دراســـــات في الشريعــــــة
الحـــــــــج مدرســــــــــــــة
محمــد بن شــاكر الشـريف
غفر الله لنا وله وللمسلمين
===============
«مَنْ حج لله فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه» [1]، تلك كلمات معدودات قالهن أفضل خلق الله وأبرُّهم وأصدقهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فيها فضل عظيم وخير عميم من الله الغني عن العالمين، وقد دل على ذلك أيضاً نصوص كثيرة؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص -رضي الله عنه- عندما جاء مسلماً وقال: «أريد أن أشترط، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: تشترط بماذا؟ قال: أن يغفر لي، قال: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله!» [2]، وغير ذلك كثير.
ولَكَمْ تتطلع النفس لتدرك:
لِمَ كان هذا الفضل كله على تلك العبادة التي لم يُطالب بها المسلم إلا مرة في عمره، وهذا التطلع ليس استكثاراً لفضل الله الواسع المنان، فهو أهل الفضل والخير والبركة، وإنما هي محاولة للوصول إلى الأسباب والمسوغات؛ ليكون العلم بذلك قائداً إلى تحقيقها، ومعيناً على تحصيلها على الوجه المرضي، للفوز بذلك الفضل العظيم الذي أخبر به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وبقراءة الحديث والتأمل في ألفاظه نجده قد اشتمل على أربعة عناصر، هي:
أولاً:
العبادة المطلوبة وهي الحج.
ثانياً:
المتوجه بها إليه أو المقصود بها وهو الله تعالى.
ثالثاً:
مضيعات هذه العبادة أو مفسداتها وهو الرفث والفسوق.
رابعاً:
الجائزة وهي مغفرة الذنوب جميعها.
فمَنْ قام بهذه العبادة على الوجه الذي شرعه الله تعالى، قاصداً بذلك الله وحده، متجافياً عما يخل بها أو يكدر صفوها؛ ناله من ذلك ما أخبر به الرسول الصادق الوعد صلى الله عليه وسلم.
ولنعد بعد ذلك إلى تلك العناصر بشيء من التفصيل.
============================
* أولاً: الحج:
الحج لغة:
القصد أو كثرة القصد إلى من تُعظِّم.
وشرعاً:
قصد بيت الله الحرام على هيئة مخصوصة ، في زمن مخصوص ، والإتيان بأفعال مخصوصة [3].
والحج عبادة من العبادات التي يشترك المال والبدن في القيام بها، ولها شروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، ومرادنا هو ما وراء ذلك من المعاني الكثيرة العظيمة، والفوائد الغزيرة التي اشتمل عليها الحج، والتي لن نتمكن من أن نأتي على ذكرها جميعاً، بل حسبنا أن نشير على وجه الاختصار إلى بعضها.
1 - الهجرة إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم:
=======================
من المعاني التي نلحظها في أداء عبادة الحج الهجرة إلى الله ورسوله، ففي قيام المسلم به يترك ماله وولده وأهله وعمله ودياره، ويقدم على الله جامعاً بين الخوف والرجاء، فيطلب مغفرة ربه ويرجو رحمته وفضله ، قال الله تعالى في بيان استجابة المسلمين لهذه الهجرة: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 27) «والفج: الطريق الواسعة، والجمع فجاج.. والعميق معناه البعيد» [4].
فيخرج المسلمون من فجاج الأرض ما قرب منها وما بعد ، كلٌّ حسب داره وموطنه ، قاصدين وجه الله تعالى، مهاجرين له فارِّين إليه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه} (الذاريات: 50)، «لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك»، والغريب أن هناك، ممن يحجون بيت الله ويقصدونه، من لا ينتبهون لهذا المعنى في تلك العبادة ولا يمتثلونه ، وأنت تستغرب عندما ترى الحاج وعليه آثار السفر ، ومظاهر الهجرة ، وهو في الوقت نفسه غير قادر على هجر « السيجارة » ، ولو تفطن الحاج إلى معنى الهجرة في الحج لكان من أوائل ما ينبغي عليه فعله هو هجر السيئات والمعاصي ؛ فإن « المهاجر مَنْ هَجَرَ ما نهى الله عنه » [5].
و « المهاجر مَنْ هَجَرَ السيئات » [6] ، وإذا لم يأخذ المسلم نفسه بذلك فأنى يتحقق له هذا المعنى من تلك العبادة العظيمة ؟!
قال الله تعالى في شأن الهجرة والحج داخل فيها:
{وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ( النساء : 100 )، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ خرج حاجاً فمات ؛ كُتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة » [7].
وقال الذهبي في السِّيَر:
«قال الحاكم: سمعت ابنَيْ المؤمل بن الحسن يقولان : أَنْفَقَ جدُّنا في الحجة التي توفي فيها ثلاثمائة ألف. قال الحاكم: فحججت مع ابنيْ المؤمل وزرنا بالثعلبية قبر جدهما فقرأت لوح قبره: {وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ( النساء : 100 )» [8].
2 - المجاهدة في طاعة الله:
===========
ومن المعاني التي نجدها في الحج بذل الجهد في طاعة الله تعالى ، فالمسلم الحاج يخرج من داره وبلده قاصداً بيت الله الحرام فيقدم في طائرة أو على ظهر سفينة أو دابة ، وأحياناً يقدم على رجليه محققاً بذلك عبادة ربه، لا تحول بينه وبين ذلك الصعاب أو المشاق التي تعترض سبيله، بل هو كما قال الله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} ( الحج : 27 ) ، رجالاً: أي ( مشاة ) على أرجلهم ، « والضامر هو البعير المهزول الذي أتعبه السير » [9].
فيتعب المسلم نفسه ويجهد دابته ابتغاء رضوان الله ، والحج بذلك هو نوع من أنواع الجهاد ، وبذلك جاء الحديث ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « جهاد الكبير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة » [10].
وقد ضمن الله تعالى الحاج كما ضمن المجاهد ، فقد أخرج أحمد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج من بيته إلى مسجد من مساجد الله عز وجل ، ورجل خرج غازياً في سبيل الله عز وجل ، ورجل خرج حاجاً » [11].
ولم يستفد من هذا الدرس مَنْ إذا اعترضته الصعاب أو المشاق تقاعس عن أداء ما وجب عليه واعتذر عن ذلك ؛ بأن هذا صعب ، وهذا شاق ، والطقس حار أو بارد .. ونحو ذلك.
3 - الأمة الواحدة:
========
أمة المسلمين واحدة مذ خلق الله تعالى آدم -عليه السلام-، إلى أن يرث عز وجل الأرض ومن عليها، جمع بينهم توحيد الله وعبادته ، فلم يعد شيء يقدر على التفريق بينهم ؛ لا جنس ولا شكل ولا لون ولا لغة ولا بلد ، وها هم المسلمون على تنوعاتهم الكثيرة في هذا الموسم العظيم يجمعهم موقف واحد لعبادة الله العلي الكبير ، وفي هذا الموقف الكبير أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الجليل.
فعن جابر -رضي الله عنه- قال:
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع، فقال: «يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود؛ إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلَّغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليبلغ الشاهد الغائب» [12].
وهذه أمانة، أمانة البلاغ حمَّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة من بعده ، فما قام بهذه الأمانة على وجهها مَنْ تقاعس عن تبليغها أو عمل بما يخالفها، وما فقه هذا الدرس مَنْ فرَّق بين المسلمين في نظرته إليهم أو تعامله معهم على أساس أشكالهم أو ألوانهم أو بلدانهم أو أجناسهم أو لغاتهم، وما فقه هذا الدرس مَنْ عاش لنفسه دون أمَّته، وهو يرى إخوانه المسلمين وهم يُتخطفون وتنتقص أراضيهم من أطرافها، وهو مع ذلك لا يشعر بضر أو ألم إلا ما أصابه هو أو أهله الأقربين.
4 - تعظيم الشرع والتسليم له:
============
المسلم معظِّم للشرع مقدِّم له على كل شيء؛ على الآراء والأقوال، على العقول والأفهام، على الرجال، على النفس والمال، يرى الشريعة معصومة، يقبل منها كل ما جاءت به وثبتت نسبته إليها ؛ حتى لو لم يستوعب ذلك عقله، أو لم تتبين له في ذلك الحكمة، ويظهر ذلك المعنى جلياً في الحج، يظهر في كل شعيرة من شعائره، وأظهر ما يكون في ذلك تقبيل الحجر الأسود، فالحجر الأسود حجر، والحجر لا يضر ولا ينفع، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّله، والمسلم المتبع لأجل ذلك يقبِّل الحجر ويحرص عليه اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وثقةً فيه.
وقد سجَّل هذه القضية الصاحب الجليل والخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما أراد أن يقوم بهذا العمل فقال: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك» [13].
قال ابن حجر -رحمه الله-:
«وفي قول عمر هذا: التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يُكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم تُعلم الحكمة فيه » [14].
وهذا الدرس لم يفهمه الكثير ممن قدَّم عقله وفكره وهواه ، أو ممن قدَّم رغبته وشهوته، أو ممن توقف في امتثال الأمر أو النهي الثابت بالدليل حتى يعلم العلة أو الحكمة.
5 - البراءة من الشرك وأهله:
============
من الأمور المحكمة التي دلت عليها النصوص الشرعية الثابتة من الكتاب والسنة، وجوب البراءة من الشرك وأهله، قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ( الممتحنة: 4 ).
قال ابن كثير -رحمه الله-:
«{إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ}؛ أي بدينكم وطريقتكم: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً}؛ يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا ما دمتم على كفركم، فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه}؛ أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد» [15].
وقد كرَّست شعائر الحج المتعددة هذا المعنى، فخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في الموقف بعرفة والدفع منها، وكذلك الخروج من المزدلفة، وعلَّل ذلك بقوله: «هَديُنا مخالف لهَدي أهل الأوثان والشرك» [16].
فعن المسور بن مخرمة -رضي الله عنه- قال:
«خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من ها هنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها ، هدينا مخالف هديهم.
وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم» [17].
هذا درس عظيم في بغض المشركين والبراءة منهم ومن أفعالهم وعباداتهم وسلوكهم وأخلاقهم، وما فقه هذا الدرس مَنْ يتشبه بالمشركين في العبادات أو الأخلاق والسلوك أو المظهر أو الزي واللباس؛ لأن من البراءة ترك التشبه بهم ، والقصد إلى مخالفتهم.