انتبهوا إنه محمد رسول الله
حذر الله عز وجل تحذيراً شديداً من إيذاء سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم بأي صورة من صور الإيذاء، فقال تعالى مخاطباً المؤمنين: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} (الأحزاب: 53)، وقال مخاطباً المنافقين: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة: 61)، بل توَّعد الله كل مَن أساء لنبيه صلى الله عليه وسلم بالعذاب في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} (الأحزاب: 57).
قال ابن كثير:
"والظاهر أن الآية عامة في كل مَن آذاه بشيء، ومَن آذاه فقد آذى الله، ومَن أطاعه فقد أطاع الله".
تحت دعوى باطلة أسموها حرية التعبير ما زالت الإساءات لنبينا صلى الله عليه وسلم مستمرة، ولن تنتهي طالما هناك مَن يبغض الإسلام ويحقد على نبيه عليه الصلاة والسلام، فعداوة الكافرين لنبينا ولدينه عداوة قديمة منذ بعثته، وهي مستمرة إلى أن يرث اللهُ الأرض ومَن عليها، وقد بيَّن اللهُ تعالى أن هؤلاء الحاقدين لن يرضوا عن المسلمين حتى يتبعون ملتهم، ويسيرون سيرتهم، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (البقرة: 120).
ورغم البُعد عن الإنصاف وحملات التشويه والإساءات المتكررة لنبينا صلى الله عليه وسلم، فالمُتأمل في التاريخ يُدرك أنه لم تَحظ شخصية بمثل ما حَظيت به شخصية نبينا صلى الله عليه وسلم من الاهتمام والإشادة، والثناء والتمجيد من العدو والصديق، والمؤمن والكافر، وإذا كان من الطبيعي أن يثني التابعون على متبوعهم، فإنه من غير الطبيعي ثناء الأعداء والمخالفين، ففي عصر الرسالة قال عنه كفار مكة الذين لم يؤمنوا به: "ما جربنا عليك إلا صدقاً"، وأسموه: " الصادق الأمين".
وفي العصر الحديث جرت أقوال كثيرة لعلماء ومفكرين وأدباء فلاسفة غربيين -منصفين- تدل على عظمة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه هي الحقيقة التي لا مفر منها، والتي نطقت بها ألسنتهم؛ لتكون حجة عليهم وعلى أقوامهم ممن يكابر ويعاند، ويأبى إلا الكذب والتزوير، وقلب الحقائق، قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33).
وفيما يلي نسوق بعض الأقوال الصادرة عن ألسنة علماء ومفكرين غربيين، تحدثوا بإنصافٍ عن نبينا صلى الله عليه وسلم:ـ
جوستان لوبون: باحث فرنسي شهير يقول في كتابه: "الدين والحياة":
"لقد كان محمدٌ ذا أخلاق عالية وحكمة ورقة قلب، ورأفة ورحمة، وصدق وأمانة"، ويقول أيضاً: "إذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم، كان محمدٌ من أعظم مَن عرفهم التاريخ، وقد أخذ علماء الغرب يُنصفون محمداً، مع أن التعصب الديني أعمى بصائر مؤرخين كثيرين عن الاعتراف بفضله".
ـ كارديفو: فيلسوف فرنسي مشهور يقول:
"إن محمداً كان هو النبيُ المُلْهَم والمؤمن، ولم يستطع أحدٌ أن يُنازعه المكانة العالية التي كان عليها، إن شعور المساواة والإخاء الذي أسسه بين أعضاء الكتلة الإسلامية كان يُطبق عمليًّا حتى على النبي نفسه".
ـ لامارتين: الشاعر الفرنسي العالمي الشهير يشهد للنبي محمد صلى الله عليه وسلم فيقول:
"مَن ذا الذي يجرؤ من الناحية البشرية على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمدٍ؟ ومَن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه عند النظر إلى جميع المقاييس التي تُقاس بها عظمة الإنسان؟! فأعظم حب في حياتي هو أنني درستُ حياة محمد دراسة وافية، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود".
وأضاف: "أي رجل أدرك من العظمة الإنسانية مثلما أدركه محمد؟! وأي إنسان بلغ؟! لقد هدم المُعتقدات الباطلة التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق، وإذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية والنتائج المذهلة؛ لذلك رغم قلة الوسيلة، فمَن ذا الذي يجرؤ أن يُقارن أيًّا من عظماء التاريخ الحديث بمحمدٍ في عبقريته؟!".
إن المنصفين والعقلاء، ولو كانوا مخالفين للنبي صلى الله عليه وسلم، عندما اطلعوا على شمائله وسيرته صلى الله عليه وسلم الصحيحة، لم يملكوا إلا الاعتراف له بالفضل، وحُسن الخُلق، بخلاف مَن أعمى الله بصره وبصيرته، فراح يهجوه ويتهمه بتهم وصفات باطلة.
فمثل هؤلاء كمن يُنكر ضوء الشمس في رابعة النهار:
قدْ تُنْكِرُ العينُ ضوءَ الشمسِ مِنْ رمدٍ ويشتكي الفمُ طعْمَ الماء مِنْ سِقم
إن عظمة نبينا صلى الله عليه وسلم ومنزلته لن ينالَ منها قول حاقد، أو رسم عابث، أو فيلم مستهتر، فلن يضرّ السَّحابَ نباحُ الكلاب، ولن تصل إلى السماء يدٌ شلّاء، ولكنّ الذي يعنينا هو واجبُنا تجاه نبينا صلى الله عليه وسلم، والانتصار له والدفاع عنه من كل أذى يُراد به، أو نقص يُنسب إليه، فذلك حقٌ من حقوقه علينا، كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (الفتح: 9)، ولن يعدم المسلم وسيلة -بل وسائل- ينصر بها نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الوسائل:
ـ اتباعه وطاعته، والرضى بحكمه، والتسليم له، والانقياد لسنته والاقتداء بها، ونبذ ما سواها: قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: 31).
ـ التعرف على شمائله العطرة، وكريم صفاته الخَلقية والخُلقية، وسيرته الشريفة، مع الوقوف عند حوادثها موقف المستفيد من حِكَمِها وعبرها، ودحض وتفنيد الشُّبهات والأباطيل التي تُثار حوله صلى الله عليه وسلم وحول سيرته وحياته، والتصدي للإعلام الغربي وغيره، والرد على ما يثيرونه عن ديننا ونبينا، وإبراز شخصيته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وخصائص دينه من خلال نشر ذلك والتحدث عنه.
ـ الالتزام بأمر الله تعالى لنا بالتأدب معه صلى الله عليه وسلم ومع سنته لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (الحجرات: 2).
ـ تربية أبنائنا على محبة النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به في أخلاقهم ومعاملاتهم وجميع أحوالهم.
ومن وسائل نصرته صلى الله عليه وسلم:
المقاطعة -اقتصاديًّا وسياسيًّا- لهؤلاء الذين يسيئون إليه بقول أو رسم أو فعل، وتعدُّ هذه الوسيلة وسيلة ناجحة وفعالة، ولا يستطيع أَحَدٌ أن يلومَنا عليها، أو يتذرع بالاتِّفاقيات التجارية الدولية ليثنينا عنها، وهذا ليس تحريماً للحلال، كما يتوهم ويزعم البعض، بل إنها وسيلة حضارية ومشروعة، إذا أحسنَّا استخدامها، ووضعها في سياقها الصحيح، وقد تكون واجبة إذا تعينت طريقاً لمنع تطاولهم على نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما هو مقرر شرعاً، ومن الأدلة على جواز ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه من أن ثمامة بن أثال رضي الله عنه لما أسلم سافر إلى مكة للعمرة، وقال لأهل مكة: "والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم".
وقد دعا صلى الله عليه وسلم على قريش أن تضيق عليهم معيشتهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أعني عليهم (قريش) بسبعٍ كسبعِ يوسُف) رواه البخاري، ومعلوم أن الاقتصاد في زماننا هذا ذو تأثير كبير وفعال على مواقف الدول والشعوب واتجاهاتها، وقد يكون هذا الأسلوب من الأساليب القوية والناجحة في أيدي المسلمين اليوم للضغط على هؤلاء المُسيئين؛ ليوقفوا إساءتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين.
انتقام الله لنبيه:
إذا تخاذل المسلمون أو ضعفوا عن نصرة نبيهم صلى الله عليه وسلم ممَّن يؤذيه ويستهزئ به، فإن الله ناصره وكافيه ومنتقمٌ له، قال الله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّه} (التوبة: 40)، وفي ذلك يقول ابن تيمية: "وإنَّ الله منتقمٌ لرسوله صلى الله عليه وسلم ممَّن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب، إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العُدول أهل الفقه والخبرة عمَّا جربوه مرات متعددة في حصار الحصون والمدائن التي بالسواحل الشاميَّة لما حاصر المسلمون فيها بني الأصفر (الروم) في زماننا، قالوا: كنا نحن نحاصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر، وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوقيعة في عِرضه، تعجلنا فتحه وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين، أو نحو ذلك، ثم يُفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه صلى الله عليه وسلم".
وهذا ماض إلى قيام الساعة دائماً وأبداً مصداقاً لقول الله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} (الحجر: 95).
قال السعدي في تفسيره لهذه الآية:
"وهذا وعْدٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يضره المستهزئون، وأنْ يكفيه اللهُ إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل الله تعالى، فإنَّه ما تظاهر أحدٌ بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة".
والأمثلة على انتقام الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم ممَّن آذاه أو استهزأ به في حياته كثيرة، وفي قصة كسرى وقيصر المشهورة مع رسائله صلى الله عليه وسلم لهما جديرة بالتأمل، فقد كتب إليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فامتنع كلاهما عن الإسلام، لكن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأكرم رسوله، فثبَّت الله مُلكه، وأما كسرى فمزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله الله بعد قليل، ومزَّق مُلكه كل مُمَزق، ولم يبق للأكاسرة ملك.
لقد حفظ الله مقام نبيه صلى الله عليه وسلم مِنْ سب وإيذاء كفار قريش وغيرهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم! يشتمون مُذمّماً، ويلعنون مذمّماً، وأنا محمّد) رواه البخاري، قال ابن حجر: "قوله: (يشتمون مُذَمَّمَاً) كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده، فيقولون: مُذَمَّم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فَعَلَ الله بمُذَمَّم ومُذَمَّم ليس هو اسمه عليه الصلاة والسلام ولا يُعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفاً إلى غيره"..
وهكذا تلك الرسوم والعبارات وغيرها من إساءات فإنها قطعاً لا تُمثل من قريب ولا من بعيد نبينا صلى الله عليه وسلم، لا في خَلْقه ولا في خُلُقه، فهو أعظم الناس خُلُقاً، وأجملهم خَلْقاً، فوجهه الطُهر والضياء، والجمال والبهاء، أعظم ضياء من القمر المسفر ليلة البدر، يفيض سماحةً وبِشراً وسروراً، له طلعةٌ آسرة، تأخذ بلب كل مَن رآه إجلالاً وإعجاباً وتقديراً...
وأما خُلُقه صلى الله عليه وسلم:
فقد كان سَمْحاً كريماً، رؤوفاً رحيماً، وما كان عابساً ولا مكشراً، ولا فظاً، ولا غليظاً، وما ضرب أحداً في حياته، وما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وما انتقم لنفسه إلا أن تُنتهك حرمةُ الله فينتقمُ لله بها، وأوصى في وصاياه الكثيرة بالمرأة والطفل واليتيم، والأسرى والخدم والعبيد، بل وأوصى بالحيوان، وجعل الرحمة به طريقاً إلى الجنة، وقد قال الله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناسِ وجهاً، وأحسنهم خَلقاً) رواه البخاري.
إنه محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، سحابٌ لا يضره نباح المُرجفين والحاقدين، وقمة لا تنالها سهام المُفترين والمُشككين.
يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
هجوتَ محمداً وأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاءُ
أتهجوه ولست له بكفءٍ فشرُكما لخيرِكما الفداءُ
هجوت مباركاً براً حنيفاً أمينَ الله شيمتُه الوفاءُ
أَمّنْ يهجو رسولَ الله منكم ويمدحُه وينصرُه سواءُ؟
فإن أبي ووالدَه وعرضي لعِرْضِ مُحمدٍ منكم وِقاءُ.