون أن انحراف الأحداث إنما يعود بدرجة كبيرة إلى ( وقت الفراغ) الذي يعيشه الحدث، باعتبار أن ذلك الوقت يهيئ المناخ المناسب للانحراف من خلال ما يمارس فيه من أنشطة قد تكون سلبية، أو انحرافية.

وذكر بعض الباحثين أن مكان قضاء وقت الفراغ ونوعية المشاركين للحدث في قضاء ذلك الوقت، يعدان عاملين من عوامل الانحراف، فقد أشارت بعض الدراسات التي أجريت في بعض الدول العربية عن متعاطي المخدرات، إلى أن أغلبهم كانوا يشغلون وقت فراغهم، إما في الطرقات العامة، أو في الجلوس في المقاهي الشعبية عندما كانوا في مرحلة الشباب من عمرهم(1).

وخلصت دراسات أخرى أجريت حول علاقة وقت الفراغ بالانحراف إلى النتائج التالية:
أ- أن أغلبية الأفعال الانحرافية يرتكبها الفرد أثناء وقت الفراغ.

ب- أن نسبة كبيرة من الانحرافات ترتكب بقصد الاستمتاع بوقت الفــراغ أو الحصــول على وسائل تهيئ الاستمتاع بهذا الوقت(2).

ويؤكد باحثون آخرون أن كثيرًا من المشكلات السلوكية يرتبط بوقت الفراغ، وأن نسبة كبيرة من انحراف الأحداث تحدث خلال ذلك الوقت(3).

ويملك الحدث في السعودية -على سبيل المثال- وقت فراغ كبيرًا في حياته اليومية، ذلك أن المهمات الأساسية في حياته اليوميــة ( الــدراســـة، النــــوم، الأكــل، الحــاجيات الـضـروريــة ) لا تتطلب منه أكثر من ( 20 ) ساعة بأي حال من الأحوال، وهذا يوفر للحدث أربع ساعات فراغ يوميًا(4) يقضيها بطرق مختلفة ( اللعب; اللهو; المطالعة; الأنشطة الرياضية.. إلى غير ذلك)، وينطبق هذا التقدير على الحدث المنتظم في الدراسة، أما نظيره غير المنتظم في دراسته، فسيتوفر لديه وقت فراغ أكبر بكثير.

وقد لاحظت من واقع خبرتي العملية في إدارة رعاية الأحداث بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية في المملكة العربية السعودية أن أكثر من خمس الأحداث المودعين بدور الملاحظة الاجتماعية بالمملكة العربية السعودية خلال الأعوام ( 1409، 1410، 1411هـ) غير منتظمين في الدراسة(5)، وهذا مما يثير ويؤكد أهمية التساؤل حول علاقة وقت فراغهم بانحرافهم.

ومن هنا تأتي أهمية هذا المبحث في محاولة لإلقاء بعض الضوء على العلاقة بين كيفية قضاء وقت الفراغ والانحراف، والاتجاهات والعوامل الاجتماعية المفسرة للانحراف.

الاتجاهات والعوامل الاجتماعية المفسرة للانحراف*

أولاً: الاتجاهات الاجتماعية المفسرة للسلوك المنحرف

يتــجه الــدارســون للســلوك المنــحرف لتفســيره انطـــلاقًا مــن تخصصاتهم العلمية، فعالم النفس ينظر ويفسر ذلك السلوك من الزاوية النفسية البحتة، وكذا عالم القانون في تفسيره للسلوك المنحرف، إذ ينظر إليه من الزاوية القانونية، وكذا كل متخصص.

وحيث إن دراستنا هذه اجتماعية بالدرجة الأولى فإن منطلقها لتفسير السلوك المنحرف هو الجوانب والاتجاهات الاجتماعية التي حاولت أن تفسر هذا السلوك.. وكما هو معلوم فإن الاجتماعيين اهتموا بدراسة الجريمة بوصفها ظاهرة من الظواهر الاجتماعية، فالسلوك الإجرامي ما هو إلا إفراز من إفرازات المجتمع، ولقد تتابعت تلك الدراسات التي تربط بين ذلك السلوك الإجرامي وبين مكونات البيئة الاجتماعية المحيطة به، حتى تكوّن ما يسمى بالمدرسة الاجتماعية، على غرار المدرسة النفسية والمدرسة البيولوجية... إلخ.

ولقد كتب للمدرسة الاجتماعية أن تسود، ويصبح لها الأثر الواضح في تفسير السلوك المنحرف أكثر من غيرها من المدارس الأخرى، فهي أكثر انتشارًا بين علماء الإجرام المعاصرين، خاصة في المدرستين الأمريكية والسوفيتية(6)، وهذا الانتشار الواسع لتلك المدرسة جعلها تفرز أكثر من اتجاه يتناول ظاهرة السلوك المنحرف بالتفسير، وأبرز تلك الاتجاهات:

1- الاتجاه الثقافي ( الاختلاط التفاضلي).
2- الاتجاه الاقتصادي.
3- الاتجاه البيئي ( الأيكولوجي).
4- الاتجاه التفاعلي ( الوصم).

(1) الاتجاه الثقافي ( الاختلاط التفاضلي):

يعتبر العالم الأمريكي ( أدوين سذرلاند) رائد الاتجاه الثقافي بنظريته التي أخرجها في عام 1939م، في كتابه مبادئ علم الإجرام، وتعد تلك النظرية من أكثر النظريات الاجتماعية شهرة في علم الإجرام، ذلك أن النظرية بنيت على تحليل نفسي اجتماعي لطبيعة بيئة الجماعة وأثرها على سلوك أفرادها، إضافة إلى أنها تتضمن صياغة منطقية ترتيبية لسلسلة من العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الأفراد(7).

فهذه النظرية تنظر للفرد على أنه جزء من جماعته التي ينتمي إليها، وبالتالي فهو يتبنى كل مواقفها وتصرفاتها واتجاهاتها، ومن هنا فهو يتعلم كراهية القانون أو عدم احترامه من خلال نظرته لموقف جماعته من هذا القانون، فكراهية جماعته للقانون أو عدم احترامها له تجعل الفرد يخالف القانون كلما سنحت له الفرصة، انطلاقًا من تصوره أن هذا الفعل مألوف لدى جماعته وغير مستهجن.. وعلى العكس من ذلك قد يتربى الفرد على احترام القانون وعدم مخالفته إذا كانت جماعته التي ينتمي إليها تحترم ذلك القانون ولا تخالفه، ومن هنا تتضح حالة التفاضل بين احترام القانون أو عدم احترامه.. وتتوقف تلك الحالة التفاضلية من قبل الفرد على نوعية وماهية التركيب الاجتماعي الخاص بكل جماعة، ومواقفها بالنسبة للقانون، ومدى احترامها له من عدمه(8).

ويقدم ( أدوين سذرلاند) نظريته على صورة تفسيرية للعملية التي تؤدي بالفرد إلى السلوك الانحرافي، من خلال تسعة منطلقات أساسية، هي(9):
1- السلوك الانحـرافــي يكتسبه الفرد بالتعليم ولا يورث، فالفرد الذي لم يتــدرب عــلى الجريمــة لا يفــعل الجــريمة ابتداءً مــن نفسه، مثله مثل الفرد الذي لا يتعلم الميــكانيكا فإنــه لا يستطيع أن ينتج أي مخترع ميكانيكي.

2- تتم عملية تعلم السلوك الانحرافي بالاتصال الاجتماعي وبالتفاعل بين الفرد وأشخاص آخرين في المجتمع، وقد يكون هذ الاتصال لفظيًا بالقول، وقد يكون بالإشارات أو الحركات ذات الدلالات المتعارف عليها.

3- تتم عملية تعلم السلوك الانحرافي في وسط الجماعات التي يكون بين بعضها بعضًا علاقات متينة، تهيئ الاتصال الشخصي المباشر بين أفرادها بدرجة كبيرة. وفي هذا إشارة إلى أن وسائل الاتصال العامة لا تؤدي دورًا كبيرًا في تكوين السلوك الانحرافي، باعتبار أنها ليست وسائل اتصال شخصية مباشرة، بل وسائل اتصال عامة.

4 - عملية تعلم السلوك الانحرافي لدى الفرد تشمل جانبين اثنين:
أ- فن ارتكاب الجريمة ويشمل: التخطيط، التحضير، وطرق ارتكابها، ووسائل إخفائها، بغض النظر عن تعقيد تلك العملية أو بساطتها.
ب- الاتجاهات الخاصة للدوافع والميول التي تقود الفرد إلى السلوك المنحرف، وإلى التصرفات الإجرامية، والتبريرات التي تعطى لهذه التصرفات.

5 - تتم عملية تعلم الاتجاه الخاص للدوافع والميول من الأشخاص الذين يحيطون بالفرد، واتجاهاتهم نحو نصوص القانون من حيث مناسبتها أو عدم مناسبتها، ففي بعض المجتمعات قد يحاط الفرد بأشخاص يرون وجوب احترام نصوص القانون، وقد يحاط في مجتمع آخر بأشخاص يرون عدم الغضاضة في انتهاك القانون، والفرد في كلا الموقفين يتعلم ممن يختلط بهم، أما إذا كان هناك انقسام في الرأي بين الجماعة التي تحوط الفرد تجاه القانون، فهنا يبدأ الفرد يعيش الصراع الثقافي حول مدى مناسبة نصوص القانون من عدمه.

6 - يبدأ الفرد بالانحراف حينما تترجح لديه كفة آراء الجماعة التي لا ترى غضاضة في انتهاك القانون على كفة آراء الجماعة التي ترى احترام القانون.

7 - تتباين العلاقات التفاضلية نسبيًا بحسب أربع عمليات:
التكرار، الاستمرارية، الأسبقية، والعمق.
فالتكرار: يعني كمية التعرض للموقف.
والاستمرار: يعني مدة ووقت ا


الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) Empty
مُساهمةموضوع: رد: الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية)   الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) Emptyالخميس 04 نوفمبر 2010, 7:04 am


8 - تتضمن عملية تعلم السلوك المنحرف كل الآليات التي يتضمنها أي تعلم آخر، وذلك يعني أنها ليست عملية تقليد مجرد.

9 - يعبر السلوك المنحرف عن حاجات وقيم عامة، ومع ذلك فإنه لا يفسر بهذه الحاجات والقيم، لأن السلوك السوي هو أيضًا يعبر عن الحاجات والقيم نفسها.
ورغم أهمية تلك النظرية وما حظيت به من اهتمام من قبل العلماء بشكل لم تنلْه أية نظرية أخرى، إلا أنه وجِّه لها بعض الانتقادات من قبل العلماء، حيث طالب بعضهم بإدخال تعديلات أو إضافات إليها.

ومن أبرز هذه الانتقادات:

1- أنها أغفلت الإرادة الحرة للفرد، واعتبرته عاجزًا عن التحكم في أفعاله، وأنه مجرد ترس داخل المجتمع الكبير الذي يعيش فيه، لا حول له ولا قوة.

2- توقفت عند حد القول: بأن الاختلاط بالمجرمين يقود إلى الجريمة، ولم تحفل بدراسة العوامل التي تدفع الشخص إلى ذلك الاختلاط، في الوقت الذي لم ينزلق غيره إلى عين السبيل(10).

3- منطق النظرية مؤداه اعتبار رجال الشرطة والقضاة والباحثين في علم الإجرام أشد الناس إجرامًا، بسبب اختلاطهم المستمر بأولئك المجرمين.

4- تستخدم النظرية عددًا من المتغيرات مثل العمق، والتكرار، والاستمرار، المخالطة، والأسبقية، وهذه يتعذر قياسها علميًا أو اختبارها تجريبيًا(11).

5- تعجز النظــرية عن تفسير بعض أنــواع السـلـوك الإجـرامي، أو بمعنى آخر هي تصلح لتفسير الجرائم العادية أو المعروفة والتي يلـعب فيها التفكيـر والاعتقاد دورًا أســاسيًا، ولكنها لا تصلح لتفسير الجرائم التي يلعب فيها الانفعال والصدفة الآنية دورًا أساسيًا(12).
6- لا تدخل النظرية في اعتبارها الاختلافات بين الأفراد في الصفات الشخصية أو النواحي العضوية والنفسية والعقلية، وأثر ذلك على اختلاف تأثر الفرد بالمؤثرات الخارجية.

7- ارتكازها على عامل واحد في تفسير السلوك المنحرف.

2- الاتجاه الاقتصادي:

يعتبر الجانب الاقتصادي في حياة الأمم المعاصرة عاملاً أساسيًا في تقدم أو تأخر الأمم، ولأهمية ذلك الجانب عده بعض الباحثين من أمثال ( كيتليه ) و(ميشيل فري) و(بونجر) و(سيرك بيرت) عاملاً من العوامل المهمة الموجهة للسلوك الإنساني، ويؤثر عليه تأثيرًا يلمسه كل دارس للسلوك الإنساني.

لذا لا غرابة أن يظهر من العلماء من يربط بين الانحراف السلوكي وبين التغيرات الاقتصادية المختلفة، مثل الغنى أوالفقر، وفترة الرخاء أو فترة الكساد الاقتصادي، أوالبطالة.

وهناك من يرى أن الظروف الاقتصادية للمجتمع هي من أول الظواهر الاجتماعية التي وقف عندها المفكرون قديمًا وحديثًا حين دراستهم لظاهرة الجريمة، ابتداءً من فلاسفة اليونان وحتى العصر الحديث، إذ نالت الظروف الاقتصادية الحظ الأوفر من اهتمام الباحثين ودراساتهم.. ومن أوائل الدراسات الإحصائية لتأثير الظروف الاقتصادية على الجريمة تلك الدراسة التي قام بها ( أدولف كيتليه) (Adolf Quetelet)(13).

ويفترض هذا الاتجاه أن هناك ارتباطًا بين السلوك المنحرف والظروف الاقتصادية المختلفة، مثل حالة الفرد الاقتصادية، سواء الغنى أوالفقر وكذلك البطالة، وخروج الأحداث للعمل في سن مبكرة، وخروج الأم للعمل، وطبيعة النظام الاقتصادي في البلاد، إضافة إلى أنه مع تطور الأمم اقتصاديًا وتنوع الجوانب الاقتصادية، يقوم المجتمع بفرض قوانين تحفظ النظام الاقتصادي وتوقـع العقـوبات على مخالفيها، وهذا مما يؤدي إلى ظهور جرائم جديدة(14).

وسنذكر كل جانب من جوانب الظاهرة الاقتصادية والعلاقة بينها وبين السلوك المنحرف.

فأصحاب هذا الاتجاه يرون أن للفقر دورًا في رفع معدلات انحراف السلوك، خاصة في جرائم الأموال، والتسول، والتشرد، والدعارة في بعض صورها.. ويعتمد أصحاب هذا الاتجاه فيما ذهبوا إليه على نتائج العديد من الدراسات التي ظهر فيها أن غالبية مرتكبي السلوك المنحرف هم من ذوي المستويات الاقتصادية المتدنية.. ومن أبرز الدراسات في هذا المجال الدراسة التي قام بها العالم الإيطالي ( فورنساري دي فيرس) عام 1894م، وشملت إيطاليا وإنجلترا وإيرلندا وجنوب ويلز، وشملت العديد من أنواع الجرائم، وانتهت إلى القول: بأن الفقر هو البيئة التي تتهيأ فيها كل الدوافع لارتكاب الجريمة(15).

وكذلك دراسة ( سيرل برت) في إنجلترا عام 1933م، التي انتهت إلى أن غالبية العينة التي أجريت عليها الدراسة من الأحداث الجانحين كـــانت تعيــش إمــا في أســر شديــدة الفــقر أو فقيرة(16).

ويعزو أصحاب هذا الرأي السلوك المنحرف للفقر، من حيث إنه ينتج عنه عدم توفير المتطلبات الضرورية للفرد والأسرة، وكذلك انعدم العناية الصحية، وانقطاع الأبناء عن مواصلة التعليم، إضافة إلى ( حرمان الأولاد من أسباب اللعب والتسلية في المنزل، وخروجهم إلى الشوارع لقضاء الوقت وقتله، والاختلاط بكثير من رفاق السوء، كما أنه قد يرغم الأطفال على ترك مقاعد الدراسة.. ونتيجة لهذا تتفشى الأمية بينهم، فيشبوا جهلاء لا يقدرون على تمييز النافع من الضار، والخير من الشر، والفضيلة من الرذيلة، وبذلك يكونون لقمة سائغة لتيار الانحراف والجنوح)(17).

وعلى الرغم مما سبق ذكره من ربط الفقر بالسلوك المنحرف، إلا أننا لا نستطيع أن نسلم بأن الفقر عامل رئيس لارتكاب السلوك المنحرف، بل هو عامل من العوامل المتعددة التي تؤدي إلى السلوك المنحرف، بدليل وجود الملايين من الفقراء يسلكون الطريق السوي رغم فقرهم، إضافة إلى وجود سلوك منحرف بين أفراد الفئة الغنية، وكما يذكر العالم ( بيرت): ( إذا كان أغلبية المجرمين من الفقراء، فإن أغلبية الفقراء ليسوا من المجرمين)(18).

يضاف إلى ذلك ظهور بعض الدراسات التي أثبتت عدم وجود علاقة بين الفقر والسلوك المنحرف، مثل دراسة الباحثة الإنجليزية ( ماري كاربنتر) عام 1853م، التي انتهت إلى القول: بأن تأثير الفقر على الأحداث أقل بكثير من تأثير التكوين الثقافي والاجتماعي لآبائهم عليهم، ودراسة ( شليدون والينور غلوريك) عام 1950م، التي أجريت على ( 1000 ) حدث ( 500 منحـــرف، و500 غير منحـــرف)، وظــــهر فيــها أن عــدد الفقراء من أســـر غير المنحرفين لا يختلف كثيرًا عنه في أسر المنحرفين(19).

ويعتبر ( سذرلاند ) من أشد الناس الذين انتقدوا ربط الانحراف بالفقر، بل على العكس من ذلك يرى أن الانحراف مرتبط بالثـــراء، إذ الأثريــاء لديــهم قــدرة على ارتـكاب الجريمة بما يملكون من نفوذ في المجتمع بسبب ثرائهم، وذلك مما يعينهم على إخفاء أمرهم عن السلطات.

كما يربط أصحاب هذا الاتجاه بين البطالة من جانب والسلوك المنحرف من جانب آخر، ويقصد بالبطالة هنا توقف الإنســان عن العـمل ســواء أكان ذلك بسبـــب أزمـة اقتصـــادية أو صناعية طارئة، أو أن يكون السبب عائدًا للفرد نفسه كأن يكون الفرد عاجزًا أو غير مؤهل للعمل، ففي هذه الحالة نجد الفرد قد يتجه لارتكاب السلوك المنحرف نتيجة لعدم وجود مورد مالي يفي باحتياجــاته واحتياجات أســرته، زد على ذلك ما تهيؤه البطالة للفرد من زيادة في وقت الفراغ لديه، بما يجعله مهيأ أكثر للانحراف والانزلاق في طريق الجريمة.

كما أنه قد يتجه أبناء مثل هذا الفرد للانحراف، ( إذ يقل إجلالهم لأبيهم وقد صار عاجزًا عن إشباع مطالبهم، وقد يعزفون عن الدراسة لعدم القدرة على شراء الكتب والنهوض بكافة متطلباتها، فلا يجدون غير أبواب العصابات يقرعونها بحثًا عن كساء أو غذاء)(20)، كما أن البطالة تولد مشاعر الإحباط المتلاحقة نتيجة للعجز عن إشباع الحاجات الضرورية للفرد أو من يعولــهم، وتتــزايد تلك المشاعـر كلــما طــالت فتــرة البطـــالة التي يعيشها.

ويربط أصحاب هذا الاتجاه كذلك بين خروج الحدث للعمل مبكرًا والسلوك المنحرف، ذلك أن خروج الحدث للعمل مبكرًا يعني حرمانه من الدراسة، وحرمانه بالتالي من الآثار الإيجابية التي يمكن أن تعود عليه من العملية التعليمية. كما أن العمل في بعض المهن كالعمل في المقاهي أودور اللهو، يؤدي إلى انحراف الحدث، بسبب احتكاك الحدث برواد تلك الأماكن التي تعتبر في الغالب أوكارًا لتجمع المنحرفين.. وهناك بعض الدراسات التي توصلت إلى أن نسبة الجناح بين الأحداث الذين يعملون تفوق نسبته بين الأحداث الذين لا يعملون.

كما يربط أصحاب هذا الاتجاه بين خروج الأم للعمل وارتكاب الأبناء للسلوك المنحرف، وما يلي ذلك من إهمال الأم لدورها الأساس في هذه الحياة وهي تنشئة أولادها وتربيتهم; إذ أن خروجها إلى العمل سيقطع جزءًا ليس باليسير من وقتها لأولادها، ويضعف من دورها المذكور مما يؤدي إلى تهيئة الظروف والبيئة المناسبة لقيام الأطفال بأعمال منحرفة، بالإضافة إلى أن خروج الأم للعمل قد يؤدي إلى الصراع والشجار بين الزوجين نتيجة لإهمال دورها الاجتماعي الأساس، وهذا الصراع والشجار يفسد جو الأسرة والعلاقات الزوجية مما يؤثر على الأطفال في تلك الأسرة.

ولهذا يؤكد ( ناي ) بعد دراسة ميدانية، أن هناك علاقة بين اشتغال الأم والسلوك الجانح.. كذلك أوضحت الدراسات التي أجريت في مصر أن نسبة المشتغلات من أمهات الجانحين أعلى منها بالنسبة للمشتغلات من أمهات غير الجانحين(21).

3- الاتجاه البيئي ( الأيكولوجي):

استعار الدارسون لعلم الإجرام مصطلح الأيكولوجيا من علم البيولوجيا، وهو يعني صلة الكائن الحي بالبيئة المحيطة به.. ولقد بدأ استخدم هذا المصطلح كاتجاه في علم الاجتماع على يد العالم ( بارك ) وأتباعه في جامعة شيكاغو، فلقد تصور ( بارك ) المدينة، والمجتمع المحلي، والمنطقة، على أنها نوع من الكائنات الاجتماعية وليست مجرد ظواهر جغرافية مجردة.. فاهتم ( بارك ) بدراسة التغير الاجتماعي وسرعة حدوثه واتساع نطاقه وما ينشأ عنه من مشكلات وصراع ثقافي(22).

وعليه فإن هذا الاتجاه يدرس صلة الإنسان ببيئته الاجتماعية بجميع جوانبها الجغرافية والحضارية، وخاصة عند دراسة السلوك المنحرف وارتباطه بنمو المدن وتوسعها.. ومن هنا، فهذا الاتجاه يفسر السلوك المنحرف تفسيرًا عمرانيًا على أساس ارتباط السلوك الجانح بأوضاع تنشأ مع نمو المدن وتوسعها، نتيجة لهجرة الناس إلى تلك المدن من جميع الجهات، فيتكون فيها خليط من الثقافات، ومستويات مختلفة من الناحية الاقتصادية، وتنمو المدينة على أساس ذلك الاختلاف وذلك التباين بين النازحين، بل إن بعض العلماء أمثال العالم ( كليفوردشو)، ينظر إلى الجانح والجريمة على أنها نتيجة لا مفر منها مع توسع المدينة وامتدادها.. ويرى الأيكولوجيون أن المدينة تتوسع لتكون في النهاية خمس حلقات، أو أحزمة هي(23):

1- الحلقة الأولى: الوسط والمركز، حيث المؤسسات التجارية والمرافق الحيوية، ومقر أول مجموعة نزحت لتكون المدينة.

2- الحلقة الثانية: وتسمى المنطقة الانتقالية، وهي منطقة تدهورت بعد انتعاش ويعيش فيها الطلاب، والعمال، والمهاجرون الجدد، والمنحرفون، والمدمنون، وتجار المخدرات واللصوص.

3- الحلقة الثالثة: وتشمل أحياء بيوتها متشابهة، ويقطنها الموظفون وبعض أصحاب المهن.

4- الحلقة الرابعة: وتسمى ضواحي المدينة، وهي أقل ازدحامًا ويقطنها أفراد الطبقة الوسطى في بيوت يملكونها.

5- الحلقة الأخيرة: ما بعـــد الضواحي ويقطـــنها الأثرياء في فلل واسعة.

ويحدد ( كليفوردشو ) منطقة الجنوح في المنطقة الثانية، والتي توصف بأنها المنطقة الانتقالية، وهي التي تكونت بعد انسحاب الأثرياء منها إلى الضواحي، ونزوح الفقراء إلى الداخل لانخفاض الإيجارات إضافة إلى تميز تلك المنطقة بكثرة الزحام، وقدم المباني، وعدم استقرار السكان.. كما قام ( كليفوردشو ) بتسجيل ثلاث ملاحظات عن منطقة الجنوح ( الحلقة الثانية) وهي(24):

1- تظل معدلات الجنوح عالية رغم التغير السكاني السريع، وهذا يعني أن الجنوح جزء من التراث الأيكولوجي.

2- انخفاض معدلات الجنوح كلما ابتعدنا عن وسط المدينة.

3- تختص كل منطقة بنوع أو أنواع معينة من الجنح.

وأشار ( كليفوردشو ) - بعد دراسته الشهيرة مع بعض زملائه حول ظاهرة الجناح في مدينة شيكاغو- إلى أن ( الظروف القائمة داخل هذه المنطقة -مناطق الجنوح- تجعل سيطرة المجتمع على أبنائه ضعيفة أو تُضعف من أساليب الضبط الاجتماعي إلى درجة عدم التزام هؤلاء الأبناء بالامتثال للمعايير الثقافية المقبولة داخل المجتمع)(25)، ولعل ذلك عائد إلى طبيعة سكان تلك المناطق، إذ يقطنها خليط من البشر ومن الثقافات، إضافة إلى وجود المنحرفين والمدمنين وتجار المخدرات واللصوص فيها، وهذا يعني تأثر أبناء السكان فيها بالجو السائد في المنطقة.

إلا أن هــذا الاتجــاه أُخذ عليــه بعـض المـآخذ التي قد تضعفه، وأهمها:
1- وجود عوامل أخرى قد تؤثر على زيادة الجناح في منطقة دون أخرى غير العوامل الأيكولوجية، مثل اختلاف عدد أفراد الشرطة في منطقة، ونوعيتهم، ودرجة متابعتهم للظروف الأمنية في الحي، ودقة ضبطهم لعملهم.

2- عدم تحديده للمنطقة الجانحة بوضوح، فهل هي المنطــقة التي يعيــش فيها الجانحون، أم هي المنطـقة التي يمارسون فيها نشاطهم الانحرافي، أم هي المنطقة التي قبض على الجانحين فيها?

3- عدم تفسيره لوجود أفراد غير منحرفين في نفس المنطقة الجانحة التي حددها أصحاب هذا الاتجاه، إضافة لعدم تفسيره لوجود منحرفين في مناطق أخرى لا يعتبرها الأيكولوجيون مناطق جناح، مثل المنطقة أو الحلقة الرابعة أوالخامسة.

4- قصور الإحصائيات الرسمية التي استندت عليها بحوث أنصار ذلك الاتجاه عن الإحاطة بالنطاق الشامل للمدى الواقعي للجريمة، إضافة إلى عدم ثبات هذه الإحصائيات كأساس للمقارنة، والشك في صدق المقارنة بمقتضاها خلال فترات زمنية طويلة لا تتماثل خلالها الحقائق التي تتخذ أساسًا للمقارنة(26).

5- اعتمادها على عامل واحد في تفسير السلوك المنحرف، وإهمالها لتداخل وأثر العوامل الأخرى في تكوين ذلك السلوك المنحرف.

كما يلاحظ عدم انطباق ذلك التقسيم الذي توصل إليه الأيكولوجيون على المدن في دول العالم الثالث.

4- الاتجاه التفاعلي ( الوصم):

يعد الأمريكي ( إدوين ليميرت) من أبرز من يمثل هذا الاتجاه، الذي يرى أن الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع الفرد المنحرف هي التي تؤدي إلى وجوده واستمراره في ذلك السلوك المنحرف، وما ذلك الانحراف إلا نتيجة تفاعلية بين فعل الفرد المنحرف وردود الأفعال من المجتمع تجاهه، وبتناميها في عملية تصاعدية تؤدي به في النهاية إلى استقراره في السلوك المنحرف، ومن ثم وصمه بتلك الوصمة أو الصفة التي تحمل مدلولاً يتعارف عليه المجتمع، ويتعامل مع من يحمله على هذا الأساس، وعلى حيثــيات وإشــارات ومضامـين تلك الصفــة أو الــرمـز. وممـــا لا شك فيه أن لتلك الصفة أو الرمز الذي يطلقه المجتمع على المنحرف أثرًا في استمرار ذلك السلوك، وبناء عليه يتحول هذا التعامل من المجتمع مع الفرد الجانح من خلال إطلاق تلك الصفة أو الرمز إلى تدعيم ذاتي لذلك السلوك الجانح، ( فإن إطلاق مسميات على السلوك هو فعل اجتماعي، ومثل هذا الفعل -شأنه شأن أي فعل اجتماعي آخر- يمكن أن ينمو ويتم الحفاظ عليه من خلال عملية التدعيم أو العكس)(27).

ونظرية الوصم تقوم على فرضيتين أساسيتين(28):

الأولى: أن الانحراف لا يقوم على نوعية الفعل وماهيته بقدر ما يقوم على نتيجته وما يوصف به الفاعل من قبل المجتمع.

الثانية: أن الانحراف عملية اجتماعية تقوم بين طرفين، الفعل الانحرافي من جانب، وردة فعل المجتمع تجاه هذا الفعل الانحرافي ووصمه بالانحراف من جانب آخر.

وتأسيسًا على ما سبق، فإن أصحاب هذا الاتجاه يرون أن المؤسسات الإصلاحية مثل السجون ودور الملاحظة والتوجيه تلعب دورًا كبيرًا في إضفاء صفة الجنوح والانحراف والإجرام على أفرادها، ذلك أن من يودع فيها يوصف بأنه مجرم أو خريج سجون، وبالتــالي يصمه المجتــمع بتــلك الوصـمة التي لم تــأت إلا بسبب دخوله السجن أو دار الملاحظة، ومن هنا فإن المؤسسات من وجهة نظر أصحاب هذا الاتجاه لا تعمل على إصلاح من يدخلها بقدر ما تصبغه بهذه الصفة، ووصمه من ثم بالجــنوح أو الأجرام من قبل المجتمع، وبالتالي يتكرس فيه ذلك الانحراف نتيجة لتـلك الوصــمة أو الصفة التي يطلقها عليهم المجتمع. ومن ثم تصبح تلك الوصمة عقبة في سبيل إصلاح الفرد المنحرف أو تقويمه.

ويرى العالم الأمريكي ( إدوين ليميرت) أن الجنوح يتم على ثلاثة مستويات(29):
أولاً: الجنوح الفردي: وهو يظهر نتيجة الضغوط النفسية الداخلية النابعة من الفرد ذاته، ويكون تأثيرها على الفرد نفسه.

ثانيًا: الجنوح الظرفي: وهو يظهر نتيجة التعرض لمواقف ضاغطة وعوامل آنية، بحيث لا تترك للفرد فرصة التفكير والاختيار.

ثالثًا: الجنوح الاجتماعي: وهو يحدث على مستوى التنظيم الاجتماعي القيمي، أو التنظيم الثقافي الذي يرى السلوك المنحرف أسلوبًا من أساليب العيش.

وهذه المستـــويات الثـــلاثة من الجنوح لا تحدث فجأة، وإنمــا لا بد أن يمر الفرد بعدد من المراحل وفق منطلقات وفرضيات تلك النظريات. فالفرد يرتكب الفعل المنحرف لأول مرة لينظر ردة فعل المجتمع، وبطبيعة الحال لا يمكن للمجتمع، أو على الأقل جزء من ذلك المجتمع، أن يتجاهل ذلك الفعل.. وردة الفعل تلك قد تكون استحسانًا أو استهجانًا(30).

ولقد وضع ( إدوين ليميرت) عددًا من المراحل لتبلور واكتمال هذا الجنوح(31):
1- يرتكب الفرد انحرافه ( الأول ) كبادرة لاختبار ردة فعل المجتمع تجاهه.

2- حدوث ردة فعل المجتمع، وتتمثل في معاقبة الفرد على تصرفاته الانحرافية.

3- يكرر الفرد انحرافه ويكون بنسبة وبحجم أكبر من الانحراف الأول.

4- يقوم المجتمع بردة فعل وتتمثل في عقوبة الفرد على سلوكه المنحرف، ولكنها تكون بشكل أشد ورفــض أقـوى مـن المــرة الأولى.

5- يزداد الانحراف ويصاحبه شعور بالعداء والكراهية على الذين يمارسون العقاب معه أو رفضه.

6- تبدأ ردود فعل المجتمع الرسمية، وتأخذ شكلاً جديدًا بإضفاء صفة الوصم بالانحراف على الفرد.

7- يزداد الانحراف كرد مباشر ومجابهة للمجتمع الذي أعطاه صفة الانحراف ووصمه بها.

8- وفي هذه المرحلة، يقبل المنحرف صفة الوصم بالانحراف، مع محاولة التكيف والتوافق مع مركزه الاجتماعي الجديد كفرد منبوذ من المجتمع.

ولقد أضاف ( هوارد بيكر) بعدًا نسبيًا لتلك المراحل، إذ أن العلاقة بين الانحراف وبين ردود فعل المجتمع تجاهه ليست علاقة ثابتة في كل الظروف والأزمنة، بل هي تختلف باختلاف الزمان والمكان الذي حدث فيه ذلك الفعل وردة الفعل، كما تختلف العلاقة أيضًا باختلاف المجتمع الذي تصدر عنه ردة الفعل نحو الفعل الانحرافي; ذلك أن المجتمع قد يصف بعض الأفعال بالشذوذ وهي غير كذلك، ومن ثم تثبت الوصمة على صاحب ذلك الفعل، في حين يوجد أفراد منحرفون فعلاً لكن لم تصل أخبارهم للمجتمع، ومن هنا فإن العلاقة بين الانحراف وبين ردة فعل المجتمع تختلف باختلاف المتغيرات السابقة(32).

إلا أنه يؤخذ على هذا الاتجاه أنه لا يفسر كيف تنشأ بداية الانحراف، وإنما يفسر استمرار الفرد المنحرف في ذلك الطريق بسبب ردة فعل المجتمع.
وعليه فهذا الاتجاه قد يكون مناسبًا لتفسير ظاهرة العود للانحراف والاستمرار فيه، وليس لنشأته وبدايته.

ثانيًا: الأوساط الاجتماعية المؤثرة على انحراف الأحداث

تلعب الأوساط الاجتماعية دورًا بارزًا وذا أثر واضح في انحراف الأحداث أو استقامتهم، فالسلوك الإنساني ما هو إلا تفاعل تبادلي في الغالب بين الفرد ومجتمعه الذي يعيش فيه، بدءًا من مجتمعه الصغير الأسرة، ومرورًا بالمجتمع الأوسع، وتتماشى مع نمو الفرد، فعند التحاقه بالمدرسة تبدأ مؤثرات الوسط المدرسي بالتأثير عليه، كما تبدأ مؤثرات جماعات الرفاق مع نموه وتكوينه لعلاقات اجتماعية جديدة مع الأصدقاء سواء في الحي أو المدرسة، وخلال ذلك كله تلعب مؤثرات الوسط الاجتماعي في الحي دورًا مهمًا في تشكيل سلوك الفرد، ويكون لذلك الوسط الاجتماعي في الحي أثره السلبي أو الإيجابي على سلوك الحدث، كغيره من الأوساط الأخرى.

ولقد أشار الإسلام إلى أهـــمية الوسط الاجتماعي وأثـــره على سلوك الفرد، ففي الحديث الذي يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض ? فدُل على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة ? فقال: لا، فقتله فكمل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة ? فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة! انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله تعالى معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء...)(33).

فمن الحديث يتضح أن أسباب قيامه بعمليات القتل أنه يعيـش في وســط اجتماعي سيئ، أصحابه يرتكبون المعاصي، ولا شك أن في مشاهدتهم ما يغري بارتكاب ما يأتون تقليدًا لهم ومحاكاة لسلوكهم.

ولقد ركز دوركايم ( Durkheim) وغيره من علماء الاجتماع على أهمية الوسط الاجتماعي في تفسير الجريمة(34).

ذلك أن الوسط الاجتماعي ليس دوره فقط بناء الفرد، بل يتعداه إلى ضبط سلوك الفرد وجعله يتوافق مع قيم ذلك الوسط، ويقصد هنا بالوسط الاجتماعي: الأسرة، المدرسة، جماعة الرفاق، الحي، حيث تؤثر جميع هذه الأوساط على سلوك الحدث سلبًا أو إيجابًا.. وسنعرض بشيء من التفصيل لتلك الأوساط وبعض العوامل المكونة لها:

• الأسرة:

تعد الأسرة المحضن الأساس الذي يبدأ فيه تشكل الفرد وتكون اتجاهاته وسلوكه بشكل عام، ( فالأسرة ) تعد أهم مؤسسة اجتماعية تؤثر في شخصية الكائن الإنساني، وذلك لأنها تستقبل الوليد الإنساني أولاً، ثم تحافظ عليه خلال أهم فترة من فترات حياته وهي فترة الطفولة، وهي ( الفترة الحرجة في بناء تكوين شخصية الإنسان كما يقرر علماء النفس، وذلك لأنها فترة بناء وتأسيس )(35).
وإلى هذا أشار حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )(36).

ففي البيئة الأسرية يشكل الأبوان الطفل، ويحددان اتجاهاته الرئيسة وهي الاتجاهات العقدية، فالأسرة تلعب دورًا رئيسًا ومهمًا في رسم شخصية الفرد وسلوكه وعقائده الباعثة على جميع السلوكيات المتنوعة. وفي الأسرة يتعلم الأطفال ( التحكم في رغباتهم، بل وكبت الميول التي لا توافق المجتمع.. ومن هنا فإن أسس الضبط الاجتماعي تغرس بواسطة الوظيفة التربوية في محيط الأسرة)(37).

لذا لا غرابة أن نلحظ اهتمام الباحثين في مجال انحراف الأحداث بالأسرة، وجعلها من المحاور الرئيسة التي تدور عليها أبحاثهم، في محاولة اكتشاف أسباب الانحراف والعوامل المؤدية إليه. ومما لا شك فيه أن الأسرة المفككة عامل رئيس في انحراف الأحداث وسلوكهم طريق الجنوح، ومحضن مناسب لتخريج أحداث منحرفين.

ولا يتوقف الأمر على الأسرة المفككة فحسب، بل إن الأسرة المستقرة اجتماعيًا قد تخرج أحداثًا منحرفين في حالة عدم اتباع السلوك الصحيح للتنشئة السليمة لأفرادها، ( فقد تكون عملية التنشئة الاجتماعية في الأسرة خاطئة، ينقصها تعلم المعايير والأدوار الاجتماعية السليمة، والمسؤولية الاجتماعية، أو تقوم على اتجاهات والدية سالبة مثل التسلط والقسوة، والرعاية الزائدة والتدليل، والإهمال والرفض، والتفرقة في المعاملة بين الذكور والإناث، وبين الكبار والصغار، وبين الأشقاء وغير الأشقاء، والتذبذب في المعاملة )(38).

كذلك تدل الدراسات على أن الاختلافات بين الوالدين لها آثارها السلبية على الطفل، وتتمثل تلك الآثار في هروب الطفل إلى الشارع، أو انغماسه في أحلام اليقظة، وكل ذلك هروبًا من الواقع الذي يعيش فيه(39).

ويربط بعض الباحثين بين الأسر ذات العدد الكبير وانحراف الأحداث، كما يربط بين انحراف الوالدين أو أحدهما وانحراف الحدث، فيما تشير دراسات أخرى إلى وجود علاقة بين درجة وكيفية الضبط داخل الأسرة وبين ما يقوم به الطفل من انحراف، وليس على ذلك فحسب، بل وموقف الطفل نفسه تجاه هذا الضبط ومدى استجابته له من عدمه.

كذلك لا يمكن أن نغفل دور الأسرة في تكوين الاتجاهات الإيجابية، نحو كيفية قضاء وقت الفراغ، فكما يتعلم الطفل السلوك الانحرافي داخل الأسرة فكذلك يتعلم السلوك السوي من توجيه الأسرة نحو قضاء وقت الفراغ فيما ينفعه من عدمه، نتيجة تقليد الطفل لمن حوله فيما يمارسونه من أنشطة ترويحية. فلقد وجد ( ناش ) في دراساته أن 70% من ميول وهوايات أهالي مدينة نيويورك قد بدأت في المنزل، وأن 70% من هذه الهوايات أيضًا ظهرت قبل سن الثانية عشرة، وهذا ما يؤكد على دور الأسرة ليس في حسن تربية الطفل وإكسابه المعايير السليمة المتوافقة مع المجتمع فحسب، بل تكوين اتجاهات إيجابية نحو استغلال وقت فراغه، مما يكون لديه إطارًا وقائيًا من الانحراف، من خلال استفادته من وقت فراغه بما يحقق له النمو المتوازن، وبما يحقق إشباع حاجاته النفسية والاجتماعية(40).

ولعل من أبرز الدراسات التي أكدت العلاقة بين التفكك والانحراف، الدراسة التي قام بها العالمان الأمريكيان ( شيلدون والينور جلوك) عام 1935م، وتوصلا إلى النتائج التالية:

1- إن أسر الأطفال الجانحين أكثر تبديلاً لبيوتهم.

2- إن الأطفال الجانحين يعيشون في بيوت أقل ملاءمة من الناحية الصحية، وأكثر ازدحامًا بالسكان.

3- إن غالبية الأطفال الجانحين لا يعيشون مع الوالدين، إما بسبب الطلاق أوالهجر بين الوالدين.

4- يتميز الأطفال الجانحون بعدم احترامهم لوالديهم، وعدم التزامهم بالقيم العائلية.

5- تتميز البيوت التي يعيش فيها الأطفال الجانحون بتفككها القيمي، وضعف الرقابة، وانعدام وجود أسباب التسلية والترويح داخل الأسرة.

6- إن عــائــلة الطفــل الجانح أكبــر نسبــيًا من عــائــلة الطفــل غير الجانح(41).

ومن الدراسات العربية في هذا الميدان الدراسة التي أجراها ( وليد حيدر)(42)في الجمهورية العربية السورية، وظهر منها أن 55% من أفراد العينة البالغ عددهم ( 113 ) حدثًا يعيشون في أسر مفككة إما بطلاق أو وفاة أحد الوالدين.

وكذلك الدراسة التي أجراها مركز أبحاث مكافحة الجريمة بالمملكة العربية السعودية(43)عام ( 1404هـ)، وأظهرت ما يلي:

- كثيرًا ما لا يسكن الجانح مع والديه.
- أم الجانح ليست في ذمة الأب.
- أم الجانح ليست الزوجة الوحيدة.
- أحد الوالدين أوكلاهما متوفى.
- في الغالب ليس الأب هو ولي الأمر.

وفي دراسة أخرى ( تمـاضر حسون) اتضــح أن 78% من أفـراد العيــنة المنحرفة انحدروا من أسر تتميز علاقاتها بالاضطراب والتوتر(44).

ونستطيع أن نقول :إن هناك علاقة طردية بين التفكك الأسري من جانب وبين انحراف الأحداث من جانب آخر، وإن كانت ليست العامل الوحيد في تفسير الانحراف إلا أن لها دورًا لا ينكر، ملموسًا ورئيسًا.

المدرسة:

تأتي المدرسة في المرتبة الثانية من حيث الأهمية في تنشئة الطفل، خاصة بعد أن عمم التعليم وأصبح إجباريًا في سنواته الأولى في أغلب الدول، وتحملت المدرسة تعليم الصغار بالتعاون مع الأسرة من أجل توسيع مدارك الطفل وجعله يحب المعرفة والتعليم، مما أدى إلى بروز المدرسة كمؤسسة اجتماعية مهمة، لها أثرها الفعال في مختلف جوانب الطفل النفسية، والاجتماعية، والأخلاقية، والسلوكية، خاصة وأن الطفل في السنوات الأولى من عمره يكون مطبوعًا على التقليد والتطبع بالقيم التي تسود مجتمعه الذي يعيش فيه، فهو يتأثر في الغالب بالجو الاجتماعي الذي يعيشه في المدرسة، لذا فإن المدرسة تعد عاملاً عظيم الأثر في تكوين شخصية الفرد التكوين العلمي والتربوي السليم، وفي تقرير اتجاهاته في حياته المقبلة وعلاقته في المجتمع.

ومن هنا فإن المدرسة ليست محضنًا لبث العلم المادي فحسب، بل هي نسيج معقد من العلاقات خاصة للطفل الصغير، ففيها تتوسع الدائرة الاجتماعية للطفل بأطفال جدد وجماعات جديدة، فيتعلم الطفل في جوها ( المزيد من المعايير الاجتماعية في شكل نظم، كما يتعلم أدوارًا اجتماعية جديدة، فهو يتعلم الحقوق والواجبات، وضبــط الانفعالات، والتوفيــق بين حاجــته وحــاجات الغير، ويتــعلم التعــاون، ويتعلم الانضباط السلوكي )(45).

فالطفل يتعلم كل ذلك من خلال ما يتلقاه من علوم معرفية وما يكتســبه من مخالطة رفاقه في المدرسة، فالمـدرسـة بالجملة لها أثرها الفعال في سلوك الأطفال وتوجهاتهم في المستقبل.. كما أننا ومن خلال المدرسة نستطيع أن نكتشف عوارض الانحراف مبكرًا لدى الأطفال، مما يهيئ الفرصة المبكرة لعلاجها قبل استفحالها، مثل الاعتداء على الزملاء، أوالسرقة من حاجياتهم، أو محاولة الهرب من المدرسة، أو إتلاف أثاث المدرسة، مما يعطي مؤشرًا أوليًا لوجود خلل في سلوكيات الطفل.

إن المدرسة ( مسرح مكشوف يتم من خلاله رصد ومتابعة سلوكيات الحــدث، خصوصًا أن مجتمع المدرسة يعد أكبر وأكثـر تعـقيدًا من مجتمع الأسرة.. وبهذا فإن المدرسة تكون أول حقل تجريبي للحدث، يمارس فيه سلوكه بعيدًا عن رقابة أسرته وأقربائه )(46).

وتتحمل المدرسة دورًا كبيرًا في هذا الأمر، بل هناك من يرى أن ذلك من أهداف التعليم الأساسية، فمثلاً نجد أن ( برتراند راسل) يعد ( أن من أهداف التعليم خلق وتنمية الاتجاهات التي يمكن لها أن تتيح للفرد استخدام وقت فراغه بذكاء)(47)، في حين يرى ( وليم فونس) ( أن وظيفة المدارس يجب ألا تقتصر على تنمية المعرفة، بل يجب أن تهتم إلى جانب ذلك بتنمية القدرات والمهارات للاستفادة منها في استثمار وقت الفراغ )(48).

ويتأتى كل ذلك بتوعية الطلاب بأهمية وقت الفراغ، وتعريفهم بميولهم بعد استكشافها وتنميتها، مع توفير الإمكانات المناسبة لاستغلال وقت فراغهم بما يفيدهم وينفعهم، لذا لا غرابة أن نجد أن ميثاق الفراغ الدولي قد أفرد مادة خاصة لهذا الأمر، وأكد على ضرورة تحمل المدرسة لمسؤوليتها في تعليم الأطفال والشباب المهارات الترويحية حتى يتمكنوا من الاستفادة من وقت فراغهم، لينعكس أثره على مستقبل الطفل.

ومن كل ما ذكر عن دور وأهمية المدرسة في حياة الطفل، يحتم علينا القول بضرورة المراجعة المستمرة لمناهج التعليم، لتواكب الحــاجات النفسيـــة والاجتمــاعية للطفل وبما يتمشى مع العـــصر الذي يعيــشه، مع التأكيد على دور المعـــلم كفــرد في تكــوين شخصــية الطفـل وتطــويرها ورعايتها حـق الرعــايــة، بمــا يكفــــل للطـــفل التكيف الاجتمــاعي والنفــسي السليم، وبما يضمن له التوافق مع معايير المجتمع الذي يعيش فيه، ليصب في النهاية في قناة وقايته من الانحراف أو الجنوح.

الحي السكني:

ونقصد بالحي السكني هنا: المنطقة الجغرافية التي تقطنها الأسرة بجوار العديد من الأسر، وتتشابك فيها العلاقات الاجتماعية بين تلك الأسر وأفرادها تأثرًا وتأثيرًا.

لذا ( فإن الحي يسهم في تزويد الفرد ببعض القيم، والمواقف، والاتجاهات، والعادات، والمعايير السلوكية، التي يتضمنها الإطار الحضاري العام الذي يميز المنطقة الاجتماعية )(49).

ونستطيع أن نقول: إن للحي دورًا قد يكون مكملاً لدور الأسرة في توجيه الطفل، ويؤثر كل واحد في الآخر، فقد يكون داعمًا لما تقدمه الأسرة من سلوكيات معينة، بغض النظر عن ماهية هذا السلوك، وقد يكون هادمًا له، وذلك يتأتى من طبيعة الحي ومستواه الاقتصادي والاجتماعي.

فقد ربطت العديد من الدراسات بين طبيعة الحي وتأثيره على سلوك سكانه، ومن أبرز تلك الدراسات الدراسة التي قام بها الأمريكي ( كليفورد شو) على خمسة من الأشقاء عرفوا بتاريخهم الإجرامي الطويل، وكيف كان للحي أثر بيّن في تكوين الجناح لديهم، فلقد كان حيهم -كما وصفه- يتميز بعدم التنظيم الاجتماعي، وأنه كان بيئة فاسدة شجعت هؤلاء الإخوة على الجناح، ذلك أن هذا الحي كان يحترم المجرم، ويرسم له شيئًا من صور البطولة والرجولة(50).

والحي الذي يساعد على الانحراف نجده يعطي شيئًا من الشرعيـة على أعمـال المجــرمـين، ويصـورهـا بالصـورة البطـوليـة، مما يكوّن لدى الحدث في ذلك الحي مثالاً وقدوة سيئة يحتذي بها، وتتشكل شخصيته على هذا الأساس.

ومن هنا فالحدث يرى أن لا يمكن أنه يكون له منزلة في ذلك الحي إلا بتبني إحدى صور البطولة والرجولة التي ارتسمت في ذهنه، كصورة المجرم في حيه.

حيث يبدأ في تتبع خطوات بطله المنحرف حتى يسقط في أخطائه، ويرتكب أعمالاً ضد القيم والمصلحة العامة لحيه، فالطفل انحرف باتباعه بطل السوء، وهذا ربما لعدم وجود بطل الخير والصلاح الذي يرشده ويقتدي به في الحي نفسه.

وبالإضافة إلى ذلك لا نستطيع أن نغفل في هذا المجال الوسائل الترويحية المتــاحة للأطفال في الحي. فبعض العلماء يرى أن الجنـــوح ما هو إلا سـوء استثمار الطفل لوقــت فــراغه، في ظل غيـاب الوسائل الترويحية الصحية المناسبة في الأحياء، مما يجعلهم يتجهون إلى بعض النوادي لتكون مركز تجمع والتقاء بالمجرمين، فتتكون لدى الحدث بلقائهم القدوة السيئة، ويحاول تقليدهم وتقمص شخصياتهم.

ومن هنا نجد شخصية الحدث تتشكل في الغالب بحسب سكان الحي، وبحسب مكانة الحي بين الأحياء على مستوى المدينة، وبحسب وسائل الترويح المتاحة فيه، ( فالحي الذي تتوافق قيمه مع قيم المجتمع الكبير، يكون حيًا سويًا يهيئ للطفل جوًا يكسبه الشعور باحترام النظام والقانون )(51).

ولقد حاول بعض العلماء تصنيف تلك الأحياء المصدرة للجناح، والتي تعد مكان تفريخ للمجرمين، وعد منها سبعة أنواع هي:
1- الحي المزدحم بسكانه الفقراء، وتنتشر فيه الرذيلة.
2- الحي الفقير جدًا، بحيث تصبح السرقات البسيطة وكأنها أمر طبيعي.
3- الحــي الــذي ينفــصل عـــن المجتمع بفـواصــل طبيــــعية أو اجتماعية.
4- الحي الذي يعيش فيه غير المتزوجين، ومن سماته الخليط السكاني غير المتجانس.
5- الحي الذي يغلب على سكانه الأقليات المتميزة عن المجتمع، بحيث يمتاز بعزلة اجتماعية.
6- الحي الذي يعرف عنه أنه مكان للرذيلة ( البغاء، والقمار).
7- الحي النائي، وهذه عادة ما تكون أقرب للريف وتكون ملجأ لاختفاء المجرمين(52).

وأخيرًا نستطيع أن نقول: إن الحي مرآة لساكنيه، فمن خلال الحي نستطيع أن نحدد معالم ساكنيه إلى حد كبير، مع التسليم أن ذلك الأمر ليس مطلقًا، فليس كل ساكن في الحي السيئ هو إنسان منحرف، بل يتوقف ذلك على مدى تأثره بالمواقف الاجتماعية التي يعايشها في الحي، ودور الأسرة والمدرسة في غربلة تلك المواقــف التي يتعلمها في الحي سـواء كانت سلبــية أو إيجابية.

وبالجملة فالحي السيئ نستطيع أن نعتبره عاملاً من العوامل التي تؤثر على انحراف الأحداث.

ونستطيع أن نتبين ذلك إلى حد ما من خــلال الاطـــلاع على إحصاءات انحراف الأحداث في المملكة العربية السعودية، فــلــقد بلــغ عدد الأحداث المودعين دار الملاحظة بالريــاض، في عام 1411هـ، ممن يقطنون في الأحياء الشعبية قبل إيداعهم ( 566 حدثًا) بنسبة 40%، في حين بلغ عدد الأحداث الذي يقطنون أحياء راقية قبل إيداعهم ( 214 حدثًا) بنسبة 15% فقط(53)، ويتوزع البقية بين أحياء حضرية متوسطة، وأحياء ريفية، وسكان بادية.

وفي الدراسة التي أجراها ( الربايعة)(54)على ثلاثة مجتمعات ( الأردن، المغرب، السودان) وجد أن 30% من جيران من ارتكبوا جرائم سبق أن دخلوا السجن.. ويتضح الترابط بين الحي وساكنيه وأثره في إكساب الفرد السلوك المنحرف، إذا عرف أنه في الدراسة السابقة نفسها وجد أن 40% من العينة كانوا يزورون جيرانهم يوميًا، و34% منهم كانوا يزورونهم أسبوعيًا.

جماعة الرفاق ( الأصدقاء):

تتكون عناصر شخصية الطفل وسلوكياته بواسطة العديد من المؤثرات، وإن كانت الأسرة والمدرسة والحي من أبرز تلك المؤثرات، فجماعة رفاق الطفل وأصدقاؤه لا تقل في الأهمية عما ذكر، بل قد تفوق تأثيرات الأصدقاء تأثير العوامل السابقة، ذلك أن جماعة الرفاق تتيح ( للحدث فرصة تحدي الوالدين من خلال قوة الجماعة الجديدة التي صار جزءًا منها، التي تسانده في إظهار هذا التحدي)(55)، إضافة إلى شعــوره ( أنهم يمــدونه بزاد نفسي لا يقدمه له الكبـار أوالأطفال... وبهذا تعــد طبقة الأقــران أحــد المصادر المهمة والمفضلة عند المراهقين للاقتداء واستقاء الآراء والأفكار)(56).

ولقد أشار الإسلام لأهمية الرفقة والصداقة وأثرها في حياة الفرد في اكتساب القيم والسلوكيات والأفكار. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم إلى من يخالل )(57)، والخليل هو الصديق أوالرفيق، فإذا كان أثر الصديق يمتد إلى الدين فلا شك أن أثره في سلوكه واتجاهاته سيكون واضحًا وبينًا، هذا إذا كان واحدًا، فكيف إذا كانت جماعة ? فلا شك أن أثرها على الطفل أوالحدث سيكون أكبر.

ولا غرابة أن يكون لجماعة الرفاق كل ذلك الأثر، ( فالانتماء هو أساس العيش في جماعة اللعب، وهو يتمثل بالقبول المطلق والولاء المطلق... فالطفل يتعلم في جماعة اللعب كيف يعيش في جو جماعي من نوع جديد، وفي إطار قواعد اجتماعية جديدة لا سبيل لمخالفتها)(58)وإلا نبذته الجماعة.

وإن كان بعض الباحثين يرى أن الحدث لا يصاحب إلا من يتفق معه في الميول الانحرافية، أو بينهما اتفاق سابق في الميول الانحرافية، وتشابه في العادات التي تؤدي إلى السلوك المنحرف. بل إنه من العسير أن يندمج الحدث السوي في جماعة منحرفة إلا إذا كان الاستعداد للسلوك المنحرف موجودًا لديه.

ولعل هذا الرأي ينطبق على الأحداث الذين يختارون أصدقاءهم بمحض إرادتهم، ولكن كيــف بمن يجد نفسـه في بيئة يفرض عليه فيها جماعة الرفاق ? كأن يكون رفقاؤه من أقاربه أو جيرانه.

وأصـدقاء الحـدث، نستطيــع أن نصنفهم إلى ثـلاثــة أصـناف رئيسـة، يختــلف تأثــير كل صنــف عن الآخر، وهــؤلاء الأصناف هم:
1- أصدقاء الحدث المماثلون له في السن.
2- أصدقاء الحدث الأكبر منه سنًا.
3- أصدقاء من الأقارب والجيران.

ويختلف أثر كل صنف على الحدث في اكتساب السلوك المنحرف، فنجد أن أشدها خطورة وأكثرها تأثيرًا على الحدث الصنف الثاني الذين يفوقون الحدث سنًا، إذ يعتبرهم الحدث المثل الأعلى، ويرى أن انحرافهم بطولة، يسعى إلى تقليدهم والاقتداء بهم، وقد يتطور الأمر إلى استغلال الصديق البالغ للحدث في أمور عدة، من سرقة، أوترويج مخدرات، أو شذوذ جنسي، أو غيره من الانحرافات.

ولقد أوضحت بعض الدراسات والأبحـاث أن الفـرد قـليـلاً ما يرتكب الجناح منفردًا، ومن هذه الدراسات الدراسة التي قام بها ( جلوك ) على 500 طفل جانح، فوجد أن 492 حدثًا منهم، أي ما نسبته 98.4%، لم يرتـكبــوا الجنــاح بمفـردهم، وإنما مشاركة مع آخرين(59).

وكذلك الدراسة التي أجراها شو ومكاي (Shaw and Mekay) على 5480 حدثًا منحرفًا، فوجد أن 81.8% منهم ارتكبوا أفعالهم الانحرافية مع آخرين(60).
وفي الدراسة التي أجرها ( حيدر ) على المجتمع السوري، ظــهر أن 73% من الأحداث ارتكبــوا أفعـالهم الانحرافية بمشاركة آخرين(61).

وفي المجتمع السعودي، نجد أنه في الدراسة التي أجراها ( المطلق ) على دار الملاحظة في القصيم، ظهر أن 73% من الأحداث قد ارتكبوا أفعالهم الانحرافية بمشاركة آخرين(62).

وفي الدراسة التي أجراها ( الربايعة ) على ثلاثة مجتمعات ( الأردن، المغرب، السودان)، ظهر أن 40% من أفراد العينة ارتكبوا جرائمهم بالاشتراك مع آخرين، وتبين أن الأصدقاء يشكلون حوالي 78% من أعضاء هذه الجماعة(63).

وبكل حال فتأثير جماعة الــرفاق ما هو إلا عــامل من العــوامــل الاجتماعية المـــؤثرة في انحراف الأحــداث، لا يعمل إلا ( بوجود عوامل أخرى مختلفة، تدفع الحدث إلى أن يجد في مثل هذه الرفقة تخفيفًا لمتاعبه وصراعاته، ومن أمثلة هذه العوامل فقدان الرعاية الأسرية، أو الفقر الشديد، والإهمال الشديد، أو القسوة الزائدة)(64).

الخاتمة

انتهى هذا البحث إلى مشروعية الترويح في الإسلام، بل قد يكون مطلوبًا ومهمًا في حياة الفرد.. كما يستطيع الفرد أن يحقق منه أقصى النتائج الإيجابية إذا تعامل معه وفق النظرة الشرعية للترويح، ووفق الضوابط المتعددة التي حرص الإسلام على تلازمها مع أي ممارسة ترويحية، فهناك ضوابط أساسية للترويح، حيث ينبغي ألا يكون محرمًا في ذاته أو يصاحبه مــحـرم، مثـــل: الترويــح الــذي يــطــال الآخـــرين مـنــه إيــــذاء، أو استهزاء، أو سخرية، أو كذب، أو يصاحبه موسيقى أو معازف أو غنــاء، أو تحريــش بين البهــائم.

كما يــوجد ضوابط أخـر تتعلق بالمشاركين في الترويح، وضوابط في وقت الترويح، ومكانه وزيه.

ومما خرج به البحث التأكيد على ضرورة انبثاق الترويح من عقيدة المجتمع، فلقد فشلت كثير من البرامج الترويحية في البلاد المسلمة بسبب استيراد الكثير من المناشط الترويحية من البلاد الخارجية دونما مراعاة لخصوصية المجتمع المسلم.
وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمــارس الترويــح بنفــسه، ويحـث عليه كما تبـــين ذلك في العـديد من الأحاديث الصحيــحة، كما كان صحابته رضوان الله عليهم يمارسون العملية الترويحية في حياتهم اليومية، ولم تكن ممارسته صلى الله عليه وسلم وصحابته لمجرد الترويح فحسب، بل كان له أهداف محددة وسامية، من أبرزها:

- تعويد المجتمع على الحياة الجادة.
- تحقيق التآلف الأسري والمجتمعي.
- التودد إلى أفراد المجتمع المسلم.
- إظهار الفسحة في الدين الإسلامي.
- إزالة ما قد يعتري المسلم من هموم الحياة.

وقد تعددت الممارسات الترويحية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فهناك:

المسابقة على الأقدام، والمسابقة على الخيل والإبل، والمصارعة، والسباحة، والرمي، وحمل الأثقال، والصيد بالسهام والكلاب. وهذه المناشط زاولها بعض الصحابة رضوان الله عليهم في حياتهم اليومية.

كما وجد في عصره صلى الله عليه وسلم ألعاب أخر خاصة بالأطفال، مثل: العرايس، والمراجيح، والمسابقة بالأقدام. وكل هذه الممارسات أصول للترويح يمكن أن تنبثق منها العشرات من الممارسات الترويحية الأُخر، طالما كانت منضبطة بالضوابط الشرعية.

كما انتهى البحث إلى أن هناك علاقة تلازمية بين الكيفية التي يتم بها قضاء وقت الفراغ والانحراف، وأن أوقات الفراغ إذا لم يخطط لها بشكل صحيح فسوف تنتهي إلى مسالك الانحراف التي يدمر الإنسان فيها نفسه ومجتمعه.

هذا ما انتهيت إليه، فإن أصبت فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله الموفق.
عبدالله بن ناصر السدحان


الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» العينات الدوائية المجانية… رؤية شرعية
» الترويح دوافعه ـ ضوابطه ـ تطبيقاته في العصر النبوي:
» درجة الانحراف المسموح بها في القبلة إذا كان المسجد مبنياً بالفعل
» المرأة والأسرة ( مواجهة الانحراف في البيت واجب الأبوين )
» [50] كتب شرعية مهمة للمسلم

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: الكتابات الإسلامية والعامة-
انتقل الى: