أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51659 العمر : 72
| موضوع: المسلم في بلاد الغربة الخميس 14 سبتمبر 2017, 4:55 pm | |
| سلسلة: المسلم في بلاد الغربة ج1 "تأصيــــــــــــــل لابد منــــــــــه" بقـلــــــــــم الشيــخ: أيمن الشعبان غـفــــــــــر الله لنا وله وللمسلمين =================== بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الخافض الرافع القابض الباسط المعز المذل الحي القيوم السميع البصير، وأصلي وأسلم على البشير النذير السراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور.
وبعد: من خلال تواصلنا الدائم مع أهلنا وأصحابنا وأحبتنا، الذين اضطرتهم الظروف والمحن، لمغادرة ما كان يعتبر حاضنةً ووطن، فتشتتوا وتهجروا وتغربوا وتعرضوا للابتلاءات والفتن؛ كانت تصلنا العديد من الاستفسارات وطلب التوضيحات والأسئلة المتنوعة في شتى المجالات، لما يواجههم من أحوال جديدة ومواقف فريدة وتحديات عديدة وسلوكيات غريبة وظروف قاسية عنيدة وحالات مقيتة، لأن البيئة والتقاليد والأعراف والأخلاق والسلوكيات بل الاعتقادات مختلفة وغير منضبطة.
مرة يتعلق الاستفتاء بحالات الطلاق، ومرة أخرى بأحكام الربا والقروض، وتارة يرتبط بالتعاملات اليومية، وأخرى بالمطاعم والمأكولات وبعض الأعمال، ناهيك عن إهمال أو إغفال العديد من القضايا العقدية والأخلاقية والسلوكية، حتى أصبحت عادات ومظاهر واندماج وتأقلم، ألِفتها العيون، واستساغتها الآذان، وتشبعت بها القلوب، وقبلتها العقول.
هذه الحقائق وغيرها جعلتني أتوقف قليلاً وأتأمل خطورة الموقف، مع ضرورة البيان والنصح والتوضيح والتفصيل والتواصي بالحق، لأن "تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز" وهذه من أهم وأعظم القواعد الأصولية، حتى نقل العلماء الاتفاق على عدم جواز تأخير ذلك البيان مطلقاً.
بادئ ذي بدء وقبل الدخول في العديد من التفاصيل المتعلقة بعامة المسلمين في بلاد الغربة؛ لابد من تقعيد المسألة وتأصيل القضية وتوضيح الرؤية الشرعية لحقيقة الحكم، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلابد من تصور وافي شافي متكامل للموضوع من جميع جوانبه ومختلف زواياه، لاسيما الحكم الشرعي المبني على أدلة من الكتاب والسنة، مع بيان الضرورات وما يتعلق بها.
إن قضية السفر أو الإنتقال والعيش في بلاد الغربة والكفر، ليست وليدة اليوم، بل منذ بزوغ فجر الإسلام بيَّن اللهُ عز وجل في كتابه العزيز الأحكام التي تتعلق بهذا الأمر، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام وضَّح ذلك، حيث أعقب الله عز وجل ذكر المصرِّين على الإقامة في بلاد الكفر بعد ذكر القاعدين والمتخلفين عن الجهاد.
يقول سبحانه وتعالى: }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا{ (النساء: 97).
بيانٌ لحال القاعدين عن الهجرة بعد بيانِ حالِ القاعدين عن الجهاد.. ظالمين أنفسَهم وذلك بترك الهجرةِ واختيارِ مجاورةِ الكفارِ الموجبةِ للإخلال بأمور الدينِ.[1]
هذا الوعيد الشديد لمَنْ ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: { فِيمَ كُنْتُمْ } أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثَّرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم.[2]
فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل مَنْ أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية.[3]
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء من كل مسلم، يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى نارهما).[4]
ويقول عليه الصلاة والسلام من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: (من جامع المشرك، وسكن معه، فإنه مثله).[5]
(هذان الحديثان هما من الوعيد الشديد المفيد غلظ تحريم مساكنة المشركين ومجامعتهم، كما هما من أَدلة وجوب الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهذا في حق من لم يقدر على إظهار دينه... وأَما مَنْ قدر على إظهار دينه فلا تجب عليه الهجرة، بل هي مستحبة في حقه...
وإظهاره دينه ليس هو مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا والزنا وغير ذلك.
إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أَنواع الكفر والضلال ).[6]
ولا يجوز له الإقامة مع الكفار والبقاء في بلادهم إلا إذا كان يقدر على إظهار دينه؛ بأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله عز وجل، هذا هو إظهار الدين؛ فإذا كان لا يستطيع ذلك؛ وجب عليه أن يُهاجِر إلى بلاد المسلمين من بلاد الكفار، ولا يبقى فيها على حساب دينه وعقيدته .[7]
مما تقدم يتبين لنا حقيقة الحكم الشرعي لأصل التواجد والإقامة في بلاد الكفر والإشراك والإلحاد، وقد تحدث عن هذه القضية جمع غفير من العلماء قديماً وحديثاً، مستنبطين من أدلة الكتاب والسنة أقوالهم وفتاواهم وتوجيهاتهم ونصائحهم، فأحببنا توجيه العقول والتفات الأذهان وتنبيه الغافلين وتبصير القلوب بهذا الحكم واستحضاره باستمرار، لأن القضية دين وشريعة وحكم شرعي وليست هوى ومزاج وتشهي!!
فالقضية إذاً تتعلق بالأحكام الشرعية، كسائر القضايا من تحريم السرقة والخمر وأكل لحم الخنزير والتعامل بالربا وغيرها، ولا تعلق للأمر بالعاطفة أو الأهواء أو الحرية الشخصية أو حقوق الإنسان أو المزاجية أو الماديات وما شابه، فليكن ذلك بالبال.
لكن قد يقول قائل ويعترض معترض: الدول الإسلامية والعربية هي مَنْ تطردنا وتدفعنا دفعا لهذا الخيار ولا ترغب بوجودنا، لاسيما فيما يتعلق بفلسطينيي العراق كنموذج معاصر ومثال شاخص، فكيف نصنع وأين نذهب ولا خيار لنا إلا تلك الدول؟!
في الحقيقة هذا اعتراض وجيه وواقعي ومشاهد وملموس وحقيقي ولسنا بمعزل عنه، لكن لابد لنا من تأصيل القضية ببيان الحكم الشرعي الابتدائي والأصلي للمسألة، ثم من هذا التأصيل أيضا القاعدة الفقهية: "الضرورات تُبيح المحظورات"، وهذه قاعدة عظيمة جليلة هامة، لكن لا ينبغي أن تؤخذ بمفردها ولا تطلق باستمرار، بل لابد من استحضار وتوافق وتقييد بالقاعدة الأخرى: "الضرورات تُقدَّر بقدرها"، فلا يُستغنى عن هذه بتلك، فاحفظ ذلك نفعني الله وإياك وهدانا صراطه المستقيم.
الخلاصة: أن أصل الحكم التحريم والمنع إلا في حالات الضرورة والاستثناء والحاجة، لكن لا يجوز التوسع بها، إنما فقط ما يدفع به الضرر ويزال الخطر، ثم لابد من العودة إلى الحكم الأصلي، ونضرب على ذلك مثلاً نختم به هذا الجزء على أن نكمل التفصيل في أجزاء وحلقات قادمة بعون الله تعالى.
إنسان في صحراء وشارف على الهلاك والموت، ولم يجد إلا لحم الخنزير، ماذا يفعل؟ نقول يجوز له أكل لحم الخنزير بالقدر الذي يدفع به هلاكه وموته مع استحضار حُرمة ذلك واستقباحه، ثم يرجع إلى الأصل وهو تحريم الأكل، فليس له أن يتوسع ويتلذذ لدرجة الشبع، بحجة أنه سيموت أو جائع، والضرورات تبيح المحظورات!! كلا وحاشا، وهذا المثل يُعمم على جميع الأحوال والأحكام والمواقف.
إذاً وجود أي مسلم في تلك البلاد، ينبغي أن يكون من باب الاضطرار لا الاختيار، والاستثناء لا دوام الالتجاء، والفترة المؤقتة لا العيشة المرفهة، والممر لا المقر في هذه الحياة الدنيا، فهذا أصل عظيم وأساس قويم، وبفهمه نفع عميم، نهتدي به إلى صراط مستقيم.
انتظرونا ولا يتعجل متعجل، أو يسارع منفعل، فيُلقي الكلام جزافاً من غير تأمل، ويفهم جزء من الكلام ويترك أجزاء ليتقوَّل، فالكلام متواصل متسلسل متداخل، وكل واحد منا يُقَدّرُ ظرفه، ويعرف حاله، ويقيس ضرورته، فلا يعتذر بما ليس بعُذر، ولا يسترشد بقليل التقوى والبصر، فالله: }يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ{ [8].
ومهما بلغت معاذير الإنسان فهو أعلم بها وبنفسه من غيره: }بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ{ [9]. وصلي الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. -------------------------------------------------------- [1] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، المسمى تفسير أبي السعود. [2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، المسمى تفسير السعدي. [3] تفسير ابن كثير. [4] حديث صحيح، انظر صحيح أبي داود وصحيح الجامع وإرواء الغليل للألباني. [5] حسنة الألباني في صحيح الجامع. [6] فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 78). [7] المنتقى من فتاوى الفوزان، المسألة 149. [8] (غافر: 19). [9] (القيامة: 14-15).
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 15 نوفمبر 2021, 12:03 am عدل 2 مرات |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51659 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51659 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51659 العمر : 72
| |
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51659 العمر : 72
| موضوع: الفرق بين الكفر والإسلام الخميس 14 سبتمبر 2017, 5:28 pm | |
| سلسلة: المسلم في بلاد الغربة ج5 "الفرق بين الكفر والإسلام" بقـلــــــــــم الشيــخ: أيمن الشعبان غـفــــــــــر الله لنا وله وللمسلمين =================== بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، وعلى آله وصحبه وجنده.
وبعد: كنت قد تكلمت في الحلقة السابقة عن بعض الأحكام التي تتعلق بالهجرة، من حيث الأمن والأمان وتفصيل ذلك، صُدمت وتفاجئت بتعليق من أحد الأخوة، التبس عليه الحق بالباطل في أمور هي معلومة من الدين بالضرورة، وقد وردت بصريح القرآن، فقلت في نفسي لعل هذه من آثار التواجد في بلاد الغربة والتأثر بهم، وهذا يدل على خطورة الأمر إلا من عصمه الله تعالى بالحصانة الإيمانية، من التقوى والعلم النافع والعقيدة السليمة والمنهج السديد.
ما جاء في التعليق عبارة عن خلط كبير وتلبيس واضح، بما يخص مصطلح الكافر والمسلم، وما يندرج تحت اصطلاح الكافر من تسميات وأقسام، والتي منها الملحد والمشرك الوثني والمجوسي واليهودي والنصارني اللذين هم أهل الكتاب، وغيرهم من الأديان والملل الكافرة، فلابد من الوقوف مع هذه الحقائق، وإزالة اللبس بعلم ودليل وبرهان، بعيدا عن أي تأثر أو تعاطف أو ميل، إما بسبب الجهل أو الهوى أو الشبهة والشهوة.
أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء والمرسلين إلى أقوامهم خاصة، قال سبحانه (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[1]، وأرسل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام إلى الناس كافة، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم، قال سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )[2]، أي: إلا إلى جميع الخلق من المكلفين[3]، أي: جميعاً، إنسهم وجِنّهم، عَربيهم وعجميهم، أحمرهم وأسودهم[4].
والإسلام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من الأمم السابقة واللاحقة، قال شيخ الإسلام: وَكَانَ دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ: الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنَ الرُّسُلِ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا غَيْرَهُ لَا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنَ الْآخِرِينَ،وَهُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ.[5]
ومن معاني الإسلام في اللغة: الإذعان والانقياد، والدخول في السلم، أو في دين الإسلام.
وفي الشرع فمعناه منفرداً: الدخول في دين الإسلام أو دين الإسلام نفسه.
والدخول في دين الإسلام هو استسلام العبد لله عز وجل باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشهادة باللسان، وتصديق بالقلب، والعمل بالجوارح. ومعناه إذا ورد مقترنا بالإيمان هو: أعمال الجوارح الظاهرة، من القول والعمل كالشهادتين والصلاة وسائر أركان الإسلام.[6]
الإيمان برسل الله جميعا، دون تفريق، هو شرط الإيمان، وعدم الإيمان بواحد منهم هو كفر بهم جميعا، إذ الإيمان لا يتجزأ، فعندما يكفر بواحد من رسل الله يكون قد كذب الله الذي أرسله ولأن جميع الرسل عليهم السلام جاؤوا بكلمة التوحيد، فإن الله سبحانه يقول عمن يكذب بواحد منهم إنهم يكذبون الرسل -مع أنهم لم يرسل إليهم إلا رسولا واحدا، ليوحي التعبير بأن تكذيب الرسول الواحد هو بمثابة تكذيب الرسل كلهم، لأنهم كلهم يقولون ذات الشيء بلا تغيير- فمن كذب واحدا منهم فقد كذبهم جميعا.[7]
وذلك هو شأن اليهود والنصارى، الذين كذبوا رسل الله إلى خلقه بوحيه، حيث فرقوا بين الله ورسله في الإيمان، فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه أباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل إلى ذلك الدليل.
بل بمجرد الهوى والعصبية، فاليهود -عليهم لعائن الله-: آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمدا، عليهما الصلاة والسلام، والسامرة منهم: لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران. والنصارى الضالون: آمنوا بعيسى وبالأنبياء من قبله، وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد عليه الصلاة والسلام ومن كلا الفريقين أو الطائفتين من آمن بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام ولكن على أنه نبي للعرب خاصة، وليست رسالة عامة للبشر كافة، ولا لبني إسرائيل -بزعمهم- ونحو هذا من تفرقاتهم التي كانت تعنتا وزورا وضلالة، واتخذوا بين أضعاف ذلك طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها، والبدعة التي ابتدعوها، -يدعون الناس إليه، فكفروا عنئذ بالله ورسله على ما يؤدي إليه مذهبهم وتقتضيه آراؤهم وتحكماتهم- وإن لم يصرحوا بأنهم يؤمنون بالله ويكفرون برسله- بل حصل كفرهم بطريق الالتزام.[8]
والكفر شرعاً: هو إنكار ما علم ضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، كإنكار وجود الصانع، ونبوته عليه الصلاة والسلام، وحرمة الزنى ونحوه.[9]
والكافر هو المقابل للمسلم، والكفار ثلاثة أقسام: قسم أهل كتاب، وهم اليهود والنصارى بفرقهم المختلفة، وقسم لهم شبهة كتاب وهم المجوس، وقسم لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب وهم من عدا هذين القسمين من عبدة الأوثان.[10]
فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق وجعل منهم الكافر والمؤمن، فمن آمن ففي الجنة خالدا فيها، ومن كفر ففي النار خالدا فيها، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[11]، أي فبعضكم كافر به تعالى وبعضكم مؤمن به عز وجل[12].
يقول عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده؛ لا يسمع بي رجل من هذه الأمة، ولا يهودي، ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي؛ إلا كان من أهل النار)[13]، قال الشيخ الألباني تعليقا على هذا الحديث: والحديث صريح في أن من سمع بالنبي عليه الصلاة والسلام وما أرسل به، بلغه ذلك على الوجه الذي أنزله الله عليه، ثم لم يؤمن به عليه الصلاة والسلام، أن مصيره إلى النار، لا فرق في ذلك بين يهودي أو نصراني أو مجوسي أو لا ديني.
فكل من بلغته الدعوة "صاحب كتاب" يجب عليه الإيمان به، ويحرم عليه البقاء على ما هو عليه، سواء كان على ملة بدلت، أو على ملة لم تبدل، ومن سمع برسالة محمد عليه الصلاة والسلام وبمعجزاته ثم أصر على كفره، ومات على ذلك فهو من الكافرين المخلدين في النار.[14]
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ) أَيْ مِمَّنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي زَمَنِي وَبَعْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَكُلُّهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي طَاعَتِهِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيَّ تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَهُمْ كِتَابٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهُمْ مَعَ أَنَّ لَهُمْ كِتَابًا فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَم. [15]
فهذا حكم الله عز وجل، لا مجال للعاطفة أو الآراء أو التحليل وفلسفة الموضوع، فالحكم الشرعي شيء، وما يحصل من استقبال بعض الكفار للمسلمين ورعايتهم وإنقاذهم من الظلم الذي وقع عليهم في بلدانهم الإسلامية شيء آخر، فليُنتبه للخلط بين الأمرين، ففعلهم هذا يشكرون عليه لأنه من لا يشكر الناس لا يشكر الله، لكن هذا لا يغير من حقيقة الحكم الشرعي الذي ارتضاه الله لهم بعدله، وارتضوه هم لأنفسهم كذلك.
والآيات في بيان حكم كفر أهل الكتاب الذين سمعوا بالنبي عليه الصلاة والسلام أو بدين الإسلام ولم يؤمنوا كثيرة جدا، منها قوله سبحانه: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)[16]، وقوله سبحانه: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ)[17]، وقوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّة)[18].
أما تعدد أقسام الكفار وتسمياتهم، من أهل كتاب ومجوس ومشركين وملحدين وغيرهم، فهذا من باب تسمية الأشياء بمسمياتها، وهذا من عدل الإسلام والإنصاف، حيث فرق الله سبحانه بين أصناف الكفار مع أنهم في كفرهم ملة واحدة، فقال سبحانه: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)[19]، فهذا بحسب عداوتهم للمسلمين وكيدهم ومكرهم.
ولا يعني جواز نكاح الكتابية وإباحة طعاهم؛ أنهم أصبحوا بذلك مسلمين!! فهذا خلط كبير وخبط عجيب، وعندما تزوج النبي عليه الصلاة والسلام مارية القبطية أو صفية بنت حيي اليهودية، هذا متعلق أصلا بجواز زواج الكتابية، ثم أسلمتا بعد ذلك فاختلف الحكم، وقد ذكر الله سبحانه بنفس السورة التي أباح بها طعام أهل الكتاب ونكاح نسائهم نص على كفرهم فتأمل، ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار أهل الكتاب مسلمون بمجرد جواز وإباحة بعض الأحكام، فهذا شيء وأصل الحكم بكفرهم شيء آخر فلينتبه لذلك.
ولا يمكن هنا أن نقول أن النبي عليه الصلاة والسلام يحرم شيئا ويخالفه حاشا وكلا، كما يثار في بعض الشبه وكما ذكر الأخ المذكور في تعليقه، فالخلل في فهمنا وجهلنا بحقيقة هذا الدين وأحكامه العظيمة، فقد نص الله سبحانه صراحة بكفر كل من لم يؤمن بالإسلام وبدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف لنا مخالفة تلك النصوص الصريحة والتعلق بشبه وأوهام لا تسمن ولا تغني من جوع!!
ويقال للمعترض: إذا لم يكن أهل الكتاب كفارا فماذا تسميهم؟!!
فإذا أجاب: بأنهم مسلمون فقد خالف نصا صريحا من القرآن وهذه طامة كبرى والله، وإذا قال بأنهم ليسوا مسلمين فأين يضعهم ولا يوجد إلا صنفان (مسلم أو كافر)!!
يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [20]، إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِين على غير شريعته، فليس بمتقبل... وقال في هذه الآية مخبرًا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام[21].
وهنالك تسميات أخرى للكفار، قد تشترك وتختلف مع بعضها البعض بحسب الأحكام، منها مصطلح أهل الذمة: الْمُعَاهَدُونَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُقِيمُ فِي دَارِ الإْسْلاَمِ. وَيُقِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الإْسْلاَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ [22].
والمستأمن -بكسر المين الثانية-: مَنْ يَدْخُل إِقْلِيمَ غَيْرِهِ بِأَمَانٍ مُسْلِمًا كَانَ أَمْ حَرْبِيًّا[23].
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْمِنِ وَالذِّمِّيِّ: أَنَّ الأْمَانَ لِلْمُسْتَأْمِنِ مُؤَقَّتٌ وَلِلذِّمِّيِّ مُؤَبَّدٌ[24].
والْحَرْبِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَرْبِ، وَهِيَ الْمُقَاتَلَةُ وَالْمُنَازَلَةُ، وَدَارُ الْحَرْبِ: بِلاَدُ الأْعْدَاءِ، وَأَهْلُهَا: حَرْبِيٌّ وَحَرْبِيُّونَ [25].
ولابد هنا من التذكير بالفرق بين إطلاق الحكم بالكفر على غير المسلمين، وأحكام التعامل معهم والمعيشة وما شابه ذلك، فلكل شيء أحكام خاصة به فلا ينبغي الخلط بذلك، ولمزيد من اليقين والتفصيل نذكر بعض فتاوى كبار العلماء فيما ذكرناه، فالقضية ليست مسألة فقهية خلافية، بل هي عقيدة معلومة من الدين بالضرورة ولا يمكن لأي مسلم جهلها.
في سؤال اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء نصه: (هل يجوز أن تدعو النصراني كافراً؟).
الجواب: نعم، يجوز أن نسمي اليهودي والنصراني ونصفهما ونحكم عليهما بالكفر؛ لتسمية الله إياهما بذلك وحكمه عليهما به[26].
وفي سؤال آخر: ما حكم الإسلام في اليهود والنصارى مثلا ممن وصلتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلموا بها لكنهم لم يتبعوه واتبعوا دينهم؟
الجواب: يعتبرون كفارا ويعاملون معاملة الكفار في أحكام الدنيا والآخرة، ولا ينفعهم تمسكهم بدينهم مع كفرهم بما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.[27]
قال ابن حزم: واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفاراً [28].
قال القاضي عياض: ولهذا نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه: فهو كافر بإظهار ما أظهره من خلاف ذلك[29].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد ثبت في الكتاب، والسنَّة، والإجماع: أن من بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به: فهو كافر، لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد ؛ لظهور أدلة الرسالة ، وأعلام النبوة .[30]
وقال أيضاً: فإن اليهود والنصارى كفار كفراً معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام .[31]
وجاء في كشاف القناع: من لم يكفر من دان أي تدين بغير الإسلام، كالنصارى واليهود، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم: فهو كافر، لأنه مكذب لقوله تعالى: ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [32].
قال ابن عثيمين: فمَّن أنكر كفر اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وكذبوه : فقد كذَّب الله عز وجل ، وتكذيب الله : كفر ، ومن شك في كفرهم : فلا شك في كفره هو... وقال أيضا: إن كل مَن زعم أن في الأرض ديناً يقبله الله سوى دين الإسلام : فإنه كافر ، لا شك في كفره.[33]
وعندما سئل الشيخ ابن باز: ما حكم مَن لم يكفِّر اليهود والنصارى؟
أجاب: هو مثلهم، مَن لم يكفر الكفار: فهو مثلهم، الإيمان بالله هو تكفير من كفر به، ولهذا جاء في الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من وحَّد الله وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه وحسابه على الله )، ويقول جل وعلا: ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ).
فلابد من الإيمان بالله، وتوحيده والإخلاص له، والإيمان بإيمان المؤمنين، ولابد من تكفير الكافرين، الذين بلغتهم الشريعة ولم يؤمنوا، كاليهود، والنصارى، والمجوس، والشيوعيين، وغيرهم، ممن يوجد اليوم ، وقبل اليوم، ممن بلغتهم رسالة الله ولم يؤمنوا ، فهم من أهل النار كفار ، نسأل الله العافية .[34]
فالأمر أيها الأخوة خطير جدا، ويمس عقيدة المسلم بشكل مباشر، فلا يجوز الشك في كفر اليهودي أو النصراني أو كل من يدين بغير ملة الإسلام، لأن من شك بذلك فقد خالف وعارض وناقض صريح القرآن، لكن هذا لا يعني الاعتداء عليهم بغير حق، أو سرقتهم أو استحلال أموالهم وغشهم والغلظة في التعامل معهم من غير ضوابط، فالحكم شيء والتعامل شيء آخر يقدر بحسب الصنف المقابل من الكفار، فالكافر المحارب يختلف تعامله مع الذمي وكذلك المستأمِن، وأهل الكتاب يختلفون عن الوثنيين والملحدين وغيرهم، ولعلنا نفرد في ذلك حلقات تباعا بإذنه تعالى إذا كان في العمر بقية.
نسأل الله أن يعيذنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ونسأل الله الثبات على عقيدة التوحيد وسلامة المنهج والسلوك القويم، ونعوذ بالله من الخذلان.
وصلى الله وسلم وبارك على نينا محمد وآله وصحبه أجمعين. --------------------------------------------------------- [1] (النحل:36). [2] (سبأ:28). [3] تفسير ابن كثير. [4] تفسير ابن عجيبة. [5] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح(1/13). [6] الموسوعة الفقهية(4/259). [7] الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى ص22. [8] المصدر السابق 23-24. [9] المنصور في القواعد للزركشي (3/84). [10] ينظر الموسوعة الفقهية (7/140). [11] ( التغابن:2). [12] تفسير الآلوسي. [13] السلسلة الصحيحة حديث رقم 157. [14] فتح المنعم شرح صحيح مسلم(1/489). [15] شرح النووي على مسلم. [16] (آل عمران:70). [17] (آل عمران:98). [18] (البينة:6). [19] (المائدة:82). [20] (آل عمران:19). [21] تفسير ابن كثير. [22] الموسوعة الفقهية(7/141). [23] الموسوعة الفقهية(37/168). [24] المصدر السابق. [25] المصدر السابق. [26] من الفتوى رقم 4319. [27] فتاوى اللجنة الدائمة (3/298). [28] كتاب مراتب الإجماع ص139. [29] الشفا بتعريف حقوق المصطفى ص286. [30] مجموع الفتاوى(12/496). [31] مجموع الفتاوى(35/201). [32] كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي(5/146). [33] جزء من جواب لسؤال نصه( عما زعمه أحد الوعاظ في مسجد من مساجد أوربا من أنه لا يجوز تكفير اليهود والنصارى؟ )، نقلا من موقع الإسلام سؤال وجواب. [34] فتاوى الشيخ ابن باز (28/46-47). نقلا من موقع الإسلام سؤال وجواب.
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 15 نوفمبر 2021, 12:06 am عدل 1 مرات |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51659 العمر : 72
| موضوع: فضل الإسلام على سائر الأديان الخميس 14 سبتمبر 2017, 5:33 pm | |
| سلسلة: المسلم في بلاد الغربة ج6 "فضل الإسلام على سائر الأديان" بقـلــــــــــم الشيــخ: أيمن الشعبان غـفــــــــــر الله لنا وله وللمسلمين =================== بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الكريم المنان، ذي الطول والفضل والإحسان، أنعم علينا بالإسلام، وهدانا للإيمان، وفضل ديننا على سائر الأديان، والصلاة والسلام على النبي العدنان، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
وبعد: في زمن الانفتاح و"العولمة!" وتقارب الحضارات، وعصر السرعة والتكنولوجيا والتقنيات، وسرعة تناقل الآراء والأفكار والثقافات؛ ظهرت على السطح العديد من الشوائب والسلبيات بل الطامات، واضطربت العقائد والمناهج والسلوكيات، وتنكر فئام من المسلمين لدينهم، واغتروا بتمدن وحضارة الآخرين وزيفهم، وانخدعوا ببهارج شعاراتهم، والعديد من الجوانب المادية في حياتهم!!
لعل الظلم والاضطهاد الذي تعرضت له، العديد من الأقليات المسلمة، في أسقاع الأرض، لاسيما في بعض الدول العربية، نتج عنه ردود أفعال ضد تلك الممارسات، وكان الضحية من تلك الردود؛ انتقاص البعض بل الطعن بدين الإسلام والمبالغة في الإطراء على الأديان الأخرى، بذرائع ومبررات ونظرات مادية محضة دون النظر للموضوع من جميع النواحي والجوانب.
نتيجة لاضطرار العديد من المسلمين، طلب اللجوء في دول الكفر والاغتراب، بعد تهجيرهم ومغادرتهم مكرهين لبلدانهم الإسلامية، أو بسبب الاضطرابات الطائفية والسياسية؛ ولما لاقوه من استقبال ورعاية إنسانية في عدة جوانب تختلف بشكل كبير عما كانوا عليه في أماكنهم السابقة، حصل خلط كبير وخبط عجيب، وصل بالبعض لتفضيل الإلحاد وبعض الأديان المحرفة على الإسلام!! بل البعض ارتد عياذا بالله من أجل دريهمات أو سنتات أو متاع زائل ودنيا فانية!!
إن الشكر والإحسان للآخرين واجب، أيا كانت ديانتهم، لكن لا ينبغي الخلط بين حسن التعامل الإنساني أو المادي المحض، مع القضايا العقدية والثوابت الدينية، فيبقى الإسلام الدين الحق العظيم المهيمن على سائر الأديان، ودين الله الواجب الاتباع في الأرض، ولا يمكن بأي حال من الأحوال وتحت أي ظرف للمسلم أن يتنكر لدينه ويستنكف منه، ويثني على غيره من الأديان، أو يفضله لموقف عابر أو تصرف طيب وتعامل محمود وفي جميع الأحوال.
لذلك أحببت التذكير في هذا الجزء من تلك السلسلة، جميع المسلمين في بلاد الغربة، بعِظَم هذا الدين، وفضله على سائر الأديان، وضرورة التمسك والاعتزاز به، وعدم الاغترار بتلك الحضارات القائمة على الماديات، وتجنب التأثر بجوانب على حساب العديد من الحقائق والثوابت التي تضر بدين وعقيدة وسلوك ومنهج المسلم، مع الأخذ بنظر الاعتبار الإنصاف والعدل في التعامل مع الجميع.
يقول ربنا سبحانه وتعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)[1]، إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا دِينَ عِنْدَهُ يَقْبَلُهُ مِنْ أَحَدٍ سِوَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ، حَتَّى خُتِمُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي سَدَّ جَمِيعَ الطُّرُقِ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ بَعْدَ بِعْثَتِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدِين عَلَى غَيْرِ شَرِيعَتِهِ، فَلَيْسَ بِمُتَقَبَّلٍ[2]، فَقَدْ أَذِنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْعَدْلُ وَالتَّوْحِيدُ، وَهُوَ الدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدِّينِ[3].
وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
فَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ كُلُّهُمْ دِينُهُمْ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، {وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وَقَالَ السَّحَرَةُ: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وَقَالَتْ بلقيس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} وَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.
فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ} قَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[4].
بان الشبــــاب فلم أحفل به بالا ... وأقبل الشيب والإسلام إقبالاً وقـــد أروي نديمي من مشعشعة ... وقـــد أقلب أوراكاً وأكفالاً فالحمد لله إذ لم يأتي أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالاً
اعلم أخي المسلم: أن المقياس الشرعي أعلى وأعظم وأجلّ، من المقياس المادي وزخارف الحياة الدنيا، بكل ما فيها من متاع وهناء ورخاء، فقد فضل الله سبحانه وتعالى دين الإسلام على كل دين، قال تعالى: ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)[5]، أي: لا أحد أحسن من دين من جمع بين الإخلاص للمعبود، وهو إسلام الوجه لله الدال على استسلام القلب وتوجهه وإنابته وإخلاصه، وتوجه الوجه وسائر الأعضاء لله[6].
إن أية حضارة بغير قيم, وبغير أخلاق لا يحق لأي عاقل أن ينظر إليها بأي قدر من الإعجاب والانبهار لماذا؟ لأننا لا نفعل غير إعلاء الجانب الحيواني على حساب الجانب الإنساني الذي هو أسمى وأجل ما يستحق السعي لتحقيقه.
"وكل محاولة لإسقاط القيم الخلقية عن أعمال الإنسان مما تصنعه الجاهلية المعاصرة حين تقول: أن السياسة لا علاقة لها بالأخلاق, وأن الاقتصاد لا علاقة له بالأخلاق, وأن العلم لا علاقة له بالأخلاق, وأن الفن لا علاقة له بالأخلاق, وأن علاقة الجنسين لا علاقة له بالأخلاق... كل محاوله من هذا النوع هو اتجاه غير علمي لأنه يخالف أصل الفطرة فضلا عن إثارة المدمرة في الحياة الإنسانية[7].
سـبحان من فضل الإسلام في الأمم ... بالطيبات الطاهر المبعوث في الحر محمّــــــد خير من يمشي على قدم ... إذا عـــددت بيـــوت المــجد والكرم
والله إن القلب ليحزن والعين لتدمع، لما ألمّ بحال بعض المسلمين في تلك المجتمعات، من التنقص وازدراء دين الإسلام، بل الطعن ببعض الثوابت والرموز وتسقيطهم، والعجب من أولئك الذين منعوا أبنائهم من التحدث باللغة العربية فيما بينهم أمام الأجانب، حتى لا يُعرفوا بأنهم مسلمون وبالتالي لا يزدريهم الآخرون!!!
فلأي مستوى وصل الحال بنا من طمس الفطرة وانتكاس الدين واختلال الموازين، وربنا سبحانه يقول: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[8].
والآيات في الكتاب العزيز كثيرة الدالة على الاعتزاز بدين الإسلام، والحرص على الانتساب إليه، والتمسك والتشبث به بل الحث على ذلك، وفوز وفلاح الحريصين المواظبين القائمين عليه، يقول سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[9]، أي لا أحد أحسن قولا وكلاما وطريقة من هذا الذي يدعو إلى الله ويعمل صالحا ويفتخر بدينه الإسلام.
وقال سبحانه فيما أمر به نبيه عليه الصلاة والسلام: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [10]، وقال سبحانه: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ)[11]، وقال عز وجل: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)[12]، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ أي في الكرامة والمثوبة الحسنى، والعاقبة الحميدة. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي بما ينبو عنه العقل السليم، فإنهما لا يستويان في قضيته[13].
إن الله سبحانه وتعالى قد رضي لنا الإسلام دينا، فلِم لا يرضى البعض ما رضيه الله له؟!! فوالله إن هذا خلل عظيم بل طامة كبيرة، إذا وصل حال المسلم -وهو يعلم بقرارة نفسه- أنه لا يستسيغ أو لا يقبل أو لا يطيق أو لا يحبذ، هذا الدين العظيم أو يجامل ويفضل غيره عليه، لا لشيء إلا لمصالح وأهواء وعواطف لا تسمن ولا تغني من جوع، وربنا جل في علاه يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[14]، أي: اخترته واصطفيته لكم دينا، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرا لربكم، واحمدوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها[15]، وأن من فضل الإسلام أنه يحقق رضا الله عز وجل، فالله رضيه لعباده، وأي شيء أعظم من دين رضيه الله لعباده؟[16]
لقد نسى هؤلاء المنبهرين بحضارة الغرب أن هذه الحضارة أشبه ما تكون بسفينة ضخمة أنيقة جميلة . رتبت فيها أماكن للطعام, وأماكن للنوم, وأماكن للعب, وأماكن للتسلية. وأخذ صانعها يدعو الناس إلى ركوبها . وأخذ يشرح لهم كيف يأكلون, وكيف يشربون, وكيف يرقدون, وكيف يلعبون. حتى إذا سأله أحد الركاب: والى أين تذهب بنا هذه السفينة؟ أجاب: لا ادري . اركبوا فقط.!!!
لا هدف, لا غاية, لا مقصد, و لا مردود حقيقي يعود على ركاب هذه السفينة في هذه الرحلة غير إرضاء الشهوات والغرائز والملذات . وكل ما بعد ذلك فهو مجهول[17].
وقد بيَّن عليه الصلاة والسلام فضل أمة الإسلام والمسلمين على الأمم السابقة، فقد أخرج البخاري من حديث عبد الله بن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (مثلكم ومثل أهل الكتابين، كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط ؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: مالنا، أكثر عملاً وأقل عطاءً؟ قال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء).
وقد بين عليه الصلاة والسلام في حديث آخر، أن أمة الإسلام هم الآخرون في الدنيا، والأولون يوم القيامة، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا . فكان لليهود يوم السبت. وكان للنصارى يوم الأحد . فجاء الله بنا . فهدانا الله ليوم الجمعة. فجعل الجمعة والسبت والأحد . وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة . نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق).
ولمكانة الإسلام وعظيم فضله، والتي عرفها البعيد قبل القريب والعدو قبل الصديق، فقد بين الله سبحانه حال الكافر وكيف يود لو كان مسلماً، عندما يُبصر ويرى رأي العين فضل هذا الدين العظيم، قال عز وجل: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)[18]، أي ولكن الكفار سيندمون يوم القيامة على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين... قال الزجاج: الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب، ورأى حالاً من أحوال المسلم، ودّ لو كان مسلماً.[19]
فالعزة الحقيقية للمسلم بل للإنسان، لا تكون بأشياء نسبية مادية زائلة، مهما بلغت في الدقة والتنظيم والحسن والرونق والجمال، فالعزة بهذا الدين الذي يكفل سعادة الدارين، والعجيب أننا جميعا نردد ونقرأ وننادي بمقولة الفاروق عمر رضي الله عنه المشهورة، حيث خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعه أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة فقال أبو عبيدة يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟ تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك فقال عمر أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.[20]
يقول عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيّاً ما وسعه إلا اتباعي)[21]، ويأتي البعض ممن ينتسبون للإسلام، ويفضلون بعض الأديان المُحرّفة؛ التي فيها الكفر والشرك والإلحاد والزندقة والانحلال، يفضلونها على دين الإسلام، نعوذ بالله من الخذلان!! أو يتنكرون لشعائرهم كالصلاة والحجاب والحشمة.
فدين الإسلام دين شمولي وسطي في جميع الأمور؛ في العقيدة والعبادة والأحكام والتشريعات والمعاملات والعلاقات، فالمسلمون وسط في التوحيد بين اليهود والنصارى، وكذلك في النبوات والعبادات؛ فالنصارى يعبدونه ببدع ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، واليهود معرضون عن العبادات، وكذلك في الحلال والحرام وفي المأكل والملبس، ودين الإسلام بحمد الله واضحٌ كلَّ الوضوح، كالشمسِ في رابعةِ النهار، ليس فيه ما يستحيا من إظهاره أو يخاف، فهو دين الفطرة، والحاكم على الأديان، والمهيمن عليها..، وإنما الباطل هو الذي يخشى من إظهاره.[22]
كما امتاز هذا الدين بالظهور والاستعلاء، فهو أعظم وأجل وأعلى دين وأكثرها أهلية، ودين الإسلام دين تشريع ونظام، فلذلك جاء بإصلاح حال المرأة، ورفع شأنها لتتهيأ الأمة الداخلة تحت حكم الإسلام، إلى الارتقاء وسيادة العالم[23].
فلا تعتز أيها المسلم ولا تفتخر إلا بالإسلام، فهو دين الحق والعدل والإحسان، ودين الوسطية والسماحة والرحمة والرفق، ودين الخير والخُلُق والمبادئ الحسنة، فلا حضارة ولا نسب ولا رقي ولا قوانين وضعية ولا ماديات، تنفع بلا دين الصدق والتوحيد والإخلاص.
وافتخر دوماً بدينك كما قال الشاعر: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
وقال الآخر: لعمرُك ما الإنسان إلا ابن دينه ... فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب وقد رفع الإسلام سلمان الفارسي ... كما وضع الشِّركُ اللعينُ أبا لهب
إن أية حضارة تهمل الجوانب الأخلاقية والروحية لا قيمة لكل ما تنجزه في ميزان العقلاء.
فالحضارة التي تهمل الجوانب الأخلاقية والروحية إنما تحكم على نفسها بالفناء العاجل أو الآجل.
واسألوا التاريخ يخبركم عن كل انهيارات الحضارات الكبرى عبر التاريخ إنما كان مرده إلى إهمال الجوانب الروحية والأخلاقية, فكان التعلق بمباهج الحياة وزخارفها هو القشة التي قسمت ظهر البعير[24].
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، واصرف عنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأصلح أحوال المسلمين في كل مكان. -------------------------------------------------------- [1] ( آل عمران:19 ). [2] تفسير ابن كثير. [3] تفسير البحر المحيط. [4] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11/220). [5] ( النساء:125 ). [6] تفسير السعدي. [7] مقال بعنوان" الانبهار بحضارة الغرب ذوبان للشخصية وفقدان للهوية، طارق السقا، موقع صيد الفوائد. [8] ( النساء:139 ). [9] ( فصلت:33 ). [10]( الأنعام:162-163 ). [11] ( الزمر:12 ). [12] ( القلم:35 ). [13] تفسير القاسمي. [14] ( المائدة:3 ). [15] تفسير السعدي. [16] فضل الإسلام، د. ناصر العقل. [17] مقال" الانبهار بحضارة الغرب ذوبان للشخصية وفقدان للهوية". [18] ( الحجر:2 ). [19] التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، وهبة الزحيلي. [20] السلسلة الصحيحة للألباني. [21] حسنه الألباني، انظر كتاب تحريم آلات الطرب. [22] ينظر منهاج السنة لشيخ الإسلام( 5/112) وما بعده. [23] التحرير والتنوير. [24] مقال" الانبهار بحضارة الغرب ذوبان للشخصية وفقدان للهوية".
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 15 نوفمبر 2021, 12:09 am عدل 1 مرات |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51659 العمر : 72
| موضوع: الولاء والبراء الخميس 14 سبتمبر 2017, 5:41 pm | |
| سلسلة: المسلم في بلاد الغربة ج7 "الولاء والبراء" بقـلــــــــــم الشيــخ: أيمن الشعبان غـفــــــــــر الله لنا وله وللمسلمين =================== بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أعزنا بهذا الدين، وأكرمنا بعقيدة الموحدين، وهدانا سبيل المؤمنين، وجنبنا سُبُل المجرمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، قائد الغر المحجلين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: أعز وأغلى شيء للمسلم في هذه الدنيا دينه، وأثمن ما يحققه من هذا الدين عقيدته المتمثلة بتوحيد الله عز وجل، وأظهر عقيدة ينبغي أن تراعى في مواطن الفتن، وكثرة الابتلاءات والاختبارات والمحن، وأحرج الظروف وأشدها وطأة على المسلم؛ هي عقيدة "الولاء والبراء" التي من أجل ترسيخها وتحقيقها بين العباد وإقامة الدين القويم، بعث الله الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[1]، ولا تتحقق عبادة الله على الوجه الصحيح، حتى تكون محبة حقيقية لله ولكل ما يحبه الله، ولا يتحقق اجتناب الطاغوت بشكل فعلي وحقيقي، حتى نتبرأ من كل ما يبغضه الله تعالى، قال سبحانه: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)[2]، أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين[3]، قال ابن كثير: فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم. ولن تتحقق كلمة التوحيد في الأرض إلا بتحقيق الولاء لمن يستحق الولاء، والبراء ممن يستحق البراء.[4]
الولاء والبراء نوعان من أنواع العبادة، وهما بمعنى الحب والبغض، والولاء الذي هو الحب والنصر يكون لله ولرسوله ولدينه ولعباد الله الصالحين، والبراء الذي هو البغض يكون لكل عدو لله ولرسوله ولعباد الله الصالحين، ولا يتم إيمان العبد إلا بالولاء والبراء؛ قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}[5].
لذلك أجر المتمسك بدينه الثابت على عقيدته الموحد لربه، الموالي لأولياءه والمعادي لأعداءه؛ يتضاعف في زمن الغربة والمحنة، فعن عتبة بن غزوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( إن من ورائكم أيام الصبر ، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم ، قالوا ، يا نبي الله أو منهم ؟ قال ، بل منكم )[6]، وفي رواية عبد الله بن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال( إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدا منكم )[7]، وقال عليه الصلاة والسلام( يأتي على الناس زمان ، الصابر فيهم على دينه، كالقابض على الجمر )[8].
لما كثر اختلاط واحتكاك بل معيشة عدد من المسلمين في العقود المنصرمة، في بلاد الغربة ومجتمعات الكفر والإلحاد، ونتيجة لتنوع وتعدد وتلون المعتقدات والأعراق والأجناس والقوميات، انعكس ذلك بشكل سلبي كنتيجة طبيعية لهذا التواجد، لاسيما في قضايا العقيدة الهامة متمثلة بأصل عظيم وركيزة قوية، هي عقيدة الولاء والبراء، حيث بدأت تظهر أفكار وآراء ومفاهيم وتصورات وتصريحات وسلوكيات وأخلاق، خطيرة جدا تخالف وتناقض أساسيات هذا الدين، قد تقود أصحابها لخطر عظيم ونهاية وخيمة عياذا بالله.
وانطلاقا من واجب النصح بالدين، لأنفسنا وأحبابنا وخواصنا وأهلنا بل عامة المسلمين؛ كان لابد من بيان حقيقة هذه القضية التي قد تغيب عن أذهان العديد من المسلمين، مذكرا إياهم بأهميتها وركائزها وفضلها وخطورة نقضها أو التخلي عنها، وقد سمعت أعاجيب وشاهدت طامات في تلك المجتمعات نسأل الله السلامة.
فالقضية إيمان وكفر، حق وباطل، توحيد وشرك، استقامة وانحراف، هداية وضلال، فلابد من ولاء حقيقي: لله ورسوله ودينه وشريعته وأحكامه وأتباعه وعامة المسلمين واعتزاز وافتخار ورضا ومحبة لكل ذلك، وبراء فعلي عملي من: أعداء الله ورسوله والدين من الكفار والملحدين والوثنيين ومن هم على شاكلتهم مهما تعددت الأسماء والأشكال والألوان، على أن يظهر ذلك على اعتقاد وسلوك وسمت ومنهاج وكلام وحديث وتعامل المسلم، أينما تواجد وبأي ظرف يكون، وبخلافه تكون دعوى فارغة المحتوى مجانبة للحقيقة بعيدة عن الواقع!
الولاء والبراء أصلان عظيمان من أصول الإسلام، ومظهران بارزان من عقيدة أهل السنة والجماعة تتميز به عن غيرها. وذلك نابع من كونهما من أهم لوازم كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) .[9]
وبسبب الاحتكاك اليومي للمسلمين في تلك المجتمعات، في المدارس ودوائر الهجرة ومراكز الرعاية الاجتماعية، والمرافق الأخرى، وأن غالبية المسلمين هناك، يتقاضون معاشهم من تلك الدولة غير المسلمة؛ انعكس ذلك على هذه القضية بشكل سلبي في الغالب، لأن الكثير يعتقدون بأنهم لن يحظوا بامتيازات كالآخرين، إلا بتقديم التنازلات لا سيما في عقيدة الولاء والبراء!!
حتى توسع باب الضرورة، وأصبح المسلم يداهن ويجامل بل يثني على الباطل ويصححه، زاعما أنها ضرورة المعيشة في تلك المجتمعات، بل وصل بالبعض باحتقار الجاليات الإسلامية والتودد ولين الخطاب وتبادل الزيارات والتهنئة بالأعياد مع غير المسلمين، ناهيك عن زيارات الكنائس والتذلل لهم وطلب المعونات التي قد لا تكون ضرورية منها، حتى وصل حال العديد لتذويب جميع الفوارق بدعوى أن هؤلاء قدموا لنا معونات وأنقذونا مما كنا فيه من المعاناة!!!
ولا أريد الإطالة والإكثار من الأمثلة، فليس من رأى كمن سمع، وهذه نماذج على سبيل التمثيل لا الاستفاضة، عسى أن ينتبه المسلم ويراجع سلوكياته وتصرفاته وتعاملاته في تلك المجتمعات، لأن القضية خطيرة جدا ولا ينبغي المجازفة بها.
ولأن موالاة من حادّ الله ومداراته تدل على أن ما في قلب الإنسان من الإيمان بالله ورسوله ضعيف؛ لأنه ليس من العقل أن يحب الإنسان شيئاً هو عدو لمحبوبه، وموالاة الكفار تكون بمناصرتهم ومعاونتهم على ما هم عليه من الكفر والضلال، وموادتهم تكون بفعل الأسباب التي تكون بها مودتهم فتجده يوادهم أي يطلب ودهم بكل طريق، وهذا لا شك ينافي الإيمان كله أو كماله، فالواجب على المؤمن معاداة مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قريب إليه، وبغضه والبعد عنه ولكن هذا لا يمنع نصيحته ودعوته للحق.[10]
والولاية هي النصرة والمحبة والإكرام، والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهرا وباطنا، قال تعالى( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ )[11]، فموالاة الكفار تعني التقرب إليهم وإظهار الود لهم، بالأقوال والأفعال والنوايا.[12]
والبراء هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار،[13] قال شيخ الإسلام: والولاية: ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد... فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معاديا له، كما قال تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، فلهذا قال: (ومن عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة).[14]
فالولاء والبراء تابع للحب والبغض، والحب والبغض هو الأصل، وأصل الإيمان أن تحب في الله أنبياءه وأتباعهم، وأن تبغض في الله أعداءه وأعداء رسله.[15]
لقد حثنا الله سبحانه وتعالى على التأسي بإبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين، لأنهم نجحوا في أصعب اختبار في قضية الولاء والبراء، حيث ضربوا أروع الأمثلة في ذلك، فقال سبحانه( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)[16]، ليعلم أن الحب في الله تعالى والبغض فيه سبحانه من أوثق عرى الإيمان فلا ينبغي أن يغفل عنهما[17].
كما أن الله سبحانه وتعالى أثنى على من حقق مبدأ الولاء والبراء فقال: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)[18].
وقد بيَّن عليه الصلاة والسلام هذا المبدأ وحث عليه، بل جعله ركيزة ودعامة أساسية من دعائم وركائز الإيمان، وأنه من أفضل الأعمال إلى الله؛ حيث قال: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله والحب في الله، والبغض في الله).[19]
وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
(من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً)[20].
فالولاء والبراء معتقد قلبي، أي من أعمال القلوب، التي لابد من ظهور أثرها على الجوارح، كباقي العقائد، التي لا يصح تصور استقرارها في القلب دون أن تظهر على جوارح مُعتقِدِها. وعلى قدر قوة استقرارها في القلب وثبوتها تزداد دلائل ذلك في أفعال العبد الظاهرة، وعلى قدر ضعف استقرارها تنقص دلائلها في أفعال العبد الظاهرة[21].
الحبّ في الله والبغضُ في الله لهُ لوازمُ ومقتضيات، فلازمُ الحبِّ في الله: الولاءُ، ولازمُ البغضِ في الله البراء، فالحبُّ والبغضُ أمرٌ باطنٌ في القلب، والولاءُ والبراء أمرٌ ظاهرٌ، كالنصحِ للمسلمين ونصرتهم والذب عنهم ومواساتهم، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وترك التشبه بالكفار، ومخالفتهم، وعدم الركونِ، والثقة بهم، فإذا انتفى اللازم -الولاء والبراء- انتفى الملزوم -الحبُ والبغض- هذا التلازمُ بين الحب والبغض، وبين الولاءِ والبراءِ، يتسقُ مع التلازمِ بين الظاهرِ والباطنِ في الإيمان[22].
والولاء والبراء منزلته عظيمة في ديننا الحنيف، نلخصها فيما يلي[23]: 1- أنها خلاصة الكلمة الطيبة التي يرددها المسلم يومياً "لا إله إلا الله" لأن مضمونها البراء من كل ما يعبد من دون الله، وهي بذلك أهدرت كل وشيجة إلا وشيجة العقيدة. 2- الحب في الله والبغض في الله من شروط صحة "لا إله إلا الله". 3- عقيدة الولاء والبراء هي أوثق عرى الإيمان. 4- إن تحقيق عقيدة الولاء والبراء من مكملات الإيمان. 5- إن تحقيق عقيدة الولاء والبراء سبب لنيل ولاية الله. 6- تحقيق هذه العقيدة سبب لتذوق حلاوة الإيمان. 7- تحقيق هذه العقيدة سبب لنيل الأجر العظيم لأن المتحابين في الله يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
والناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام[24]: القسم الأول: من يُحب محبة خالصة لا معاداة معها، وهم المؤمنون الخلص من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه تجب محبته أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ثم زوجاته أمهات المؤمنين وأهل بيته الطيبين وصحابته الكرام، خصوصا الخلفاء الراشدين وبقية العشرة والمهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم التابعون والقرون المفضلة وسلف هذه الأمة وأئمتها، كالأئمة الأربعة...
القسم الثاني: من يُبغض ويعادى بغضا ومعاداة خالصين لا محبة ولا موالاة معهما، وهم الكفار الخلص من الكفار والمشركين والمنافقين والمرتدين والملحدين على اختلاف أجناسهم.
القسم الثالث: من يُحب من وجه ويُبغض من وجه، فيجتمع فيه المحبة والعداوة وهم عصاة المؤمنين، يحبون لما فيهم من الإيمان، ويبغضون لما فيهم من المعصية التي هي دون الكفر والشرك، ومحبتهم تقتضي مناصحتهم والإنكار عليهم.
بعد معرفة أهمية وعِظم وخطورة، ومفهوم وحقيقة ودلالة، هذا الأصل العظيم، ينبغي لكل مسلم عموما، ومن هم في بلاد الغربة على وجه خاص، التنبه والاحتياط لدينهم وعقيدتهم، وعدم الانزلاق والوقوع في شباك الملذات، ونزوات واستدراج الشيطان فإنه: (يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[25]، ولا تلتفتوا لرضا الناس والمجتمع ولا تخشوهم: (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[26]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله الناس، ومن أسخط الله برضى الناس، وكله الله إلى الناس)[27].
ولنتذكر جميعا موقف الصحابي الجليل جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه، ومن معه من مهاجرة الحبشة، عندما أرسلت قريش من يحرض عليهم ويقوم بتأليب النجاشي، من خلال إحراجهم بالحديث عن خلق المسيح وطبيعته، فكان موقفاً حرجاً للصحابة جميعاً، إذ لا توجد أرض تؤويهم وهم مستضعفون في حينها، ولا يمكنهم العودة إلى مكة، موقف عصيب ولحظات صعبة، لكن لم يداهنوا أو يجاملوا أو يتملقوا على حساب دينهم وعقيدتهم وثوابتهم، فما كان من جعفر رضي الله عنه إلا أن تحدث عن المسيح عليه السلام، كما أخبرنا القرآن فشرح الله صدر النجاشي لذلك وعاملهم بالحسنى، وخابت مؤامرة الكفار!!
فمن كان مع الله كان الله معه، ومن اختار طريق المداهنة والتملق والتنازل وحياة زائلة، ودريهمات ومتاع الدنيا، خاب وخسر مهما حاز واكتسب بحسب مقاييسه، فإن أعظم ثمن يدفعه المسلم في تلك المجتمعات هو دينه، وأعظم ما في الدين العقيدة النقية الصافية، وأبرز ما يمكن التهاون فيه والتنازل عنه الولاء والبراء.
قد يقول قائل: في الوقت الذي تخلى عنا القريب والبعيد ونحن في أصعب الظروف، من دول وحكومات عربية وإسلامية، ومؤسسات وغيرها، استقبلتنا تلك الدول وآوتنا وسهلت لنا حياة آمنة كريمة فيها حقوق افتقدناها في بلداننا؟ فكيف نبغضهم ولا نجاملهم ولا نشكرهم على ما قدموا؟ وكيف لنا تطبيق هذه العقيدة والأدلة صريحة في البراء منهم ومن دينهم ومعتقداتهم وسلوكياتهم الباطلة المنحرفة؟!
هذه شبهة قد تعتري الكثير من المسلمين، فلابد من حل الإشكال وتوضيح الحق، بعيدا عن العاطفة والاندفاع والحسابات الآنية الشخصية، فنقول وبالله نستعين إن ما قدمته تلك الدول من احتضان وإيواء ورعاية وأمن وأمان، يشكرون عليه لأنه كما قال عليه الصلاة والسلام: (من لا يشكر الناس، لا يشكر الله)[28]، لكن لا ينبغي أن ينقلب هذا الشكر والتقدير والامتنان، إلى تنازل ومجاملة ومبالغة في الثناء وتزيين للكفر والإلحاد المتحقق فيهم!!
والفرق بين المداهنة والمداراة وأثرهما على الولاء والبراء: المداهنة: هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومصانعة الكفار والعصاة من أجل الدنيا والتنازل عما يجب على المسلم من الغيرة على الدين. ومثاله الاستئناس بأهل المعاصي والكفار ومعاشرتهم وهم على معاصيهم أو كفرهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة عليه[29].
فالشكر شيء وحصول خلل جراء ذلك بعقيدة الولاء والبراء؛ من خلال مشاركتهم أعيادهم، ومدح ديانتهم والتنازل عن الكثير من ثوابت الإسلام، ومجاملتهم على حساب الشرع والأخلاق، ومحبتهم ومودتهم القلبية، التي تؤدي إلى حب ما هم عليه من معتقد وسلوك شيئا فشيئا!! فهذا كله مخالف لدين الله، فربنا عز وجل يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)[30].
"حادّ" حارب، أو خالف، أو عادى[31]، فعدم الوجدان على حقيقته قال في كشف الاسرار أخبر أن الايمان يفسد بموادة الكفار وكذا بموادة من في حكمهم... واما المعاملة للمبايعة العادية او للمجاورة او للمرافقة بحيث لا تضر بالدين فليست بمحرمة بل قد تكون مستحبة في مواضعها [32]، أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمنا بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملا على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه... وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله، محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى، لا تفيد شيئا ولا يصدق صاحبها[33].
كما أننا لابد من التفريق بين الإحسان إليهم، وحسن جوارهم وصلتهم ومعاشرتهم والبر والعدل والإنصاف معهم، وبين مودتهم ومحبتهم والركون إليهم والأنس بهم والألفة معهم، قال ابن حجر: (البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى" لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله"، فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل)[34].
وكلام الإمام ابن حجر كلام جيد جامع؛ وذلك لأننا نرى اليوم الآثار المدمرة للحب الجارف والود العميق الذي يكنه بعض من قومنا للكفار، وقد جر ذلك علينا ويلات عديدة ما زلنا نعاني منها كل حين، وذلك أن هذه المحبة تقود المسلم قودا إلى تعظيمهم وتقليدهم فيما هم عليه سائر شؤونهم وأحوالهم الحسن منها والسيئ، وهنالك أمثلة كثيرة على الوبال الذي جره الخلط في هذه المفاهيم على المسلمين [35]. نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يعيذنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. -------------------------------------------------------------- [1] (النحل:36). [2] (البقرة:256). [3] تفسير البغوي. [4] الولاء والبراء، محمد سعيد القحطاني ص8. [5] جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف، (1/166). [6] السلسلة الصحيحة رقم 494. [7] صحيح الجامع رقم 2234. [8] صحيح الجامع برقم 8002. [9] الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك، ص11 من كلام المقدم والمراجع. [10] شرح ثلاثة الأصول، (1/34)، ابن عثيمين. [11] (البقرة:257). [12] الولاء والبراء في الإسلام، ص89-90، القحطاني. [13] المصدر السابق، ص90. [14] الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص5. [15] الفتاوى السعدية، ص98، ط. المعارف. [16] (المجادلة: 4). [17] تفسير الآلوسي. [18] (المجادلة:22). [19] السلسلة الصحيحة، رقم 1728. [20] الولاء والبراء في الإسلام، ص91. [21] الولاء والبراء بين الغلو والجفاء في ضوء الكتاب والسنة، ص13. [22] من أرشيف ملتقى أهل الحديث، قسم الجوامع والمجلات ونحوها (67/481). [23] ينظر كتاب " المفيد في مهمات التوحيد" ص203-204 بتصرف. [24] الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، ص289-290، صالح الفوزان. [25] (البقرة:169). [26] (التوبة:13). [27] السلسلة الصحيحة برقم 2311. [28] صحيح الجامع برقم 6601. [29] أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، ص266. [30] (المجادلة: 22). [31] تفسير العز بن عبد السلام. [32] تفسير روح البيان، إسماعيل الخلوتي. [33] تفسير السعدي. [34] التقارب والتعايش مع غير المسلمين، ص51. [35] المصدر السابق، ص51-52. |
|