الباب الثامن عشر: فيما جاء في القضاء وذكر القضاة وقبول الرشوة والهدية على الحكم وما يتعلق بالديون وذكر القصاص والمتصوفة وفيه فصول
الفصل الأول
فيما جاء في القضاء وذكر القضاة وأحوالهم وما يجب عليهم
قال الله تعالى: ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) وقال تعالى: ( فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط ) وقال تعالى: ( ومَنْ لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حكم بين اثنين تحاكما إليه وارتضياه فلم يقض بينهما بالحق فعليه لعنة الله".

 وعن أبي حازم قال دخل عمر على أبي بكر رضوان الله عليهما فسلم عليه فلم يرد عليه فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف أخاف أن يكون وجد علي خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلم عبد الرحمن أبا بكر فقال أتاني وبين يدي خصمان قد فرغت لهما قلبي وسمعي وبصري وعلمت أن الله سائلي عنهما وعما قالا وقلت.

وادعي رجل على علي عند عمر رضي الله عنهما وعلي جالس فالتفت عمر إليه وقال يا أبا الحسن قم فاجلس مع خصمك فتناظرا وانصرف الرجل ورجع علي إلى مجلسه فتبين لعمر التغير في وجه علي فقال يا أبا الحسن مالي أراك متغيراً أكرهت ما كان؟ قال نعم، قال وما ذاك؟ قال كنيتني بحضرة خصمي هلا قلت يا علي قم فاجلس مع خصمك؟ فأخذ عمر برأس علي رضي الله عنهما فقبله بين عينيه ثم قال بأبي أنتم بكم هدانا الله وبكم أخرجنا من الظلمات إلى النور.

وعن أبي حنيفة رضي الله عنه:
القاضي كالغريق في البحر الأخضر إلى متى يسبح وإن كان سابحاً.

 وأراد عمر بن هبيرة أن يولي أبا حنيفة القضاء فأبي فحلف ليضربنه بالسياط وليسجننه فضربه حتى انتفخ وجه أبي حنيفة ورأسه من الضرب فقال الضرب بالسياط في الدنيا أهون علي من الضرب بمقامع الحديد في الآخرة.

وعن عبد الملك بن عمير عن رجل من أهل اليمن قال أقبل سيل باليمن في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكشف عن باب مغلق فظنناه كنزاً فكتبنا إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فكتب إلينا لا تحركوه حتى يقدم إليكم كتابي ثم فتح فإذا برجل على سرير عليه سبعون حلة منسوجة بالذهب وفي يده اليمنى لوح مكتوب فيه هذان البيتان:
( إذا خان الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء )
( فويل ثم ويل ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء )
و إذا عند رأسه سيف أشد خضرة من البقلة مكتوب عليه هذا سيف عاد بن إرم.

عن ابن أبي أوفي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار بريء الله منه ولزمه الشيطان".

وقال محمد بن حريث بلغني أن نصر بن علي راودوه على القضاء بالبصرة واجتمع الناس إليه فكان لا يجبهم فلما ألحوا عليه دخل بيته ونام على ظهره وألقى ملاءة على وجهه وقال اللهم إن كنت تعلم أني لهذا الأمر كاره فاقبضي إليك فقبض.

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "القضاة جسور للناس يمرون على ظهورهم يوم القيامة".

وقال حفص بن غياث لرجل كان يسأله عن مسائل القضاء لعلك تريد أن تكون قاضياً لأن يدخل الرجل أصبعه في عينيه فيقلعهما ويرمي بهما خير له من أن يكون قاضياً.

وقيل أول من أظهر الجور من القضاة بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري كان أمير البصرة وقاضياً فيها وكان يقول إن الرجلين يتقدمان إلي فأجد أحدهما أخف على قلبي من الآخر فاقضي له.

وتقدم المأمون بين يدي القاضي يحيى بن أكثم مع رجل ادعى عليه بثلاثين ألف دينار فطرح للمأمون مصلى يجلس عليه فقال له يحيى لا تأخذ على خصمك شرف المجلس ولم يكن للرجل بينة فأرأد أن يحلف المأمون فدفع إليه المأمون ثلاثين ألف دينار وقال والله ما دفعت لك هذا المال إلا خشية أن تقول العامة إني تناولتك من جهة القدرة ثم أمر ليحي بمال وأجزل عطاءه.

قدم خادم من وجوه خدم المعتضد بالله إلى أبي يوسف بن يعقوب في حكم فارتفع الخادم على خصمه في المجلس فزجره الحاجب عن ذلك فلم يقبل فقال أبو يوسف قم أتؤمر أن تقف بمساواة خصمك في المجلس فتمتنع يا غلام ائتني بعمرو بن أبي عمرو النحاس فإنه إن قدم على الساعة أمرته ببيع هذا العبد وحمل ثمنه إلى أمير المؤمنين ثم إن الحاجب اخذ بيده حتى أوقفه بمساواة خصمه فلما انقضي الحكم رجع الخادم إلى المعتضد وبكى بين يديه وأخبره بالقصة فقال له لو باعك لأجزت بيعه ولم أردك إلى ملكي فليست منزلتك عندي تزن رتبة المساواة بين الخصمين في الحكم فإن ذلك عمود السلطان وقوام الأديان والله تعالى أعلم.

قال العكلي يمدح بعض القضاة:
( رفضت وعطلت الحكومة قبله ... في آخرين وملها رواضها )
( حتى إذا ما قام ألف بينها ... بالحق حتى جمعت أوفاضها )


وفي ضد ذلك قول بعضهم:
( أبكي وأندب ملة الإسلام ... إذ صرت تقعد مقعد الحكام )
( إن الحوادث ما علمت كبيرة ... وأراك بعض حوادث الأيام )


وتقدمت امرأة إلى قاض فقال لها جا معك شهودك فسكتت فقال انتبهي إن القاضي يقول لك جاء شهودك معك قالت نعم هلا قلت مثل ما قال كاتبك كبر سنك وقل عقلك وعظمت لحيتك حتى غطت على لبك ما رأيت ميتاً يقضي بين الأحياء غيرك.

 وقيل المضروب بهم المثل في الجهل وتحريف الأحكام قاضي مني وقاضي كسكر وقاضي أيدج.

وهو الذي قال فيه ابو إسحاق الصابي:
( يا رب علج أعلج ... مثل البعير الأهوج )
( رأيته مطلعاً ... من خلف باب مرتج )
( وخلفه عذيبة ... تذهب طوراً وتجي )
( فقلت من هذا ترى ... فقيل قاضي أيدج )


وقاضي شلبة وهو الذي قال فيه أبو الحسن الجوهرى:
( رأيت رأساً كدبه ... ولحية كالمذبة )
( فقلت من أنت قل لي ... فقال قاضي شلبه )


وتقدمت امطرأة جميلة إلى الشعبي فادعت عنده فقضى لها فقال هذيل الأشجعي:
( فتن الشعبي لما ... رفع الطرف إليها )
( فتنته ببنان ... كيف رؤيا معصميها )
( ومشت مشياً رويداً ... ثم هزت منكبيها )
( فقضي جوراً على الخصم ... ولم يقض عليها )


فتناشدها الناس وتداولوها حتى بلغت الشعبي فضرب الأشجعي ثلاثين سوطاً.

وحكى ابن أبي ليلي قال:
انصرف الشعبي يوماً من مجلس القضاء ونحن معه فمررنا بخادمة تغسل الثياب وهى تقول فتن الشعبي لما وأعادته ولم تعرف بقية البيت فلقنها الشعبي وقال رفع الطرف إليها ثم قال أبعده الله أما أنا فما قضيت إلا بالحق.

وأنشد بعضهم في أمين الحكم:
( تتماوتن إذا مشيت تخشعاً ... حتى تصيب وديعة ليتيم )