الباب الثالث: الفصل الأول:
القراءات وتواترها

---------------
تمهيد:
لقد مر زمان على الأمة، كان فيه الأئمة القراء كل منهم يقرئ بما سمع على أساس التمسك بما أذن به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القراءة والإقراء بالأحرف السبعة.

وبمرور الأيام اتسعت رقعة البلاد الإسلامية وكثرت أعداد المسلمين وتوسعت حركة الإقراء فغدت لها مدارس كثيرة لا تعد ومناهج شتى لا تضبط وهذا ما جعل تسرب اللحن والخطأ والشذوذ واردا في القراءات القرآنية.

ودرءاً لهذا الخطر وسداً لباب الإقراء على غير ما أذن به في الأحرف السبعة بدأ الأئمة في مطلع القرن الثالث الهجري بوضع ضوابط تميَّز بين ما يُقبل وبين ما يُرد من القراءات؛ حيث كان الأئمة قبل ذلك لا يعتمدون على ضوابط دقيقة محددة، بل كان اعتمادهم على اعتبارات نسبية مرنة غير محددة وغير دقيقة في الفصل  بين ما هو مقبول وما هو مردود، وكان من تلك الاعتبارات -مثلاً- منزلة الإمام المقرئ، ومدى تفرغه للإقراء، ومدى التزامه بالأفصح من اللغة فيما يُقرئ به.

وكان للإمام ابن الجزري في القرن الثامن الهجري نظرة في تلك الشروط والأركان التي وضعت حدا فاصلا بين القراءة المقبولة والمردودة، برزت من خلالها جهوده في القراءات: تعريفاً وأقساماً وشروطاً، وبيانا لضوابط الشروط حيث أوضح ما يقبل من القراءات وما يرد وبين ما يمكن أن يغتفر في مخالفتها مع توجيه كل ذلك.

وبيان تلك الجهود يظهر من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول:
القراءات وأقسامها وشروطها عند ابن الجزري.
المبحث الثاني:
ابن الجزري وركنية التواتر.
المبحث الثالث:
المتواتر من القراءات عند ابن الجزري
-----------------------------------
المبحث الأول: القراءات وأقسامها وشروطها عند ابن الجزري
لقد تباينت آراء العلماء في القراءات تعريفاً وأقساماً وشروطاً وأسهم ابن الجزري بآرائه في ذلك منقحاً ومضيفاً ومعلقاً وموضحاً مستفيداً مما كتبه أسلافه.

وغايتنا في هذا المبحث بيان جهوده في ذلك بإيضاح آرائه في المسائل التالية:
- تعريف القراءات.
- أقسام القراءات.
- شروط القراءات المقبولة.

--------------------------
المطلب الأول: تعريف ابن الجزري للقراءات
يعرف ابن الجزري القراءات بأنها علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوا لناقله".

وأهم مميزات وخواص هذا التعريف الذي قدمه ابن الجزري تتمثل فيما يلــي:
1- عرف ابن الجزري القراءات بأنها علم ، والعلم هو جملة القواعد والأصول المستعملة في تقرير الأحكام على مسائل معينة، سواء كانت هذه المسائل كلية أم جزئية.

قال في كشف الظنون: "العلم هو مجموع المسائل المتعلقة بجهة مخصوصة".

وفي إطلاق ابن الجزري على القراءات أنها علم يتضح أنه يعتبر القراءات بأنها مجموعة من المسائل المقررة وفق قواعد معينة وهي مختصة بجهة معينة.

وهذا ما يفيد أن القراءات علم مستقل بذاته عن بقية العلوم القرآنية الأخرى كالتفسير والرسم القرآني.

2- اعتبر ابن الجزري أن من مسائل علم القراءات معرفة كيفية أداء الكلمات القرآنية حال اتفاق القراء وحال اختلافهم، فلا فرق بين الحالين.

3- واعتبر ابن الجزري -أيضاً- أن هذا العلم يعنى بعزو الاختلاف إلى ناقليه.

ويبدو من خلال هذه الخواص التي تضمنها تعريف ابن الجزري أنه لم يسبق إلى مثله، حيث لم نجد تعاريف لسابقيه تضبط حد القراءات بهذه الصورة وتضع له هذه الضوابط والحدود.

نعم قد وجدنا تعريفاً للإمام الزركشي وهو متقدم على ابن الجزري لكنه تعريف لم يشتمل على جميع هذه الحدود، فقد قال في معرض حديثه عن الفرق بين حقيقة القراءات وحقيقة القرآن: "القراءات اختلاف ألفاظ الوحي.. في كتبة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرها".

ويلاحظ على هذا التعريف ما يلي:
1- هو تعريف غير جامع لكل موضوعات علم القراءات حيث أسقط مواضع اتفاق ألفاظ الوحي التي نقلها القراء وهو من مسلمات هذا الفن، واكتفى فقط بمواضع الاختلاف.

كما أنه أهمل فيه صاحبه مسألة عزو الاختلاف إلى ناقله وهي مسألة تتحدد بها مذاهب القراء.

2- هو تعريف ليس مانعاً حيث أدرج فيه صاحبه مسألة لا علاقة لها بعلم القراءات، وهي مسألة كتابة الحروف، فهي مما يتعلق بفن الرسم لا بفن القراءة، وإن كان بينهما تداخل من حيث الموضوع، إذ كل منهما يبحث في الكلمات القرآنية.

3- وهو تعريف لم يظهر فيه ضرورة النقل والرواية والعزو إلى الناقل وكل ذلك من حيثيات علم القراءات.

وكان الإمام أبو حيان الأندلسي قد جعل علم القراءات جزءاً من علم التفسير فقال: "التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب وتتمات ذلك" ثم قال: "وقولنا يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هذا هو علم القراءات".

ويلاحظ على هذا التعريف ما يلي:
1- جعل أبو حيان القراءات جزءاً من علم التفسير، وهو ما ينفي استقلالية علم القراءات.

2- يعد هذا التعريف أقرب إلى علم التجويد منه إلى علم القراءات إذ التجويد يبحث في كيفيات النطق والأداء للفظ القرآني بينما يبحث علم القراءات أساساً في اختلاف أوجه اللفظ القرآني لا في كيفية النطق.

3- نجد هذا التعريف لم يورده أبو حيان قاصداً به تعريف القراءات وإنما جاء به عرضاً وتعليقاً فحسب، وبالتالي لا ينظر إليه على أنه الحد الجامع المانع ولا يلتفت إليه على أنه تعريف القراءات.

وإذا ما اتضح ذلك تبين أن تعريف ابن الجزري كان تعريفاً دقيقاً جامعاً مانعاً تتضح به حدود هذا الفن وأبعاده.

وبعد أن عرف ابن الجزري القراءات ساق تعريف المقرئ والقارئ لما لهما من علاقة وطيدة بالقراءات.

فالمقرئ عنده هو:
العالم بالقراءات الذي رواها مشافهة، فلو حفظ التيسير -مثلاً- ليس له أن يقرئ بما فيه إن لم يشافه من شوفه به مسلسلاً لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة".

ويكشف ابن الجزري في هذا التعريف الذي ساقه للمقرئ عن مسألة مهمة في علم القراءات، وهي كيفية تحمل القراءة، وممن يجوز أداؤها، فهو يؤكد على أن القراءة لا تتحمـل إلا بالسماع والمشافهة بين المقرئ وشيخه.

وأن يكون المشافه به مسلسلاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن هنا يتبين الفارق الجوهري بين اللفظ القرآني ولفظ الحديث، فإذا أجاز علماء الحديث أن يتحمل الحديث عن طريق السماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه، والسماع عليه بقراءة غيره والمناولة والإجازة وغيرها فإن القراءة القرآنية لا يجوز تحملها إلا عن طريق القراءة على الشيخ، فهي الطريقة الوحيدة المعمول بها سلفاً وخلفاً، والسماع وحده غير كاف لتحمل القراءة وأدائها إلا إذا قرن بالقراءة على الشيخ.

قال السيوطي:
"..وأما السماع من لفظ الشيخ فيحتمل أن يقال به هنا، لأن الصحابة -رضي الله عنهم- إنما أخذوا القرآن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن لم يأخذ به أحد من القراء، والمنع فيه ظاهر -أي منفرداً- لأن المقصود هنا كيفية الأداء، وليس كل مَنْ سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته بخلاف الحديث؛ فإن المقصود فيه المعنى واللفظ لا بالهيئات المعتبرة في أداء القرآن، وأما الصحابة فكانت فصاحتهم وطباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه نزل بلغتهم".

وقد كان ابن الجزري:
 لا يكتفي بالسماع ما لم يقرأ الطالب عليه، وحين قدم القاهرة وازدحم عليه الطلاب، ولم يكن وقته ليتسع لقراءة الجميع كان يقرأ عليهم الآية ثم يعيدونها عليه دفعة واحدة، ولم يكتف بقراءته عليهم.

قال الدكتور عبد العزيز القارئ:
"إن الحروف القرآنية تنحصر روايتها على نوع واحد من أنواع التلقي والرواية وهو المشافهة، فلابد أن يسمع الراوي من شيخه الأحرف.

وقال بعضهم:
لابد أن يعرضها عليه، أي يقرأ بها القرآن والشيخ يسمع منه؛ إذ ليس كل سامع بالضرورة قادراً على القراءة بما سمع".

ويشترط ابن الجزري في المقرئ أيضاً أن يكون حراً عاقلاً مسلماً مكلفاً ثقةً مأموناً ضابطاً متنزهاً عن أسباب الفسق ومسقطات المروءة.

وهذه الشروط تجعل المقرئ المتصدر للقراءة ثقة، ومَنْ كان غير ذلك فلا يصلح لأداء القراءة سواء كان تجريحه من جهة العدالة أو من جهة الحفظ والضبط.

وإذا ما كانت هذه الشروط شروطاً في قبول الحديث فاشتراطها في قبول القراءة من باب أولى.

ويعرف ابن الجزري القارئ بقوله:
"والقارئ المُبتدئ مَنْ شرع في الإفراد إلى أن يفرد ثلاثاً من القراءات، والمُنتهي من نقل القراءات أكثرها وأشهرها".

المطلب الثاني: تقسيم ابن الجزري للقراءات وأهميته
أولا: تقسيم ابن الجزري
يقسم ابن الجزري القراءات في جملتها إلى أقسام ثلاثة مفصلة كما يلي:
القسم الأول: القراءات المتواترة
القراءات المتواترة هي ما نقله جماعة عن جماعة كذا إلى منتهاه، من غير أن يعين ابن الجزري حد التواتر من حيث العدد بل لم يعتبر تحديد العدد صحيحا فقال: "...من غير تعيين عدد هذا هو الصحيح، وقيل بالتعيين واختلفوا فيه، فقيل: ستة وقيل: اثنا عشر، وقيل عشرون، وقيل أربعون، وقيل سبعون".

وفي إهمال ابن الجزري للقول بتعيين عدد التواتر دليل على أنه يأخذ بالكثرة الساحقة التي لا يمكن تصور تواطئها على الكذب حيث يرى أن القراءات الثابتة لم تنقل جماعة عن جماعة وإنما نقلت أمة عن أمة؛ ولذا فإنه لم ير ضرورة لتعيين العدد الذي يلزم أن يكون حداً للتواتر.

وبناء على هذا فإنه يرى أن القراءات المتواترة في زمانه هي القراءات العشر، وجزم بأن ليس بعدها شيء مواتراً من غيرها، وما كان ليجزم بذلك إلا لأنه استقرأ جميع الأسانيد التي كانت في زمانه ونظر في طبقات أسانيدها وفي أحوال رجالها وكانت خلاصة جهده الجزم بتواتر العشرة لا غير.

القسم الثاني: القراءات الصحيحة
القراءات الصحيحة هي ما صح سنده بنقل العدل الضابط (الثقة) عن مثله كذا إلى منتهاه.

وهو عنده قسمان:
أولهما يتفرع إلى نوعين:
أ- قراءات مشهورة مستفاضة تلقتها الأمة بالقبول، ولم تخالف الرسم ولا العربية، ويمثل لهذا النوع بما انفرد به بعض الرواة عن القراء، وكمراتب القراء في المد فقال: "..كما انفرد به بعض الرواة وبعض الكتب المعتبرة، أو كمراتب القراء في المد ونحو ذلك".

ويلحق ابن الجزري هذا النوع بالقراءة المتواترة حكماً لأنه صحيح مقطوع به يفيد القطع لا الظن فقال: "وهذا الضرب يلحق بالقراءة المتواترة وإن لم يبلغ مبلغها".

ب- قراءات غير مشهورة وليست مستفاضة ولم تتلق بالقبول من طرف الأئمة وهو ما يطلق عليه الآحاد.

وثاني القسمين من القراءة الصحيحة هو:
ما صح سنده ووافق العربية وخالف الرسم العثماني، ويمثل لذلك بما ورد في الصحيح من زيادة ونقص وإبدال في قراءات بعض الصحابة.

وهذا القسم بالرغم من صحة سنده إلا أنه ألحقه بالقراءة الشاذة حيث شذ عن رسم المصحف العثماني، وما إلحاقه بالقراءة الصحيحة إلا لصحة سنده لا غير.

وظهر ذلك في كونه ينفي صحة الصلاة به ويورد لذلك شواهد من أقوال الأئمة: مالك وابن عبد البر وابن الصلاح وابن الحاجب.

القسم الثالث: القراءات الشاذة
القراءات الشاذة هي ما نقله غير الثقة سواء وافق العربية ورسم المصحف أم خالف.

ومثال ذلك قراءة ابن السميفع وأبي السمال في قوله: "اليوم ننجيك ببدنك" "ننحيك" بالحاء المهملة، وما نسب أيضاً إلى الإمام أبي حنيفة من قراءة: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" بنصب "العلماء" ورفع لفظ الجلالة "الله".

ويدرج تحت هذا القسم ما صح لغة ووافق الرسم لكنه لم ينقل البتة فقال: "وبقي قسم مودود أيضاً وهو ما وافق العربية والرسم ولم ينقل البتة فهذا رده أحق، ومنعه أشد، ومرتكبه مرتكب لعظيم من الكبائر".

ثانيا: أهمية هذا التقسيم
لقد أتقن ابن الجزري هذه المسألة وأحكم أقسامها وأجاد في تفصيلها بالشكل الذي لا نجده عند متقدميه، فقد قسم أبو شامة القراءات إلى نوعين فقط هما متواتر وآحاد فقال: "..إن القراءة المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ" وجاء القاضي جلال الدين البلقيني بتقسيم ثلاثي مجمل غير مفصل فقال: "القراءة تنقسم إلى متواتر وأحاد وشاذ فالمتواتر القراءات السبعة المشهورة والأحاد قراءات الثلاثة التي هي تمام العشر، ويلحق بقراءة الصحابة، والشاذ قراءات التابعين كالأعمش ويحيى بن وثاب وابن جبير ونحوهم".

ويظهر جهد ابن الجزري في كونه فصل بين نوعين من القراءة الصحيحة وفرق بينهما في الوقت الذي نجد من سبقه يعدهما نوعا واحدا، فابن الجزري يقسم الآحاد إلى مشهور مستفيض ملتقى بالقبول وهذا ما عده في زمرة القراءة المقبولة، وإلى غير مشهور ولامستفاض، وهذا ماعده في زمرة القراءة المردودة.

فهذا التقسيم أظهر الفرق الذي لم يظهر في التقسيم العام الذي يجعل الآحاد نوعاً واحداً، ويظهر من خلال هذا التقسيم الذي اعتمده ابن الجزري أنه متأثر تأثرا بليغا بمنهج أهل الحديث، ولا يستغرب فيه ذلك طالما هو من القراء المحدثين، وبهذا التقسيم يكون ابن الجزري قد أخضع أقسام القراءة لأقسام الحديث.