عائشة أم المؤمنين براءتها وكفر الطاعنين
تأليف: أبي أنس
ماجد إسلام البنكاني
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). سورة النور.
نزلت هذه الآيات تبرئة لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وابنة أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-، الفقيهة الداعية معلمة الرجال المُبَرَّأةُ من فوق سبع سموات.
طعن قوم بها ورموها بالفاحشة وعارضوا بذلك كلام ربنا في كتابه العزيز، وما ذلك إلا لمرض في قلوبهم، أو عن حقد في نفوسهم، أو مجارات لأهوائهم.
فمن الواجب علينا الذب عن أُمِّنا الطاهرة العفيفة -رضي الله عنها- وعن أبيها، ونصرة للحق المبين.
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ رَدَّ عن عِرْضِ أخيه، رَدَّ اللهُ عن وجهه النار يوم القيامة".
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: مَنْ نصر أخاه المسلم بالغيب، نصره الله في الدنيا والآخرة".
هذا بحق أي مسلم فكيف بالدفاع عن أمنّا عائشة -رضي الله عنها- وزوجة نبينّا صلى الله عليه وسلم.
إنها الصديقة بنت أبي بكر الصديق، القرشية، التيمية، المكية، -رضي الله عنها- وعن أبيها، أم المؤمنين، حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوجته، وهي أحب النساء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أبوها: هو أبو بكر الصديقرضي الله عنه، من بني تيم بن مرة بن كعب، واسمه عبد الله بن أبي قحافة، واسمه عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وأمها: أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية.
كان مولدها في الإسلام قبل الهجرة بثمان سنين أو نحوها.
نزل جبريل عليه السلام، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقرئها منه السلام.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عائشُ هذا جبريل يقرئك السلام " فقلت وعليه السلامُ ورحمة الله وبركاته.
زواجها من نبينّا صلى الله عليه وسلم:
قالت عائشة -رضي الله عنها-: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أريتك في المنام يجيء بك الَملَك في سَرقَةٍ من حريرٍ فقال لي: هذه امرأتك فكشفتُ وجْهك فإذا أنت هي فقلتُ: إن يك هذا من عند الله يُمْضِهِ". رواه البخاري برقم(7/175)، ومسلم برقم( 2438).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها-: " أما ترضين أن تكوني زوجتي في الدُّنيا والآخرة "، قلتُ: بلى والله، قال: "فأنت زوجتي في الدُّنيا والآخرة ".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عائشة زوجتي في الجنة". صحيح الجامع حديث رقم (3965).
قوله -صلى الله عليه وسلم-: "عائشة زوجتي في الجنة": قال المناوي: لعل المراد أنها أحب زوجاته إليه فيها كما كانت أحبهن إليه في الدنيا وإلا فزوجاته كلهن في الجنة.
حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة وحبها له:
من المعلوم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحب عائشة حباً كبيراً، وكانت أحب النساء إليه، كما أن أبوها هو أحب الرجال إليه.
فعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، "أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها، قلت ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعدَّ رجالاً".
وكانت -رضي الله عنها- تبادل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل هذا الحب، ولهذا كانت أكثر زوجاته غيرة عليه، ولها في الغيرة قصص كثيرة ومتعددة.
وتروي عائشة عن نفسها، فتقول: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه فجاء فرأى ما أصنع، فقال: "ما لك ياعائشة أغرت؟" فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك".
وقد علم الصحابة هذا الأمر فكانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة.
فعن هشام بن عروة عن أبيه كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة.
قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن: والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأمر الناس أن يهدوا إليه ما كان أو حيث ما دار.
قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إلي ذكرت له ذلك، فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له ذلك، فقال: "يا أم سلمة لا تؤذوني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها".
قال الذهبي: وهذا الجواب منه دال على أن فضل عائشة على سائر العالمين المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها وأن ذلك الأمر حبه لها.
وعن عبدالملك بن عمير عن عائشة قالت أعطيت خلالا ما أعطيتها امرأة ملكني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا بنت سبع وأتاه الملك بصورتي في كفه لينظر إليها وبني بن لتسع ورأيت جبرائيل وكنت أحب نسائه إليه ومرضته فقبض ولم يشهده غيري والملائكة وأورد من وجه آخر فيه عيسى بن ميمون وهو واه قالت عائشة فضلت بعشر فذكرت مجيء جبريل بصورتها قالت ولم ينكح بكرا غيري ولا امرأة أبواها مهاجران غيري وأنزل الله براءتي من السماء وكان ينـزل عليه الوحي وهو معي وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه فأتى بين سحري ونحري في بيتي وفي ليلتي ودفن في بيتي.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابنته فاطمة رضي الله عنهما: "أي بنية، ألست تحبين ما أحب" فقالت: بلى، "فأحبي هذه".
أنظر إلى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها-، وقد حافظ النبي -صلى الله عليه وسلم- على حبه لعائشة حتى آخر لحظة من حياته، كيف لا وقد أخبره جبريل عليه السلام: "هذه زوجتك في الدنيا والآخرة".
وفي مرضه -صلى الله عليه وسلم- الذي مات فيه قال: "أين أنا غداً، أين أنا غداً ؟" يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها.
قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدور عليَّ فيه في بيتي، فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي". وتقول: ودفن في بيتي".
وانظر إلى وصيته لسيدة نساء الجنة فاطمة -رضي الله عنها- بأن تحب عائشة -رضي الله عنها-، ويأتي أُناس يطعنون فيها بل ويشتمونها بأقبح الشتائم، ألم يعلموا بأنهم واقفون بين يدي الله تعالى يوم القيامة، وستكون عائشة خصيمة لهم يوم القيامة، وسيأخذ الله تعالى حقها منهم، كما سيأخذ حق الصحابة الكرام من كل من طعن بهم وشتمهم.
قالت عائشة -رضي الله عنها-، لقد أُعطيت تسعاً ما أعطيتها امرأة بعد مريم بنت عمران:
1ـ لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حتى أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوجني.
2ـ ولقد تزوجني بكراُ، وما تزوج بكراً غيري.
3ـ ولقد قُبض ورأسه في حجري.
4ـ ولقد قبرته في بيتي.
5ـ ولقد حفَّت الملائكة بيتي.
6ـ وإني لابنة خليفته وصِدِّيقُه.
7ـ ولقد نزل عذري من السماء.
8ـ ولقد خُلِقْتُ طيبة عند طيب.
9ـ ولقد وُعدت مغفرةً ورزقاً كريماً.
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَمُل من الرَّجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وفضلُ عائشة على النساء كفضل الثَّريد على سائر الطعام".
وكان -عليه الصلاة والسلام- أفضل الأزواج على الإطلاق، حيث كان يعاملها بكل ود ولطف وحنان، وكان يلاعبها ويسابقها ويمازحها ويداعبها ويلاطفها.
تقول عائشة -رضي الله عنها- كنت ألعب بالبنات عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكنَّ يأتينني صواحبي ينقمعن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان رسول -صلى الله عليه وسلم- يُسربهنَّ إليَّ.
ومعنى الحديث أنها كانت تلعب بلعب الأطفال المجسمة مع صاحباتها، فإذا دخل -صلى الله عليه وسلم- عليهن اختبأن حياءً منه -عليه الصلاة والسلام- ولكنه لرفقته ورحمته كان يلاعبهن ويدخلهن على عائشة.
وكانت -رضي الله عنها- راجحة العقل.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلتُ يا رسول الله أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرةٌ قد أُكل منها ووجدت شجراً لم يؤكل منها في أيَّها كنت تُرتِعُ بعيرك؟ قال: "في التي لم يُرْتَع منها" تعني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتزوج بكراً غيرها. رواه البخاري.
كرمها وزهدها وورعها وتقواها -رضي الله عنها-.
إنها الزاهدة، الكريمة.
عن تميم بن سلمة عن عروة، قال: لقد رأيت عائشة -رضي الله عنها- تقسم سبعين ألفاً، وإنها لترقع جيب درعها.
وأُتيت مرة بمائة ألف درهم وكانت صائمة ففرقتها كلَّها، وليس في بيتها شيءٌ، فلما أمست، قالت: ياجارية، هلمي فطري، فجائتها بخبز وزيت، ثم قالت الجارية: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشتري لنا لحماً بدرهم نفطر عليه، قالت: لا تعنفيني، لو كنتِ ذكرتيني لفعلت. حلية الأولياء (2/47).
وعن محمد بن عمرو بن عطاء العامري، قال: كانت بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- التي فيها أزواجه، وإن سودة بنت زمعة أوصت ببيتها لعائشة وإن أولياء صفية بنت حيي باعوا بيتها من معاوية بن أبي سفيان بمائة وثمانين ألف درهم، قال بن أبي سبرة: فأخبرني بعض أهل الشام أن معاوية أرسل إلى عائشة أنت أحق بالشفعة وبعث إليها بالشراء واشترى من عائشة منـزلها، يقولون بمائة وثمانين ألف درهم، ويقال بمائتي ألف درهم، وشرط لها سكناها حياتها، وحمل إلى عائشة المال فما رامت من مجلسها حتى قسمته، ويقال اشتراه بن الزبير من عائشة بعث إليها، يقال خمسة أجمال بخت تحمل المال فشرط لها سكناها حياتها فما برحت حتى قسمت ذلك، فقيل لها: لو خبأت لنا منه درهما، فقالت عائشة: لو ذكرتموني لفعلت. الطبقات الكبرى(8/165).
فصبرت -رضي الله عنها- ولم يزعجها الفقر، ولم يبطرها الغنى، صانت عزة نفسها فهانت عليها الدنيا فما عادت تبالي إقبالها ولا إدبارها.
وها هي -رضي الله عنها- تقول: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي -رضي الله عنه- واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر -رضي الله عنه- والله ما دخلته إلا مشدودة عليَّ ثيابي حياءً من عمر -رضي الله عنه-.
فقد كانت -رضي الله عنها- قوية في دين الله تعالى، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتغضب من أجل الله عز وجل، تقول أم علقمة بنت أبي علقمة: رأيت حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر دخلت على عائشة وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها، فشقته عليها، وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور؟ ثم دعت بخمار فكستها.
ذكر طرف من مواعظها وكلامها.
عن عامر، قال: كتبت عائشة إلى معاوية: أما بعد، فإن العبد إذا عمل بمعصية الله عز وجل عاد حامده من الناس ذاماً.
وطلب معاوية منها يوما حديثا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنصحه فيه، فقالت له: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤنة الناس". صحيح الجامع حديث رقم (6010).
وفي رواية: "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس". صحيح الجامع حديث رقم (6097).
أي لما رضي لنفسه بولاية من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً وكله إليه (ومن أسخط الناس لرضى اللّه كفاه اللّه مؤونة الناس) لأنه جعل نفسه من حزب اللّه ولا يخيب من التجأ إليه (ألا إن حزب اللّه هم المفلحون)، أوحى اللّه إلى داود -عليه السلام- ما من عبد يعتصم بي دون خلقي فتكيده السماوات والأرض إلا جعلت له مخرجاً وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماء من بين يديه وأسخطت الأرض من تحت قدميه.
وعنها -رضي الله عنها-، قالت: إنكم لن تلقوا الله بشيء خير لكم من قلة الذنوب فمن سره أن يسبق الدائب المجتهد فليكف نفسه عن كثرة الذنوب. صفوة الصفوة(2/32).
تبرئة الله تعالى لها من فوق سبع سماوات
حادثة الإفك
وذلك أن عائشة -رضي الله عنها- كانت قد خَرَجَ بها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة، نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشةُ لحاجتها ثم رجعت، ففقدت عِقداً لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسُه في الموضع الذي فقدتهُ فيه، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها، فظنوها فيه، فحملوا الهودج، ولا ينكرون خِفته، لأنها -رضي الله عنها- كانت فتية السِّن، لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها، وأيضاً، فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج، لم يُنكروا خِفته، ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين، لم يخف عليهما الحالُ، فرجعت عائشةُ إلى منازلهم، وقد أصابت العِقد، فإذا ليس بها داعٍ ولا مُجيب، فقعدت في المنـزل، وظنَّت أنهم سيفقدونها، فيرجعون في طلبها، واللهُ غالبٌ على أمرهِ، يُدبِّرُ الأمرَ فوقَ عرشه كما يشاءُ، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقِظْ إلا بقول صفوانَ بن المعَطِّل: إنا للهِ وإنا إليه راجعونَ، زوجة رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. وكان صفوان قد عرَّسَ في أُخريات الجيش، لأنه كان كثيرَ النوم، كما جاء عنه في "صحيح أبي حاتم" وفي "السنن".
فلما رآها عَرفها، وكانَ يراها قبلَ نزولِ الحِجابِ، فاسترجع، وأناخَ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلَّمَها كلمة واحدة، ولم تَسمَعْ منه إلا استرجاعَه، ثم سار بها يَقُودُها حتى قَدِمَ بها، وقد نزل الجيشُ في نحرِ الظهيرة، فلما رأى ذلك الناسُ، تكلَّم كُلٌ منهم بِشاكِلته، وما يَليقُ به، ووجد الخبيثُ عدوُّ اللهِ ابن أُبي متنفَّساً، فتنفَّس مِن كَربِ النفاق والحسدِ الذي بين ضُلوعه، فجعل يستحكي الإفكَ، ويستوشِيه، ويُشيعه، ويُذيعه، ويَجمعُه، ويُفرِّقه، وكان أصحابُه، يتقرَّبونَ به إليه، فلما قَدِموا المدينةَ، أفاضَ أهلُ الإفكِ في الحديثِ، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساكِتٌ لا يتكلَّم، ثم استشار أصحابَه في فراقها، فأشار عليه عليٌ -رضي الله عنه- أن يُفارِقَهَا، ويأخُذَ غيرها تلويحاً لا تصريحاً، وأشار عليه أُسامةُ وغيرهُ بإمساكِها، وألا يلتفتَ إلى كلام الأعداء.
فعلي لما رأى أن ما قيل مشكوكٌ فيه، أشار بترك الشَّكِّ والرِّيبة إلى اليقين ليتخلَّص رسول الله من الهمِّ والغمِّ الذي لحقه مِن كلام الناس، فأشار بحسم الداء، لما عَلِمَ حُبَّ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لها ولأبيها، وعلم مِن عِفتها وبراءتها، وحصانتها وديانتها ما هي فوقَ ذلك، وأعظم منه، وعرفَ مِن كرامةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- على ربِّه ومنـزلته عنده، ودفاعِه عنه، أنه لا يجعلُ ربةَ بيته وحبيبته من النساء، وبنت صِدِّقه بالمنـزلة التي أنزلها بهِ أربابُ الإفك، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكرم على ربه، وأعزُّ عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيَّاً، وعلم أنَّ الصِّدِّيقةَ حبيبةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكرمُ على ربها مِن أن يَبْتَلِيهَا بالفاحِشَةِ، وهي تحتَ رسوله.