شهر الله المُحرَّم وصيام عاشوراء
مـحــمــد رفيــق مـؤمـن الشوبكي
غـفـر الله لنــا ولــه وللمســـلميـن
حقـــوق الطبــع والنشـر والتداول
متـــاحة لـكــــل مسلـــم ومسلمــة
===================
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا اللهم علماً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقننا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم آمين.
ثم أما بعد؛
إن من نعم الله تعالى على عباده، أن يوالي مواسم الخيرات عليهم ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، فإن هذه المواسم تتضاعف فيها الحسنات وتكفر فيها السيئات وترفع فيها الدرجات، فما أن انقضى موسم الحج المبارك، إلا وتبعه شهر كريم هو شهر الله المحرم، فلعلنا في هذه الدراسة الفقهية المبسطة نبين شيئاً من فضائله وأحكامه، سائلين الله جل جلاله الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعله هذا العمل المتواضع في ميزان حسناتنا وحسنات مشايخنا، وأن يكون علماً يُنتفع به بإذن الله تعالى.
وسنتولى تقسيم هذه الدراسة الفقهية إلى المبحثين التاليين:
المبحث الأول: شهر الله المحرم.
المبحث الثاني: صيام عاشوراء.
المبحث الأول
شهر الله المحرم
أولاً: حرمة شهر الله المحرم:
قبل الحديث عن حرمة شهر الله المحرّم لابد من الإشارة إلى أن شهر الله المحرم هو أول شهور السنّة الهجرية، وحري بالمؤمن أن يستقبل العام الهجري الجديد بطاعة الله تبارك وتعالى والانصياع لأوامره، وأن يقدم الإنسان لنفسه توبة نصوحاً ورجعة صادقة يغسل بها ما مضى ويستقبل بها ما أتى، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور: 31]، وقال تعالى أيضاً: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [سورة طه: 82].
ويقول الشاعر:
قطعت شهور العام لهواً وغفلة
ولم تحترم فيما أتيت المحرما
فلا رجباً وافيت فيه بحقه
ولا صمت شهر الصوم صوماً متمماً
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي
مضى كنت قواماً ولا كنت محرماً
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة
وتبكي عليها حسرة وتندما
وتستقبل العام الجديد بتوبة
لعلك أن تمحو بها ما تقدما
وشهر الله المحرم هو أحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة: 36].
وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«السنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ متوالياتٌ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان» (رواه البخاري).
وسُمِّيَ شهر محرم بهذا الاسم؛ لأن الله حرَّم فيه القتال، وتأكيداً لحرمته.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف:
"وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم شهر الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، كما نسب محمداً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته، ونسب إليه بيته وناقته، ولما كان هذا الشهر مختصاً بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافاً إلى الله تعالى، ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله، بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام، وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله تعالى، أنه إشارة إلى تحريمه إلى الله تعالى، ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه ويحرمون مكانه صَفَراً، فأشار إلى أنه شهر الله الذي حرمه، فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك وتغييره".
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى:
"إن الله افتتح السنة بشهر حرام واختتمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم، وكان يسمى الله: (شهر الله الأصم) من شده تحريمه".
وقال أبو عثمان النهدي:
"كانوا يعظمون (أي السلف) ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من محرم".
ومما يترتب على حرمة شهر الله المحرم ما يلي:
1 – عظم إثم الظلم فيه لحرمته:
قال تعالى في حرمة الأشهر الحرم: { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }، أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.
وقال أهل العلم:
الظلم محرم في كل الشهور، إلا أنه أعظم إثماً ووزراً في الشهور الحرم (محرم، رجب، ذي القعدة وذي الحجة).
وقال ابن عباس في قوله تعالى:
{ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حراماً وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
وقال قتادة في ذلك:
"إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها. وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء، وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل".
وقال القرطبي:
"خص الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل الزمان، كما قال تعالى: { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [سورة البقرة: 197].
2 – تحريم ابتداء القتال فيه عند بعض العلماء:
قال ابن كثير: قد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام، هل هو منسوخ أو محكم على قولين:
الأول وهو الأشهر:
أنه منسوخ؛ لأنه تعالى قال هاهنا: { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }، وأمر بقتال المشركين فقال: { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً }، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمراً عاماً، ولو كان محرماً في الشهر الحرام لأوشك أن يقيد القتال بمضي الأشهر الحرم، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين.
والقول الثاني:
إن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام، وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام؛ لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } [ سورة المائدة: 2].
وقوله أيضاً:
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [سورة البقرة: 194].
وقال أيضاً:
{ انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [سورة التوبة: 5].
ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم.
والحكمة من تحريم القتال في الأشهر الحرم، فقد أوردها ابن كثير في تفسيره، فقال:
"وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة: ثلاثة سرد، وواحد فرد، لأجل مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل شهر الحج شهر وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمناً".
ويفهم من ذلك كله ومن كلام أهل العلم:
أن الجهاد جهاد دفع وجهاد طلب، وجهاد الدفع (دفاع) جائز في الأشهر الحرم، أما جهاد الطلب (الهجوم) فقد اختلف العلماء في جواز ابتدائه في الأشهر الحرم كما بينا في بداية المسألة.
ثانياً: فضل شهر الله المحرم:
رجَّح طائفة من العلماء أن محرم أفضل الأشهر الحرم، قال ابن رجب: وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل فقال الحسن وغيره: أفضلها شهر الله المحرم ورجحه طائفة من المتأخرين، ويدل على هذا ما أخرجه النسائي وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير وأي الأشهر أفضل؟ فقال: خير الليل جوفه وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم».
قال ابن رجب رحمه الله:
"وإطلاقه في هذا الحديث (أفضل الأشهر) محمول على ما بعد رمضان". أي أن شهر الله المحرم أعظم الشهور بعد رمضان.
ومما يدل على فضل شهر الله المحرم ما رواه مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل».
ويدل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصيّام في شهر محرم لا صومه كله، فلم يصم النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً غير رمضان.
وقال النووي:
"فإن قيل: في الحديث إن أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم، فكيف أكثر الصيام في شعبان دون المحرم؟
فالجواب:
لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر حياته قبل التمكن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه، كسفر أو مرض أو غيرهما".